أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-9-2016
389
التاريخ: 20-9-2016
339
التاريخ: 20-9-2016
284
التاريخ: 20-9-2016
252
|
وهي أيضاً من القواعد الفقهية المشهورة التي اشتهرت من زمان الشيخ الطوسي قدس سره إلى زماننا هذا (1) ، والكلام فيها يقع في مقامات:
المقام الأوّل: في مورد هذه القاعدة، وبيان النسبة بينها وبين قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» التي تقدّم البحث عنها مفصّلًا.
فنقول: إنّ النسبة بين الموردين هي العموم من وجه، ولازمه وجود مادّة الاجتماع ومادّتي الافتراق. أمّا مادّة الاجتماع، فهي مثل ما إذا أقرّ الشخص بأنّه وهب ماله لزيد مثلًا؛ فإنّه بمقتضى كونه إقراراً من عاقل على نفسه تنطبق عليه قاعدة الإقرار، وبمقتضى كونه مالكاً ومسلّطاً على هبة ماله- لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم- تنطبق عليه قاعدة من ملك.
وأمّا مادّة الافتراق من ناحية قاعدة «من ملك» فهي كما إذا أقرّ الوكيل أو الوليّ على الأصيل، كما إذا أقرّ ببيع مال الموكّل أو المولّى عليه بثمن مخصوص، أو شرط مخصوص، فإنّه لا تنطبق عليه قاعدة الإقرار؛ لعدم كونه إقراراً على نفسه، بل على موكّله أو له، أو الصّغير.
كما أنّ مادّة الافتراق من ناحية قاعدة الإقرار، هي ما إذا أقرّ على نفسه بفعل لا يكون جائزاً له ولا مسلّطاً عليه، كالإقرار بقتل زيد أو جرحه مثلًا؛ فإنّه لا ينطبق عليه قاعدة من ملك، بل هو من مصاديق قاعدة الإقرار.
وعلى ما ذكرنا فلا وجه للاستناد في هذه القاعدة إلى قاعدة الإقرار، كما حكي عن بعض تخيّله (2) .
المقام الثاني: في مدركها.
فنقول: قد عرفت أنّ قاعدة الإقرار لا يمكن أن تكون مستنداً لهذه القاعدة بعدما عرفت من اختلاف الموردين، وأنّ العمدة في هذه القاعدة تصحيح إقرار الصّبي بما يصحّ منه، كالوصيّة بالمعروف والصّدقة، ولو كان المستند فيها حديث الإقرار لم يجز ذلك؛ لبنائهم على خروج الصبي من حديث الإقرار، مع أنّ دليل الإقرار لا ينفع في إقرار الوكيل والعبد والوليّ على غيرهم ... فاللازم إقامة الدليل من غير تلك الناحية. وما يمكن أن يكون دليلًا امور:
أحدها: الإجماع على هذه القاعدة؛ بمعنى أنّ استدلال الأصحاب بها يكشف عن وجود دليل معتبر لو عثرنا به لم نعدل عنه وإن لم يكشف عن الحكم الواقعي، بل يظهر منهم أنّهم أرسلوها إرسال المسلّمات. قال الشيخ في مسألة إقرار العبد المأذون في التجارة: وإن كان- يعني المال المقرّ به- يتعلّق بالتجارة، مثل ثمن المبيع وأرش المعيب وما أشبه ذلك؛ فإنّه يقبل إقراره؛ لأنّ من ملك شيئاً ملك الإقرار به الخ (3) وحكاه عنه الحلّي (4) ساكتاً عليه من دون اعتراض، وظاهره ارتضاؤه له، وإلّا لم يكن من دأبه السكوت.
وقال القاضي في محكيّ «المهذّب»: إذا كان له عبد فكاتبه في صحّته ثمّ مرض وأقرّ أنّه قبض مال الكتابة، صحّ إقراره وعتق العبد؛ لأنّ المريض يملك القبض، ويملك الإقرار به مثل الصّحيح (5) .
وقال المحقق في «الشرائع»: لو كان- يعني العبد- مأذوناً في التجارة، فأقرّ بما يتعلّق بها، قُبل؛ لأنّه يملك التصرّف فيملك الإقرار، ويؤخذ ما أقرّ به ممّا في يده (6) .
ومثله العلّامة في محكيّ القواعد (7) .
وذكر فخرالدين في مسألة اختلاف الولي والمولّى عليه: أنّ الأقوى أنّ كلّ من يلزم فعله أو انشاؤه غيره، كان إقراره بذلك ماضياً عليه (8) .
وربما يستدلّ على تقديم قول الوكيل في التصرّف بأنّه أقرّ بما له أن يفعله.
ولكنّ الظاهر أنّه لا مجال للاستناد إلى الإجماع أيضاً لوجهين:
الأوّل: أنّه يظهر من جملة من أعاظم الفقهاء المخالفة وعدم الإلتزام أو الترديد في هذه القاعدة، فعن العلّامة في التذكرة (9) أنّه رجّح تقديم قول الموكّل عند دعوى الوكيل التصرف قبل العزل، وتردّد فيه في التحرير (10).
واستظهر من فخر الدين في الإيضاح (11) عدم قبول دعوى الزوج في العدّة الرّجوع، وجعل نفس الدعوى رجوعاً. وتردّد في ذلك في موضع من القواعد (12) .
وعن الشهيد في القواعد: الاستشكال في دعوى الزوج الرّجعة (13) ، وعن المحقق الثاني: إنكار هذه القاعدة رأساً؛ حيث تردّد في قبول إقرار العبد المأذون (14) ، وفي قبول قول الوليّ في تزويج بنته لو أنكرت، بل ولو لم تنكر؛ لجهلها بالحال (15) .
لكنّه ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في رسالته في هذه القاعدة: هذا، ولكنّ الإنصاف أنّ القضية المذكورة في الجملة إجماعيّة ؛ بمعنى أنّه ما من أحد من الأصحاب- ممّن وصل إلينا كلامهم- إلّا وقد عمل بهذه القضية في بعض الموارد، بحيث نعلم أن لا مستند له سواها؛ فإنّ من ذكرنا خلافهم إنّما خالفوا في بعض موارد القضية، وعملوا بها في مورد آخر- إلى أن قال-: وكيف كان، فلم نجد فقيهاً أسقطه عن استقلال التمسّك (16) .
الثاني: أنّ التمسك بالإجماع إنّما يتمّ لو كان دليلًا منحصراً في المقام، حيث إنّ الإجماع حينئذٍ يتّصف بالأصالة، ويكشف عن موافقة المعصوم عليه السلام أو وجود دليل معتبر، وأمّا مع فرض عدم الانحصار، وتماميّة بعض الوجوه الاخر التي استدلّ بها على القاعدة، واحتمال أن يكون ذلك الوجه هو مستند المجمعين، فلا يبقى أصالة له ، ولا يتّصف بكونه دليلًا مستقلّاً في مقابل ذلك الوجه كما لا يخفى. فاللازم ملاحظة الوجوه الاخر.
ثانيها: استقرار السيرة على معاملة الأولياء- بل مطلق الوكلاء- معاملة الأصيل في إقرارهم كتصرفاتهم، والظاهر أنّ المراد بالسيرة هي سيرة المتشرعة، وعلى تقدير ثبوتها وعدم كون منشئها هو بناء العقلاء على ما يأتي الكلام فيه، لا تجري في جميع موارد القاعدة، فهل تجري في مورد الصبي واعتبار قوله في ما له أن يفعل، مع أنّ مقتضى أدلّة عدم اعتبار إقرار الصبيّ- الحاكمة على قاعدة إقرار العقلاء- عدم الاعتبار؟ بل هل تجري فيما إذا كان إقرار الوليّ أو الوكيل بضرر المولّى عليه أو الموكّل، كما هو المهمّ من هذه القاعدة، مع أنّ مقتضى أدلّة عدم اعتبار الإقرار على الغير عدم نفوذه وعدم اعتباره؟
وبالجملة: فالتمسّك بالسّيرة المذكورة في جميع موارد تطبيق القاعدة في غاية الإشكال.
ثالثها: الروايات الواردة في الإئتمان، الدالّة على قبول قول من ائتمنه المالك بالإذن، أو الشارع بالأمر، وأنّه لا يجوز إتّهامه بوجه، ولكنّه استشكل عليه الشيخ الأعظم قدس سره (17) بأنّ النسبة بين هذه القاعدة وقاعدة الإئتمان عموم من وجه؛ لعدم جريان قاعدة الإئتمان في إقرار الصّبي بما له أن يفعله، وعدم جريان قاعدة من ملك بعد زمان الإئتمان، مع أنّ مقتضى قاعدة الإئتمان عدم الفرق، وقد صرّح جماعة بالأوّل، وقالوا: إنّه لو أقرّ المريض بأنّه وهب وأقبض حال الصحّة نفذ من الثلث (18)، وبعدم نفوذ إقرار العبد المأذون من قبل المولى- بعد الحجر عليه- بدين أسنده إلى حال الإذن (19) ، فلا مجال لأن يكون مستند المقام قاعدة الإئتمان بوجه.
رابعها: ما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره في رسالته من أنّه يمكن أن يكون الوجه في القضية المذكورة ظهور اعتبره الشارع، وبيانه : أنّ من يملك إحداث تصرّف فهو غير متّهم في الإخبار عنه حين القدرة عليه، والظاهر صدقه ووقوع المقرّ به، وإن كان هذا الظهور متفاوت الأفراد قوّة وضعفاً بحسب قدرة المقرّ فعلًا على إنشاء المقرّ به، من دون توقّف على مقدّمات غير حاصلة وقت الإقرار، كما في قول الزوج :
«رجعت» قاصداً به الإخبار مع قدرته عليه بقصد الإنشاء، وعدم قدرته لفوات بعض المقدّمات، لكنّه قادر على تحصيل المقدّمات وفعلها في الزمان المتأخر، كما إذا أقرّ العبد بالدّين في زمان له الاستدانة شرعاً، لكنّه موقوف على مقدّمات غير حاصلة؛ فإنّ الظاهر هاهنا أيضاً صدقه، وإن أمكن كذبه باعتبار بعض الدواعي، لكن دواعي الكذب فيه أقلّ بمراتب من دواعي الكذب المحتملة في إقرار العبد المعزول عن التجارة الممنوع عن الاستدانة.
ولو تأمّلت هذا الظهور- ولو في أضعف أفراده- وجدته أقوى من ظهور حال المسلم في صحّة فعله؛ بمعنى مطابقته للواقع، بل يمكن أن يدّعى أنّ حكمة اعتبار الشارع والعرف لإقرار البالغ العاقل على نفسه: أنّ الظاهر أنّ الإنسان غير متّهم فيما يخبره ممّا يكون عليه لا له، وفي النبويّ: «إقرار العقلاء» إشارة إليه، حيث أضاف الإقرار إلى العقلاء تنبيهاً على أنّ العاقل لا يكذب على نفسه غالباً، وإلّا فلم يعهد من الشارع إضافة الأسباب إلى البالغ العاقل- إلى أن قال:- مرجعه إلى تقديم هذا الظهور على الأصل، كما في نظائره من ظهور الصحّة في فعل المسلم ونحوه من الظواهر.
ثمّ قال: ولكنّ الظهور المذكور لا حجيّة فيه بنفسه حتى يقدّم على مقابله من الاصول والقواعد المقرّرة، بل يحتاج إلى قيام دليل عليه، أو استنباطه من أدلّة بعض القواعد الاخر (20) .
أقول: يمكن أن يقال- بعد استقرار سيرة العقلاء على القضية المذكورة-: بأنّ الشارع لم يردع عمّا هو مقتضى بناء العقلاء، وأدلّة الاصول والقواعد المقابلة لا تصلح للرّادعية، بل الرّدع يحتاج إلى دليل قويّ.
كما أنّه يمكن أن يقال بأنّ نفس السلطنة الثابتة من طرف الشارع إمّا بدون الواسطة، أو بوساطة إذن المالك، تلازم عرفاً مع نفوذ إقراره به، فالدليل على القاعدة نفس هذه الملازمة العرفية التي مرجعها إلى عدم الانفكاك بين السلطة على الشيء وملكية الإقرار به، فإنّ الصبيّ الذي يجوز له الوصية كيف لا يقبل إقراره بها؟ والزوج الذي يجوز له الرجوع كيف لا يقبل إقراره به؟ وإذا اضيف إلى ذلك ثبوت الإجماع على القاعدة في الجملة لا يبقى ارتياب في أصل القضية، ويكفي مستنداً لها كما لا يخفى.
وقد عبّر عن هذا الوجه المحقّق العراقي قدس سره فيما حكي عنه بثبوت الملازمة بين السّلطنة على ثبوت الشيء والسلطنة على إثباته؛ بمعنى أنّ القدرة على وجود الشيء واقعاً ملازم مع القدرة على إيصاله إلى مرتبة الإظهار والإثبات، مثلًا لو كانت له السلطنة على بيع داره أو وقفه أو هبته أو غير ذلك من التصرّفات، فلابدّ وأن تكون له السلطنة على إثبات هذه الأعمال والأفعال (21) .
ولكنّه اورد عليه: بانّه إن كان المراد من السلطنة على إثباته هو أن يكون ثابتاً في مرحلة الظاهر بمحض إظهاره وإقراره، كي يترتّب عليه جميع آثار وجود ذلك الشيء؛ سواء كان له أو عليه أو لغيره أو على ذلك الغير، فهذا دعوى بلا بيّنة ولا برهان؛ إذ ربما يكون الإنسان قادراً على عمل، ولكن ليس قادراً على إثباته بمحض إقراره، وإلّا كان إخبار كلّ مخبر عن صدور فعل حجّة على وجود ذلك الفعل، وإن أنكره من يتعلّق به العمل، مثل ما لو استأجر البنّاء على أن يبني له الحائط، فأخبر بوقوع ذلك البناء، وأنكره المستأجر، فإنّ إخباره لا يكون حجّة قطعاً.
وإن كان المراد هو أنّ الشارع إن جعل سلطاناً على أمر، فجعله ملازم لجعل إخباره، وإقراره حجّة على إثباته.
ففيه: أنّ هذه أيضاً دعوى بلا بيّنة وبرهان؛ لعدم لزوم اللغوية، مع عدم كون الإقرار حجّة؛ لإمكان الإشهاد على صدوره منه حتى في مثل الرجوع في العدّة.
نعم، لو كان قوله: «رجعت إليها في حال عدم انقضاء العدّة» إنشاءً لا إخباراً، فهو بنفسه رجوع، ويمكن أيضاً أن يكون من قبيل إثبات الرجوع بإقراره، ومن مصاديق هذه القاعدة، وليس الجعل الثاني من لوازم الجعل الأوّل حتى يكون الدليل عليه دالّاً عليه بالدلالة الالتزاميّة (22) .
والظاهر أنّه لا مجال لإنكار الدلالة الالتزامية العرفيّة؛ فإنّ العرف يفهم من ثبوت السلطنة للزوج على الرجوع بقول: «رجعت» انشاءً، أنّه لو وقع هذا القول في مقام الإخبار والإقرار يكون حجّة إذا كانت الزوجة في العدّة، بحيث كان له ذلك إنشاءً. نعم، مع انقضاء العدّة وعدم ثبوت حقّ الرجوع له بالفعل لا مجال لاستفادة حجية الإقرار، كما أنّه لا تدلّ عليه القاعدة؛ لظهورها في السلطنة الفعلية كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.
المقام الثالث: في مفاد هذه القاعدة ومدلولها.
فنقول: الظاهر أنّ المراد ب «ملك الشيء» ليس هي الملكية المتداولة في باب الأموال، كملك الدار والعقار مثلًا، بل بقرينة الإقرار- الظاهر في السّلطنة عليه - يكون المراد به هي السّلطنة على الشيء؛ سواء كانت هذه السّلطنة ناشئة من الملكية الاصطلاحية، أو من ناحية الشارع بواسطة أو بدونها.
نعم، ذكر سيدنا الاستاذ الأعظم الإمام الخميني- أدام اللَّه ظلّه الشريف- في حواشيه على رسالة الشيخ قدس سره في هذه القاعدة ما لفظه: أنّ المالكية- على ما يستفاد من اللغة والعرف- هي علقة ورابطة اعتبارية حاصلة بين الشخص والشيء تستتبعها السلطنة والاستبداد به، وهي غير السلطنة عرفاً ولغة، ولهذا وقع التشاجر من الصدر الأوّل بين المفسّرين والمحققين في أرجحية «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»، أو «مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ولو كان «المالك» بمعنى السلطان لما وقع النزاع والتشاجر بين أئمّة اللّغة والتفسير وأساطين الأدب والعربيّة.
وبالجملة: «مَلَكَ الشيءَ» على ما في القاموس؛ أي احتواه قادراً على الاستبداد به (23) ، والسلطنة لازم أعمّ للمالكية. وهذا واضح؛ فإنّ أولي الأمر- من النبيّ والوصيّ- لهم السلطنة على أموال الناس وأنفسهم، وليست لهم المالكيّة، والحاصل: أنّ المتفاهم العرفي من «مَلَكَ الشيءَ» هو كونه صاحباً له فعلًا، فيشمل ملك الصغير، فعدم نفوذ إقراره من مستثنيات هذه القاعدة، لا أنّ نفوذه في الموارد الخاصّة من الدواخل (24) .
ثمّ ذكر- دام ظلّه الشريف- في ذيل كلامه ما يرجع إلى أنّ المراد من «ملك الإقرار» وإن كان هو السّلطنة عليه لا المالكية، لكنّ الظاهر أنّ ذكر «ملك الإقرار» بعد «ملك الشيء» إنّما هو من باب التطابق، مثل قوله :
............................ قلت اطبخوا لي جبّة وقميصاً (25) .
هذا، ولكنّ الظاهر أنّه حيث كانت القاعدة مسوقة لإفادة ملكية الإقرار في مورد ملكية الشيء لا يلائم ذلك التعبير بالملكية، مع كون المراد بها غير معناها، بل ما هو لازم أعمّ منها، فيكون ذلك قرينة على أنّ المراد بها هي السلطنة، وأنّ دلالتها عليها لا تكون دلالة غير ظاهرة، خصوصاً مع ملاحظة الانفكاك بينها وبين الملكية، كما في الصبي بالنسبة إلى تصرّفاته غير الجائزة له شرعاً؛ فإنّ ملكيتها بالنسبة إلى جميع أمواله وإن كانت ثابتة، إلّا أنّه لا سلطان له عليها كما لا يخفى. مع أنّ القاعدة- على ما يستفاد من موارد استدلالات الأصحاب بها- مسوقة لإفادة مثل نفوذ إقرار الصبيّ في التصرفات الجائزة له، واللازم معناها بحيث ينطبق عليها، ولا مجال لحملها على معنى يخرج منه كثير من الموارد.
فالإنصاف أنّ جعل «ملك الإقرار» قرينة على أنّ المراد ب «ملك الشيء» أيضاً هو السلطنة عليه لا الملكية الاصطلاحية صحيح.
نعم، يكون هنا بحث من جهتين :
إحداهما: أنّه هل المراد بالسلطنة السلطنة الفعلية الثابتة بالفعل ، أو يعمّ السّلطنة غير الفعلية أيضاً؟ فعلى الأوّل لا يشمل الصغير؛ لعدم السلطنة الفعلية له.
نعم، له سلطنة كذلك على بعض التصرفات المالية، مثل الوصية والوقف والصّدقة، وهي داخلة في عموم القاعدة، والظاهر هو الوجه الأوّل؛ لظهور كلمة «الملك» المساوقة هنا للسلطنة في السلطنة الفعلية، مع أنّ لازم الوجه الثاني صحّة إقرار الصبي بغير الامور المذكورة من سائر التصرفات المالية، ولا يقولون به بوجه.
ثانيتهما: أنّه هل المراد بالسّلطنة هي السلطنة المطلقة؛ بأن يكون مستقلّاً فيه لا يزاحمه أحد، أو مجرّد القدرة على التصرف؟ فعلى الأوّل: يختصّ بالمالك والوليّ الإجباري، وعلى الثاني: يشمل الوكيل والعبد المأذون، والظاهر بملاحظة موارد الاستدلال بالقاعدة في كلمات الأصحاب- رضي اللَّه عنهم- هو الثاني، فالمراد بها ليست هي السلطنة المطلقة، بل مطلق السّلطنة كما لا يخفى.
والمراد ب «الشيء» الذي اضيف إليه «الملك»، هل ما يشمل الأعيان والأفعال، أو يختص بالأفعال فقط؟ ربما يقال بالثاني، نظراً إلى أنّ ضمير «به» يرجع الى «الشيء»، والظاهر عدم تحقّق الاستخدام فيه، وحيث إنّ نفس العين الخارجيّة لا تكون قابلة لتعلّق الإقرار بها، إلّا باعتبار تعلّق فعل من الأفعال بها، فمقتضى ذلك أن يكون المراد بالشيء أيضاً فعلًا من الأفعال، ويرجع المعنى إلى أنّ من ملك فعلًا من الأفعال يملك الإقرار به والإخبار عنه.
ويرد عليه: أنّ الإقرار وإن لم يتعلّق بنفس العين الخارجيّة، إلّا أنّه لا يلزم تعلّقه بفعل من الأفعال؛ فإنّه لو أقرّ ذو اليد بكون ما في يده ملكاً لزيد، يترتّب على إقراره النفوذ والمضي، مع أنّ الإقرار بالملكية لا يكون إقراراً بفعل من الأفعال، ولا مجال لإخراج هذا المورد من القاعدة وإن كان داخلًا في قاعدة الإقرار أيضاً، ولا يلزم من ذلك نفوذ إقرار الصبي في جميع التصرّفات باعتبار ثبوت الملكية له بالإضافة إلى أمواله؛ وذلك لأنّه وإن كان مالكاً إلّا أنّه لا يكون له السّلطنة بالنسبة إليها ... أنّ المراد بالملكية هي السلطنة، ولا سلطان له على أمواله، وعلى ما ذكرنا فالمراد بالشيء ما يعمّ الأعيان أيضاً.
وأمّا الإقرار، فمعناه اللّغوي هو إثبات الشيء وجعله قارّاً ... سواء أثبته على نفسه أو على غيره، والظّاهر أنّ معناه الاصطلاحي أيضاً موافق للمعنى اللغوي، غاية الأمر أنّ التخصيص بخصوص ما أثبته على نفسه، إنّما يستفاد من إضافة كلمة «عليه» المأخوذة في دليل قاعدة الإقرار، كما لا يخفى. والمراد من «ملك الإقرار» هي السّلطنة عليه؛ بمعنى نفوذه ومضيّه وحجيّته، فمفاد القاعدة: أنّ السّلطنة الفعلية على الشيء موضوعة لنفوذ إقراره بذلك الشيء واعتباره.
المقام الرّابع: ظاهر القضية الشرطية عند التجرّد عن القرينة، أنّ الشرط علّة لترتّب الجزاء حدوثاً وبقاءً، لا الحدوث فقط وإن زال الشرط، وعليه: فملكية الإقرار وسلطنته إنّما هي في زمان وجود السلطنة على الشيء وتحقّقها، فإذا زالت تنتفي السلطنة على الإقرار، فإذا أقرّ الوليّ بعد بلوغ الصبي بأنّه باع ماله قبل البلوغ من زيد مثلًا لا يمضي إقراره؛ لعدم كونه مالكاً للبيع في حال الإقرار؛ لفرض زوال الحجر وتحقق البلوغ، وملكيته للبيع قبل البلوغ لا تكفي في نفوذ إقراره بعده، كما أنّه لو أقرّ الزوج بعد انقضاء العدّة بالرجوع في حالها، لا يترتّب على إقراره أثر؛ لعدم السلطنة على الرجوع حال الإقرار.
وقد حكي عن شرائع المحقّق أنّه اختار عدم قبول إقرار المريض بالطلاق حال الصحة بالنسبة إلى الزوجة ليمنعها من الإرث (26) .
وعن التحرير التنصيص على عدم سماع إقرار العبد المأذون في التجارة بعد الحجر عليه بدين يسنده إلى حالة الإذن، وقال أيضاً: وكلّ من لا يتمكّن من الإنشاء لا ينفذ إقراره، ولو أقرّ المريض بأنّه وهب حالة الصّحة لم ينفذ من الأصل (27) .
نعم، يظهر من الشيخ في المبسوط (28) ومن فخرالدين في الإيضاح (29) عموم نفوذ إقرار المقرّ على ما ملكه ولو في الزمان الماضي (30) ولكنّك عرفت أنّه خلاف ظاهر القضية الشرطية عند التجرّد عن القرينة؛ حيث إنّ مقتضاه مدخلية الشرط حدوثاً وبقاءً.
ولا مجال للاستناد إلى استصحاب بقاء السلطنة- التي كانت له حال وقوع الفعل الذي يقرّ بوقوعه في الزمان المتقدّم- إلى ذلك الزمان؛ وذلك لتبدّل الموضوع؛ حيث إنّ السّلطنة السابقة كانت في ظرف السّلطنة الفعلية على الشيء، والمفروض انتفاؤها وزوالها. ودعوى الوحدة العرفية الكافية في جريان الاستصحاب ممنوعة جدّاً؛ لوضوح الفرق عندهم بين الزوج في حال بقاء العدّة وبينه في حال الانقضاء، وكذا سائر الموارد.
المقام الخامس: ذكر الشيخ الأعظم قدس سره في رسالته في هذه القاعدة ما ملخّصه: أنّ المراد ب «ملك الإقرار» إذا كان أصيلًا واضح، وإن كان غير أصيل- كالوليّ والوكيل- فيحتمل امور:
الأوّل: السلطنة على الإقرار به؛ بمعنى أنّ إقراره ماضٍ مطلقاً، ويكون كإقرار ذلك الغير حتى أنّه لا يسمع منه بيّنة على خلافه، فضلًا عن حلفه على عدمه. قال:
وهذا المعنى وإن كان بحسب الظاهر أنسب بلفظ الإقرار، إلّا أنّه يكاد يقطع بعدم إرادته.
الثاني: أنّ إقراره به نافذ بالنسبة إلى الأصيل، كنفوذ إقراره، وإن لم يترتّب عليه جميع آثار إقراره، فالتعبير بالإقرار من حيث إنّه لمّا كان في التصرف نائباً عنه، وكان كالتصرف الصادر عن نفسه، فالإخبار به كأنّه أيضاً صادر عن نفسه، ففعله كفعله ولسانه كلسانه، ولا فرق حينئذ بين أن تقع هناك دعوى وبين أن لا تكون، ولا بين أن تكون الدعوى مع ذلك الأصيل أو مع ثالث، وحينئذ فلو أخبر الوكيل بقبض الدين من الغريم، فإخباره يكون بمنزلة البيّنة للغريم على الأصيل لو ادّعى عليه بقاء الدين.
الثالث: أن يراد قبول قوله بالنسبة إلى الأصيل لو أنكره، فيختصّ بالتداعي الواقع بينهما، فلا تعرّض فيه لقبول قوله بالنسبة إلى الأصيل لو كانت الدّعوى ترجع على ثالث، حتى يكون كالشاهد للثالث على الأصيل.
قال: وبهذا يجمع بين حكم المحقّق والعلّامة بتقديم قول الوكيل فيما إذا ادّعى على الموكّل إتيان ما وكِّل فيه، معلّلين بأنّه أقرّ بما له أن يفعله (31) ، وتقديم قول الموكّل فيما إذا ادّعى الوكيل شراء العبد بمائة، وادّعى الموكِّل شراءه بثمانين، معلّلين بأنّ الموكِّل غارم (32) . ومعنى ذلك أنّ الوكيل لا يريد أن يدفع عن نفسه شيئاً، وإنّما يريد أن يثبت لغيره حقّاً على موكِّله، فهو بمنزلة الشاهد على الموكّل.
وبعبارة اخرى: إنّما يعتبر إقراره بما له أن يفعله في ما يتعلّق بنفسه لا في ما يتعلّق بغيره (33).
وهو وإن لم يصرّح بترجيح أحد الاحتمالين الأخيرين على الآخر، إلّا أنّه ربما يستظهر من كلامه ترجيح الاحتمال الأخير، وهو اختصاص قبول قوله بما إذا كان في مقابل الأصيل، وكان التداعي واقعاً بينهما، والظاهر أنّه لا محيص عن ترجيحه لو كان المدرك للقاعدة هو الإجماع؛ لأنّه القدر المتيقن من مفادها، كما أنّه لو كان المدرك لها هي الدلالة الإلتزامية العرفية المتقدمة، لكان اللازم ترجيحه أيضاً؛ لعدم ثبوت الدلالة المذكورة بأزيد من هذا المقدار، كما لا يخفى.
ثمّ إنّه ذكر الشيخ أيضاً أنّ المراد ب «ملك الإقرار» يحتمل أن يراد به السلطنة المستقلّة المطلقة؛ بمعنى أنّه لا يزاحمه أحد في إقراره، وأنّه نافذ على كلّ أحد، وأن يراد به مجرّد أنّ له الإقرار به، فلا سلطنة مطلقة له، فيمكن أن يزاحمه من يكون له أيضاً سلطنة على الفعل، فيكون «ملك الإقرار بالشيء» على نحو السلطنة على ذلك الشيء، فليس للبنت البالغة الرشيدة- بناءً على ولاية الأب عليها- مزاحمة الوليّ في إقراره، كما ليس لها مزاحمته في أصل الفعل.
وكذا إذا قامت البيّنة على إقرار الأب حين صغر الطفل بتصرّف فيه أو في ماله، فليس له بعد البلوغ مزاحمته. وهذا بخلاف الموكِّل؛ فإنّه يزاحم الوكيل في إقراره كما يزاحمه في أصل التصرّف(34).
أقول: معنى المزاحمة في الإقرار الثابتة في الموكِّل أنّه يمكن للموكّل الإقرار قبل الوكيل، فلا يبقى موضوع لإقرار الوكيل، مثلًا إذا أقرّ بأنّ مورد الوكالة ملك لزيد، يترتّب على إقراره آثار ملكية زيد، ولا يبقى حينئذ موضوع لإقرار الوكيل بأنّه باعه من عمرو مثلًا، مع أنّه لو لم يكن مسبوقاً بإقرار الموكِّل، لكان يترتّب على إقرار الوكيل تحقق المعاملة وثبوت الملكية لعمرو؛ لأنّ من ملك شيئاً ملك الإقرار به، فالمزاحمة في الإقرار كالمزاحمة في أصل التصرف، فإذا باع الموكِّل مورد الوكالة من شخص قبل أن يتحقق البيع من الوكيل، لا يبقى حينئذ موضوع لتصرف الوكيل.
والظاهر من الاحتمالين في معنى «ملك الإقرار» هو الثاني؛ لرجوعه إلى مساواة «ملك الإقرار» لملكية الشيء والسّلطنة عليه، بخلاف الاحتمال الأوّل الذي مرجعه إلى توسعة دائرة «ملك الإقرار» بالنسبة إلى ملك الشيء، كما لا يخفى.
هذا، مضافاً إلى أنّه مع ثبوت السلطنة للآخر- كما هو المفروض- يصير الآخر أيضاً مشمولًا للقاعدة، فيملك الإقرار كما يملكه الأوّل، ولا مجال لإخراجه بعد تساوي نسبة القاعدة إليهما، فمقتضى الأخذ بعموم القاعدة ترجيح الاحتمال الثاني.
هذا تمام الكلام في قاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به.
________________
(1) رسائل فقهية ( تراث الشيخ الأعظم): 180- 181.
(2) لم نعثر عليه عاجلًا.
(3) المبسوط: 3/ 19.
(4) السرائر: 2/ 57- 58.
(5) المهذّب: 2/ 393.
(6) شرائع الإسلام: 3/ 152.
(7) قواعد الأحكام: 2/ 415.
(8) إيضاح الفوائد: 2/ 55، وفيه: والأقوى أنّ كلّ من يلزم فعله أو انشاؤه غيره يمضي إقراره بذلك عليه.
(9) تذكرة الفقهاء: 2/ 137( ط. ق).
(10) تحرير الأحكام: 3/ 42.
(11) إيضاح الفوائد: 3/ 331.
(12) قواعد الأحكام: 3/ 136.
(13) القواعد والفوائد: 2/ 279.
(14) جامع المقاصد: 5/ 209- 210 وج 9/ 217.
(15) جامع المقاصد: 12/ 73.
(16) رسائل فقهية ( تراث الشيخ الأعظم): 194- 195.
(17) رسائل فقهية ( تراث الشيخ الأعظم): 197- 198.
( 18) تحرير الأحكام: 4/ 400- 401.
( 19) تحرير الأحكام: 4/ 400- 401.
( 20) رسائل فقهية( تراث الشيخ الأعظم): 199- 200.
( 21) حكى عنه المحقّق البجنوردي في القواعد الفقهية: 1/ 9.
( 22) القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي: 1/ 9- 10.
( 23) القاموس المحيط: 3/ 436.
( 24) الرسائل العشرة للإمام الخميني: 160- 161.
( 25) الرسائل العشرة للإمام الخميني: 162.
( 26) شرائع الإسلام: 3/ 27.
( 27) تحرير الأحكام: 4/ 400- 401.
( 28) المبسوط: 5/ 69.
( 29) إيضاح الفوائد: 2/ 55.
( 30) راجع رسائل فقهية( تراث الشيخ الأعظم): 187.
( 31) شرائع الإسلام: 2/ 205 مسألة 3، قواعد الأحكام: 2/ 370.
( 32) شرائع الإسلام: 2/ 206 مسألة 6، قواعد الأحكام: 2/ 370.
( 33) رسائل فقهية ( تراث الشيخ الأعظم): 187- 189.
( 34) رسائل فقهية ( تراث الشيخ الأعظم): 191.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|