أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-11-2014
23358
التاريخ: 23-04-2015
2137
التاريخ: 28-01-2015
2286
التاريخ: 23-04-2015
2171
|
قد يقال : كم ترك الأَوّل للآخر ! وأُخرى يُقال : ما ترك الأَوّل للآخر ، فإن كان في المَثل الأَوّل جزاف ، فإنّ في المَثل الثاني مبالغة ظاهرة ، نعم ، كان الأوائل قد مهّدوا السُبل لدراسات الآخرين وأسّسوا وأبدعوا وحازوا قَصَب السَبق ، وجاء اللاحقون ليستمرّوا على أَثرهم على الطريقة المُعبّدة من ذي قبل ، لكنّهم زادوا ونقّحوا وهذّبوا ؛ وبذلك نضجت الأفكار وتوسّعت العقول واكتملت الآراء والأنظار .
أمّا الذي زاده الخَلف على السَلف في مسألة ( إعجاز القرآن ) فهو الذي لَمسوه من تناسق نَظمه البديع وتناسب نَغمه الرفيع كانت لأجراس صوته الرصيف رنّة ، ولألحان موسيقاه اللطيف نَسمة ونفحة قُدسية ملكوتية ذات جذوة وجذبة ، لا يُوجد لها مثيل في أيّ توقيع من تواقيع الموسيقى المعهودة ذات الأشكال والألوان المعروفة .
إنّه منتظم على أوزان لا كأوزان الشعر ، وعلى قوافي السجع وليس بسجع ، ففيه خاصّية النَظم وهو نثر ، فهو كلام منظوم ومنثور في نفس الوقت ، كما هو مُسجّع ومُقفّى أيضاً في عين الحال ، ومع ذلك فهو ليس بأحدهما ، وإنّما هو كلام فريد في نوعه وفذّ في أُسلوبه ، إنّه كلام الله فوق كلام المخلوقينَ .
هذا هو الذي أحسّته أَرباب الفنون وأصحاب الأذواق الظريفة بشأن القرآن الكريم إذا تُليت آياته على نهجها الأصيل ذات روعة وخلابة ، كما قال قائلهم : إنّ له لحلاوةً وإنّ عليه لطلاوةً .
1 ـ سيّد قطب :
كَتب سيّد قطب في كتابه ( التصوير الفنّي ) فصلاً عن الإيقاع الموسيقي في القرآن ، وذَكَر أنّ الموسيقيّ المبدع الأُستاذ محمّد حسن الشجاعي تفضّل بمراجعته وضبط بعض المصطلحات الفنّية الموسيقية عليه ... جاء فيه :
إنّ هذا الإيقاع متعدّد الأنواع ، ويتناسق مع الجوّ ، ويؤدّي وظيفةً أساسيةً في البيان .
قال : ولمّا كانت هذه الموسيقى القرآنية إشعاعاً للنظم الخاصّ في كلّ موضع ، وتابعةً لقصر الفواصل وطولها ، كما هي تابعة لانسجام الحروف في الكلمة المفردة ، ولانسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة ... فإنّنا نُؤثر أن نتحدّث عن هذه الظواهر كلّها مجتمعة .
جاء في القرآن الكريم {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس : 69].
وجاء فيه حكاية عن كفّار العرب : {بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء : 5].
وصدق القرآن الكريم ، فليس هذا النسق شعراً ، ولكن العرب كذلك لم يكونوا مجانين ولا جاهلين بخصائص الشعر ، يوم قالوا عن هذا النسق العالي : إنّه شعر !
لقد راعَ خيالهم بما فيه من تصويرٍ بارع ، وسَحر وجدانَهم بما فيه من منطقٍ ساحر ، وأخذ أسماعهم بما فيه من إيقاعٍ جميل ، وتلك خصائص الشعر الأساسية إذا نحن أغفلنا القافية والتفاعيل .
على أنّ النسق القرآني قد جمع بين مزايا النثر والشعر جميعاً ، فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحّدة والتفعيلات التامّة ، فنالَ بذلك حرّيّة التعبير الكاملة عن جميع أَغراضه العامّة ، وأخذ في الوقت ذاته من خصائص الشعر ، الموسيقى الداخلية ، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تُغني عن التفاعيل ، والتقفية التي تُغني عن القوافي ، وضمّ ذلك إلى الخصائص التي ذَكرنا ، فشأن النثر والنظم جميعاً (1) .
وحيثما تلا الإنسانُ القرآنَ أحسّ بذلك الإيقاع الداخلي في سياقه ، يَبرز بروزاً واضحاً في السور القِصار ، والفواصل السريعة ، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة ، ويتوارى قليلاً أو كثيراً في السور الطوال ، ولكنّه على كلّ حال ملحوظ دائماً في بِناء النظم القرآني (2) .
2 ـ مصطفى محمود :
وقال الأُستاذ مصطفى محمود : لقد اكتشفت منذ الطفولة دون أن أدري حكاية الموسيقى الداخلية الباطنة في العبارة القرآنية ، وهذا سرّ مِن أعمق الأسرار في التركيب القرآني ، إنّه ليس بالشعر وبالنثر ولا بالكلام المسجوع ، وإنّما هو مِعمار خاصّ من الألفاظ صُفّت بطريقة تكشف عن الموسيقى الباطنة فيها .
وفرق كبير بين الموسيقى الباطنة والموسيقى الظاهرة .
وكمَثلٍ نأخذ بيتاً لشاعر عمر بن أبي ربيعة ، اشتهر بالموسيقى في شعره ... البيت الذي يَنشد فيه :
قال لي صاحِبي ليَعلَمَ ما iiبي أَتُحبُّ القتولَ أُختَ الربابِ ؟
أنت تسمع وتطرب وتهتزّ على الموسيقى ، ولكنّ الموسيقى هنا خارجية صنعها الشاعر بتشطير الكلام في أشطار متساوية ثُمّ تقفيل كلّ عبارة تقفيلاً واحداً على الباء الممدودة .
الموسيقى تصل إلى أُذُنك من خارج العبارة وليس من داخلها ، من التقفيلات ( القافية ) ومن البحر والوزن .
أمّا حينما تتلو : {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى : 1، 2] فأنت أمام شطرة واحدة ... وهي بالتالي تخلو من التقفية والوزن والتشطير ، ومع ذلك فالموسيقى تقطر من كلّ حرف فيها ، من أين ، وكيف ؟
هذه هي الموسيقى الداخلية ، والموسيقى الباطنة سرّ من أسرار المِعمار القرآني ، لا يشاركه فيه أيّ تركيب أدبي . وكذلك حينما تقول : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه : 5] ، وحينما تتلو كلمات زكريّا لربّه : {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا } [مريم : 4] ، أو كلمة الله لموسى : {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } [طه : 15] ، أو كلمته تعالى ـ وهو يتوعّد المجرمين ـ : {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [طه : 74].
كلّ عبارة بنيان موسيقيّ قائم بذاته يَنبع فيه الموسيقيّ من داخل الكلمات ومن ورائها ومِن بينها ، بطريقة محيّرة لا تدري كيف تتم ؟!
وحينما يروي القرآن حكاية موسى بذلك الأسلوب السيمفوني المُذهل : {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } [طه : 77 - 79] .
كلماتٌ في غاية الرقّة مثل ( يَبَسا ) أو ( لا تَخاف دركاً ) بمعنى لا تخاف إدراكاً ، إنّ الكلمات لتذوب في يد خالقها وتصطفّ وتتراص في مِعمار ورَصف موسيقيّ فريد ، هو نسيجٌ وحده بين كلّ ما كتب بالعربية سابقاً ولاحقاً ، لا شَبَه بينه وبين الشعر الجاهلي ، ولا بينه وبين الشعر والنثر المُتأخّر ، ولا محاولة واحدة للتقليد حفظها لنا التاريخ ، برغم كثرة الأعداء الذين أرادوا الكيد للقرآن .
في كلّ هذا الزُحام تبرز العبارة القرآنية منفردةً بخصائصها تماماً ، وكأنّها ظاهرة بلا تبرير ولا تفسير ، سِوى أنّ لها مصدراً آخر غير ما نعرف .
اسمع هذا الإيقاع المُنغّم الجميل :
{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر : 15] ، {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } [الأنعام : 95، 96] {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر : 19] ، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام : 103] ، {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف : 89].
ثمّ هذه العبارة الجديدة في تكوينها وصياغتها ، العميقة في معناها ودلالتها على العجز عن إدراك كنه الخالق :
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [الرعد : 9] . {يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد : 13] ثم هذا الاستطراد في وصف القدرة الإلهية :
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام : 59] .
ولكن الموسيقى الباطنية ليست هي كلّ ما انفردت به العبارة القرآنية ، وإنّما مع الموسيقى صفة أُخرى هي الجلال !
وفي العبارة البسيطة المقتضبة التي روى بها الله نهاية قصّة الطوفان ، تستطيع أن تلمس ذل الشيء الهائل الجليل في الألفاظ :
{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هود : 44].
تلك اللمسات الهائلة ... كلّ لفظ له ثقل الجبال ووقع الرعود ... تنزل فإذا كلّ شيء صمت ، سكون ، هدوء ، وقد كفّت الطبيعة عن الغضب ، ووصلت القصّة إلى ختامها : {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هود : 44] إنّك لتشعر بشيء غير بشريّ تماماً في هذه الألفاظ الهائلة الجليلة المنحوتة من صخر صَوَّان ، وكأنّ كلّ حرف فيها جبل الألب ، لا يُمكنك أن تغيّر حرفاً أو تستبدل كلمةً بأُخرى ، أو تؤلّف جملةً مكان جملة ، تُعطي نفس الإيقاع والنغم والحركة والثقل والدلالة ، وحاولْ وجرّبْ لنفسك في هذه العبارة البسيطة ذات الكلمات العشر ، أن تُغيّر حرفاً أو تستبدل كلمةً بكلمة !
ولهذا وقعت العبارة القرآنية على آذان عرب الجاهلية الذين عشقوا الفصاحة والبلاغة وقع الصاعقة ! .
ولم يكن مُستَغرباً من جاهليّ مثل الوليد بن المغيرة ـ عاش ومات على كفره ـ أن يَذهل ، وأن لا يستطيع أن يكتم إعجابه بالقرآن ، برغم كفره فيقول ، وقد اعتبره من كلام مُحمّد :
والله إنّ لقوله لحلاوةً ، وإنّ عليه لطلاوةً ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمُغدق ، وإنّه يعلو ولا يُعلى عليه .
ولمّا طلبوا منه أن يسبّه قال : قولوا ساحر جاء بقولٍ يُفرّق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته .
إنّه السِحر حتّى على لسان العدوّ الذي يبحث عن كلمة يسبّه بها .
وإذا كانت العبارة القرآنية لا تقع على آذاننا اليوم موقع السِحر والعَجب والذهول فالسبب ؛ هو التعوّد والأُلفة والمُعايشة منذ الطفولة والبَلادة والإغراق في عامّية مُبتذلة أبعدتنا عن أُصول لغتنا ، ثُمّ أُسلوب الأداء الرتيب المُملّ الذي نسمعه من مُرتِّلينَ محترفين يكرّرون السور من أوّلها إلى آخرها بنبرة واحدة ، لا يختلف فيها موقف الحزن من موقف الفرح من موقف الوعيد من موقف البُشرى من موقف العِبرة ، نبرة واحدة رتيبة تموت فيها المعاني وتتسطّح العبارات .
وبالمِثل بعض المشايخ ممّن يقرأ القرآن على سبيل اللعلعة دون أن ينبض شيء في قلبه ، ثُمّ المناسبات الكثيرة التي يُقرأ القرآن فيها روتينيّاً ، ثُمّ الحياة العصرية التي تعدّدت فيها المشاغل وتوزّع الانتباه وتحجّر القلب وتعقّدت النفوس وصَدِئت الأرواح .
وبرُغم هذا كلّه فإنّ لحظة صفاء ينزع الواحد فيها نفسه من هذه البيئة اللزجة ، ويرتدّ فيها طفلاً بِكراً وترتدّ له نفسه على شفّافيّتها ، كفيلة بأن تُعيد إليه ذلك الطعم الفريد والنكهة المُذهلة والإيقاع المُطرب الجميل في القرآن ، وكفيلة بأن توقفه مَذهولاً من جديد بعد قرابة ألف وأربعمِئة سنة من نزول هذه الآيات وكأنّها تُنزل عليه لَسَاعتها وتوّها .
اسمع القرآن يصف العلاقة الجنسية بين رجل وامرأة بأُسلوب رفيع وبكلمة رقيقة مُهذّبة فريدة لا تجد لها مثيلاً ولا بديلاً في أيّة لغة : {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا } [الأعراف : 189] ، هذه الكلمة ( تغشّاها ) ... تَغَشّاها رَجُلها ... أن يمتزج الذكر والأُنثى كما يمتزج ظِلاّن وكما يغشى الليل النهار وكما تذوب الألوان بعضها في بعض ، هذا اللفظ العجيب الذي يُعبِّر به القرآن عن التداخل الكامل بين اثنين هو ذَروةٌ في التعبير .
وألفاظ أُخرى تَقرأها في القرآن فتترك في السمع رنيناً وأصداءً وصوراً حينما يُقسم الله بالليل والنهار فيقول : {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير : 17، 18] ، هذه الحروف الأربعة ( عسعس ) هي الليل مُصوّراً بكلّ ما فيه ، ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) إنّ ضوء الفجر هنا مرئيّ ومسموع ، إنّك تكاد تسمع زقزقة العصفور وصيحة الديك .
فإذا كانت الآيات نذير الغضب وإعلان العقاب فإنّك تسمع الألفاظ تتفجّر ، وترى المِعمار القرآني كلّه له جَلجلة ، اسمع ما يقول الله عن قوم عاد :
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة : 6، 7] ، إنّ الآيات كلّها تَصرّ فيها الرياح وتَسمع فيها اصطفاق الخيام وأعجاز النخل الخاوي وصورة الأرض الخراب .
والصور القرآنية كلّها تجدها مرسومةً بهذه اللمسات السريعة والظِلال المُحكمة والألفاظ التي لها جَرس وصوت وصورة .
ولهذه الأسباب مجتمعه كان القرآن كتاباً لا يُترجم ، إنّه قرآن في لغته ، أمّا في اللغات الأخرى فهو شيء آخر غير القرآن . {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } [يوسف : 2] وفي هذا تحديد فاصل .
وكيف يُمكن أن تُترجم آية مثل : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه : 5] ، إنّنا لسنا أمام معنى فقط ، وإنّما نحن بالدرجة الأُولى أمام مِعمار ، أمام تكوين وبناء ، تنبع فيه الموسيقى من داخل الكلمات ، مِن قَلبِها لا من حواشيها ، من خصائص اللغة العربية وأسرارها وظِلالها وخوافيها .
ولهذا انفردت الآية القرآنية بخاصّية عجيبة ، إنّها تُحدث الخشوع في النفس بمجرّد أن تلامس الأُذن وقبل أن يتأمّل العقل معانيها ؛ لأنّها تركيب موسيقيّ يُؤثّر في الوجدان والقلب لتوّه ومن قبل أن يبدأ العقل في العمل ، فإذا بدأ العقل يُحلّل ويتأمّل فانّه سوف يكتشف أشياء جديدة وسوف يزداد خشوعاً ، ولكنّها مرحلة ثانية قد تَحدث وقد لا تحدث ، وقد تكشف لك الآية عن سرّها وقد لا تكشفه ، وقد تُؤتى البصيرة التي تُفسّر بها معاني القرآن وقد لا تُؤتى هذه البصيرة . ولكنك دائماً خاشع ؛ لأنّ القرآن يُخاطبك أَوّلاً كمعمار فريد من الكلام .. بنيان .. فريد .. طراز من الرصف يُبهر القلب ... ألقاه عليك الذي خَلق اللغة ويعرف سرّها ... (3) .
3 ـ محمّد درّاز :
وللدكتور محمّد عبد الله درّاز نظرة مشابهة ، يَجعل من إعجاز القرآن في قشرته السطحية في جانبَي جماله التوقيعي وجماله التنسيقي الى جنب محتواه من جلائل أسرار ، فإنّه جلّت قدرته أجرى سنّته في نظام هذا الكون أن يغشى جلائل أسراره بأستار زاهية بمُتعةٍ وجمال .
قال : إنّك إذا استمعت إلى القارئ المُجوِّد يقرأ القرآن يُرتّله حقّ ترتيله نازلاً بنفسه على هوى القرآن ، وليس نازلاً بالقرآن على هوى نفسه ستجد اتّساقاً وائتلافاً يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر ، على أنّه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر ، وستجد شيئاً آخر لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر ؛ ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتشابه أهواؤها وتذهب مذهباً متقارباً ، فلا يلبث سمعك أن يَمجّها ، وطبعك أن يملّها ، إذا أُعيدت وكُرّرت عليك بتوقيع واحد : بينما أنت من القرآن أبداً في لحن متنوّع متجدّد ، تنقل فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل (4) على أوضاع مختلفة يأخذ منها كلّ وَتَرمن أوتار قلبك بنصيب سواء ، فلا يعروك منه على كثرة ترداده مَلالة ولا سأم ، بل لا تفتأ تطلب منه المزيد .
هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممّن يسمع القرآن ، حتّى الذين لا يعرفون لغة العرب ، فكيف يخفى على العرب أنفسهم ؟
إنّ أوّل شيء أحسّته تلك الآذان العربية في نِظام القرآن هو ذلك النِظام الصوتيّ البديع الذي قُسّمت فيه الحركة والسكون تقسيماً مُنوّعاً يُجدّد نشاط السامع لسماعه ، ووُزّعت في تضاعيفه حروف المدّ والغُنّة توزيعاً بالقسط يُساعد على ترجيع الصوت به وتهادي النفس فيه آناً بعد آن ، إلى أن يصل إلى الفاصلة الأُخرى فيجد عندها راحته العظمى .
وهذا النحو من التنظيم الصوتي إن كانت العرب قد عمدت إلى شيء منه في أشعارها فذهبت فيها إلى حدّ الإسراف في الاستواء ، ثُمّ إلى حدّ الإملال في التكرير فإنّها ما كانت تعهده قطّ ، ولا كان يتهيّأ لها بتلك السهولة في منثور كلامها سواء المُرسل والمسجوع ، بل كان يقع لها في أجود نثرها عيوب تغضّ من سَلاسة تركيبه ، ولا يمكن معها إجادة ترتيله إلاّ بإدخال شيء عليه أو حذف شيء منه .
لا عجب إذاً أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن ـ في خيال العرب ـ أنّه شعر ؛ لأنّها وجدت في توقيعه هزّةً لا تجد شيئاً منها إلاّ في الشعر ، وعجبٌ أن ترجع إلى نفسها فتقول : ما هو بشعر ؛ لأنّه ـ كما قال الوليد : ـ ليس على أعاريض الشعر في رَجَزه ولا في قصيده ، ثُمّ لا عجب أن تَجعل مردّ هذه الحيرة أخيراً إلى أنّه ضربٌ من السِحر ؛ لأنّه جَمَع بين طرفَي الإطلاق والتقييد في حدّ وسط ، فكان له من النثر جلاله وروعته ، ومن الشعر جماله ومُتعته .
أنت إذا ما اقتربت بأُذنك قليلاً ، فطرقتْ سمعَك جواهرُ حروفه ، خارجةً من مخارجها الشحيحة ، فأجاءك منه لذّة أُخرى في نَظم تلك الحروف ورَصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها : هذا ينقر وذاك يصفر ، وثالث يهمس ، ورابع يجهر ، وآخر ينزلق عليه النَفَس ، وآخر يحتبس عنده النَفَس ، وهلمّ جرا ، فترى الجمال اللغويّ ماثلاً أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة لا كركرة ولا ثرثرة ، ولا رخاوة ولا معاظلة ، ولا تناكر ولا تنافر ، وهكذا ترى كلاماً ليس بالحضريّ الفاتر ، ولا بالبدويّ الخَشِن ، بل تراه وقد امتزجت فيه جَزالة البادية وفَخامتها برقّة الحاضرة وسلاستها ، وقُدّر فيه الأمران تقديراً لا يبغي بعضهما على بعض ، فإذا مزيجٌ منهما ، كأنّما هو عُصارة اللغتينِ وسلالتهما ، أو كأنّما هو نقطة الاتّصال بين القبائل ، عندها تلتقي أذواقهم وعليها تأتلف قلوبهم .
من هذه الخصوصية والتي قبلها تتألّف القشرة السطحية للجمال القرآني ، وليس الشأن في هذا الغلاف إلاّ كشأن الأصداف مِمّا تحويه من اللآلئ النفيسة ، فإنّه ـ جلّت قدرته ـ أَجرى سنّته في نظام هذا العالم أن يغشّي جلائل أسراره بأستار لا تخلو من مُتعة وجمال ؛ ليكون ذلك من عوامل حفظها وبقائها ، بتنافس المتنافسينَ بها وحرصهم عليها .
فقد سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أَودعها هذا الكتاب الكريم ، ومِن ثَمّ قضت حِكمته أن يختار لها صواناً يحبّبها إلى الناس بعذوبته ، ويغريهم عليها بطلاوته ، ويكون بمنزلة ( الحدّاء ) يستحثّ النفوس على السير إليها ، ويهوّن عليها وعثاء السفر في طلب كمالها ، لا جرم اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالب العذب الجميل ؛ ومن أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبداً في أفواه الناس وآذانهم مادامت فيهم حاسّة تذوّق وحاسّة تسمّع ، وإن لم يكن لأكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سرّه ، وينفدون بها إلى بعيد غوره { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9].
هل عرفت أنّ نظم القرآن الكريم يجمع إلى الجمال عزّةً وغرابة ؟ وهل عرفت أنّ هذا الجمال كان قوّةً إلهيّةً حُفظ بها القرآن من الفقد والضياع ؟
فاعرف الآن أنّ هذه الغرابة كانت قوّة أُخرى قامت بها حجّة القرآن في التحدّي والإعجاز ، واعتصم بها من أيدي المعارضين والمبدّلين ، وأنّ ذلك الجمال ما كان ليكفي وحده في كفّ أيديهم عنه ، بل كان أجدر أن يغريهم به ، ذلك أنّ الناس ـ كما يقول الباقلاّني : ـ إذا استحسنوا شيئاً اتّبعوه ، وتنافسوا في محاكاته بباعث الجبلّة ، وكذلك رأينا أصحاب هذه الصناعة يتبع بعضهم بعضاً فيما يستجيدونه من الأساليب ، وربّما أدرك اللاحق فيهم شأو السابق أو أَربى عليه ، كما صنع ابن العميد بأُسلوب الجاحظ ، وكما يصنع الكُتّاب والخطباء اليوم في اقتداء بعضهم ببعض ، وما أساليب الناس على اختلاف طرائقها في النثر والشعر إلاّ مناهل مورودة ومسالك معبّدة ، تُؤخذ بالتعلّم ، وتُراضّ الألسنة والأقلام عليها بالمرانة ، كسائر الصناعات .
فما الذي منع الناس أن يُخضعوا أُسلوب القرآن لألسنتهم وأقلامهم وهم شرع في استحسان طريقة ، وأنّ أكثرهم الطالبون لإبطال حجّته .
ما ذاك إلاّ أنّ فيه منعة طبيعيّة كفّت ولا تزال تكفّ أيديهم عنه ، ولا ريب أنّ أوّل ما تلاقيك هذه المناعة فيما صوّرناه لك من غريب تأليفه في بنيته ، وما اتّخذه في رصف حروفه وكلماته وجمله وآياته ، من نظام له سمت وحده وطابع خاصّ به ، خرج فيه عن هيئة كلّ نظم تعاطاه الناس أو يتعاطونه ، فلا جَرم لم يجدوا له مِثالاً يحاذونه به ، ولا سبيلاً يسلكونه إلى تذليل منهجه .
وآية ذلك أنّ أحداً لو حاول أن يُدخل عليه شيئاً من كلام الناس ـ من السابقين منهم أو اللاحقين ، من الحكماء أو البلغاء أو النبيّين والمرسلين ـ لأفسد بذلك مزاجه في فم كلّ قارئ ، ولجعل نظامه يضطرب في أُذن كلّ سامع ، وإذاً لنادى الداخلُ على نفسه بأنّه واغل دخيل ، ولنفاه القرآن عن نفسه كما ينفي الكِير خبث الحديد ، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت : 41، 42] .
وأنت إذ لم يلهك جمال الغطاء عمّا تحته من الكنز الدفين ، ولم تحجبك بهجة الأستار عمّا وراءها من السرّ المصون ، بل فُليت القشرة عن لبّها وكُشفت الصدفة عن دُرّها ، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي ، تجلّى لك ما هو أبهى وأبهر ، ولقيت منه ما هو أروح وأبدع .
لا نريد أن نحدّثك هاهنا من معاني القرآن وما حوته من العلوم الخارجة عن متناول البشر ، فإنّ لهذا الحديث موضعاً آخر يجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ في بحث الإعجاز العلمي ، وحديثنا الآن كما ترى في شأن الإعجاز اللغوي ، وإنّما عن اللغة الألفاظ .
بيد أنّ هذه الألفاظ يُنظر فيها تارةً من حيث هي أبنية صوتية مادّتها الحروف وصورتها الحركات والسكنات من غير نظر إلى دلالتها ، وتارةً من حيث هي أداة لتصوير المعاني ، ونقلها من نفس المتكلّم إلى نفس المخاطب بها ، وهذه الناحية لا شك أنّها هي أعظم الناحيتين أثراً في الإعجاز اللغوي ؛ إذ اللغات تتفاضل من حيث هي بيان ، أكثر من تفاضلها من حيث هي أجراس وأنغام ، والفضيلة البيانية إنّما تعتمد دقّة التصوير وإجادة التعبير عن المعنى كما هو ، سواء كان ذلك المعنى حقيقة أو خيالاً ، وأن يكون هدىً أو ضلالاً ، فقد كانت حكايات القرآن لأقوال المُبطلين لا تقصر في بلاغتها عن سائر كلامه ؛ لأنّها تصف ما في أنفسهم على أتمّ وجه .
انظر حيث شئت من القرآن الكريم تجد بياناً قد قدّر على حاجة النفس أحسن تقدير ، فلا تحسّ فيه بتخمة الإسراف ولا بمخمصة التقتير ، يؤدّي لك من كلّ معنى صورة نقيّة وافية ، نقيّة لا يشوبها شيء ممّا هو غريب عنها ، وافية لا يشذّ عنها شيء من عناصرها الأصلية ولواحقها الكمالية ، كلّ ذلك في أوجز لفظ وأنقاه ، ففي كلّ جملة منه جهاز من أجهزة المعنى ، وفي كلّ كلمة منه عضو من أعضائه ، وفي كلّ حرف منه جزء بقدره ، وفي أوضاع كلماته من جمله ، وأوضاع جمله من آياته سرّ الحياة الذي ينتظم المعنى بأداته ، وبالجملة ترى ـ كما يقول الباقلاّني ـ محاسن متوالية وبدائع تترى .
ضع يدك حيث شئت من المصحف ، وعُدّ ما أحصته كفُّك من الكلمات عدّاً ، ثمّ أحصِ عدّتها من أبلغ كلام تختاره خارجاً عن الدفّتين ، وانظر نسبة ما حواه هذا الكلام من المعاني إلى ذاك ، ثمّ انظر كم كلمة تستطيع أن تُسقطها أو تبدّلها من هذا الكلام دون إخلال بغرض قائله ؟ وأيّ كلمة تستطيع أن تُسقطها أو تبدّلها هناك ؟ فكتاب الله تعالى ـ كما يقول ابن عطية ـ لو نزعت منه لفظة ثمّ أُدير لسان العرب على لفظة في أن يوجد أحسن منها لم توجد .
بل هو كما وصفه تعالى {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود : 1].
وميزة أُخرى تفوق بالقرآن الكريم على سائر الكلام : إنّه خطاب مع العامّة كما هو خطاب مع الخاصّة ، وهاتان غايتان متباعدتان عند الناس ، إنّك لو خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء لنزلت بالكلام إلى مستوىً لا يرضونه ، ولو أنّك خاطبت العامّة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الخاصّة للجأتهم إلى ما لا تطيقه عقولهم .
فلا غنى لك ـ إن أردت أن تُعطي كلتا الطائفتين حقّها كاملاً من بيانك ـ أن تخاطب كلّ واحدة منهما بغير ما تُخاطب الأُخرى ، كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال .. فأمّا أنّ جملةً واحدة وتعبيراً واحداً تلقي إلى العلماء والجهلاء ، والى الأذكياء والأغبياء ، والى السَوقة والأُدباء ، فيراها كلّ منهم مُقدّرة على مقياس عقله وعلى وِفق حاجته ، فذلك ما لا تجده ـ على أتمّه ـ إلاّ في القرآن الكريم ، فهو قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير ، ويراه العامّة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم لا يلتوي على أفهامهم ، ولا يحتاجون منه إلى تُرجمان وراء وضع اللغة ، فهو متعة العامّة والخاصّة على السواء ، مُيسّر لكلّ من أراد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر : 17] (5) .
4 ـ مصطفى الرافعي :
وقال الأُستاذ مصطفى صادق الرافعي : وقد كان من عادة العرب أن يتحدّى بعضهم بعضاً في المساجلة والمقارضة بالقصيد والخطب ؛ ثقة منهم بقوّة الطبع ، ولأنّ ذلك مذهب من مفاخرهم ، يستعلون به ويذيع لهم حسن الذكر وعلوّ الكلمة ، وهم مجبولون عليه فطرةً ، ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ، ومجامعهم ، فتحدّاهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه ، وسلك إلى ذلك طريقاً كأنّها قضية من قضايا المنطق التاريخي ، فإنّ حِكمة هذا التحدّي وذِكره في القرآن إنّما هي أن يشهد التاريخ في كلّ عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللدّ والفصحاء اللُسْن ، وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم في الطبع والقوّة ، فكانوا مظنّة المعارضة والقدرة عليها ، حتّى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن ، مولّد أو أعجمي أو كاذب أو منافق أو ذو غفلة ، فيزعم أنّ العرب كانوا قادرين على مثله .
أمّا الطريقة التي سلكها إلى ذلك فهي أنّ التحدّي كان مقصوراً على طلب المعارضة بالمثل ، ثمّ قرن التحدّي بالتأنيب والتقريع ، ثمّ استفزّهم بعد ذلك جملةً واحدة ، كما يَنفج الرماد الهامد ، فقال : {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة : 23، 24] فقطع لهم أنّهم لن يفعلوا ، وهي كلمة يستحيل أن تكون إلاّ من الله ولا يقولها عربيّ في العرب أبداً ، وقد سمعوها واستقرّت فيهم ودارت على الألسنة ، وعرفوا أنّها تنفي عنهم الدهر نفياً وتعجزهم آخر الأبد ، فما فعلوا ولا طمعوا قطّ أن يفعلوا ، وطارت الآية بعجزهم وأسجلته عليهم ووسمتهم على ألسنتهم .
تأمّل نظم الآية تجد عجباً ، فقد بالغ في اهتياجهم واستفزازهم ليثبت أنّ القدرة فيهم على المعارضة كقدرة الميّت على أعمال الحياة ، لن تكون ولن تقع ! فقال لهم : لن تفعلوا ! أي هذا منكم فوق القوّة وفوق الحيلة وفوق الاستعانة وفوق الزمن ، ثمّ جعلهم وقوداً ، ثمّ قرنهم إلى الحجارة ، ثمّ سمّاهم كافرين ، فلو أنّ فيهم قوّة بعد ذلك لانفجرت ، ولكن الرماد غير النار .
فلمّا رأوا هممهم لا تسموا إلى ذلك ، ولا تقارب المطمعة فيه ، وقد انقطعت بهم كلّ سبيل إلى المعارضة ، بذلوا له السيف كما يبذل المُحرَج آخر وسعه ( آخر الدواء الكيّ ) وأخطروا بأنفسهم وأموالهم ، وانصرفوا عن توهّن حجّته إلى تهوينها على أنفسهم بكلام من الكلام ، فقالوا : ساحر ، ومجنون ، ورجل يكتتب أساطير الأوّلين ، وإنّما يعلّمه بشر ، وأمثال ذلك ممّا أخذت به الحجّة عليهم وكان إقراراً منهم بالعجز (6) .
قال : وكان أُسلوب الكلام عند العرب قبيلاً واحداً وجنساً معروفاً ، ليس إلاّ الحر من المنطق والجزل من الخطاب ، وإلاّ اطّراد النسق وتوثيق السرد وفصاحة العبارة وحسن ائتلافها ، فلمّا ورد عليهم أُسلوب القرآن رَأوا ألفاظهم بأعيانها متساوقة فيما أَلفوه من طرق الخطاب وألوان المنطق ، ليس في ذلك إعنات ولا معاياة ، غير أنّهم ورد عليم ـ من طرق نظمه ، ووجوه تركيبه ، ونسق حروفه في كلماتها ، وكلماته في جملها ، ونسق هذه الجمل في جملته ، ما أذهلهم عن أنفسهم ، من هيبة رائعة وروعة مخوفة ، وخوف تقشعرّ منه الجلود ، حتّى أحسّوا بضعف الفطرة وتخلّف المَلَكة ، ورأى بلغاؤهم أنّه جنس من الكلام غير ما هم فيه فاستيأسوا من حقّ المعارضة ؛ إذ وجدوا من القرآن ما يغمر القوّة ويحيل الطبع ويخاذل النفس ، مصادمة لا حيلة ، لا خدعة ، ولهذا انقطعوا عن المعارضة (7) .
ثم أخذ في بيان وجه هذا الإعجاز وسّره الكامن وراء جمال لفظه وروعة بيانه ، قال : ذلك بعض ما تهيّأ لنا من القول في الجهات التي اختصّ بها أُسلوب القرآن ، فكانت أسباباً لانقطاع العرب دونه وانخذالهم عنه ، وتلك أسباب لا يمكن أن يكون شيء منها في كلام بلغاء الناس من أهل هذه اللغة ؛ لأنّها خارجة عن قُوى العقول وجماع الطبائع ، ولا أثر لها في نفس كلّ بليغ إلاّ استشعار العجز عنها والوقوف من دونها ، وإنّما تلك الجهات صفات من نظم القرآن وطريقة تركيبه ، فنحن الآن قائلون في سرّ الإعجاز الذي قامت عليه هذه الطريقة وانفرد به ذلك النظم ، وهو سرّ لا ندّعي أنّنا نكشفه أو نستخلصه أو ننتظم أُسلوبه ، وإنّما جهدنا أن نومئ إليه من ناحية ونُعيّن بعض أوصافه من ناحية ، فإنّ هذا القرآن هو ضمير الحياة ، وهو من اللغة كالروح الإلهية التي تستقرّ في مواهب الإنسان فتضمن لآثاره الخلود .
والكلام بالطبع يتركّب من ثلاثة : حروف هي من الأصوات ، وكلمات هي من الحروف ، وجمل هي من الكَلِم ، وقد رأينا سرّ الإعجاز في نظم القرآن يتناول هذه كلّها ، ولهذا النظم طريقة خاصّة اتّبعها القرآن الكريم كانت غريبةً على العرب وفي نفس الوقت رائعةً تستأنس إليها النفوس .
إنّ طريقة النظم التي اتّسقت بها ألفاظ القرآن وتألّفت لها حروف هذه الألفاظ إنّما هي طريقة يُتوخى بها إلى أنواع من المنطق وصفات من اللهجة لم تكن على هذا الوجه من كلام العرب ، ولكنّها ظهرت فيه أَوّل شيء على لسان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ، فجعلت المسامع لا تنبو عن شيء من القرآن ، ولا تلوي من دونه حجاب القلب ، حتّى لم يكن لمَن سمعه بُدّ من الاسترسال إليه والتوفّر على الإصغاء ، لا يستمهله أمر من دونه وإن كان أمر العادة ، ولا يستنسئه الشيطان وإن كانت طاعته عندهم عبادة ، فإنّه إنّما يسمع ضرباً خالصاً من ( الموسيقى اللغوية ) في انسجامه واطّراد واتّزانه على أجزاء النفس مقطعاً مقطعاً ونبرةً نبرةً كأنّها توقعه توقيعاً ولا تتلوه تلاوة !
وهذا نوع من التأليف لم يكن منه في منطق أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء إلاّ الجمل القليلة ، التي إنّما تكون روعتها وصيغتها وأوزان توقيعها من اضطراب النفس الحاصل في بعض مقامات الحماسة أو الفخر أو الغزل أو نحوها ، فتنتزي بكلام تلفظه العاطفة أحياناً . وكان العرب يترسّلون أو يحذمون في منطقهم كيفما اتّفق لهم ، لا يراعون أكثر من تكييف الصوت دون تكييف الحروف ، اللهم إلاّ بتعمّل يأتونه على نمط الموسيقى ، وهي غاية ما عرفوه من نظم الكلام .
فلمّا قُرئ عليهم القرآن رأوا حروفه في كلماته وكلماته في جمله ، ألحاناً لغويّة رائعة ، كأنّها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة ، قراءتها هي توقيعها ـ ( وكلّ الذين يدركون أسرار الموسيقى وفلسفتها النفسية اليوم لا يَرون في الفنّ العربي بجملته شيئاً يعدل هذا التناسب الذي طبيعي في كلمات القرآن وأصوات حروفها ، وما منهم مَن يستطيع أن يغتمز في ذلك حرفاً واحداً ، ويعلو القرآن على الموسيقى ، إنّه مع هذه الخاصّية العجيبة ليس من الموسيقي ) ـ والعرب لم يفتهم هذا المعنى ، وإنّه أمرٌ لا قِبَل لهم به ، وكان ذلك أبين في عجزهم ، حتّى أنّ مَن عارضه منهم ـ كمُسيلمة ـ جنح في خرافاته إلى ما حسبه نظماً موسيقياً أو باباً منه ، وطوى عمّا وراء ذلك من التصرّف في اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البياني ، كأنّه فطن إلى أنّ الصدمة الأُولى للنفس العربية إنّما هي في أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عدها ، وليس يتّفق ذلك في شيء من كلام العرب إلاّ أن يكون وزناً من الشعر أو السجع .
وأنت تتبيّن ذلك إذا أنشأت تُرتّل قطعةً من نثر فصحاء العرب أو غيرهم على طريقة التلاوة في القرآن ـ ممّا تُراعى فيه أحكام القراءة وطرق الأداء ـ فإنّك لابدّ ظاهر بنفسك على النقص في كلام البلغاء وانحطاطه في ذلك عن مرتبة القرآن ، بل ترى كأنّك بهذا التحسين قد نكّرت الكلام وغيّرته ، فأخرجته من صفة الفصاحة ، وجرّدته من زينة الأُسلوب .. لأنّك تزنه على أوزان لم يتّسق عليها .
وحسبك بهذا اعتباراً في إعجاز النظم الموسيقي في القرآن ، وأنّه ممّا لا يتعلق به أحد ، ولا يتّفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلاّ فيه ، لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها ، ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر ، والشدّة والرخاوة ، والتفخيم والترقيق ، والتفشّي والتكرير ، وغير ذلك ممّا جاء في صفات الحروف .
ولقد كان هذا النظم عينه هو الذي صفّى طباع البلغاء بعد الإسلام ، وتولّى تربية الذوق الموسيقيّ اللغويّ فيهم ، حتّى كان لهم من محاسن التركيب في أساليبهم ـ ممّا يرجع إلى تساوق النظم واستواء التأليف ـ ما لم يكن مثله للعرب من قبلهم ، وحتّى خرجوا عن طرق العرب في السجع والترسّل ـ على جفاء كان فيهما ـ إلى سجع وترسّل تتعرّف في نظمهما آثار الوزن والتلحين .
وليس يخفى أن مادّة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي ، وأنّ هذا الانفعال بطبيعته إنّما هو سبب في تنويع الصوت ، بما يخرجه فيه مدّاً أو غنّةً أو ليناً أو شدّةً ، وبما يُهيّئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النفس من أصولها ، ثمّ هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع ، أو الإطناب والبسط ، بمقدار ما يكسبه من الحدوة والارتفاع والاهتزاز وبُعد المدى ونحوها ، ممّا هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى .
وهذه هي طريق الاستهواء الصوتيّ في اللغة ، وأثرها طبيعيّ في كلّ نفس ، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوت إعجازه الذي يخاطب به كلّ نفس تفهمه ، وكلّ نفس لا تفهمه ، ثمّ لا يجد من النفوس على أيّ حال إلاّ الإقرار والاستجابة ، وقد انفرد بهذا الوجه للعجز ، فتألّفت كلماته من حروف ، لو سقط واحد منها أو أُبدل بغيره أو أُقحم معه حرف آخر لكان ذلك خللاً بيّناً ، أو ضعفاً ظاهراً في نسق الوزن وجرس النغمة ، وفي حسّ السمع وذوق اللسان ، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج ، وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض ، ولرأيت لذلك هُجنة في السمع .
وممّا انفرد به القرآن على سائر الكلام أنّه لا يُخلق على كثرة الردّ وطول التكرار ، ولا تملّ منه الإعادة ، وكلّما أخذت فيه على وجه ولم تُخلّ بأدائه رأيته غضّاً طريّاً وجديداً مونقاً ، وصادفت من نفسك نشاطاً مستأنفاً وحسّاً موفوراً .
وهذا لعَمرو الله أمر يُوسّع فكر العاقل ويملأ صدر المُفكّر ، ولا نرى جهة تعليله ولا نُصحّح منه تفسيراً إلاّ ما قدّمنا من إعجاز النظم بخصائصه الموسيقية ، وتساوق هذه الحروف على أُصول مضبوطة من بلاغة النغم بالهمس والجهر والقلقلة والصفير والمدّ والغنّة ... على اختلاف أنحائها بسطاً وإيجازاً ، وابتداءً وردّاً ، وإفراداً وتكريراً .
والكلمة في حقيقة وصفها إنّما هي صوت للنفس ؛ لأنّها تُلبّس قطعة من المعنى فتختصّ به على مناسبة لَحِظتها النفس فيها حين فصّلت تركيب الكلام .
وصوت النفس أَوّل الأصوات الثلاثة التي لابدّ منها في تركيب النسق البليغ ، حتّى يستجمع الكلام بها أسباب الاتّصال بين الألفاظ ومعانيها ، وبين هذه المعاني وصورها النفسيّة ، والأصوات الثلاثة هي :
1 ـ صوت النفس ، وهو الصوت الموسيقي الذي يكون من تأليف النغم بالحروف ومخارجها وحركاتها ، ومواقع ذلك من تركيب الكلام ونظمه .
2 ـ صوت العقل ، وهو الصوت المعنويّ الذي يكون من لطائف التركيب في جملة الكلام ومن الوجوه البيانية التي يُداور بها المعنى في أيّ جهة انتحى إليها .
3 ـ صوت الحسّ ، وهو أَبلغهنّ شأناً ، لا يكون إلاّ من دقّة التصورّ المعنوي والإبداع في تلوين الخطاب ، ومجاذبة النفس مرّة وموادعتها أُخرى .
وعلى مقدار ما يكون في الكلام البليغ من هذا الصوت يكون فيه من روح البلاغة ، بل صار كأنّه روح للكلام ذاته ، يبادرك الروعة في كلّ جزء منه كما تبادرك الحياة في كلّ حركة للجسم الحيّ ، كأنّه تمثيل بألفاظ لخلقة النفس ، في دِقة التركيب وإعجاز الصنعة .
ولو تأمّلت هذا المعنى فضلاً من التأمّل وأحسنت في اعتباره على ذلك الوجه لرأيته روح الإعجاز في هذا القرآن الكريم .
وأعجب شيء في أمر هذا الحسّ الذي يتمثّل في كلمات القرآن أنّه لا يسرف على النفس ولا يستفرغ مجهودها ، بل هو مقتصد في كلّ أنواع التأثير عليها ، فلا تضيق به ولا تنفر منه ولا يتخوّنها المِلال ولا يُسوّغها من لذّتها ويرفّه عليها بأساليبه وطرقه في النظم والبيان .
ولو تدبّرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هيئ له من أمر الفصاحة فيهيّئ بعضها لبعض ، ويساند بعضاً ، ولن تجدها إلاّ مؤتلفة مع أصوات الحروف ، مساوقة لها في النظم الموسيقي ، حتّى أنّ الكلمة ربّما كانت ثقيلةً في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيّها كان ، فلا تعذب ولا تساغ ، وربّما كانت أوكس النصيبينِ في حظّ الكلام من الحرف والحركة ، فإذا هي استُعملت في القرآن رأيت لها شأناً عجيباً ، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقاً في اللسان ، واكتنفتها بضروب من النغم الموسيقي ، حتّى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقّه ، وجاءت متمكّنة في موضعها ، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفّة والروعة .
من ذلك لفظ ( النُذُر ) جمع نذير ، فإنّ الضمّة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معاً فضلاً عن جسأة هذا الحرف ونبوّه في اللسان ، وخاصّة إذا جاءت فاصلة للكلام ، فكلّ ذلك ممّا يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه ، ولكنّه جاء في القرآن ، على العكس وانتفى من طبيعته في قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} [القمر : 36] ، فتأمّل هذا التركيب وأمعن ثمّ أمعن على تأمّله ، وتذوّق مواقع الحروف واجرِ حركاتها في حسّ السمع ، وتأمّل مواضع القلقلة في دال ( لقد ) ، وفي الطاء من ( بَطْشَتَنَا ) ، وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو ( فَتَمَارَوْا ) ، مع الفصل بالمدّ ، ثمّ اعجب لهذه الغنّة التي سبقت الطاء في نون ( أَنذَرَهُمْ ) وفي ميمها ، وللغنّة الأُخرى التي سبقت الذال في ( النُّذُرِ ) .
وما من حرف أو حركة في الآية إلاّ وأنت مصيب من كلّ ذلك عجباً في موقعه والقصد به . قال : إنّما تلك طريقةٌ في النظم قد انفرد به القرآن ، وليس من بليغ يعرف هذا الباب إلاّ وهو يتحاشى أن يلمّ به من تلك الجهة أو يجعل طريقه عليها ، فإن اتّفق له شيء منه كان إلهاماً ووحياً ، لا تقتحم عليه عليه الصناعة ولا يتيسّر له الطبع بالفكر والنظر ، فلا يتهيّأ لأحد من البلغاء في عصور العربية كلّها من مَعارض الكلام وألفاظه ما يتصرّف به هذا التصرّف في طائفة أو طوائف من كلامه ، على أن يضرب بلسانه ضرباً موسيقياً ، وينظم نظماً مطّرداً ، فهذا إن أمكن أن يكون في كلام ذي ألفاظ فليس يستقيم في ألفاظ ذات معانٍ ، فهو لغو من إحدى الجهتين ولو أنّ ذلك ممكن ، لقد كان اتّفق في عصر خلا من ثلاثة عشر قرناً ، ونحن اليوم في القرن الرابع عشر من تاريخ تلك المعجزة (8) .
ثمّ أخذ في ضرب أمثلة من ألفاظ وكلمات كانت غريبة وثقيلة ، لكنّها جاءت في القرآن في مواقعها الخاصّة أليفة وخفيفة في أبدع ما يكون وأورع ما يتصوّر ، {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود : 1] ، وسنذكر تفاصيلها في مجاله الآتي إن شاء الله .
5 ـ كاشف الغطاء :
ولعلاّمة الأُدباء وفقيه الحكماء الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء ( توفّي سنة 1373 ) كلام تحقيقيّ عميق وبيان تفصيليّ رشيق حول إعجاز القرآن ، أتى به على أُسلوبه الفنّي البديع وسبك إنشاءه الأدبي الرفيع حبى به موسوعته القيّمة ( الدين والإسلام ) التي وضعها لترصيص قواعد الدعوة وترصيف مباني الشريعة في ضوء الحكمة العالية وهدى العقل الرشيد . فكان من الحريّ أن نقتطف من رياحين حدائقه الغنّاء أزهاراً ، ونجتني من رياض حقوله الخصباء أنواراً .
قال ( قدس سرّه ) : قد ثبتت التواترات القطعية وقامت الضرورة البتية أنّ صاحب الشريعة الإسلامية محمّد بن عبد الله ( صلّى الله عليه وآله ) قد ادّعى النبوّة ، وتحدّى بالمعجزة وطلب المعارضة ، وأتى بما هو الشائع على أهل زمانه ، والمتنافس عليه عند قومه ، وكانت بلدته أخصب البلاد لإيناع تلك الثمرة المنضجة ، وتربية أساطين تلك الصنعة الرائجة ... ولمّا دعاهم إلى تلك الدعوة المقدّسة ، طغوا وبغوا عليه ، وشقّ عليهم ذلك حتّى تخاوصوا بحماليق الحنق إليه .
وما تحدّاهم إلاّ بالمألوف لهم ، المأخوذ عنهم والمسوق إليهم ، ولم يزل يلحّ عليهم بأنحاء شتّى وعبارات متفاوتة ، حتّى اعترف بالعجز عريفهم ، وتلدَّد تَليدهم وطريفهم ، وصقع مصاقعهم ، وعاد لبيدهم بليداً وشيبتهم وليداً ، وقائمهم حصيداً ، وعالمهم أبا جهل ، وسهيلهم على السهل ، وعتبتهم اعتاهم ، وأبو لهبهم أخمدهم وأخواهم ، وعبد شمسهم آفلاً ، ونابغتهم خاملاً ، وحيّ أخطبهم ميّتاً ، وهشامهم مخزوماً ، ومخزومهم مهشوماً ، وسراتهم اُسارى ، وكبّارهم من الصَغار صغارا .
ثمّ قنع منهم بعشر سور من سوره المُنزلة ، ثم تنزّل معهم ـ وهو الرفيع ـ إلى أدنى منزلة ، فقنع منهم بأن يأتوا بعشر آيات ، رضي منهم بسورة واحدة ... فالتجأوا إلى مفاوضة الحتوف عن معارضة الحروف ، وعقلوا الألسنة والعقول واعتقلوا الأسنّة والنصول ، ورضوا بكلم الجراح عن الكلم الفصاح ، وفرّوا إلى سعة آجالهم من ضيق مجالهم ... فما انجلت غبرة الضلال عن جبهة الحقّ إلاّ وهم بأَسرهم أسرى أو قتلى ، إلى أن عادت كلمة الله هي العليا ، وكلمة أعدائه هي السفلى .
وهكذا ما تصدّى في الأزمنة المتأخّرة لمعارضته إلاّ مأفون الرأي مايق العقل ، ومن الأعاجيب أنّك ترى الرجل في جميع المقامات فارس يليلها , حتى إذا تصدّى ـ من ضعف في دينه ، أو خور في عود يقينه ، أو زندقة في هواه ، أو وصم عهّار في عصاه ـ إلى مقاومة ذلك المقام ومعارضة معجز ذلك النظام ، أفحم وتبلّد ، وأبكم وتلدّد هذا مسيلمة وسجاح من الأوّلينَ .. والمتنبّي والمعرّي وأضرابهم من الآخرين ، كلَّ يزعم أنّه أتى بما يضاهي القرآن ، فهل تجد فيه إلاّ ما يُضحك الصبيان ... {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج : 74].
ثمّ أخذ في بيان أوجه إعجازهنّ :
أوّلاً : ارتفاع فصاحته واعتلاء بلاغته ، بما لا يدانيه أيّ كلام بشريّ على الإطلاق ... وضرب ( رحمه الله ) لذلك أمثلة من جلائل آياته العظام وأطنب بما بلغ الغاية القصوى .
ثانياً : صورة نظمه العجيب وأُسلوبه الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها ، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير ، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه ، بل حارت فيه عقولهم ، وتدلّهت دونه أحلامهم ، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر ، هكذا اعترف له أفذاذ العرب وفصحاؤهم الأوّلون ... .
ثالثاً : ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيّبات ممّا لم يكن ، فكان كما قال ، ووقع كما أَخبر ، في آياتٍ كثيرةٍ معروفة .
رابعاً : ما أنبأ من أخبار القرون السالفة والأُمم البائدة والشرائع الداثرة ، ممّا كان لا يَعلم به إلاّ الفذّ من أحبار أهل الكتاب في صورة ناقصة ومشوّهة ، فأتى به القرآن على وجهه الناصع المضيء ، بما يشهد صدقَه وصحّتَه كلّ عالم وجاهل ، في حين أنّه ( صلّى الله عليه وآله ) لم يقرأ ولم يكتب ، ولم يعهد دراسته لأحوال الماضين .
وأخيراً ، أتمّ كلامه ببيان البلاغة وشأنها الرفيع وشأوها البعيد ، وأنّ العرب مهما أُوتوا من إحكام مبانيها وإتقان رواسيها فإنّ القرآن هو الذي روّج من هذا الفنّ وأشاد من منزلته ، بل وعرّف البلغاء البلاغة والكتابة والبيان ، وبذلك أسدى إلى العربية جسيم نعمه ، وأسبغ عليها عميم رحمة وفضل وكرامة (9) .
وفي تعقيب كلامه تعرّض لشبهات هي نزعات بل نزغات ، سوف نعرضها في مجالها المناسب الآتي إن شاء الله .
6 ـ الحجّة البلاغي :
وللحجّة البلاغي الشيخ محمّد جواد ـ صاحب تفسير ( آلآء الرحمان ) ـ اختيار مذهب السلف في وجه الإعجاز ، فقد خصّ العرب بجانب بيانه السحري العجيب في مثل نظمه البديع وأُسلوبه الغريب وإن اشتركوا مع سائر الناس بوجوه أُخرى غيره .
منها : سرده حوادث تاريخية ماضية كانت معروفة في كتب السالفين بوجه محرّف ، فجاء بها القرآن نقيةً لامعة ، ممّا لا يمكن الإتيان به من مثل النبيّ الأُمّيّ العربيّ .
ومنها : احتجاجاته المضيئة وبراهينه الحكيمة ، التي كشفت النقاب عن حقائق ومعارف كانت خفية ومستورة لذلك العهد ، حجبتها ظلمات الضلال المتراكمة في تلك العصور المظلمة ، تلك الظلمات التي استولت على أرجاء العالم .
ومنها : استقامة بيانه وسلامته من النقض والاختلاف : {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء : 9] ، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء : 82].
فقد خاض القرآن في فنون المعارف وشتّى العلوم ممّا يتخصّص به الممتازون من علماء البشر ، فقد طرق أبواب الفلسفة والسياسة والإدارة وأصلح من علم اللاهوت والأخلاق والسُنن والآداب ، وأتى بالتشريع المدني والنظام الإداري والفنّ الحربي ، وأرشد وذكّر ووعظ ، وهدّد وأنذر ، في أحسن أُسلوب وأقوم منهج وأبلغ بيان ، لم تشنه زلّة ولم تنقضه عثرة ، ولا وهن ولا اضطرب ولا سقط في حجة وبرهان ، الأمر الذي لا يمكن صدوره من مثل إنسان عاش في تلك البيئة الجاهلة البعيد عن معالم الحضارة وأُسس الثقافات .
ومنها : إعجازه من وجهة التشريع العادل ونظام المدنية الراقية ، ممّا يترفّع بكثير عن مقدرة البشر الفكرية والعقلية ذلك العهد ، ولا سيّما إذا قارنّاه مع شرائع كانت دارجة في أوساط البشر المتديّنة أو المتمدّنة فيما زعموا .
ومنها : استقصاؤه للأخلاق الفاضلة ومبادئ الآداب الكريمة ، ممّا كانت تنبو عن مِثل تلك العادات والرسوم التي كانت سائدةً إلى ذلك العهد .
ومنها : إخباراته الغيبية وإرهاصاته بتحكيم هذا الدين وإعلاء كلمة الله في الأرض في صراحة ويقين .
قال : هذا شيء قليل من البيان في الوجهات المذكورة ، وهَب أنّ الوساوس تقتحم على الحقائق وتُخالط الأذهان بواهيات الشكوك ، ولكن الزَبد يَذهب جفاءً فأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ، وهل يسوغ لذي شعور أن يختلج في ذهنه الشكّ بعد هذا في إعجاز القرآن ؟ وهو الكتاب الجامع بفضيلته لهذه الكرامات الباهرة ، وخروجه عن طوق البشر مطلقاً ، وخصوماً في ذلك العصر وفي تلك الأحوال ، وهل يسمح عقله إلاّ بأن يقول : {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم : 4] وصدق الله العظيم (10) .
7 ـ العلاّمة الطباطبائي :
وهكذا ذهب سيّدنا الطباطبائي مذهب شيخه البلاغي في وجوه الإعجاز ، قال : وقع التحدّي الصريح بوجه عامّ ، ولم يخصّ جانب بلاغته فحسب ليختصّ بالعرب العرباء أو المخضرمين قبل أن يفسد لسانهم بالاختلاط مع الأجانب ، وكذا كلّ صفة خاصّة اشتمل عليها القرآن ، كالمعارف الحقيقة والأخلاق الفاضلة والأحكام التشريعية ، وإخباره بالمغيّبات وغيرها ممّا لم تبلغها البشرية ولم يمكنها بلوغ كنهها إطلاقاً ، فالتحدّي يشمل الجميع ، وفي جميع ما يمكن فيه التفاضل من الصفات .
فالقرآن آية للبليغ في بلاغته ، وللحكيم في حكمته ، وللعالم في علمه ، وللمتشرّعينَ في تشريعاتهم ، وللسياسيّين في سياساتهم ، وللحكّام في أحكامهم وقضاياهم ، ولجميع أرباب الفنون والمعارف فيما لا يبلغون مداه ولا ينالون قصواه .
وهل يجترئ عاقل أن يأتي بكتاب يدّعي فيه هدىً للعالمين وإخباراً عن الغيب ، ويستطرق أبواباً مختلفة من دون ما اختلافٍ أو تناقضٍ أبداً ، فلا يشكّ لبيب أنّ تلك مزايا كلّها فوق مستطاع البشرية ووراء الوسائل المادّية البحتة .
فقد تحدّى بالعلم والمعرفة الخاصة {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل : 89].
وتحدّى بمَن أُنزل عليه {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [يونس : 16] .
وتحدّى بالإخبار بالغيب {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ} [هود : 49] .
وتحدّى بعدم الاختلاف {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء : 82].
وتحدّى ببلاغته {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ } [هود : 13، 14] .
وقد مضت القرون والأحقاب ولم يأتِ بما يناظره آتٍ ولم يعارضه أحد بشيء الا اخرى وافتضح في امره (11)
8 ـ السيد الخوئي :
وعلى نفس المنهج ذهب سيّدنا الأُستاذ الخوئي دام ظلّه ، وإذ قد عرفت أنّ القرآن معجزة إلهية ، في بلاغته وأُسلوبه ، فاعلم أنّ إعجازه لا ينحصر في ذلك ، بل هو معجزة ربّانية ، وبرهان صدق على النبوّة من جهات شتّى : من جهة اشتماله على معارف حقيقية نزيهة عن شوائب الأوهام والخرافات ، التي كانت رائجة ذلك العهد ، ولا سيّما عند أهل الكتاب ، ومن جهة استقامته في البيان وسلامته عن الاختلاف ، مع كثرة تطرّقه لمختلف الشؤون ، وتكرّر القَصص والحِكم فيه مع الاشتمال كلّ مرّة على حكمة ومزيّة فيها لذّة ومتعة ، ومن جهة ما أتى به من نظام قويم وتشريع حكيم ، ومن جهة إتقانه في المعاني وإحكامه في المباني ، ومن جهة إخباره عن مغيّبات وأنباء عمّا سلف أو يأتي وظهور صدقه للملأ ، وكذا من جهة اشتماله على بيان أسرار الخليقة ممّا يرتبط وسنن الكون ونواميس الطبيعة ، ممّا لا سبيل إلى العلم به ولا سيّما في ذلك العهد .
وأخيراً قال دام ظلّه : بل أعود فأقول : إنّ تصديق مثل أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ـ وهو بطل العلم والمعرفة والبيان ـ لإعجاز القرآن لشاهد صدقٍ على أنّه وحيُ إلهي ، تصديقاً حقيقياً مطابقاً للواقع وناشئاً عن الإيمان الصادق ، وهو الحقّ المطلوب (12) .
__________________________
1- يقول الدكتور طه حسين : إنّ القرآن ليس شعراً وليس نثراً ، إنّما هو قرآن ! ولسنا في حاجة إلى هذا اللعب بالعبارات ، فالقرآن نثر متى احتكمنا للاصطلاحات العربيّة كما ينبغي ، ولكنّه نوع مُمتاز مُبدع من النثر الفنّي الجميل المتفرّد .
2- التصوير الفنّي في القرآن : 80 .
3-القرآن محاولة لفهم عصري ، مصطفى محمود : فصل ( المعمار القرآني ) : ص12 ـ 19 دار المعارف بمصر ـ سنة 1976 . = المعارف بمصر ـ سنة 1976 .
4- ) مصطلحات موسيقية : الحَرف المُتحرّك يتلوه حرف ساكن يقال لها ( سبب خفيف ) ، والحرفان المتحرّكان يتلوهما ساكن ( وتد مجموع ) ، والحرفان المُتحرّكان لا يتلوهما ساكن ( سبب ثقيل ) ، والحرفان المتحرّكان يَتوسّطهما ساكن ( وتد مفروق ) ، وثلاثة أحرف متحرّكة ( فاصلة صغيرة ) ، وأربعة أحرف متحرّكة يعقبها ساكن ( فاصلة كبيرة ) .
5- النبأ العظيم (نظرات جديدة في القرآن) : ص95 ـ 106 .
6- إعجاز القرآن : ص169 ـ 170 .
7- المصدر : ص188 ـ 189 .
8- إعجاز القرآن للرافعي : ص209 ـ 229 .
9- راجع الدين والإسلام : ج2 ، ص53 ـ 127 .
10- راجع تفصيل ما اقتضبناه من مقدّمة تفسيره ( آلاء الرحمان ) : ص3 ـ 16 .
11- راجع الميزان في تفسير القرآن : ج1 ، ص57 ـ 67 .
12- البيان في تفسير القرآن : المقدّمة ص43 ـ 91 .
|
|
كل ما تود معرفته عن أهم فيتامين لسلامة الدماغ والأعصاب
|
|
|
|
|
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل تناقش تحضيراتها لإطلاق مؤتمرها العلمي الدولي السادس
|
|
|