المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

التاريخ
عدد المواضيع في هذا القسم 6763 موضوعاً
التاريخ والحضارة
اقوام وادي الرافدين
العصور الحجرية
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
العهود الاجنبية القديمة في العراق
احوال العرب قبل الاسلام
التاريخ الاسلامي
التاريخ الحديث والمعاصر
تاريخ الحضارة الأوربية

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
زراعة الثوم
2024-11-22
تكاثر وطرق زراعة الثوم
2024-11-22
تخزين الثوم
2024-11-22
تأثير العوامل الجوية على زراعة الثوم
2024-11-22
Alternative models
2024-11-22
Lexical Phonology and its predecessor
2024-11-22



17- عصر الاسرة الحادية والعشرين  
  
2033   07:12 مساءاً   التاريخ: 2-10-2016
المؤلف : عبد العزيز صالح
الكتاب أو المصدر : الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق
الجزء والصفحة : ص256-274
القسم : التاريخ / العصور الحجرية / العصور القديمة في مصر /

الثيوقراطية والفتور في عصر الأسرة الحادية والعشرين 1087 - 945ق. م:

ارتبطت سياسة هذه الأسرة بأحداث الفترة الأخيرة من عصر الأسرة السابقة لها، وبدأت بعاصمتين للحكم: عاصمة في طيبة التي ضمن فيها كبار كهنة آمون خلفاء حريحور صاحب السلطان الواسع في عهد رمسيس الحادي عشر، لأنفسهم حكمًا ثيوقراطيًّا اعتمدوا في تدعيمه على ما تخلف لمدينتهم مقر آمون رع رب الدولة، من ثراء موروث وسيادة دينية، وزعامة صعيدية، وإشراف على خيرات النوبة. وقد مدوا نفوذهم حتى الحيبة في مصر الوسطى وحصنوها(1). ثم عاصمة في بر رعمسسو "أو "تانيس" بشرق الدلتا حكم فيها بيت نيسو بانب جد "أو نس بانب جدة" الذي ذكره أفريكانوس عن مانيتون باسم سمندس "الأول"، صاحب السلطان في الوجه البحري ومصر الوسطى منذ عهد الملك نفسه، وقد استند أفراده إلى اعتبارهم الورثة الشرعيين للأسرة السابقة لهم بحكم قرابتهم أو مصاهرتهم لها بعد أن أيد رأسهم شرعية سلطته بزواجه من تانت آمون سليلة الرعامسة، كما شجعهم ما كانو يصيبونه من ثراء ورخاء نسبيين نتيجة لإشرافهم على تجارة مصر الخارجية مع آسيا الغربية وحوض البحر المتوسط. وقد وجد هذان البيتان الحاكمان أنه لا قبل لأحدهما بتجاهل الآخر أو الانفراد بالأمر دونه، فأتما سياسة المسالمة التي بدأها حريحور، وزاوجا بين سلطتيهما الدينية والدنيوية عن طريق مصاهرة بيتيهما، واعتزا معًا بمذهب آمون رع. وكان أكثر الغنم في تحالفهما للبيت الشمالي، إذ بقيت الألقاب الفرعونية في رجاله. وتلقب أغلب فراعنة هذا البيت الشمالي بلقب ستبن آمون ولقب مري آمون، أي المصطفى من آمون وحبيبه، مما يعني حرصهم على إبقاء صلاتهم برب طيبة رب الدولة الكبير. وثمة نص في محاجر الجبلين ينسب إلى نيسو بانب جد أنه جلس ذات مرة في قصره في منف يفكر في عمل يكسبه التكريم، وكان قد بلغه أن بهو أعمدة بني في عهد تحوتمس الثالث في الأقصر قد طغى الماء عليه حتى كاد أن يبلغ سقفه، فأرسل ثلاثة آلاف عامل لقطع الأحجار وترميمه. وقد يعني هذا العمل رغبة الفرعون في مد نشاطه ومآثره إلى طيبة. وأيد حكام طيبة بدورهم سلطتهم باتخاذ أكثر من اسم واحد على عادة الملوك، ولكن قلما وضعوا أسماءهم في الخراطيش الملكية. وجمعوا بين ألقابهم الكهنوتية وبين ألقاب عسكرية مثل القائد الكبير للجيش، والقائد الأعلى للجيش في البلاد كلها.

ولا زال بعض الجدل قائمًا حول تأريخ عصر الأسرة الحادية والعشرين وتتابع ملوكه وكبار كهنته، بل وحول الصيغ المرجحة لألقاب هؤلاء وهؤلاء. وكان أفريكانوس قد نقل عن مانيتون ذكر سبعة أسماء لملوك هذا العصر نسبهم إلى العاصمة تانيس وقدر مجموع مدد حكمهم بمائة وثلاثين عامًا. واحتفظت الآثار المكتشفة حتى الآن والنصوص الموجزة المسجلة على التوابيت وأكفان المومياوات بما يزكي صحة بعض هذه الأسماء وما يزاد عليها. وبينما افترض الرأي الغالب بين المؤرخين المحدثين لمجموع مدد حكم أولئك الملوك 142 عامًا "امتدت بين عام 1087 وعام 945ق. م"، افترض لهم رآي آخر 124 عامًا "بين عام 1069 وعام 945ق. م"، وافترض لهم رأي ثالث 144 عامًا "امتدت بين 1089 - 945ق. م"1. وقد سلفت الإشارة بأنه مهدت لهذا العصر فترة أحد عشر عامًا بدأت بما اعتبره كبار كهنة آمون عصر نهضة، واقتسم السلطة الفعلية خلالها في أواخر حياة رمسيس الحادي عشر "بين 1098 - 1087، أو بين 1080 - 1069، أو بين 1100 - 1089ق. م"، كل من نس بانب جدة "سمندس" في العاصمة بر رعمسسو "أو تانيس"، وثلاثة من كبار كهنة طيبة كانوا على التتابع: حريحور "لنحو ست سنوات"، وبي عنخ "لفترة أربع سنوات"، ثم بي نجم "لفترة عام واحد"، وإن احتمل رأي آخر أن تكون فترة رياسة بي عنخ لكهنوت طيبة قد استمرت لبضع سنوات أخرى حتى عام 1064ق. م (2).

وعلى عرش العاصمة بر رعمسسو طال عهد نس بانب جدة بعد وفاة رمسيس الحادي عشر 26 عامًا، ثم تتابع بعده الملوك: آمون منيسو "لفترة 4 سنوات"، وباسبا خع مني "أو منو" الذي ذكره مانيتون باسم بسوسينيس الأول وطال حكمه 46 أو 48 عامًا، وأمنموبة، وقد شارك سلفه عامين ثم استقل بالعرش لنحو 9 سنوات، وملك ذكره مانيتون باسم أسوخور "؟ " اشترك مع سلفه ثلاث سنين ثم انفرد بالحكم ست سنوات، وسا آمون لفترة 17 أو 19 عامًا، وباسبا خع مني "أو منو" الثاني "بسوسينيس الثاني" لفترة 24 عامًا، وذلك مع بعض الشك في أسبقية الملك الثالث في قائمة هؤلاء الملوك للملك الثاني منهم (3). ومن استعراض مدلولات هذه الأسماء يتضح مدى إصرار أصحابها على الانتساب إلى آمون رب طيبة، فضلًا عن الدلالة الواضحة لاسم "باسبا خع مني" الذي يعني "النجم قد شع في المدينة" وهي مدينة طيبة.

وفي سبيل تحقيق الوفاق مع سلطات طيبة الدينية، ومن أجل تزكية امتداد نفوذهم فيها في الوقت نفسه، زوج بعض أولئك الملوك بناتهم لكبار كهنة آمون الذين تتابع منهم بعد حريحور وولده بي عنخ، أي بعد وفاة رمسيس الحادي عشر، ستة أو سبعة وهم: بي نجم "الأول"، وماساحرتا، وحج خنسف عنخ، ومن خبر رع، ونس بانجد "سمندس الثاني؟ "، وبي نجم "الثاني"؛ ثم باسباخع منو "بسوسينيس الثالث؟ ".

وكفل ملوك بر رعمسسو لبناتهم بهذه المصاهرات ممارسة نصيب من النفوذ الديني في طيبة لا سيما مع رئاسة كل منهن لكاهنات آمون وتلقبها بلقب "الحرم المقدس لآمون"، وإن نقلت بنات الملوك إلى أزواجهن أو أولادهن بهذه المصاهرات في الوقت نفسه حقوقًا شرعية استغلها بعضهم في اتخاذ ألقاب الملوك كما فعل بي نجم "الأول". وقد تشجع ولداه منها ماساحرتا ومن خبر رع على اتخاذ ألقاب الملكية أيضًا على التتابع. ويبدو أن ثورة نشبت في طيبة بعد وفاة أولهما وأدت إلى الاستعانة بوحي آون في نفي زعمائها إلى الواحة الخارجة حتى عفا عنهم من خبر رع وأعادهم إلى طيبة لتهدئة نفوس أهلها. وعندما استتب الأمر له عاود التنكيل بهم مستعينًا بوحي آمون للمرة الثانية. وبسياسته هذه ذات الوجهين طال عهده 48 عامًا وأشرف على موارد الأقاليم التي تمتد من بني سويف إلى أسوان ومن ساحل البحر الأحمر إلى الواحات، ثم ورث زعامة طيبة لولديه على التوالي (4).

يرجع الأصل القديم للقب "الحرم المقدس لآمون" إلى عصر الأسرة السابعة عشرة وعصر الأسرة الثامنة عشرة، وبدأ تشريفيًّا ثم جمع بين الصبغة الدينية وبين النفوذ الكهنوتي. وقد آثرنا له هذه الترجمة التي تعني من تلوذ بالإله وتكتسب شيئًا من حرمته وتشرف على حرمه المقدس وعلى كاهناته، عوضًا عن ترجمته الشائعة بعبارة زوجة الإله آمون (5) " God's Wife Of Amun"  ذلك أنه كان مما اختلفت الديانة المصرية به عن غيرها من الديانات الوضعية المعاصرة لها أنها لم تأخذ بمثل المدلول الحرفي للقب زوجة الإله وهو المدلول الذي أدى في أمم أخرى إلى ما يسمى بالبغاء الديني وبمقتضاه تهب الكاهنة نفسها راضية للإله أو للملك أو كبير الكهنة الممثل للإله، على اعتبار أنها تضحي بذلك بأعز ما تملك لإرضاء ربها ومن أجل خير شعبها ولتوفير خصوبة الأرحام فيه وخصوبة أرضه. وقد لقبت الأميرة ماعت كارع بلقب "الحرم المقدس لآمون" وهي طفلة مما يؤكد أنها لم تخضع للمدلول الحرفي الملقب زوجة الإله، ثم تزوجت بي نجم "الأول".

وقد مال بعض الباحثين إلى اعتبار عصر الأسرة الحادية والعشرين بداية للعصور المصرية المتأخرة، ربما على أساس غلبة الخمول على سياسته وضعف وحدة الحكم الأعلى فيه، وتقلص النفوذ المصري خلاله خارج الحدود وتوزع السلطة فيه بعض الشيء بين الملوك. وذهب رأي آخر قال به ألكسندر شارف ثم توسع فيه كنيت كتشن، إلى اعتبار عصر الأسرة الحادية والعشرين، وما يمتد منه حتى نهاية الأسرة الخامسة والعشرين عصر انتقال ثالث (6) توسط بين العصر الزاهر للأسرة العشرين وبين بداية عصر الأسرة السادسة والعشرين الذي جرى الاصطلاح على تسميته باسم عصر النهضة الصاوي "وإن سبقته نهضة أخرى في عصر الأسرة الخامسة والعشرين".

ولا شك في أن هذه كلها أسبابًا وجيهة، ولكن ينبغي أن يلحظ إلى جانبها أن مصر وإن لم تحقق توسعًا خارجيًّا يذكر في عصر الأسرة الحادية والعشرين إلا أنها حافظت خلاله على حدودها الخاصة، كما حافظت على استقلالها دون شائبة تشوبه، وظل حكمها الأعلى في أيد مصرية قومية سواء أكان ذلك في بر رعمسسو أم في طيبة، وكل ذلك مما يفرق بين أوضاع هذا العصر وصورته العامة وبين أوضاع أخرى أكثر سوءًا منها شهدتها العصور التالية لعصر الأسرة الحادية والعشرين واستوجبت من أجلها أن تسلك في العصور المتأخرة، المتأخرة من حيث الزمن، والمتأخرة ضمنًا من حيث الحضارة، ومن حيث العناصر الدخيلة التي أثرت في حياتها.

وعلى أية حال فقد أدت سياسة المسالمة واقتسام المغانم في عصر الأسرة الحادية والعشرين بين البيتين الكبيرين في بر رعمسسو وطيبة، إلى الإبقاء على نظام الحكم الثنائي مائة واثنتين وأربعين سنة اتسمت بالفتور وبالسياسة الانطوائية في مجملها، وتأثرت في ذلك بعوامل داخلية وخارجية تمثلت في أن مصر بعد أن قطعت نحو خمسة قرون في يقظة شبه متصلة خلال الدولة الحديثة أرهقت وأسنت ووقعت في استرخاء طويل، وأن مشاركة كبار كهنة آمون في مسئوليات الدولة قد خدرت الناس باسم الدين، وأن مصر لم تتعرض لهزات خارجية عنيفة تجبرها على الحركة. فالمناطق الجنوبية منها كانت قد اصطبغت بالحضارة المصرية المهذبة وربطت مصائرها بمصائرها، وبلاد الشرق الأدنى كانت في شغل شاغل بمشكلاتها الإقليمية بعد أن استقرت شعوب البحر في مواطنها الجديدة، وبعد أن انشغلت كل دولة ودويلة في الهلال الخصيب بمحاولة إثبات كيانها على حساب جيرانها، فانشغل الآشوريون مع الآراميين في نزاع طويل، وشهد جنوب الشام منافسة طوائف العبرانيين بعضهم لبعض على الحكم وزعامة الدين، فضلًا عن حروبهم المتقطعة مع دويلات الكنعانيين والآرميين والفلسطينيين، ثم نجاح داود في تأسيس مملكته على حساب بعض جيرانها. أسلفنا أن العصر وفر لمصر استقرارًا مديدًا، ولكنه لم يكن استقرارًا من النوع الذي عرفته مصر في عصور قوتها وإنما كان استقرارًا فاترًا، لم يخل من خصومات بين الحكام، وانقسامات طائفية، ومؤامرات من الجماعات المهاجرة التي استوطنت في أقاليم الحدود الغربية (7)، وهذه سوف تصبح فيما بعد شر البلية.

وليس من المستبعد أن يكون تاريخ عصر الأسرة الحادية والعشرين في مصر مغبونًا بمحض المصادفة، نتيجة لقلة ما كشف من آثاره الصعيدية حتى الآن، ونتيجة لتحلل أغلب آثاره في الدلتا بفعل رطوبة أرضها وكثافة طميها وكثرة فروعها المائية واتساع مناقعها القديمة. وذلك بحيث لا يكاد التاريخ يعرف من نشاط هذه الأسرة في الحقل الداخلي غير استمرار الاهتمام بعمائر الإله آمون رع وبقية الأرباب الكبار، وذلك على الرغم من قلة إمكانيات عصرها قلة نسبية. ثم تغليب طابع الدين على روح العصر وسياسة الحكم فيه. وكان من صور هذا التغليب أن جعل الحكام لاستخارة الإله آمون ووحيه نصيبًا كبيرًا في حل المشاكل الكبيرة، وبمعنى أصح جعلوا لتوجيهات كبار كهنته نصيبًا في حل مشكلات بلدهم، إرضاء للكهنة كشركاء، ورغبة في أن يتخففوا هم من عبء المسئوليات وأن يلقوا عواقبها على عاتق وحي آمون (8). وجرى كبار الكهنة من ناحيتهم على إجراء سنه لهم رأسهم حريحور، وهو العناية الشخصية بالسلف الصالح عن طريق رعاية جثث الفراعنة القدامى الذين انتهكت حرمة مقابرهم في فترات الاضطرابات منذ أواخر عصر الرعامسة، وترميم توابيتها، وكان ذلك الإجراء هو أهم مآثرهم على التاريخ، إذ ظلت هذه الخبيثة الثمينة مصونة مجهولة حتى كشف عنها في أواخر القرن الماضي.

وظلت إمكانيات الدولة المادية محدودة، بحيث استعانت في بعض منشآتها المعمارية بأحجار المباني القديمة، وانكمشت بر رعمسسو "أو تانيس" العظيمة عاصمة الرعامسة إلى نصف مساحتها السابقة (9). ولكن لم يحل هذا الأمر أو ذاك دون استمرار الفراعنة وكبار الكهنة على حب الترف القديم في شئون الدنيا ومطالب الدين وبناء المقابر الضخمة، وأن يظلوا أكبر المستفيدين دائمًا من إمكانيات عصرهم، الأمر الذي تجلت مظاهره في ثراء ما كشف عنه من مقابر ملوك تانيس وأمرائها وأثريائها "لا سيما بسوسينيس، وموت نجمة، وأمنموبة، وأونوجباونجد"، بمدخراتها الفضية والذهبية الرائعة، وما أبقت الأيام عليه من توابيت كبار الكهنة والكاهنات في طيبة بكنوزها وصورها الملونة ونصوصها العقائدية (10).

أما في العالم الخارجي، فلا تسمح المعلومات الراهنة بغير تصوير جانب ضئيل من علاقات مصر بمملكة داود، وكانت علاقات عادية في مجملها وفي ظاهرها، ولكنها لم تمنع من التجاء الأمير هداد "أو حداد" حاكم إدوم في جنوب فلسطين إلى مصر بعد أن خرب داود وقائده يعقوب إمارته، وسفك دماء آلاف من رجالها، واستباحها لجيشه ستة شهور، ووجد هداد في مصر الرفد والملجأ، وزوجه فرعونها "مجهول الاسم" من أخت زوجته، وأكرمه حتى عاد إلى إمارته بعد وفاة داود وأصبح من ألد خصوم ولده سليمان (11).

وعندما اتسع سليمان بملكه واشتهر أمره، مال إلى محالفة المصريين، وهنا استحب الفرعون المصري "الذي قد يكون سا آمون أو بسوسينيس الثاني" أن يظهر لسليمان قدرة مصر ويبين له أن تحالفها معه هو تحالف الأقوياء، فبعث ببعض جيشه إلى جنوب أرض كنعان حيث استقرت جماعات من شعوب البحر منافسي سليمان، وسيطرت قواته على مدينة جزر التي عجز العبرانيون عنها عدة مرات، ثم جعلها بائنة لابنته التي رضي أن يزوجها لسليمان (12)، وفي ذلك ما يعني ضمنًا أن مصر ظلت حتى في عهود ضعفها أقوى مرات من ملك سليمان الذي تحدثت به الأمثال بالنسبة لما كان عليه ملك أسلافه وجيرانه بطبيعة الحال, وإذا كان نهب المقابر الملكية في أواخر عصر الرعامسة مؤشرًا على سوء الأوضاع التي استغلها كبار كهنة آمون للجمع بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية في أيديهم في الصعيد والمشاركة في توجيه مصير الدولة في عصر الأسرة الحادية والعشرين، فقد كانت معاودة نهب هذه المقابر في القرن الماضي بداية لتوجيه الأنظار إلى الكشف عنها والاستدلال منها على رعاية بعض كبار الكهنة هؤلاء للسلف الصالح وحرمة الموتى. وبدأ هذا الكشف بصورة درامية مثيرة.

فقد قل ما احتوته متاحف العصر الحديث من الآثار الملكية المصرية حتى عام 1870، ثم شهدت أسواق التحف في مصر وأوروبا منذ عام 1871 وعلى دفعات متباعدة، فيضًا من هذه الآثار، الأمر الذي نبه الأذهان إلى تقصي تحركات مهربي الآثار من الوطنين والأجانب وعملائهم المحتمين بالامتيازات الأجنبية، في المناطق الأثرية الكبرى ولا سيما في طيبة الغربية، ولم تجد التحريات البوليسية أو الشخصية شيئًا في هذا المضمار بقدر ما أدى اختلاف الأخوة من أسرة عبد الرسول أشهر مهربي الآثار والمتعاملين فيها في قرية القرنة، إلى بداية الكشف عن مخابئ أثرية قل أن شهد التاريخ الحديث ما يماثلها غنى وغرابة. فقد نم أحد أولئك الأخوة عن سر إخوته الذين خاصمهم في الاهتداء إلى بئر مقبرة عميقة صعبة المنال تقع جنوب وادي الدير البحري وتتوسط بينه وبين بيبان الملوك. وكانوا قد احتكروا سر هذه البئر ونزلوها خفية ثلاث مرات خلال نحو عشر سنوات وخرجوا منها بما ملأ أسواق التحف من البرديات والقلائد وتماثيل الشوابتي والجعلان وما إليها، وما ملأ بيوتهم من أموال كانت ثمنًا بخسًا بالنسبة إلى ما استحقته هذه الآثار من قيم تاريخية ومادية وفنية فريدة.

ولم يكن الفرنسي جاستون ماسبرو مدير مصلحة الآثار المصرية، بمصر حين نم الرجل عن سر أسرته، فناب عنه في الكشف عن المقبرة المعنية في شهر يوليو من عام 1881 وكيله هنريش بروكش ومساعده المصري أحمد كمال، وفي دهشة بالغة واجه العالم الحديث لأول مرة بعد أكثر من ثلاث آلاف عام وجوه موميات ... من كبار فراعنة الأسرات السابعة عشرة إلى العشرين وهم: سقنن رع، وأحمس الأول، وأمنحوتب الأول، وتحوتمس الأول "؟ "، وتحوتمس الثاني، وتحوتمس الثالث، وسيتي الأول، ورمسيس الثاني، ورمسيس الثالث، فضلًا عن حوالي الثلاثين من كبار كهنة آمون وكبار شخصيات الدولة الحديثة. وفي عجلة وتكتم عمل بروكش وأحمد كمال على نقل ما أمكنهما الخروج به من المقبرة خلال أسبوع واحد والاتجاه بمومياوات الملوك وكبار الكهان إلى متحف القاهرة. ثم تم نقل ما تخلف من كنوز المقبرة في يناير من عام 1882 بإشراف ماسبرو. وفي يوليو من عام 1886 جرى في القاهرة حفل مهيب عوض الفراعنة العظام بعض الشيء عما فاتهم من مهابة الاستقبال، وحضره خديو مصر وقيل إنه حلت أمامه أكفان فرعون مصر العظيم رمسيس الثاني ليطالع الجميع بوجهه العجوز الصلب المعبر.

ولحسن الحظ لم تشغل الكنوز الثمينة الباحثين عن دراسة تقارير موجزة كتبت بالخط الهيراطي على التوابيت وأكفان الملوك وسجلت أسماء أصحابها وأسماء الملوك والكهان أصحاب الفضل في إعادة دفنهم وإكرام مثواهم. وقد تبين منها أنه بعد أن تعرضت مقابر الملوك للنهب أكثر من مرة وتعرضت جثثهم وأكفانهم للتلف عولجت مومياوات الملوك تحوتمس الأول وأمنحوتب الأول وسيتي الأول ورمسيس الثاني ورمسيس الثالث، وأعيد إحكام لفائفها في فترة من كهنوت بي نجم الأول وخلال الأعوام 6 - 17 من عهد ملك لم يذكر اسمه ولعله باسباخع مني الأول. وأعيدت معالجة مومياء أمنحوتب الأول، كما عولجت مومياوات أحمس الأول والملكة سات كامس والأمير سا أمون، وذلك في فترة من كهنوت ماساحرتا، ثم أعيدت معالجة مومياء سيتي الأول مرة أخرى في عهد كبير الكهنة من خبر رع.

وكان في إعادة معالجة هذه المومياوات ما يعني قلة العناية التي بذلت في معالجتها أو يعني تكرار الاعتداءات على مقابرها، ولعله لهذا اتجهت الرغبة قديمًا إلى تجميعها في مقبرة أو مقابر محدودة يصعب دخولها وتسهل حراستها في الوقت نفسه، بل وتعدد النقل من مقبرة إلى أخرى تضليلًا للمعتدين.

وهكذا أودعت جثة رمسيس الثاني العظيم في مقبرة ابيه سيتي الأول، وعندما خيف على هذه الأخيرة نقلت منها إلى مقبرة أمنحوتب الأول. ومرة أخرى أودعت مومياوات سيتي الأول ورمسيس الثاني في مقبرة الملكة إن حعبي، وسجل تقرير بهذا الإجراء في العام العاشر من عهد الملك سا آمون.

ثم نقل العديد من المومياوات الملكية إلى مقبرة نس خنسو وزوجها كبير الكهنة بي نجم الثاني في فترة من كهنوت باسباخع مني "الثالث" وظلت هاجعة في مثواها الأخير منذ بداية عصر الأسرة الثانية والعشرين حتى نبشتها أيدي اللصوص، ثم حملتها أيدي رجال الآثار في أواخر القرن التاسع عشر, وأودعت مومياوات ملكية أخرى في مقبرة الفرعون أمنحوتب الثاني، وكان قد أصابها وأصاب توابيتها من التلف أكثر مما أصاب غيرها، وحينما فتحت المقبرة في عام 1898، كانت قد بقيت منها مومياوات الفراعنة توحتمس الرابع، وأمنحوتب الثالث "؟ "، ومرنبتاح، وسابتاح، وسيتي الثاني، ورمسيس الرابع، ورمسيس الخامس، ورمسيس السادس، فضلًا على ثلاث نساء وطفل.

وكما أكرم كبار كهنة الأسرة الحادية والعشرين مثوى جثث الفراعنة السابقين، كانوا كرامًا مع جثث أسلافهم كبار كهنة آمون. وحدث بعد عشر سنوات من الاهتداء إلى خبيثة الملوك في عام 1881 و1882 على أيدي بروكش وأحمد كما وماسبرو، أن أبلغ أحد أفراد أسرة عبد الرسول مدير مصلحة الآثار جريبو بوجود خبيئة هائلة أخرى إلى شمال معبد الدير البحري. وفي دهاليز وحجرات مقبرة من عصر الأسرة الحادية عشرة عثر مساعده دارسي في عام 1891 على ما أذهل العالم بأخباره؛ إذ وجد 153 تابوتًا تضمنت 52 تابوتًا فرديًّا، و101 من التوابيت الزوجية والثلاثية، لكبار كهان وكاهنات، وأتباع من المنشدين والموسيقيين وأمثالهم.

وفي غمرة أصداء هذه الكشوف الأثرية التي دوت متتابعة في أواخر القرن الماضي، لوحظ توابيت المخابئ الملكية التي صنعت من الخشب على هيئات بشرية لأمثال الملوك العظام: تحوتمس الثالث وأمنحوتب الثاني وتحوتمس الرابع وسيتي الأول وغيرهم، غلبت روح البساطة على ألوانها ونصوصها وزخارفها، ولم يبق على بعضها غير شريط طولي من النصوص يمتد من أسفل الصدر حتى القدمين، وثلاثة أشرطة عرضية تلتف حول الجسد بما يشبه أربطة الكفن، فضلًا عن تصوير ربة مجنحة تحيط صدر المتوفى بجناحيها .... وتثير ظاهرة البساطة هنا الدهشة إذا قورنت بالثراء الفاحش الذي تمتع أصحابها به ودلت عليه معابدهم ونقوش مقابرهم، أو قورنت بثراء وروعة التوابيت التي عثر عليها فيما بعد في مقبرة توت عنخ آمون وهو من أقل الملوك أهمية وثراء. ويمكن تعليل ظاهرة بساطة توابيت المخابئ الملكية بأحد فرضين. فلعل لصوص المقابر كانوا قد نزعوا عنها أغشيتها من رقائق الذهب وما كان يرصعها من الأحجار الكريمة قبل أن تودع في مخابئها الأخيرة، وذلك فرض يزكيه بقاء قطع متناثرة من الكساء الذهبي القديم على تابوتي تحوتمس الأول وتحوتمس الثالث. ولم يكن من المتوقع حين أعيد ترميمها أن يعاد إليها رونقها وما نزعه اللصوص من زخارفها.

أما الفرض الآخر فهو أن بعض التوابيت العاطلة من الحلية ليست أكثر من توابيت بديلة عما تحطم أو سرق من التوابيت الملكية الأصيلة، ولم يكن من المنتظر أن تصنع بمثل فخامتها أو بكل تفاصيلها. واحتفظت أغلب توابيت خبيئة كبار كهنة عصر الأسرة الحادية والعشرين بروعتها وفخامتها. وتميزت ألوانها بطلاء أصفر فاقع لامع. وتعددت عليها صور المعبودات ورموزهم المقدسة ومناظر الآخرة والحساب وصور التعبد وتقديم القرابين، فضلًا على نصوص كتب الموتى.

ومن طريف ما يذكر أن واحدًا من أقدم هذه التوابيت وأجملها وهو تابوت كبير الكهنة في نجم الأول كان في حقيقته تابوتًا للملك تحوتمس الأول. وكأن كبير الكهنة قد أحل لنفسه ما أنكره على غيره. وظن أن ثوابه في معالجة جثة ذلك الملك المهاب وغيرها من جثث الملوك العظام يغطي على اغتصابه لتابوته (13).

نماذج من الفن والعمارة في الدولة الحديثة:

سايرت فنون الدولة الحديثة حياة أهلها وظروف عصورها، وترجمت عنها في كل ما بدأت به وتطورت إليه. وظهرت لأساليب النحت والنقش والتصوير خلالها أربع مراحل، يمكن إيجازها على النحو التالي (14).

مرحلة أولى، بدأت منذ أواخر عصر الأسرة السابعة عشرة (15)، وامتدت مظاهرها حتى أواسط عهد الفرعون تحوتمس الثاني. وكانت مرحلة استحب أهلها روح الفتوة ومظاهر الجدية، واستلزم عصرها مجهودات متصلة واسعة لإقالة البلاد من النكسة التي أصابتها في عصر سيطرة الهكسوس، ثم لتأمين حدودها وتوسيعها، وتنشيط تجارتها وحمايتها. وعندما أرادت مدارس النحت في الحجر أن تعبر عن اتجاهات هذه الفترة، آثرت طابع الاتزان في نحت تماثيل كبار الشخصيات واستحبت لها الخطوط البسيطة المعبرة، وكستها بروح الفتوة، وقللت تمثيل صنوف الزينة عليها (16). ثم جمعت في تماثيل فراعنة عصرها بين المثالية المتزنة وبين الجمالية المتزنة، فجسدت لهم فيها ما كانوا أهلًا له بمجهوداتهم الحربية والسياسية، من شدة المراس ورفعة الشان وسماحة الوجه ونبل الهيئة في آن واحد. وبلغت هذه المدارس غايتها في تماثيل حاتشبسوت، تلك التي لم يمنع وقار الملك وجدية الطابع أهل الفن في عهدها من أن يكسوا وجوه تماثيلها بأنوثة حلوة ناضجة مترفعة تليق بها. ولم يستثنوا من هذه الأنوثة المليحة وجوه التماثيل التي مثلوا ملكتهم فيها رابضة على هيئة الأسود (17). ثم بلغت غاية أسمى في تماثيل تحوتمس الثالث، التي جمع الفنانون في هيئاتها بين فتوة الحرب ورقة الطابع الشخصي ونبل الملامح والمشاعر معًا. وبقي من هذه التماثيل ما يظهر تحوتمس واقفًا منتصبًا وجاثيًا خاشعًا، ورابضًا على هيئة الأسد. كما صور له فنان وزيره رخميرع، تماثيل أخرى ضاع أغلبها، مثلته يجلس مع زوجته، ويقدم قرابينه إلى ربه واقفًا تارة، وزاحفًا على ركبتيه تارة أخرى، دون أن يقلل زحفه من مكانته وهيبته (18).

وبلغ الفنانون سبيل الإتقان في الخشب منذ بداية العصر، فصنعوا توابيت خشبية كبيرة على هيئات بشرية لأميرات الأسرة وملكاتها، وأظهروا في بعض وجوهها ملامح صاحباتها في رقة وخطوط سلسلة جعلتها من آيات يسر النحت وجماله في عصرها.

وسلك فن التصوير خلال هذه المرحلة، سبيل الاتزان نفسه فيما أخرجه من نقوشه ومناظره، ولكن أصحابه التمسوا لصورهم نوعًا من التفصيل وحلاوة التعبير يريد من نصيب التماثيل. وبقيت من إنتاجهم صورة للملكة أحمس أم حاتشبسوت، أظهرتها بابتسامة حلوة مشرقة مستبشرة، وصورة أخرى مبدعة لسنموت كبير المهندسين في عهد حاتشبسوت عبرت عن امتلاء صدغيه وطيات ذقنه وتفاصيل شعره في خطوط بسيطة متمكنة. وصور الفنانون خصائص الرسل الأجانب الذين كانوا يفدون إلى مصر بجزاهم وهداياهم (19) وصوروا بيئة بلاد بوينة "بونت" بقراها وحيواناتها وخصائص أهلها الجسمية، في تفصيل لطيف وفي روح مرحة فكهة سبقت الإشارة إليها.

وامتازت المرحلة الثانية لفنون الدولة الحديثة بمزيد من الرقة ورغبة التعبير عن مظاهر الترف وميل إلى التحرر القليل من التقاليد الفنية القديمة وأحمالها، وميل يساويه إلى عشق الطبيعة وجمالها، وبدأت هذه المرحلة منذ أواخر عهد تحوتمس الثالث (20)، واستمرت حتى نهاية عهد أمنحوتب الثالث، وكانت مصر قد جنت خلالها ثمار جهودها الحربية والسياسية والاقتصادية التي بذلتها راضية في المرحلة الأولى، وتوفر لها من حياة السلام والطمأنينة ما جعل خاصة أهلها ينعمون برغد العيش كاملًا غير منقوص، وجعلهم يصدرون في جل أمرهم عن مشاعر رقيقة هادئة، فخرج الفن يعبر عن تطور هذا العصر بأطرافه، وانتفع المثالون بأسلوبين قديمين جديدين في الوقت نفسه، أسلوب واقعي مهذب مرفه، يخالف الأسلوب الواقعي الجاد الذي استحبته فنون الدولة الوسطى؛ ثم أسلوب جمالي ناعم منمق، يخالف الأسلوب الجمالي المتزن المبسط الذي استحبته المرحلة الأولى من الدولة الحديثة. واستطاع مهرة المثالين في الأسلوبين أن يضفوا على سطوح تماثيلهم ليونة واستدارة ورقة مقصودة، ونجحوا في أن يظهروا المشاعر التي تتفاعل في نفوس أصحاب التماثيل على ملامح وجوه تماثيلهم (21). ومن أمتع ما يستشهد به من إنتاجهم في الأسلوبين، تماثيل الفرعون أمنحوتب الثالث، وزوجته تي، وحكيم عصره أمنحوتب بن حابو.

فقد نحت فنان الأسلوب الواقعي المرفه رأسين لفرعونه أمنحوتب الثالث4، وعبر عن مذهب الواقعية فيهما بوجه مستطيل، وعينين لوزيتين، وحاجبين طويلين، وشفتين ممتلئتين، وذقن صلبة بارزة، وأنف مستقيمة وانحدار في صفحتي الخدين. وكاد وجه الفرعون في الرأسين يصبح صورة أصيلة لوجه ولده آخناتون بملامحه المتميزة المشهورة، لولا أن المثال عاد فأسبغ على هذا الوجه صبغة أخرى مقصودة أكد بها مظاهر الملكية المثالية المفروضة فيه، فعكس القوة الذهنية الجبارة على ملامحه وأظهر ابتسامة مترفعة على شفتيه، وشد عضلات وجهه في قوة واضحة.

ونحت مثال آخر تمثالًا صغيرًا للفرعون نفسه، صوره فيه على سجيته، وفي هيئة طبيعية خالصة، وفي وقفة متراخية، وفي امتلاءة ودعة، وفي ثوب طويل ذي ثنيات عديدة مزركشة. وأجرى سطوح بدنه في نعومة وأناقة مترفة (22). وضاع رأس هذا التمثال للأسف ولا ندري كيف كانت ملامحه.

وكانت الملكة تي زوجة أمنحوتب امرأة مكتملة الأنوثة ذات جاذبية طاغية، وشخصية قوية، تحكمت بهما في قلب زوجها على الرغم من أنها لم تكن من أسرته المالكة، فاطمأن إليها وأظهرها معه في حفلاته وسجل اسمها مع اسمه في بعض مراسيمه، وأشركها في تقرير علاقاته بملوك الشرق وأمرائه. وعمل في خدمة تي عدد من الفنانين، استحب بعضهم الأسلوب الواقعي المرفه، وبقيت من إنتاجهم عدة رءوس صغيرة لتماثيل الملكة (23)، لم يراعوا تجميلها، بقدر ما راعوا أن يعبروا فيها عن ملامح صريحة وشخص قوية تمتاز بإرادة نفاذة وطابع فريد ومزاج خاص.

ونحت أولئك الفنانون عدة تماثيل لحكيم عصرهم أمنحوتب بن حابو، مثلوه فيها على هيئة الكاتب، وصوروه في واحد منها شيخًا بوجه نحيل بارز العظام، انكمشت طيات جسده نتيجة لكبر سنه، وكشفت ملامحه عن صلابة الرأي عند الشيوخ، وعما يتوافر لهم عادة من خبرة وحكمة وتجارب طويلة (24).

واستخدم مثالو المدرسة الثانية الأسلوب الجمالي المنمق في خدمة أولئك الثلاثة الكبار، فنحتوا لأمنحوتب الثالث مع زوجته عدة تماثيل، حولوا استطالة وجهه فيها إلى استدارة. وأشهرها مجموعة مثلته هو وزوجته وبناته، وبلغ ارتفاع تمثاله فيها وارتفاع تمثال الملكة نحو 17 مترًا (25). وبقيت من إنتاجهم كذلك قطعة من وجه الملكة تي نحتوها لها في شبابها، وأفرغوا في شفتيها حلاوة وسحرًا ما بعدهما من مزيد (26). ونحتوا تمثالًا أينقًا لابن حابو، مثله هذه المرة على هيئة كاتب شاب بوجه ممتلئ، ترهلت طيات جسده عن امتلاء وصحة وحياة رغدة، ومال بوجهه على برديته مستغرقًا في تفكير عميق.

وأشبع الأسلوب الجمالي هؤلاء روح الترف التي استحبها أثرياء عصرهم. فجسموا في تماثيلهم النعيم الذي عاشوا فيه، وأظهروا وجوهها ممتلئة؛ ونحتوا تفاصيلها رقيقة مجملة. وأظهروا أجسامهم غضة بضة، وأجروا خطوطها أنيقة ناعمة، واعتنوا بتقليد شعورهم المرجلة، وتمثيل ثنايات ملابسهم الهفهافة، وتفاصيل حليها وزينتها (27).

وسارت مذاهب التصوير على نحو قريب من مسالك أساليب النحت في نفس المرحلة، وبقيت من نماذجها الواقعية المترفة، لوحة صغيرة منقوشة لأمنحوتب الثالث وزوجته تي، صورته معها في جلسة ناعمة حالمة، أرسل يده فيها في تراخ على ركبته، وأحاط زوجته بيده الأخرى، وامتلأ وجهه المستطيل امتلاءة النعيم، وجلست تي بجانبه بثوب قصير ينتهي فوق الركبة.

وعبرت فنون النقش كذلك عن نعيم المترفين فملأت جدران المقابر بمناظر المآدب والمحافل، والرقص والشراب والطرب والتطريب. وزادت تصوير الزهور والمزاهر، وصورت مجالات الطبيعة الطلقة، وصيد البر وصيد النهر. وصورت الخيل المطهمة والعربات الفارهة. وتحررت في تصوير أشكالها التابعة أكثر مما تحررت في عصورها الماضية، وزادت من تصوير الأتباع والراقصات من ثلاثة أرباع أجسامهم من الأمام (28)، ومن الخلف .. (29) وزادت التعبير عن الحيوية الدافقة في لفتات الجواري وحين التثني، وصورت بعض المجموعات فيما هو أقرب إلى قواعد المنظور. وأخرجت ذلك كله في خطوط طلقة مرسلة تعودتها أيدي المصورين في كل ما صوروه ونقشوه، حتى أخضعوا لها صور الجنازات نفسها وصور النادبات والمشيعين (30).

ووجدت مدارس الرسم سبيلها هي الأخرى منذ أوائل هذه المرحلة للتعبير عن معتقدات أصحابها في نعيم الآخرة وعذابها، وطرقاتها وعقباتها، وأربابها وشياطينها، كما تضمنتها كتب الموتى، فرسمتها على جدران حجرات دفن الملوك بطريقة تخطيطية مبسطة، ثم حورت خطوطها شيئًا فشيئًا إلى هيئة الصور الكاملة ذات الخطوط الممتلئة اللينة.

وشغلت المرحلة الثالثة لفنون الدولة الحديثة وأشهر مراحلها جميعها، عهد آخناتون، وتأثرت مدارس الفن خلالها بدعوة صريحة صبغت مذاهب الفكر ومذاهب الدين في عهد هذا الفرعون، وكانت دعوة إلى تصوير الواقع كما هو، وإلى التعبير عن صور الطبيعة وأحوالها في بساطة متناهية. وتقبلت مدارس الفن هذه الدعوة، وكان عندها استعداد لها منذ مراحلها السابقة (31)، ثم تخير كل فرع للنحت والتصوير سبيله الخاص للتعبير عنها.

ففسرت مدارس النحت دعوة العهد الجديد، على أنها دعوة إلى التحرر من كثير من الأوضاع والأساليب القديمة، وأرادت أن تترجم عن هذا التحرر بتمثيل الأشخاص على هيئاتهم الدنيوية، دون تجميل مقصود، ودون مثالية مكشوفة. ومرت في تحررها بمرحلتين:

مرحلة بدأت بها في مدينة طيبة عندما كان أمنحوتب الرابع "آخناتون" لا يزال مقيمًا فيها خلال الفترة الأولى من حكمه، وهي مرحلة اتصفت فنونها بالمغالاة والاندفاع، شأنها في شأن فنون كل دعوة جديدة في أوائل أيامها. وبدأت مدرسة النحت المتحرر حين ذاك بالفرعون نفسه، فنحتت تماثيله بسمات جسمية صادقة، فأظهرت وجهه مستطيلًا، وذقنه طويلة مترهلة، وشفتيه غليظتين، ورقبته نحيلة، وبطنه منتفخة، وفخذيه غليظين (32).

ثم ظهرت المرحلة الثانية لمدرسة النحت الجديدة المتحررة في مدينة العمارنة بعد أن انتقل آخناتون ببلاطه إليها، كانت مرحلة استقرت فيها أوضاع الدعوة الجديدة، واستقرت أغراضها وهدأت حميتها، فنحت المثالون تماثيل الفرعون وأسرته على هيئات سواء مقبولة، تخلوا فيها عن العيوب التي ظهرت لأبدانها في طيبة، واهتموا اهتمامًا بالغًا بدراسة الوجوه وأحاسيس أصحابها، وتجلت آثار هذه الدراسة أكثر ما تجلت في وجه آخناتون ووجه زوجته الجميلة نفرتيتي، فظهر كل منهما في روحانية ووداعة، ومظهر متفلسف حالم، ورقة ملكية مستحبة (33).

واشتهر من مثالي العمارنة حين ذاك ثلاثة فنانون، وهم: باك وأوتى وتحوتمس (34)، واحتفظ هذا الأخير في داره بمجموعة من التماثيل ورءوس التماثيل الصغيرة للملكة نفرتيتي وزوجها وبناتها، بعضها كامل الصنع وبعضها لم يتم صنعه (35)، ولكنها في مجملها لا تقل رقة وحلاوة وإتقانًا عن تمثال نفرتيتي النصفي الذي احتفظ متحف برلين به وطبقت شهرته آفاق العصر الحديث. وتخلفت معها أقنعة جصية لرجال ونساء تكاد تنطق من فرط واقعيتها وصدق تعبيرها، وكان الفنانون يتخذونها فيما يبدو نماذج لما ينحتونه من موجه تماثيل أصحابها (36).

وسارت مدارس التصوير والنقش في العمارنة على التقاليد نفسها التي جرى فن النحت عليها في عهدها، وكانت مجالاتها أرحب من مجالات النحت، في التعبير عن الحركة، وتصوير الواقع، والجري مع مظاهر الطبيعة وكائناتها حيث جرت. وبدأت مدارس التصوير بالفرعون نفسه على نحو ما بدأ فن النحت به، ففتحت مغاليق قصره، وتسربت إلى مجالسه ومخادعه، وصورته على سجيته، حين يأكل في شهية، وحين يلاصق زوجته وتلاصقه، وحين يمرح معها بعربته، وحين يضم بناته في شغف، وحين يندب إحداهن في أسى، وحين يتعبد ربه في إخلاص، وحين يجود بالعطايا، وحين يتقبل الهدايا. وصورت بناته تضم إحداهن الأخرى وتداعب إحداهن الأخرى. وصورت أتباعه حين المرح، وحين التعب، وحين الهرولة. وصورت الرسل الأجانب يتدافعون إليه جثيًا وسجدًا. وأظهرت صورها كلها في مرونة وحركة نشطة، وبساطة مستحبة، وفي مزاج فردي أحيانًا. وزادت من صور الطبيعة المتفتحة، وأضفت عليها نصيبًا من روح عصرها، فصورتها طلقة باسمة، تموج بالحركة والألوان والبهجة، ورصعت بصورها جدران القصور وأرضياتها وجدران المقابر على حد سواء (37).

ومارس فن التصوير حين ذاك تجارب جديدة للتوسع في إظهار وحدة المناظر واستغلال وحدة المكان. وهي تجارب اقتصرت سوابقها القديمة على المساحات الضيقة والوحدات الصغيرة والأشكال التابعة. فانطلق فنان العمارنة وأخرج صورًا ربط فيها عدة مناظر بروابط ظاهرة جعلتها سلسلة مؤتلفة واحدة(38). وصورة نشر فيها منظرًا واحدًا على ثلاثة جدران في حجرة واحدة؛ ليعبر عن وحدة المكان الذي شغلته وصورت فيه(39).

وانتهى عهد آخناتون حوالي 1350ق. م، فعادت مدارس الفن برجالها من العمارنة إلى طيبة ولكنها لم تستطع أن تتخلى عن قواعد العمارنة الفنية دفعة واحدة، واستمرت تمارسها في عهود خلفاء آخناتون الأقربين: سمنخ كارع، وتوت عنخ آمون، وآي، وبعض عهد حور محب أيضًا.

فجرى النحت في أعقاب عهد آخناتون، على سنة العمارنة فترة غير قصيرة. وأثبت روحها الرقيقة الناعمة في تماثيل توت عنخ آمون، وفي قناعه الذهبي الكبير، ورءوس توابيته، وفيما عثر عليه في مقبرته من تماثيل صغيرة ناطقة مثلته هو وزوجته ونساء بيته المالك، ومثلت عددًا من الأرباب والربات.

وتبقى من نقوش خلفاء آخناتون المباشرين، عدة لوحات صغيرة، لأخيه سمنخ كارع وزوجته. وتوت عنخ آمون وقرينته، وكشفت كل لوحة منها عن معظم خصائص فن العمارنة، فترجمت عن آيات عشق الطبيعة، ومظاهر التنعم اللذيذ، وأخذت بالخطوط المرسلة، والرقة المتناهية، وعبرت عن أصدق ما يكون من مشاعر الود والتحاب والتعاطف بين المرء وزوجته(40).

ونقش فنان توت عنخ آمون منظرًا صغيرًا على جانب صندوق فخم مطعم بالأبنوس، والعاج، صور فرعونه فيه يصيد السباع. فسجل لحظات الصيد بروح العمارنة، وأخرجها جياشة بالترقب واليقظة والعنف والاندفاع، وأظهر بيئة الصيد بخصائصها العامة، وصور السباع في هرج ومرج يموج بعضها في بعض، ويتلوى بعضها في الفضاء وهو يقفز من قسوة الألم وكثرة السهام، ويخر بعضها صريعًا، ويحاول بعضها أن يتفلت بنفسه من الموت الذي يتعقبه(41).

وبدأت فنون الدولة الحديثة مرحلتها الرابعة، منذ أوائل عصر الأسرة التاسعة عشرة، وامتدت بها حتى نهاية عصر الرعامسة. واستعادت مدارس الفن خلالها بعض الأساليب الفنية التي سبقت عهد آخناتون، فأخذت عنها ما سارت عليه من تأنق وليونة وتفصيل في خطوط الرسم والنقش، ونحت سطوح التماثيل، ثم جمعت بين ذلك كله وبين ما استحبته من فن العمارنة من حيث الجرأة في تصوير الحركة والمهارة في تصوير المشاعر.

وظهرت بواكير النحت في هذه المرحلة الرابعة في تمثالين: تمثال لحور محب قبيل اعتلائه العرش(42)، مثله على هيئة الكاتب، وأظهره في جلسة لينة غير منتصبة، وانحناءة خفيفة تشبه انحناءة الحكيم ابن حابو - ولكنه مثله في الوقت نفسه بملامح سمحة حالمة ربطته بأسلوب العمارنة ورقة العمارنة.

وتمثال آخر كبير من المرمر للفرعون سيتي الأول (43)، صنعه المثال من عدة أجزاء منفصلة نتيجة فيما يبدو لصعوبة قطع المرمر بأحجار ضخمة كبيرة، أو تقليدًا لما جرى عليه فنانو العمارنة من صناعة بعض التماثيل الصغيرة من أجزاء متعددة. وأظهر المثال في ملامح وجه فرعونه واستقامة اتجاهه وانتصابته وتقاسيم جسده كل المثالية الملكية التي انطبعت بها تماثيل الفراعنة قبل عهد العمارنة (44).

وتعاقبت بعد ذلك عهود الرعامسة، ومارست مدارس النحت أوج نشاطها في عهد رمسيس الثاني، وهو فرعون لم يكن بين الفراعنة جميعهم من فاقه شغفًا بالتماثيل وكثرتها وضخامتها. فأخرجت له تماثيل تفوق الحصر، امتاز مما بقي منها تمثال متوسط الحجم من الجرانيت الأسود أظهر صاحبه بأنف أقنى بعض الشيء، وملامح نبيلة متسامية وبسمة خفيفة مقصودة (45). وتمثالان آخران أظهراه في حجم صغير يزحف على الأرض في تواضع وهو يقدم القربان إلى ربه (46). وتماثيل كثيرة أخرى ضخمة هائلة أقام الفنانون بعضها في معابد الرمسيوم "حيث أربت زنة أحد تماثيله على ألف طن" والكرنك والأقصر ومنف وصان الحجر. ونحتوا بعضها الآخر في الصخر الطبيعي في واجهة معبد أبي سنبل بالنوبة. وبلغ الفنانون في نحت بعض هذه التماثيل الكبيرة مبلغًا مقبولًا من النجاح الفني والنجاح التعبيري، ولكنهم اكتفوا في بعضها الآخر بإظهار روعتها عن طريق ضخامتها المفرطة وجلال هيئتها وهيبتها وتحقيق روح الاتساق والانسجام بينها وبين الوسط المعماري الذي أقاموها فيه.

على أنه مهما يكن من أمر، فإن تقديرنا لهذه التماثيل لا ينبغي أن يقتصر على الإشادة بضخامتها وسلامة نسب الغالبية منها وطريقة نحتها فحسب، وإنما يجب أن يمتد كذلك إلى الجهود الجبارة التي بذلها أهل عصرها في قطع كتلها الصلبة الضخمة، ونقلها من محاجرها، وتثبيتها في مواضع عرضها القديمة، وهي جهود لمس صعوبتها عصرنا الحاضر ذو الإمكانيات الواسعة في نقل تمثال عادي من تماثيل رمسيس الثاني مسافة لا تزيد عن أربعين كيلومتر، من قرية ميت رهينة إلى ميدان رمسيس في مدينة القاهرة.

وأصاب تماثيل الأفراد في بداية عصر الرعامسة نوع من الردة والتعصب لأساليب النحت قبل عهد العمارنة: فعاود المثالون تمثيل الأجسام فيها غضة ممتلئة، وأظهروا هيئات أصحابها مترفة، وزادوا تمثيل طيات ثيابها وثنياتها، وأسرفوا في تمثيل تفاصيل الشعور وصنوف الحلي والزينة عليها، وأفاضوا على صفحات وجوهها حلاوة وطراوة واستحبوا فيها ليونة الخطوط واستدارة الزوايا والسطوح(47).

واستحدثت مدارس النحت في عصر الرعامسة أوضاعًا جديدة مثلت الفراعنة بها خلال حفلات تتويجهم، وحين يظهرون مع أسرهم، وساعة انتصارهم على أعدائهم(48). كما استخدمت الرمز في التعبير عن أسمائهم بصور منحوتة. واستحدثت أوضاعًا أخرى لتماثيل الأفراد، مثلتهم فيها كأنما يستوحون السداد من الآلهة رعاة الكتابة والحكمة(49)، وحين يقدمون نذورهم إلى أربابهم، واقفين وجالسين وراكعين(50).

وتوفر لمدارس التصوير والنقش نشاطها الواسع في مرحلتها الرابعة هذه واتبعت في مجالات كثيرة فتوسعت في مساحات لوحاتها المصورة، وفي إظهار وحدة المجموعات المنقوشة، وفي استغلال وحدة المكان. كما توسعت في تصوير مناظر القتال على البر والبحر، وفي تصوير مناظر الصيد. وتوسعت في تصوير مجالات نشاط الإنسان وعالم الحيوان. وخير ما يستشهد به من نماذجها في هذه المجالات كلها، هي مناظر معبد الرمسيوم من عهد رمسيس الثاني، ومناظر معبد حابو من عهد رمسيس الثالث، وبعض مناظر معابد الأقصر والكرنك في العهدين نفسيهما.

وشغلت مناظر الحرب في هذه المعابد جدرانًا عظيمة الاتساع عظيمة الارتفاع(51)، صور الفنانون عليها مخيمات الجنود، وتحركات الجيوش، وصوروا فيها مراحل الكر والفر، وتصادم العربات، وإقدام الخيول وكبوها. وصوروا القتال بالسيوف والحراب، والتراشق بالنبال. وصوروا تطويق الحصون ومهاجمتها وتسلق جدرانها ونقب أسافلها. وصوروا تكالب العدو وفشل مسعاه، وصوروا تراكم القتلى، وسوق الأسرى. وحاولوا أن يظهروا ذلك كله في وحدة متصلة يموج بعضها في بعض دون خطوط تحدها، أو صفوف تفرق بينهما(52).

وأضاف أولئك الفنانون مزيدًا من التفاصيل والتأثير في بعض لوحاتهم، فبالغوا أحيانًا في تصوير ذعر العدو وهلعه، وأساه وجزعه، ورجائه وابتهاله، وخضوعه وامتثاله. وصوروا ضحايا الأعداء وهم يعانون سكرات الموت وقوسة الاحتضار. وأظهروا ساحة المعركة بعد خلوها قفرًا موحشًا، اجتثت الحرب أهلها من فوق الأرض كما اجتثت شجرها سواء بسواء. ولم يقل هذا التفصيل في تصويرهم لدقائق المعارك البحرية في عهد رمسيس الثالث.

وشغلت مناظر صيد البر حين ذاك نفس المسطحات الواسعة، وخيرها هو ما صوره فنان الأسرة العشرين أيضًا لفرعونه رمسيس الثالث على جدار واسع من جدران معبد حابو، فقد صور الفرعون يصيد الثيران الوحشية(53)، وبلغ الغاية في تصوير حماسه خلال الصيد، وتصوير عدو الثيران أمامه في جنون بين حنايا دغل ضيق. ثم صور مظاهر الألم الممض في وجه ثور ضخم بعد أن أدمته السهام وجرحته الحراب. ووفق في تصوير الدغل بنباتاته التي ألقت ظلالها عليه وأظهرت عمقه، وتمايلت تحت ضغط الثيران الهاربة فيه.

وعلى نحو ما سجل المصورون نشاط ملوكهم في الحرب والصيد، أكثروا من تسجيل مظاهر تقواهم وقربهم من أربابهم، ليجمعوا بين الدين والدنيا، فسجلوا على جدار واحد بمعبد الكرنك اثنين وعشرين وضعًا للفرعون سيتي الاول وهو يحيي ربه ويدعوه ويسبحه ويقدم القرابين إليه، وذلك ما لم يتعوده المصورون من قبل في غير القليل النادر.

وشغلت أساليب النقش والتصوير مجالاتها في مقابر الفراعنة والأمراء وكبار الأفراد في منطقة غرب الأقصر. وبلغت ذروة عالية من جمال التصوير ورقته، ونعومة النقش ونقاوته، وحيوية التلوين والتعبير، ودقة التفاصيل، فيما صورته من حياة أهلها في الدنيا وما يتمنون أن يكونوا عليه في الآخرة.

وعبرت عمارة الرعامسة عن ميول الضخامة والروعة في عصرها. وخير ما بقي منها هو معبد سيتي الأول في أبيدوس، ومعبد الرمسيوم لرمسيس الثاني في غرب طيبة، ومعابده المنحوتة في صخور النوبة "في أبي سنبل وغيره"، ومعبد رمسيس الثالث "معبد حابو" في غرب طيبة. وانفرد كل معبد من هذه المعابد بميزاته. وانفرد كل منها كذلك بما دل به على جبروت أصحابه حين تصميم مشروعه وحين تنفيذه.

غير أن أكثر منشآت الرعامسة دلالة على نواحي الإعجاز في عصرها، هو بهو الأساطين الكبير في الكرنك. وبدأ مشروع بهو الأساطين هذا قبل رمسيس الثاني، فرعونان أو ثلاثة: أبوه سيتي الأول، وجده رمسيس الأول، وربما سلفه حورمحب أيضًا(54)، ثم أتمه المهندسون في عهده. وجمعوا فيه بين الجلال والجمال والضخامة المفرطة في سياق واحد، وجعلوه أضخم بهو من نوعه في العالم القديم. وأراد المهندسون الذين خططوا هذا البهو أن يجعلوا في وسطه ممرًا واسعًا تعبره المواكب الدينية والهيئات الرسمية في معبد آمون وخلال أعياده، فشيدوا في سبيل إظهار هذا الممر الأوسط وفي سبيل تحديده، صفين هائلين من أساطين حجرية ضخمة شاهقة، يتجاوز ارتفاع كل أسطون منها عشرين مترًا ويبلغ قطره أكثر من عشرة أمتار، ويشبه تاجه هيئة زهور البردي المتفتحة. ويبلغ من سعته، أي سعة تاجه أنه يتسع لوقوف عشرات من الناس فوقه. وهكذا أصبح الممر الأوسط الكبير يقسم البهو إلى جناحين، تبلغ مساحتهما أكثر من خمسة آلاف متر مربع. وشاد المهندسون في كل من الجناحين عشرات من الأساطين المرتفعة بدت في مجموعها كأنها نباتات ضخمة باسقة متراصة، وشكلوا تيجانها على هيئة أكمام البردي المتضامنة المقفولة، وقللوا ارتفاع سيقانها عن ارتفاع سوق أساطين الممر الأوسط، رغبة منهم في أن يجعلوها تفسح بما بينها وبينها من فوارق الارتقاع سبيلًا لمنافذ النور والهواء، وسبيلًا لتنوع المسطحات. ثم نشروا الألوان والأصباغ على أسافل الأساطين وتيجانها. ووزعوا الزخارف والنقوش الملونة على السقوف والأعتاب كي تخفف من رهبة المكان وتخلع عليه نصيبًا من روح البهجة وطابع الجمال.

وإذا كان هذا هو شأن جزء واحد من أحد معابد طيبة بالصعيد في عهد رمسيس الثاني، ففي النوبة، وعلى مبعدة ما يقرب من ألف ميل من عاصمته برمسيس، قام معبد لنفس الفرعون، هزت أخباره أفئدة محبي الآثار والحضارات القديمة منذ سنوات قليلة، وهو معبد أبي سنبل(55)، ومرة أخرى نرى مجد المجهولين الذين كدوا في هذا المعبد بالجهد والمهارة يكاد يعادل مجد فرعونهم أو يزيد، فقد نقروه كأنهم الجان شاهقًا عميقًا متسعًا في بطن الجبل، وشكلوا واجهته الصخرية المتسعة بما يحقق التناسق بين عناصرها ويحقق التآلف بينها وبين البيئة الجبلية التي تصدرتها وبين مجرى النيل الواسع الذين تطل عليه. ونحتوا في هذه الواجهة وفي صخر الجبل نفسه أربعة تماثيل هائلة لرمسيس يزيد ارتفاع كل منها عن 19 مترًا على الرغم من أنها تمثله جالسًا، وحققوا نسبها كاملة وملامح وجه صاحبها صادقة على الرغم من ضخامتها والاكتفاء فيها بالخطوط العامة. وجعلوا محور المعبد مستقيمًا من الشرق إلى الغرب حتى تصافح أشعة الشمس كل صباح تماثيله المقدسة في محرابه وهو أعمق مكان فيه، لا سيما تمثال رب الشمس. ونقشوا جدران البهو الداخلي للمعبد "17.70×16.50 من الأمتار" وجوانب أعمدته بعديد من موضوعات الدين والدنيا والسلام والحرب. ولم تصرفهم الضخامة في ذلك كله عن تحقيق الاتساق والإتقان في كل ما نحتوه ونقشوه ولونوه، على الرغم من البيئة القصية الفقيرة التي أتموا عملهم فيها. وجاور هذا المعبد الكبير معبد آخر صغير ينسب إلى نفرتاري "زوجة رمسيس" وشاركها فيه أو شاركت فيه زوجها رمسيس الثاني والمعبودة حتحور المحلية، ونحتت في واجهته ستة تماثيل لكل من الفرعون وزوجته. تقل من حيث الضخامة عن تماثيل المعبد الكبير، ولكنها لا تقل في الإتقان عنها.

_____________

(1)  See, H. Kees, Op. Cit.; Ancient Egypt, 203.

(2) Compare, J.H. Breasted, A.R., Iv, 606-7; Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 323-324, 330, 447; K. Kichen, The Third Intermediate Period In Egypt "1100-650 B.C.", 1973, 5-6, 32 F., 225, 465-466.

دريوتون وفاندييه: مصر - معرب بالقاهرة - ص565، 620.

(3) ومن أسماء العرش الأخرى لهؤلاء الملوك وفق ترتيبهم المقترح: حج خبر رع ستبن رع "1"، نفر كارع - حقا واسة "2"، عاخبر رع - ستبن أمون "3"، وسرماعت رع - ستبن أمون "4"، "5"، نثر خبر رع - ستبن أمون "6"، تيت خبرو رع - ستبن رع "7".

(4)  Louvre C 256, Breasted, A.R., IV, 650-8.

(5)  دريوتون وفاندييه: المرجع السابق - ص566 - 569.

Sander-Hansen, Das Gottesweib Des Amun, 1940

(6) يقارن على سبيل المثال كيف يضع أ. هـ جاردنر تاريخ هذا العصر تحت عنوان: مصر تحت الحكم الأجنبي.

Gardiner, Op. Cit., Ch. Xii, 316 F.

ويضعه جون ويلسن: الحضارة المصرية - معرب بالقاهرة ص457 - تحت عنوان: القصبة المرضوضة، ويضعه أحمد فخري: مصر الفرعونية - الفصل الثامن - ص329 - تحت عنوان: العصر المتأخر.

And See K. Kitchen The Third Intermediate Period In Egypt. "1100-650 B.C.", 1973.

(7) Louvre C 256; Kees, Ancient Egypt, 282 F.

(8) Anc. Records, IV, 650 F.; Rec. Trav., Xxxii, 175 F.; Jnes, Vii, 157 F.; Jea, Xli, 83 F; Xlviii, 57.

(9) Op. Cit., 203.

(10) Asae, Viii, 3 F.; P. Montet, La Necropole Royale De Tanis, I-Iii, 1947-1950; Kemi, 1942, I F.

(11) الملوك الأول 10؛ 14 - 22.

(12) الملوك الأول 9: 16 - والواقع أن تحديد اسم هذا الفرعون لا زال في مرحلة الفروض، فهو قد يكون أحد الاثنين اللذين ذكرناهما أو يكون أول ملوك الأسرة التالية لهما.

See, Gardiner, Egypt of the Pharaohs, 329-339; Cambridge Anc. Hist., Op. Cit., 53-54.

(13) G. Maspero, Les Momies Royales De Deir El-Bahari, 1889, 72-90; G. Eliot Smith, the Royal Mummies. 1912; G. Daressy, Cercueils Des Cachettes Royales, 1909; Asa, Viii, 3 F.; Jea, Xxxii, 24-30; Porter And Moss, Topographical Bibliography, I, 173 F., 198 F.

(14) عبد العزيز صالح: الفن المصري القديم - في تاريخ الحضارة المصرية - القاهرة 1961 - ص343 - 365.

(15)  Brit, Mus. 22558, Louvre E 15682, Turin 1372, Edimbourg 1956, 140; And See Winlock, Jea, X, Pl. Xii F.

(16) Cf., J. Vandier, La Statuaire Egyptienne; 503, 506, Pls. Clxii. 1, 3, 5, Cxliii, 2, Xcli, 4, Clv, 5, Clxx, 4, 6.

وراجع من الاستثناءات القليلة التي جمل المثال فيها تماثيله.

Ibid. Pls Cxl, I, Clix, 5, Cxl, I; Chicago 13649.

(17) Metr. Mus. 29. 3. 2. 31. 94; Cario 11440, 42069, See Also Metr. Mus. 26. 7. 1400; 31. 3. 155; Edinbourg 1900. 212. 10.

(18) Davies, Rekhmire, Pls. Xxxvi-Xxxxvii; See Also, Davies, Kenamen, Pl. Xvii F.

(19) من نماذج هذا التصوير مناظر مقابر سنموت ورخميرع ومن خبر رع وأمنحوتب.

(20) يرى فاندييه أن تطور هذه المرحلة بدأ في عهد أمنحوتب الثاني Manuel D' Archaelcgie, Ii, 510.

وقد يصح ذلك بالنسبة لأساليب النحت، ولكنه لا يتفق مع أوضاع التماثيل "راجع حاشية 5 في الصفحة السابقة" أو مع التحرر في تصوير الراقصات في الحفلات الخاصة "في مثل مقبرة رخميرع وزير أبيه تحوتمس الثالث".

(21) راجع كذلك: دريوتون وفاندييه: مصر - ص538 و540.

Brit. Mus. 416 "6".

(22)  Metr. Mus. 30874.

(23) Cairo 38257 "J.E.", Berlin 21834, Etc; Davies, Amarna, Iii, Pl. Xviii; Sandman, Tomb of Huya, 38.

(24) Cairo 42127.

Cairo 610.

(25)  وعثر في أرمنت حديثًا على تمثال كبير من الألباستر الفرعون أمنحوتب الثالث يمثله مع المعبود سوبك، وقد نحت وجهه بنفس الأسلوب الناعم ولو أنه مستطيل بعض الشيء.

(26)  Metr. Mus. Eg. Statucs, 1945, Pl. 16.

(27)  Cairo 801, 806, 42084, Brooklyn 40523; Von Bissing, Denkmaeler Aegyptischer Sculptur, Taf. 50.

(28) Wresz., Atlas, 60; Prisse D'avennes, Histoire De L'art Eg. Pl. 14.

(29) Wresz., Op. Cit., 89. 19, Also, Davies, Tomb of Nacht, Pl. 13; L.D. Iii, 42.

(30) Berlin 12411; Wresz., Op, Cit., 8.

(31) Cf., Davies, Jea, Ix, 132 F.; B.M.A., 1923, 40 F.

(32)  Cairo 49258, 49529, 55938, Etc….

(33) Berlin 21348; Cairo 59286, See Also Cairo 43580, Berlin 17540, 21836, Louvre 11076, 15593.

(34) Davies, Amana, Iii, Pl. 18; J. Capart, Chroniqne D'egypte, 1957, Fig. 48; Von Bissing, Denkmaeler Zur Geschichte Der Kunst Amenophis Iv, B.

(35) Capart, Op. Cit., See for Example, Berlin 21263, 21300, 21223 Louvre E 14715; Cario 59286, Jea, Xix, Pl. Xii.

(36)Chronique D'egypte, Op. Cit., 208, 216, Figs. 46, 62; Berlin 21262, 21299, 21340, 21348, 21359; K. Lange, Echnaton Und Die Amarria Zeit, Taf., 28-35.

(37)  Peet-Wooley, The City Of Akhenaten, 1922, Pls. Xxxvii-Xxxix; Davies And Gardiner, Egyptian Paintings, Ii, Pl. Lxxvi; Pendlebury, Tell El-Amarna, 1935, Pl. Viii.

(38) Amarna. V, Pl. 5.

(39) Aldred, New Kingdom Art, 26.

(40) H. Carter, the Tomb of Tut-Ankh-Amen, London, 1923, Vol. I, Pl. Ii; Vol. Ii; Pl. I.A-B.

(41) Op. Cit., Vol, I, Pl. Vol. Ii, Pl. Iii; Davies and Gardiner, Egyptian Paintings, Pl. Lxxviii.

(42) Metr. Mus. 23. 10.1; See Also Cairo 42129; Asae, 1914, Xxxix, Pls. I-Ii.

(43) Cairo 42139.

(44) من تماثيل الأفراد التي جمعت بين الاتجاهين تمثالان لسيدتين تبدر خطوطهما في غاية النقاء، وتمثالان آخران لرجلين

Louvre N 371, E 10655, N 854, 1575.

(45) Turia 1330.

(46) Cairo 42142, 42143.

(47)  Cairo 741-751, 767, 816, 42168, Berlin 14131; Brit. Mus. 565 "36"; And See Vandier, Op. Cit., 258 F.

(48) Cairo 64736.

(49) Cairo 42162, 59291, Louvre E 11153, 11154, Etc.

(50) Cairo 606, 619, 42156, 42169, 42174, Etc.

(51)  Wresz, Atlas, 90 F.; L.D., Iii, 153 F.

(52)  بدأ هذا الاتجاه في تصوير المعارك الحربية على جانبي عربة تحوتمس الرابع ولكن على نطاق ضيق.

(53)  Von Bissing, Op. Cit., Taf. 92.

(54)  Vandier, Op, Cit., T. Ii, 924 and References.

(55)  يفترض ولتر إمري أن مشروع بناء هذا المعبد قد بدأ في عهد سيتي الأول.

W.B. Emery, Egypt in Nubia, 1965, 193.




العرب امة من الناس سامية الاصل(نسبة الى ولد سام بن نوح), منشؤوها جزيرة العرب وكلمة عرب لغويا تعني فصح واعرب الكلام بينه ومنها عرب الاسم العجمي نطق به على منهاج العرب وتعرب اي تشبه بالعرب , والعاربة هم صرحاء خلص.يطلق لفظة العرب على قوم جمعوا عدة اوصاف لعل اهمها ان لسانهم كان اللغة العربية, وانهم كانوا من اولاد العرب وان مساكنهم كانت ارض العرب وهي جزيرة العرب.يختلف العرب عن الاعراب فالعرب هم الامصار والقرى , والاعراب هم سكان البادية.



مر العراق بسسلسلة من الهجمات الاستعمارية وذلك لعدة اسباب منها موقعه الجغرافي المهم الذي يربط دول العالم القديمة اضافة الى المساحة المترامية الاطراف التي وصلت اليها الامبراطوريات التي حكمت وادي الرافدين, وكان اول احتلال اجنبي لبلاد وادي الرافدين هو الاحتلال الفارسي الاخميني والذي بدأ من سنة 539ق.م وينتهي بفتح الاسكندر سنة 331ق.م، ليستمر الحكم المقدوني لفترة ليست بالطويلة ليحل محله الاحتلال السلوقي في سنة 311ق.م ليستمر حكمهم لاكثر من قرنين أي بحدود 139ق.م،حيث انتزع الفرس الفرثيون العراق من السلوقين،وذلك في منتصف القرن الثاني ق.م, ودام حكمهم الى سنة 227ق.م، أي حوالي استمر الحكم الفرثي لثلاثة قرون في العراق,وجاء بعده الحكم الفارسي الساساني (227ق.م- 637م) الذي استمر لحين ظهور الاسلام .



يطلق اسم العصر البابلي القديم على الفترة الزمنية الواقعة ما بين نهاية سلالة أور الثالثة (في حدود 2004 ق.م) وبين نهاية سلالة بابل الأولى (في حدود 1595) وتأسيس الدولة الكشية أو سلالة بابل الثالثة. و أبرز ما يميز هذه الفترة الطويلة من تأريخ العراق القديم (وقد دامت زهاء أربعة قرون) من الناحية السياسية والسكانية تدفق هجرات الآموريين من بوادي الشام والجهات العليا من الفرات وتحطيم الكيان السياسي في وادي الرافدين وقيام عدة دويلات متعاصرة ومتحاربة ظلت حتى قيام الملك البابلي الشهير "حمورابي" (سادس سلالة بابل الأولى) وفرضه الوحدة السياسية (في حدود 1763ق.م. وهو العام الذي قضى فيه على سلالة لارسة).