أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-04-08
902
التاريخ: 2024-10-21
279
التاريخ: 2024-08-23
318
التاريخ: 2024-04-13
848
|
في العمران:
بدأ مؤسس الأسرة الثانية عشرة حكمه في طيبة، واهتم بمعبد ربها آمون، ولكنه انتقل بعد سنوات بمقر حكمه إلى عاصمة جديدة شمالي الفيوم قرب بلدة اللشت الحالية وأطلق عليها اسم "إثت تاوي" بمعنى رابطة الوجهين أو القابضة على الأرضين. ونستطيع أن نعلل إقدامه على هذه الخطوة بعدة احتمالات، ومنها: رغبته في أن تصطبغ دولته بروح الجدة في مظاهرها ومخبرها معًا وأن تنتسب إليها عاصمة خاصة تذكر بها، ولعله تعمد أن يتخذ هذه العاصمة قرب منطقة بكر يمكن استغلالها في مشاريع زراعية جديدة، وهي المنطقة المحيطة ببحيرة الفيوم "وإن يكن استغلالها لم يتضح إلا في عهود خلفائه". ثم رغبته في أن تنتفع عاصمته الجديدة بخاصية التوسط النسبي بين أقاليم القطر، وأن تجعل بلاطه بعيدًا عن طيبة موطن أنصار الأسرة السابقة عليه، وأن تجعله هو على مقربة من أقاليم أنصاره الذين أزاد سلطانهم وأثابهم على تأييدهم له "في مصر الوسطى"، وكان عليه أن يظل متيقظًا لهم قريبًا منهم حتى لا يسيئوا استغلال السلطان الذي هيأه لهم.
ومع ذلك احتفظت طيبة في بقية عهود الأسرة بمركز العاصمة الدينية، وكان مما استجد من عمائرها مقصورة حجرية شيدت في عهد سنوسرت الأول في رحاب معبد آمون بالكرنك، ولا زالت تعتبر من أمتع آثار الدولة الوسطى الباقية من حيث أسلوبها المعماري ومن حيث رقة نقوشها ودقة تفاصيلها. وقد بناها مهندسه فوق منصة مسطحة مرتفعة يصعد الزائرون إليها على طريق صاعد قصير خفيف الميل يتوسطه درج، ويهبطون منها على طريق آخر يماثله ويواجهه، ولم تكن المقصورة في حد ذاتها غير ساحة مستطيلة تحيط بها أعمدة رباعية تتصل ببعضها بجدران منخفضة تجعل الساحة وراءها غير مكشوفة كلها ولا محجوبة كلها. ولا زال الرأي يتأرجح بين اعتبار هذه المقصورة الفريدة إحدى مقصورتين احتفل فيهما سنوسرت بعيد يوبيله الثلاثيني، بصفته ملك الصعيد في إحداهما وملك الوجه البحري في الأخرى، أو اعتبارهما استراحة تريح فيها مركب الإله آمون حين يطوف الكهنة بها في منطقة المعبد خلال أعياده.
ولم يحل الاهتمام بمعابد طيبة دون العناية بمعابد العواصم الدينية الأخرى. فقد بقيت من عهد سنوسرت الأول مسلة من الجرانيت بلغ ارتفاعها نحو 22 مترًا، أقيمت باسمه في المطرية الحالية "وهي جزء من مدينة أونو القديمة إلى الشمال الشرقي من القاهرة"، بمناسبة احتفائه بيوبيله الثلاثيني، أمام محور معبد "أتوم". وتعتبر أقدم ما بقي كاملًا من المسلات الكبيرة. وربما جاورتها مسلة أخرى.
وعن شرق الدلتا، تحدث المؤرخون والرحالة الإغريق والرومان: هيرودوت وديودور وإسترابون وبليني، عن قناة كانت تصل بين النيل وبين البحر الأحمر وتبدأ من الفرع البوباسطي للدلتا شمالي الزقازيق بقليل ثم تمتد خلال وادي الطميلات حتى تنتهي إلى البحيرات المرة. ونسب بليني أقدم مشروع لهذه القناة إلى عهد الفرعون "سيزوستريس". ورأى بعض المؤرخين ومنهم الأستاذ جيمس هنري برستد أن سيزوستريس هذا اسم محرف عن اسم سنوسرت الأول "أو هو سنوسرت الثالث وربما كان يعني رمسيس الثاني أيضًا"، وأن القناة بدأت في أيامه. ولكن عارض رأيهم باحثون آخرون ومنهم الأستاذ بوزنر الذي رجح أنه لم يكن لهذه القناة وجود بصورتها ووظيفتها آنفة الذكر حتى شقت في عهد الفرعون نيكاو في عام 600ق. م. على وجه التقريب (1)، ولا زال هذا الرأي الأخير هو المأخوذ به حتى الآن.
وكشف فلندرز بتري حول هرم سنوسرت الثاني "خع خبر رع" في اللاهون قرب الفيوم في مصر الوسطى عن بقايا بلدة ترجع أهميتها الحضارية إلى أنها من أقدم البلاد المصرية واضحة المعالم التي تعرف الأثريون على رسوم مساكنها، بعد أن تعاون على إخفاء آثار أمثالها بناء بيوتها من اللبن سريع التهدم، واستخدامها للسكنى جيلًا بعد جيل، وقيام مساكن العصور اللاحقة لها على أطلالها. ولا تسبقها في القدم من آثار العمران التي كشف عنها حتى الآن غير مساكن حي لكهنة معبد الوادي لمنكاورع كشف عن جورج ريزنر، ومساكن حي لكهنة معبد الوادي لخنتكاوس كشف عنه سليم حسن، ثم مباني حي صناعي أقيم لخدمة معبد شعائر منكاورع كشفنا عنه في عام 1971 "وذلك فضلًا عن مباني أخرى أكثر عددًا من عصور لاحقة".
وشاء حظ بلدة اللاهون أن شادها أصحابها في منطقة من مناطق الحواف الصحراوية الجافة ثم هجروها بعد إنشائها بأجيال قليلة لأسباب غير معروفة، فغطت الرمال على ما بقي من أطلالها وحفظت منها ما سلم من أيدي القرويين المنقبين عن قوالب اللين والسماد القديم. وهكذا كان للكشف عن بقايا أطلالها في أواخر القرن الماضي، صدى مستحب، وكتب عنها مكتشفها الأستاذ فلندرز بتري أن الأثريين لم يعودوا يتلمسون حياة الدولة الوسطى فيما صورته مناظر مقابرها وتحدثت عنه نقوشها فحسب، وإنما غدا في وسعهم كذلك أن يطرقوا الشوارع والأزقة التي مشى فيها أهلها ويريحوا فيها حيث كانوا يريحون.
شيدت هذه البلدة وفقًا لتخطيط مرسوم، وخصصت مساكنها للمهندسين والفنانين والمعماريين والمشرفين الإداريين ورؤساء العمال والصناع الذين اشتركوا في بناء هرم سنوسرت الثاني وملحقاته، كما قامت فيها استراحة ملكية كان الفرعون يسكنها كلما تردد على منطقة هرمه. وأحاطت بالبلدة أسوار سميكة من اللبن ذات بوابتين. وانقسمت في داخلها إلى حيين متمايزين: حي لمساكن الخاصة، وحي آخر صغير لبيوت العمال والصناع. وقامت مساكن الحي الكبير على مثال الدوارات الريفية الواسعة، بحيث قيل إنه بلغت مساحة الواحدة منها نحو 2700 متر "؟ " وتضمن البعض منها في جنباته نحو سبعين حجرة وصالة ودهليزًا ومخزنًا، وتميز في كل منها جناح لرب الدر وضيوفه، وجناح للحريم وغرف النوم. وابتعدت عن الجناحين حجرات الخدم والمطابخ والمخازن. وتوزعت مساكن الخاصة هذه على جانبي شارع رئيسي متسع اخترقت أرضيته في وسطها قناة ضيقة، كسيت جوانبها بالحجر ومالت إليها أرضية جانبي الشارع حتى يسهل أن تنصرف إليها مياه البيوت ومياه المطر. وتفرعت من هذا الشارع الرئيسي طرقات ضيقة توسطت أرضياتها قنوات مماثلة. ويعتبر مثل هذا الإجراء شيئًا مبتكرًا بالنسبة لعصره البعيد. أما حي العمال فتضمن بيوتًا ضيقة متواضعة متلاصقة، واخترقه شارع رئيسي بلغ عصره ما بين ثمانية وتسعة أمتار، وتفرعت منه على جانبية إحدى عشرة حارة بلغ عرض كل منها نحو أربعة أمتار(2).
وعثر داخل بيوت اللاهون على كثير من بقايا أدوات الاستعمال اليومي، مثل الصناديق والمقاعد والحصير والصنادل والمغازل، ولعب الأطفال، فضلًا عن أدوات البناء وأدوات النجارة. غير أن أهم ما عثر عليه فيها هو مجموعة برديات كتبت بالخط الهيراطي وتضمنت موضوعات إدارية وتعليمية وطبية (3). وتعلقت البردايات الإدارية منها بتعداد للسكان كان رب كل أسرة يذهب خلاله إلى مكتب حكومي يتبع ديوان الوزير في منطقته، فيدلي لموظفيه ببيان عن أفراد أسرته وأتباعه وأعمار أطفاله، ثم يقسم على صدق بياناته، ويستشهد على صحتها وصحة تسجيلها بعدد من الشهود. وينم هذه الإجراء عن رقي النظم الإدارية في أيامه والحرص على التدقيق في صحة بياناتها، وكان يمكن أن يعين على تصور أعداد سكان مصر في عصره لولا أن ما وجد من بردياته لا يزيد عن قصاصات صغيرة تخص بلدة اللاهون وحدها. وتضمنت البرديات ذات الصبغة الطبية جزءًا من بردية طبية لأمراض النساء، وجزءًا من بردية بيطرية لعلاج عيون وأسنان العجول والكلاب، وفي هذه وتلك ما يعني وضوح التخصص في العلاج، إن لم يكن في مهنة الطب نفسها، كما يعني روحًا رقيقة حانية دفعت أصحابها إلى العناية بحيواناتهم الأليفة وعلاجها. وتضمنت قصاصات اللاهون التعليمية تمارين لتعليم الإنشاء وصيغ الرسائل كان التلاميذ ينسخون دروسها وينسجون على منوالها، ثم تمارين حسابية ورياضية، كان أمتع ما فيها أخذها بطريقة التربيع والجذر المربع. وتضمينها مسائل تشبه معادلات الدرجة الأولى.
ولعل أهم ما يذكر من المشاريع العمرانية لعهد أمنمحات الثالث، ولعهود الأسرة كلها، هو مشروع الانتفاع بمنخفض الفيوم وتوسيع رقعة الزراعة حوله. ولا تزال تفاصيل هذا المشروع على جانب من الغموض نظرًا لتضارب الروايات التي سجلها المؤرخون والرحالة الكلاسيكيون عنه (4). ولكن الصورة العامة المحتملة له، هي أنه قام على أساس توجيه جانب من فيضانات النيل إلى بحيرة الفيوم الواسعة التي كانت لا تزال تحتفظ بعذوبة مائها، لرفع مستوى الماء فيها حتى تنتفع به أكبر مساحة ممكنة من أراضي المدرجات الخصبة التي تحيط بها، ثم الانتفاع ببعض مياهها المخزونة لري الأراضي القريبة منها في غير أوقات الفيضان.
وتم المشروع ببناء سد أو سدود ذات فتحات في أضيق ممر ينفذ منه فرع بحر يوسف الحالي خلال جريانه إلى منخفض الفيوم، وذلك في جنوبه الشرقي عبر أخدود هوارة بين التلال الصحراوية شمال جبل سدمنت. وكان ممرًا يسمى "راحنة" بمعنى فم البحيرة، ثم تحرف اسمه إلى لاهنة وأخيرًا إلى لاهون وهو اسمه الحالي. وسمحت السدود الجديدة ذات الفتحات لرجال الري المصريين بأن يوجهوا مياه الفيضان توجيهًا سليمًا حين تجري على الانخفاض التضاريسي التدريجي من ضفة النهر حتى بحيرة الفيوم، وربما سمحت لهم من ناحية أخرى بإمكان تقليل أو وقف اتجاه الماء إلى البحيرة بعد الفيضان، وتوجيهه عوضًا عنها إلى قناة أخرى تجري إلى الشمال الشرقي منها. وأدى المشروع في نهاية أمره إلى استصلاح نحو ستة وعشرين أو سبعة وعشرين ألف فدان جديدة، كانت شيئًا كبيرًا في زمانها، استغلتها الدولة للزراعة وإنشاء القرى والمدن الجديدة. ويصور أهمية هذا المشروع وأن البلدان التي أنشئت معه ارتفعت نحو عشرين مترًا عن مستوى القرى القديمة التي سبقت عصره، وأن بعض بلدانه الجديدة التي جاورت البحيرة أصبحت مواقعها تبعد الآن عن ضفافها عدة كيلومترات بعد أن انكمشت مساحة البحيرة وانخفض مستوى مائها (5). وكان إرساب الطمي داخل وشمال أخدود هوارة قد عمل من قبل على تكوين مثلث خصب داخل البحيرة قامت عليه مدينة شدة "أي الفيوم" التي جاء ذكرها في نصوص الدولة القديمة. ولتوسيع رقعة هذه الأرض الخصبة كان ينبغي تقليل اندفاع الماء إلى منخفض الفيوم بما يسمح بسهولة إرساب الطمي والتقليل من سرعة تبخر ماء البحيرة، ثم حماية هذه الأرض من طغيان الفيضانات المتتالية بعدد من الجسور وقنوات الصرف. وتحتمل بداية هذا المشروع في عهد الملك سنوسرت الثاني بإنشاء سد على فم أخدود هوارة بجوار اللاهون لتنظيم اندفاع الماء، ثم استكمل المشروع في عهد أمنمحات الثالث.
وربط بعض المؤرخين الكلاسيكيين بين اسم أمنمحات الثالث الذي ذكروه باسم Lamarres " ومترادفات أخرى" وبين بناء ضخم في منطقة الفيوم أطلقوا عليه اسم لابيرنثوس Labyrinthus ويختصر في العربية عادة إلى اللابيرنت، وهو اسم استعاروه من اسم قصر الحكم العظيم في مدينة كنوسوس بجزيرة كريت. ووصف هيرودوت المبنى المصري بأنه تألف من طابقين، وتضمن ثلاثة آلاف غرفة نصفها فوق سطح الأرض ونصفها تحتها. وتضمن اثنتي عشرة باحة مسقوفة بسقوف حجرية، تتصل كل منها بالأخرى، وتقوم على جوانبها أعمدة وتماثيل، وقام إلى خلف المبنى هرم ضخم، وأحاط به هو والهرم سور كبير. واعتبر هيرودوت اللابيرنت أجل من الأهرام المصرية نفسها، واعترف بأن آثار الإغريق لو تجمعت كلها في صعيد واحد لما طاولته في فخامته، وأضاف أن الكهنة سمحوا له بزيارة الأجزاء العلوية منه دون أجزائه السفلى التي أخبروه أنها تضمنت رفات اثني عشر ملكًا ورفات التماسيح المقدسة (6).
ووصف إسترابون اللابيرنت بوصف آخر، فاعتبره بناء منيفًا يقف على قدم المساواة مع هرم صاحبه الذي يجاوره، وذكر أنه تضمن قصورًا ذات طابق واحد وأبهاء احتفالات بلغ عدد كل منها عدد الأقاليم المصرية القديمة. واتصلت القصور والأبهاء بعضها ببعض بممرات وأقبية يتوه الغريب فيها ويصعب عليه أن يتلمس طريقه بينها دون دليل يرشده، ولعله لهذا أن سمى البناء باسم قصر التيه أو اللابيرنت. وسقفت كل وحدة من هذه الوحدات بحجر ضخم واحد. واعتاد ممثلو الأقاليم وكهنتها وكاهناتها أن يجتمعوا في أبهاء المبنى خلال الأعياد لتقديم القرابين وإقرار العدالة في شئونهم الكبرى (7).
على الرغم من هذا الوصف الممتع الذي ساقه هيرودوت وإسترابون، وساق مثله ديودور وبليني، دلت البحوث الأثرية على أن ذلك المبنى الذي دخل ذمة الأساطير كان معبدًا ضخمًا أقيم بجوار هرم أمنمحات الثالث لأداء شعائره الأخروية. ولو أنه لا يستبعد أن يكون أهل المنطقة قد استخدموه لأغراض أخرى بعد عهد صاحبه، مثل الاحتفال فيه بأعياد الفيضان وأعياد رب الفيضان، وأعياد سربك معبود منطقة البحيرة (8).
في الأساليب الفنية:
تأثرت أساليب النحت في عصر الأسرة الثانية عشرة بمدرستين فنيتين: مدرسة في منف رجعت بتقاليدها الفنية إلى تراث الدولة القديمة وخلطت الواقعية بالمثالية في نحت تماثيل فراعنتها، فلم تكتف بأن تصور وجوههم وأبدانهم كما هي في واقع أمرها، وإنما تعمدت أن تضفي على هذه الوجوه والأبدان هيبة مطلقة وشبابًا خالدًا، وتقاطيع ملحية متناسقة، وانتصابة قوية كاملة، وهيبة مترفعة متسامية. ثم مدرسة أخرى في طيبة، استحبت الأسلوب الواقعي الذي بدأ عفوًا خلال عصر الانتقال الأول، واهتمت بدراسة الوجوه، وعبرت عن ملامح أصحابها كما هي في واقع أمرها، وحاولت أن تترجم عن خصائص الطبع والمزاج التي فرقت بين كل فرعون وآخر من فراعنة عصرها. وبلغت هذه المدرسة ذروة نجاحها في منتصف عصر الأسرة الثانية عشرة، حين عبرت بالملامح الجادة القوية في وجوه تماثيل الفرعون سنوسرت الثالث، عن شخصية عسكرية عنيدة قوية الإرادة بلغ من حزم صاحبها أن أعلن تبرؤه من كل ولد له لا ينهج منهاجه في الحرب وحماية حدود بلاده وتوسيعها. بينما عبرت بالملامح الرصينة الطيبة في تماثيل الفرعون أمنمحات الثالث عن شخصية هادئة مالت إلى حياة السلم واستحبت مشاريع العمران. وهكذا كان أمرها في التمييز بين ملامح كل ملك وآخر من بقية ملوك الأسرة، مع الاحتفاظ لهم جميعهم بطابع أسري موروث كان من أوضح مظاهره بروز عظام الوجنتين.
وعلى نحو ما درس الفنانون خصائص وجوه فراعنتهم؛ ليترجموا بها عن واقع حياتهم، جددوا في أوضاع تماثيلهم وعبروا بها عن حقيقة الصلات التي اعتقدوا بوجودها بينهم وبين أربابهم. فمثلوا الفرعون سنوسرت الثالث رجل الحرب العنيد بملامحه الجادة المعتادة، ولكن في لحظات خاصة لانت فيها شدته، ورق فيها عناده، ووقف فيها على هيئة المتعبد أمام ربه الذي يخشاه وينهج في حكمه وعدله بما يرضاه، فأرسل يديه متراخيتين على ساقيه في تقى وخشوع كريم، ونحتوا تماثيل ملكية أخرى، بقي منها ما يمثل الفرعون جالسًا يضع تمثال ربه على ساقيه، وما يمثله جاثيًا على ركبتيه يقدم آنيتين على يديه قربانًا لخالقه.
ويغلب على الظن أنه شجع المدرسة الطيبية على أسلوبها هذا، انفعال فنانيها بالتطورات السياسية التي مست أوضاع الملكية في عصرهم ومن قبله في عصر الانتقال الأول. وهي تطورات كان من أوضح مظاهرها أن الفراعنة أصبحوا يعترفون بواجباتهم علانية إلى جانب حقوقهم، وأصبح بعضهم يتعرض للقتل في عقر داره، ويصرح بعجزه وهو وحيد أمام كثرة خصومه. وأصبح بعضهم يقود جيشه بنفسه ويقاتل مع المحاربين ويكافح فيما يكافحون فيه. وأصبح بعضهم يرضيه أن يوصف بأنه يعمل بيديه. وترتب على هذه التغييرات كلها أن أصبح الفنانون يعتبرون أن مظاهر الحياة الفعلية الصالحة التي عاشها فراعنتهم تكفيهم للتعبير عن مثاليتهم، وأن إظهارهم بمظهر الخاشعين لربهم لن يقلل من مكانتهم.
وتأثرت تماثيل كبار الأفراد في عصر الأسرة الثانية عشرة بروح عصرها، وخضع بعضها للطابع الإقليمي إلى جانب المدرستين الفنيتين اللتين تأثرت بهما تماثيل الفراعنة. فقد مر بنا كيف توفر لحكام الأقاليم منذ أواخر عصر الأسرة الحادية عشرة وخلال النصف الأول من عصر الأسرة الثانية عشرة ثراء واسع هيأ لفنون أقاليمهم نصيبًا من الازدهار. وكان نصيب فن النحت من هذا الازدهار الإقليمي نصيبًا قليلًا، فخرجت تماثيله لا تخلو من خشونة نسبية، وإن دلت تقاطيعها على سحن إقليمية أو ريفية صادقة صميمة. ولم يكن ثراء حكام الأقاليم خلال عهود الأسرة الثانية عشرة بغير نتائج حضارية أخرى، فقد تضمنت مناظر مقابرهم صورًا تدل على أن اهتمام مجتمعهم بأمور الدين والآخرة لم يصرفه عن التماس متع الدنيا ومرحها ومن أمتع مناظرها ما صور رياضة البدن، الخفيفة منها والعنيفة. وكان للرياضة الأولى منهما تمارين تشبه بعض تمارين الجمباز الحالية في أوضاعها بل وفي ملابس لاعبيها (9)، ومن أطرافها ما يصور غلامًا يعتمد على ناصية رأسه ويحفظ توازنه في استقامة كاملة بغير أن يرتكز على يديه أو كفيه (10). كما كان منها ما يصور أوضاعًا مختلفة للعب البنات بكرات اليد الصغيرة (11). وصورت الرياضة العنيفة تمارين المصارعة وحمل الأثقال وما يشبه القفز الطويل. وكانت المصارعة هي الأكثر شيوعًا، بحيث صورت لها إحدى لوحات المقابر 219 وضعًا لا يكاد يتشابه وضع منها مع الآخر. وذلك مما يعني أنه كانت قد استقرت لها قواعد وأصول منذ ما قبل أوائل الألف الثاني ق. م، وأن المصورين والهواة كانوا يستمتعون بها ويدركون ما بين كل وضع من أوضاعها وبين بقية الأوضاع من اختلاف. ولم تكن مبارياتها تستهدف حب الغلبة دائمًا بقدر ما تستهدف إظهار الفن والمران والترفيه أحيانًا. ففي بدايتها يقف المتباريان في مواجهة بعضهما في سماحة، بحيث يتمهل أحدهما حتى يفرغ زميله من عقد حزامه حول خصره، ثم يأخذان معًا في مباراة مهذبة وإن تكن جادة مجهدة في الوقت نفسه (12). وقد ظهر من مبادئ المصارعة في مناظر أخرى لاحقة من عصور الدولة الحديثة ما يفهم منه أن المباراة كانت تبدأ بأن يشد كل لاعب على يد منافسه بيسراه ويجذب عنقه بيمناه حتى يتبين قوة غريمه ويعجم عوده، وأنه كان من شروط الفوز إجبار المغلوب على لمس الأرض بثلاث نقط مثل اليدين والركبة، ويتساوى حينذاك إن كان قد انكفأ على بطنه أم ألقي على ظهره أم تمدد على جنبه. ومن أساليب حمل الأثقال التي صورتها رياضة الدولة الوسطى رفع غرارة مملوءة بالرمل حتى ثلاثة أرباعها بيد واحدة إلى أعلى مع محاولة اللاعب الاحتفاظ بها في وضع رأسي ما أمكن (13). كما كان من أساليب القفز الطويل أن يقفز اللاعب عاليًا على امتداد ظهر ثور واقف، أي فيما بين مؤخرته وبين قرنيه، في حين يمسك زملاؤه بقرني الثور وأطرافه حتى لا يتحرك فيؤذيه (14).
__________
(1) G. Posener, Chronique D'egypte, Xxvi, 1938, 259 F.
(2) W.M.F. Petrie, Illahun, Kaham and Gwrob.., London, 1891, and See A. Erman, H. Ranke, Aegypten…, 197.
(3) See. F. Ll Griffith, Hieratic Papyri from Kahum, London, 1898.
(4) Herodotus, Ii, 129; Strabo, Xvii, 809 F.; Diodorus, I, 51-52.
(5) Cf. Pasarge, Fajum Und Moeris-See, Geogr. Zeitschrift, XLIV, 1946, 333 F ; Ali Shafei, Fayum Irrigation, Bull. De La Soc. Geog. Royale De L'egypte, XX, 1940; Cah, I, Ch. XX 49 F.
(6) Herodotus, II, 148.
(7) Strabo, XVII, 37
(8) Kees, Op. Cit., 225; K. Michalowski, Jea, 1968, 219 F; A.B. Lioyd, the Egyptian Labyrinth, Jea, 1970, 18 F.
(9) G. Wilkinson, a Popular Account of the Ancient Egyptians, 1851, Vol. I, Fig. 203.
(10) Newberry, Beni Hasan, Ii, Pl. XVI.
(11) Ibid., Pls. IV, XIII.
(12) Ibid. Pls., V, XXXII.
(13) Ibid., Ii, Pl., VII.
(14) Ibid., Pl. XXXI.
وراجع: عبد العزيز صالح: التربية والتعليم في مصر القديمة - القاهرة 1966، ص113 - 116.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
قسم التربية والتعليم يكرّم الطلبة الأوائل في المراحل المنتهية
|
|
|