أقرأ أيضاً
التاريخ:
382
التاريخ: 18-9-2016
463
|
ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة هي أنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للعقد أم لا؟
وفيها جهات من البحث :
[ الجهة ] الأولى
في بيان الأقوال فيها :
فنقول :
ذهب الشيخ (1) والقاضي (2) وابن سعيد (3) وجماعة أخرى إلى عدم كونه مفسدا مطلقا. وذهب جمع من المحقّقين كالعلاّمة (4) والمحقّق الثاني (5) ، والشهيدين (6) وغيرهم بل قيل جلّ المتأخّرين إلى أنّه مفسد مطلقا.
وفصّل ابن زهرة (7) بين ما إذا كان سبب فساد الشرط كونه غير مقدور فقال بالإفساد ، وبين ما إذا كان سببه كونه مخالفا لمقتضى العقد ، أو كونه مخالفا للسنّة فقال بعدم الإفساد وادّعى الإجماع في كلا الموردين.
وهناك تفصيل آخر نسب إلى ابن المتوج البحراني (8) ، وهو الإفساد إن كان سبب فساد الشرط كونه غير عقلائي ، وإلاّ فلا.
والحقّ : هو القول الأوّل ، وسيأتي بيانه وبرهانه إن شاء الله تعالى.
[ الجهة ] الثانية :
في أنّه بعد الفراغ من أنّ الشرط الفاسد لا يجب الوفاء به لفساده وبطلانه ـ والشارع لم يعتن بهذا الالتزام والإلزام ـ فهل يستحبّ الوفاء به ، من حيث أنّه وعد ابتدائي ، لا من حيث أنّه إلزام أو التزام في ضمن العقد اللازم ، كي تقول بأنّه من هذه الجهة فاسد وباطل ولم يمضه الشارع.
أقول : أمّا فيما إذا كان منشأ بطلان الشرط وفساده كونه ممّا أحلّ حراما ، فلا وجه لإتيان هذا الاحتمال ، وهذا واضح.
وأمّا فيما عداه ممّا ليس مخالفا للمشروع ، فقد أفاد شيخنا الأعظم أنّه لا تأمّل فيه ، لكونه من الوفاء بالوعد الذي لا شبهة في حسنه عقلا واستحبابه شرعا (9).
واستشكل عليه شيخنا الأستاذ بأنّ الوعد إخبار ، فلا ربط له بباب الشروط التي تكون من مقولة الإنشاءات ، لما قلنا إنّها إلزامات والتزامات في ضمن العقود اللازمة ، فلا يشملها دليل استحباب الوفاء بالوعد ، كقوله صلى الله عليه واله : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد » (10) وكقوله عليه السلام : « عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له ، فمن أخلف فيخلف الله بذا ولمقته تعرّض ، وذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] (11) .
ولا دليل لزوم الوفاء بالشرط ، كقوله صلى الله عليه واله : « المؤمنون عند شروطهم » (12) لأنّ المراد من الشروط هي الشروط الصحيحة. ولكن يمكن أن يقال : إنّ الواعد أيضا نحو التزام بإيجاد أمر في المستقبل ، فيكون من قبيل الإنشاءات.
ولذلك يقال : إنّه وفي بوعده ، ولو كان صرف الإخبار عن أمر فيما سيأتي لما كان للوفاء به معنى.
وأمّا اتّصافه بالكذب والصدق في الكتاب العزيز في موارد كثيرة ، فلا دلالة فيه على أنّه ليس من الإنشاءات ، لأنّ الإنشاء لا يتّصف بالصدق والكذب.
وذلك من جهة أنّ الإنشاء وإن لم يتّصف بهما باعتبار نفس الإنشاء ، لأنّه لا حكاية في الإنشاء كي تكون مطابقة للمحكي أو غير مطابقة له ، ولكن ربما يتّصف بهما باعتبار قصد الحقيقي وعدمه بالنسبة إلى وقوع المنشأ وعدمه ، فيكون اتّصاف الوعد بهما من باب الوصف بحال متعلّق الموصوف.
هذا ، مضافا إلى أنّ العمل بالالتزام بأمر لا شكّ في حسنه عقلا وشرعا وإن لم يكن ذلك الالتزام مشمولا لدليل وجوب الوفاء بالشروط ، إذا لم يكن ممّا ندب الشارع إلى تركه.
[ الجهة ] الثالثة
في تعيين ما هو محلّ النزاع ، وبيان مورد ما وقع فيه الخلاف :
فنقول :
الحقّ في مقام تحرير محلّ الخلاف هو أن يقال : كلّ شرط كان وجوده ـ أي الالتزام به أو إلزام الطرف به ـ موجبا لاختلال العقد أو العوضين أو غيرهما من أركان المعاملة ، فهو خارج عن محلّ النزاع ، ولا شكّ في أنّ مثل هذه الشروط فاسدة ومفسدة للعقد ، فلو باعه شيئا بشرط أن لا يملكه ، أو زوّجه بشرط عدم جميع الاستمتاعات منها ، فمثل هذا الشرط فاسد ومفسد يقينا ، لأنّه مناقض للعقد ، غاية الأمر أنّه في المثال الأوّل تكون المناقضة بين الالتزامين ـ أي بين الالتزام العقدي والشرطي ـ صريحة ، لأنّ مفاد الأوّل تمليك ، ومفاد الثاني نفي التمليك.
وفي المثال الثاني تكون بالدلالة الالتزامية ، لأنّ الزوجيّة المنشأة بالعقد وإن كانت غير جواز الاستمتاعات منها ، إلاّ أنّ جواز الاستمتاع منها بطور الموجبة الجزئيّة من لوازمها ، وإلاّ يكون اعتبارها لغوا وباطلا ، فمفاد الشرط يكون نفي الزوجيّة من باب نفي الملزوم بنفي اللازم ، فيتناقضان.
وها هنا ربما يتوهّم أنّ التناقض يكون فيما إذا أمضى الشارع هذا الشرط ورتّب عليه الأثر ، فصحّة العقد ـ بمعنى ترتيب الأثر عليه ـ مع صحّة الشرط ـ أي ترتيب الأثر عليه ـ متناقضان ، ولا تناقض بين العقد وصرف وجود هذا الشرط ، فلو قلنا بفساد الشرط وعدم لزوم ترتيب الأثر عليه فلا تناقض في البين ، في كلا المثالين ـ أي لا صريحا ولا بالدلالة الالتزاميّة ـ لأنّ الشرط بناء على هذا يكون صرف لقلقة لسان ، ووجوده كعدمه.
ولكن أنت خبير بأنّ مثل هذا الكلام متناقض من حيث المتفاهم العرفي ، سواء أمضى الشارع مثل هذا الشرط أو لم يمضه ، ولا يصحّ إنشاء النقل والانتقال أو الزوجيّة بمثل هذا الكلام المتناقض الذي ليس له مفهوم عرفي صحيح.
نعم هذا الإشكال يأتي ـ وله مجال ـ فيما إذا لم يكن الشرط بوجوده موجبا لاختلال العقد أو أحد أركانه ، بل يكون موجبا للاختلال على تقدير صحّته وإمضائه من قبل الشارع ، كما إذا باع العنب بشرط أن يعمله خمرا ، أو الخشب على أن يعمله صليبا أو صنما ، فحصر المنفعة في هذه المنفعة المحرّمة موجب لسقوط ماليّته وبطلان البيع وفساده لذلك ، لصيرورة المبيع بلا منفعة بناء على هذا ، فيخرج عن الماليّة ويختلّ أحد أركان العقد وهو ماليّة أحد العوضين ، ولكن هذا الخروج عن الماليّة حيث أنّه ليس خروجا تكوينيّا ، بل يكون خروجا تشريعيا ، فيحتاج إلى إمضاء الشارع لهذا الشرط ، وإلاّ فبصرف وجوده لا يوجب سقوط الماليّة.
اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حصر المالك منفعة المبيع في هذا المحرّم موجب لسلب سائر المنافع عن ذلك المال ، سواء أكان هذا الشرط صحيحا أم لا ، فلا يبقى للمشتري إلاّ هذه المنفعة وهي محرّمة ، سواء أكان الشرط صحيحا أم فاسدا ، فيكون الشرط من ذلك القسم الذي بوجوده يوجب الاختلال ، لا باعتباره وإمضائه من طرف الشارع.
إذا تدبّرت فيما ذكرنا تعرف أنّ بعض التفاصيل في هذه القاعدة ليس قولا بالتفصيل ، بل خارج عمّا هو محلّ الخلاف.
وذلك كما إذا كان فساد الشرط موجبا لعدم القدرة على تسليم المبيع مثلا ، أو صيرورة البيع غرريّا ، أو التناقض بين مفاد الشرط ومفاد العقد ، فهذه الصور وأمثالها خارجة عن محلّ الكلام.
وحاصل الكلام : أنّ النزاع في هذه القاعدة ـ وأنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للعقد الذي وقع هذا الشرط في ضمنه أم لا ـ يكون فيما إذا كان وجه كونه مفسدا تقييد المعاملة ، أو إناطة الرضا بالنقل والانتقال ، أو بأيّ شيء كان مضمون العقد ومفاده بذلك الشرط؟ فيقال : إنّ الشرط إذا كان فاسدا ولا يجب الوفاء به ، بل لا يجوز فيما إذا كان محرّما ، فهل ذلك العقد وتلك المعاملة تكون فاسدة ـ من جهة عدم الرضا بمضمونها ، أو من جهة انتفاء المقيّد بانتفاء قيده ـ أم لا ، إذ لا يلزم محذور؟
وأمّا لو كان الشرط سببا لاختلال أحد أركان العقد ـ أو أحد شرائط العوضين أو المتعاملين ، فهذا لا ربط له بهذه القاعدة.
إذا عرفت هذه الأمور ، فنقول :
الدليل على القول المختار ـ وهو عدم الإفساد مطلقا ـ من وجوه :
الأوّل : إطلاقات أدلّة المعاملات والعقود ، كقوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وغيره من العمومات والإطلاقات الواردة في أبواب المعاملات من العقود والإيقاعات ، ولا يجوز الخروج عنها إلاّ بمخصّص أو مقيّد ، وليس في البين ما يكون صالحا لأن يكون مخصّصا ، أو يكون مقيّدا عدا ما توهّم من إناطة الرضا في العقد المشروط بذلك الشرط المذكور فيه ، ومن بعض الروايات التي ذكروها في مقام إثبات الإفساد ، (13) ومن أنّ للشرط قسطا من الثمن ، فإذا كان الشرط فاسدا يكون العوض في العقد مجهولا ، لأنّه لا يعلم أيّ مقدار منه بإزاء نفس المبيع مثلا ، وأيّ مقدار بإزاء الشرط.
وسنتكلّم إن شاء الله تعالى عن هذه الأمور الثلاثة مفصّلا في مقام الجواب عن أدلّة القول بالإفساد.
الثاني : الإجماع الذي ادّعاه السيّد أبو المكارم ابن زهرة (14) ولكن فيه على فرض تسليم وجوده لا وجه لحجّيته مع وجود المدارك التي ذكرناها من العمومات والإطلاقات ، وما سنذكرها من الروايات.
الثالث : الأخبار :
منها : النبويّ المشهور بين الفريقين المرويّة في كتب العامّة والخاصّة في قصة بريرة التي اشتراها أمّ المؤمنين عائشة ، وهو ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي عن الصادق عليه السلام أنّه ذكر أنّ بريرة كانت عند زوج لها وهي مملوكة. فاشترتها عائشة فأعتقتها ، فخيّرها رسول الله صلى الله عليه واله فقال : « إن شاءت قعدت عند زوجها وإن شاءت فارقته » ، وكان مواليها الذين باعوها اشترطوا على عائشة أنّ لهم ولاؤها ، فقال صلى الله عليه واله : « الولاء لمن أعتق » (15).
ودلالة هذا الحديث الشريف المشهور بيننا وبين الجمهور على عدم إفساد الشرط الفاسد للعقد ممّا لا ريب فيه وواضحة جدّا ، وذلك لحكمه صلى الله عليه واله بفساد الشرط وصحّة العقد جميعا.
أمّا حكمه صلى الله عليه واله بفساد الشرط وأنّه خلاف السنّة فلقوله صلى الله عليه واله : « إنّ شرط الله قبل شرطكم » (16)، وقوله صلى الله عليه واله : « الولاء لمن أعتق ».
وأمّا حكمه بصحة العقد المشتمل على هذا الشرط الفاسد ، فلقوله صلى الله عليه واله : « إن شاءت قعدت عند زوجها ، وإن شاءت فارقتها » فإنّ تخييرها بين العقود عند زوجها وبين مفارقتها له موقوف على صحّة عتقها ، وهي موقوفة على صحّة بيعها كي يكون العتق في ملك المعتق ، وإلاّ فلا يصحّ العتق ، فلا يكون لها التخيير.
ومنها : مرسلة جميل وصحيحة الحلبي :
فالأوّل : عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما في رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا يبيع ولا يهب؟ قال : « يفي بذلك إذا شرط لهم ». وفي طريق آخر زاد « إلاّ الميراث » (17).
والثاني : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : سألته عن الشرط في الإماء لا تباع ولا تورث ولا توهب؟ فقال : « يجوز ذلك غير الميراث ، فإنّها تورث ، وكلّ شرط خالف كتاب الله فهو ردّ » (18).
وظاهر هذه الصحيحة والمرسلة هو أنّ البائع لو شرط على الذي اشترى جاريته أن لا يبيعها ولا يوهبها ولا تورث ، فيجب على المشتري أن يفي بالشرطين ـ أي عدم بيعها وعدم هبتها ـ وشرط عدم الإرث لا ينفذ ، لأنّه خلاف كتاب الله تعالى ، فهو مردود.
ومعلوم أنّ وجوب الوفاء بذينك الشرطين موقوف على صحّة البيع الذي وقعا في ضمنه ، مع أنّ ذلك البيع مشروط بشرط فاسد ، أي : شرط أنّها لا تورث ، لأنّه خلاف الكتاب. فهذه الرواية تدلّ على أنّ الشرط الفاسد لا يكون مفسدا للعقد.
ولكن يشكل الاستدلال بهذه الرواية على عدم كون الشرط الفاسد مفسدا بأنّه مبنيّ على صحّة اشتراط بيع الجارية بعدم بيعها وعدم هبتها كي يكون الوفاء بهما واجب ، والمشهور يقولون بفساد هذين الشرطين وأنّهما خلاف السنة ، فلا يجب الوفاء بهما، فتكون الرواية قد أعرض عنها المشهور ، بل ربما ادّعى الإجماع على خلافه ، إذ حكى عن كاشف الرموز أنّه قال : لم أجد عاملا بهذه الرواية (19).
وأجاب شيخنا الأعظم عن هذا الإشكال بحمل الأمر بالوفاء بالشرطين على الاستحباب (20) ، إذ المشهور لا ينكرون استحباب الوفاء ، بل يقولون بعدم وجوب الوفاء بالشرطين ، لعدم صحّتهما ، ولا ينافي عدم صحّة الشرط مع استحباب الوفاء به ، كما نبّهنا عليه في صدر القاعدة.
ولكن أنت خبير بأنّ ظاهر الرواية هو وجوب الوفاء بالشرطين ، وقلنا في الأصول إنّ الجملة الخبريّة إذا وقعت موقع الطلب تكون آكد في الوجوب من صيغة « افعل » فالرواية بظاهرها أعرض عنها الأصحاب ، فلا تكون صالحة للاستدلال بها على المطلوب ، وهو عدم كون الشرط الفاسد مفسدا للعقد.
ومنها : رواية عبد الملك بن عتبة قال : سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن الرجل ابتاع منه طعاما ، أو ابتاع منه متاعا على أن ليس منه على وضيعة هل يستقيم هذا؟
وكيف يستقيم وجه ذلك؟ قال عليه السلام : « لا ينبغي ». وفي بعض النسخ : وما حدّ ذلك؟ قال عليه السلام : « لا ينبغي » (21).
وظاهر هذه الرواية أنّ المشتري لو شرط أن تكون الوضيعة عن الثمن الذي اشترى به لو باع يكون على البائع الأوّل ، بمعنى : أنّه لو خسر المشتري في بيعه هذا المتاع لغيره تكون الخسارة على البائع الذي اشتراه منه ، لا على نفسه ، وهذا شرط فاسد ، لأنّه خلاف الكتاب والسنّة ، ومع ذلك لم يحكم الإمام عليه السلام بفساد البيع الأوّل ، بل قال : « لا ينبغي » وفيه احتمالان :
أحدهما : أنّه لا ينبغي أن يشرط على البائع مثل هذا الشرط ، فيكون نفس الاشتراط مكروها. ومعلوم أنّ هذا فيما إذا كان أصل المعاملة صحيحة ، وإلاّ فلا معنى لكراهة هذا الشرط.
ثانيهما : أنّ مثل هذه المعاملة لا ينبغي وقوعها وصدورها منهما. وهذا أيضا لا يدلّ على فساد هذه المعاملة ، بل معنى كراهيّتها أنّها تقع ولكن مع كونها مكروهة وفيها حزازة ، كما في سائر المعاملات المكروهة كالحياكة وبيع الأكفان وغيرهما، فهذه الرواية أيضا تدلّ على القول المختار ، وهو عدم إفساد الشرط الفاسد للعقد الواقع هذا الشرط في ضمنه.
وأمّا احتمال أن يكون هذا الشرط في خارج العقد ـ فتكون الرواية أجنبيّة عن محلّ الكلام ، لأنّ محلّ كلامنا هو الشرط الفاسد الواقع في ضمن العقد ، لا الواقع في خارجه ـ فخلاف ظاهرها ، لأنّ الظاهر من قوله : « على أنّه ليس منه على وضيعة » أنّه ـ أي الظرف ـ متعلّق بابتاع ، فيكون المعنى أنّ الابتياع مبنيّ على هذا الشرط ، فلا وجه لاحتمال أن يكون هذا الشرط في خارج العقد.
هذا ، مضافا إلى أنّه لا وجه لكراهة مثل هذا الشرط في خارج العقد ، بل يكون وعدا ابتدائيّا يستحبّ الوفاء به.
وأمّا احتمال أن يكون « لا ينبغي » للإرشاد إلى عدم وقوع هذه المعاملة المشروطة بمثل هذا الشرط ، فبعيد إلى أقصى الغاية.
نعم يمكن أن يكون إرشادا إلى عدم صحّة هذا الشرط ، فيكون مفاده لغويّة هذا الاشتراط. ولكنّه أيضا خلاف الظاهر ، بل ظاهره هو أنّ المعاملة المشتملة على هذا الشرط مكروهة كسائر المعاملات المكروهة ، فلا قصور في دلالة هذه الرواية على المطلوب.
ومنها : رواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قضى في رجل تزوّج امرأة وأصدقته هي واشترطت عليه أنّ بيدها الجماع والطلاق قال عليه السلام : « خالفت السنّة وولّيت حقّا ليس بأهله ، فقضى أنّ عليه الصداق وبيده الجماع والطلاق ، وذلك السنّة » (22).
وهذه الرواية صريحة في فساد الشرط وبطلانه ، وصحة العقد.
والإشكال في سنده من جهة اشتراك محمّد بن قيس بين من هو ثقة ومن هو ضعيف ، لا وجه له بعد عمل الأصحاب بها ، وبعد أن ذكرها المشايخ الثلاثة في كتبهم.
هذا ، مضافا إلى ورود روايات كثيرة صحيحة ـ في كتاب النكاح في أبواب المهور ـ صريحة في صحّة عقد النكاح وبطلان الشروط الواقعة في ضمنه.
وذلك كما إذا شرط في ضمن عقد النكاح لزوجته إن تزوّج عليها ، أو تسرى ، أو هجرها فهي طالق ، أو شرط عليها الإتيان وقتا خاصّا ، أو شرط ترك القسم وأمثال ذلك.
وأمّا التفصيل بين عقد النكاح وسائر العقود بعدم الإفساد في الأوّل والإفساد في سائر العقود لأجل هذه الأخبار ، فكان من الممكن لو كان مدرك الإفساد وعدمه هو الأخبار ، فيقال : إنّ الأخبار الواردة في هذا الباب مختلفة من حيث المفاد ، فالواردة منها في باب النكاح مفادها فساد الشرط وصحّة العقد. وأمّا الواردة في غيره فمفادها فساد الشرط والعقد جميعا. وربما ينسب هذا التفصيل إلى صاحب المدارك (23) وقبله إلى العلاّمة (24) .
ولكن أنت خبير بأنّ عمدة مدرك القائلين بالإفساد ونظرهم إلى إناطة الرضا بمضمون العقد بوجود الشرط ، ففي مورد الشرط الفاسد الذي لا يجب العمل به ـ بل لا يجوز إن كان حراما ـ لا رضاء في البين ، وفي هذا المعنى لا فرق بين النكاح وسائر العقود.
فقد ظهر ممّا ذكرنا قيام الدليل على أنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد من الروايات.
الرابع : من أدلّة القائلين بعدم الإفساد وصحة العقد مع فساد الشرط هو أنّه لو كان صحّة العقد متوقّفة على صحّة الشرط يلزم منه الدور.
وفيه : أنّ صحّة العقد ليست متوقّفة على صحّة الشرط ، لأنّ العقد صحيح وإن لم يكن فيه شرط أصلا.
نعم العقد الذي وقع في ضمنه شرط صحّته موقوفة على أن لا يكون ذلك الشرط فاسدا ، وعدم كون الشرط المذكور في ضمن العقد فاسدا ليس متوقّفا على صحّة العقد ، كي يكون دورا ، بل موقوف على عدم علّته ـ أي عدم جعل الشرط الفاسد في ضمن ذلك العقد ـ فلا دور ، لأنّه من الممكن أن يكون الشرط الفاسد مفسدا بدون أن يكون دور في البين ، والأمر واضح جدّا ، فلا يحتاج إلى تطويل الكلام.
وإن شئت قلت : ليست صحّة الشرط من مقدّمات وجود العقد الصحيح ، إذ من الممكن وجود العقد الصحيح بدون أن يكون شرط في ضمنه ، لا الشرط الصحيح ولا الشرط الفاسد ، نعم الشرط الفاسد مانع عن صحّة العقد ، فيسري فساده إلى العقد ، فيكون وجود العقد الصحيح موقوفا على عدم وجود الشرط الفاسد في ضمنه ، توقّف وجود الشيء على عدم مانعه.
ولكن عدم وجود الشرط الفاسد ليس موقوفا على صحّة العقد كي يكون دورا ، بل موقوف على عدم علّته ، أي عدم اشتراط مثل ذلك الشرط.
وبعد ما عرفت أنّ الشرط الفاسد لا يوجب فساد العقد ، فهل يوجب الخيار أم لا؟
الظاهر هو الأوّل ، وذلك من جهة أنّ المناط الذي أوجب الخيار في تخلّف الشرط الصحيح أو تعذّره موجود ها هنا ، بناء على ما حقّقنا في وجه ثبوت الخيار عند تعذّر الشرط أو عدم العمل على طبقه وعدم الوفاء به ، لا بناء على ما استند إليه شيخنا الأعظم من الإجماع أو قاعدة الضرر في الشروط الصحيحة (25).
وذلك من جهة أنّ المناط في مجيء الخيار عند التخلّف في الشروط الصحيحة هو أنّ دليل اللزوم لا يشمل مورد تخلّف الشرط أو تعذّره ، أو عدم الوفاء به ، لأنّ مفاد {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الذي هو عمدة أدلّة لزوم العقود هو وجوب الوفاء بما التزم به والثبوت عند تعهّده ، فإذا لم يكن له التزام لا يبقى موضوع لوجوب الوفاء به ، فالعقد إن لم يكن شرط في ضمنه عبارة عن تعهّده والتزامه بما هو مضمون العقد ، فبمقتضى مفاد {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} يجب عليه الوفاء بالتزامه بمضمون ذلك العقد والثبوت عنده وإبرامه ، وليس له حلّه وفسخه.
وأمّا إن كان مشروطا بشرط ، سواء أكان ذلك الشرط صحيحا أم فاسدا ، فالتزامه بمضمون ذلك العقد ليس مطلقا ، بل منوط بالعمل على طبق ذلك الشرط ووجوده في وعائه ، فإن تخلّف أو تعذّر ليس له التزام بالوفاء بذلك العقد في ظرف عدم وجود ذلك الشرط ، فموضوع وجوب الوفاء ودليل اللزوم يذهب من البين.
وهذا هو المراد من عدم شمول دليل اللزوم لمورد تخلّف الشرط أو تعذّره.
فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مناط ثبوت الخيار في باب الشروط الصحيحة هو إناطة الالتزام بالوفاء بمضمون العقد بوجود ما اشترط ، فإذا تعذّر أو تخلّف المشروط عليه عن الوفاء به لا التزام من طرف المشروط له ، وعدم الوفاء قد يكون من جهة تعذّره عقلا وقد يكون من جهة فساده شرعا ، والممتنع شرعا كالممتنع عقلا.
وخلاصة الكلام : أنّ العقد المشروط بالشرط الفاسد إن لم يوجب ذلك الشرط اختلالا في أركان العقد يكون صحيحا ، غاية الأمر مع ثبوت الخيار.
هذا هو القول الأوّل ، أي القول بعدم الإفساد.
وأمّا القول الآخر ـ أي القول بالإفساد ـ فاستدلّوا له بوجوه :
الأوّل : أنّ فساد الشرط يوجب سقوطه عن الاعتبار ، ولا يجب الوفاء به ، بل لا يجوز إذا كان حراما ، المشهور أنّ له قسطا من الثمن ، فبعد سقوطه يكون عوض المثمن مجهولا ، ولا يعلم أنّه أيّ مقدار من الثمن بإزاء المثمن ، فإذا صار عوض المثمن مجهولا تكون المعاملة باطلة ، لأنّه من شرائط صحّة المعاملة معلوميّة العوضين ، وإلاّ تكون غرريّة باطلة.
وفيه أوّلا : منع وقوع شيء من الثمن بإزاء الشرط ، بل المبادلة والمعاوضة تقع بين الثمن ونفس المثمن في البيع مثلا. نعم الشرط أو الوصف يوجبان ازدياد ماليّة المثمن في البيع ـ مثلا ـ بدون أن يقسط عليهما وعلى المبيع مثلا ، وهذا أمر وجدانيّ ارتكازيّ للعرف والعقلاء في معاملاتهم في أسواقهم ، فيصفون سلعتهم بأوصاف مرغبة ، وربما يذكرون تلك الأوصاف بصورة الشرط لجلب المشتري ورغبته ، ولكن المبادلة تقع بين نفس المثمن وذلك العوض ، وليس الوصف والشرط مثل الجزء كي يقع شيء من الثمن في مقابلهما.
نعم إجزاء المبيع كلّ واحد منها يقع مقابل جزء من الثمن ، خصوصا إذا كان متساوي الأجزاء من حيث القيمة كالحنطة والشعير ، وهذا مناط المثليّة في باب تعيين المثلي والقيمي ، ولكن الشرط أو الوصف ليسا كذلك ، ولا يوجبان إلاّ ازدياد قيمة نفس العوض.
نعم بعض الشروط ربما يكون كذلك ، أي له قسط من الثمن عند العرف والعقلاء ، كما إذا كان الشرط عملا يبذل بإذائه المال، كخياطة ثوبه مثلا ، أو عمارة داره وأمثال ذلك ، ولكن عند التدقيق أيضا لم يقع شيء من الثمن في مقابله في مقام الإنشاء ، وإن كان في مقام اللبّ للمشروط له نظر إلى ذلك الشرط في مقام تعيين الثمن قلّة وكثرة.
ولكن في مقام إنشاء المبادلة والمعاوضة لم تنشأ المبادلة إلاّ بين نفس العوضين ، والشروط خارجة عن دائرة المبادلة ، ففي عالم الإنشاء عوض تمام الثمن ـ مثلا ـ هو تمام المبيع ، وإن كان في مقام اللبّ يبذل مقدارا من الثمن بإزاء الشرط ، ولكن لا اعتبار في باب المعاوضات بأنظار المتعاملين ، بل المدار على إنشائهما ، وهو المتّبع.
نعم حيث أنّ التزامه بهذه المبادلة ـ أي بذله تمام الثمن بإزاء المبيع ـ كان منوطا بوجود ذلك الشرط ، فلو لم يوجد بأيّ سبب كان لا التزام له ، فلا لزوم ويكون له الخيار ، ولذلك قلنا في باب تخلّف الشروط الصحيحة ليس له أخذ الأرش ، بل له الخيار فقط.
وثانيا : على فرض تسليم وقوع مقدار من الثمن مقابل الشرط وبإزائه مطلقا ، أو في خصوص ما إذا كان الشرط ممّا يبذل بإزائه المال مستقلا بتعذّره أو عدم وفاء المشروط عليه بما التزم ، لا يصير العوض مجهولا ، إذ العرف وأهل الخبرة يعيّنون مقدار المقابل للشرط وما هو بإزاء أصل المبيع مثلا ، فلا يبقى جهالة في البين.
وهذا الإشكال يأتي في الشروط الصحيحة إذا تعذّرت أو لم يف المشروط بها ، وأيضا يأتي في باب تبعّض الصفقة ، فيلزم القول ببطلان المعاملة في الجميع ، ونفس المستشكل لا يقول به هناك.
والجواب في الجميع واحد ، وهو أوّلا : عدم وقوع شيء من الثمن بإزاء الشرط. وثانيا على تقدير وقوعه ـ كما أنّه يقع قطعا مقدار منه مقابل الجزء الذي لا يملك أو الذي لا يملكه ، كما في باب تبعّض الصفقة ـ فبتعيين أهل الخبرة ترتفع الجهالة ، ومثل هذه الجهالة لا تكون غررا ، ولا تضرّ بصحّة المعاملة ، ولذلك لم يقولوا ببطلان المعاملة في باب تبعّض الصفقة مع وقوع مقدار من الثمن بإزاء الجزء الفائت قطعا.
الثاني : أنّ رضاء المشروط له بهذا العقد والمعاملة منوط بوجود هذا الشرط ووفاء المشروط عليه به ، وأمّا إذا لم يكن الوفاء لازما وواجبا ـ بل لم يكن جائزا فيما إذا كان الفساد لحرمته ـ فلا رضاء له ، ومن المعلوم أنّ المعاوضة والتجارة بدون الرضاء لا أثر لها ، بل الرضاء بمضمون العقد لازم في تأثيره ، ولو كان في غير باب المعاوضات كالنكاح.
وأجيب عنه حلاّ ونقضا :
أمّا النقض : فبالشروط الفاسدة في عقد النكاح ، فإنّه قد استفاضت الأخبار والروايات الصحيحة على فساد الشرط وصحّة العقد ، وقد ذكرنا جملة من تلك الأخبار وتقدّمت ، ولا فرق فيما ذكرنا بين الشروط الفاسدة الراجعة إلى المهر ، أو إلى نفس مضمون العقد وحصول علاقة الزوجيّة.
وذلك من جهة أنّه كما لا تحصل المبادلة والمعاوضة بينهما بدون رضاء الطرفين ، كذلك لا تحصل علاقة الزوجيّة بينهما بدون رضائهما.
نعم هناك بعض الشروط في باب النكاح يوجب فساد العقد وبطلانه ، كما إذا شرطت الزوجة عدم جميع الاستمتاعات ، فكون هذا الشرط وأمثاله موجبا لبطلان النكاح ليس لخصوصيّة في النكاح ، بل لأجل الاختلال في أركان العقد ، أو التناقض بين مفاد الشرط ومفاد العقد ولو بالالتزام ، كما في المثال المذكور.
وهذا يجري في جميع العقود ، فما ذكره شيخنا الأستاذ في هذا المقام من أنّ المراد بالشروط الفاسدة في مورد النقض هي الشروط الراجعة إلى المهر لا إلى أصل عقد النكاح ، لا يخلو عن إشكال ، لما ذكرنا من ورود الأخبار الكثيرة في فساد بعض الشروط الراجعة إلى أصل النكاح ، مع صحّة أصل ذلك العقد.
وأيضا النقض بصورة تعذّر الشرط ، أو عدم وفاء المشروط عليه وعدم إمكان إجباره ، وكذلك بصورة تخلّف الوصف ، فإنّهم لا يقولون بالبطلان وفساد العقد في تلك الموارد.
نعم يقولون بالخيار للمشروط له ، وفي تخلّف الوصف أيضا ، كما أنّنا نقول ها هنا أيضا ، وكذلك النقض بصورة تبعّض الصفقة ، فإنّهم لا يقولون بالبطلان ، مع أنّ هذا الإشكال ـ أي إناطة الرضا بوجود الشرط ـ هناك أقوى ، من جهة أنّه في باب الشروط غالبا الغرض الأصلي يتعلّق بمبادلة نفس العوضين ، أو حصول علاقة الزوجيّة بين الطرفين ، والشروط الواقعة في ضمن تلك العقود مقاصد فرعيّة ، بخلاف باب تبعّض الصفقة ، فإنّ المقصود الأصلي الأوّلي هو وقوع المبادلة بين تمام كلّ واحد من العوضين مع تمام العوض الآخر ، فأمر إناطة الرضاء بمجموع كلّ واحد من العوضين أهمّ من إناطة الرضا بمضمون العقد بوجود الشرط ، فكلّ ما يجيبون عن هذا الإشكال في تلك الموارد ، فليكن الجواب في هذا المقام.
وأمّا الحلّ : فقد ذكرنا في مسألة تعذّر الشرط في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » في الجزء الثالث من هذا الكتاب ، ولا بأس بالإشارة إليه ها هنا أيضا إجمالا.
فنقول : إنّ المبادلة والمعاوضة وقعت بين العوضين مع التراضي ، أي بدون إكراه ولا إجبار ، والمراد في باب المعاوضة والتجارة من التراضي هو هذا المعنى ، لا طيب النفس ، وإلاّ لو كان المراد من التراضي هو هذا المعنى الأخير ، فلا بدّ وأن يقال ببطلان بيع المضطرّ إلى البيع لغرض عقلائيّ مع كمال كراهته لهذا البيع. مثلا لو اضطرّ إلى بيع داره التي يسكنها لأجل أداء دينه ، أو لأجل حاجة أخرى ، فهو غير راض بهذا البيع ، بل ربما يبكي ويبيع لأجل تلك الضرورة ، حيث لا حيلة له في رفع حاجته إلاّ بهذا الأمر ، مع أنّ صحّة بيع المضطرّ لرفع حاجته من المسلّمات.
فمن هذا يستكشف أنّ التراضي المعتبر في أبواب المعاملات والتجارات هو الاختيار المقابل للإكراه والإجبار ، بمعنى أنّه ليس هناك من يكرهه أو يجبره على المعاملة. وكذلك في باب النكاح المراد من رضاء الطرفين ليس طيب نفسيهما ، بل ربما يكون العقد الواقع بينهما لدواع أخر ، من إرضاء أبويهما ، أو شيء آخر مع كمال كراهتهما ، أو كراهة أحدهما.
فإذا كان الأمر كذلك ، ففي مورد تخلّف الشرط أو الوصف تارة يكون الشرط المتخلّف أو وصفه من قبيل العنوان للموصوف والمشروط به ، بمعنى أنّ ذلك الوصف أو الشرط يكون من قبيل الصورة النوعيّة للموصوف والمشروط به ولو عند العرف، وإن كان بحسب الدقّة العقليّة ليسا كذلك ، بمعنى أنّ ذلك الوصف أو الشرط ليسا إلاّ من قبيل الأعراض الضمنيّة للحقيقة النوعيّة المشتركة بين واجد الوصف أو الشرط ، وبين فاقدهما.
وذلك كالجارية الموصوفة أو المشروطة بكونها روميّة ، وهي حبشيّة ، فالجارية الروميّة والحبشيّة وإن كانتا بحسب الحقيقة النوعيّة واحدة ، ولكن عند العرف في مقام المعاملة حقيقتان مختلفتان.
وأخرى : ليسا كذلك ، بل يكون من العوارض والطواري التي لا توجب اختلاف حقيقة الواجد والفاقد حتّى عند العرف.
فإن كان من قبيل الأوّل ، فالمعاملة باطلة قطعا ، لأنّه لم يقع التراضي المعاملي ـ أي إنشاء النقل والانتقال ـ على هذا الفاقد للوصف أو الشرط ، وذلك لما قلنا من أنّ المبيع الموجود في هذه الصورة ـ مثلا ـ غير ما وقع عليه النقل والانتقال حقيقة ، فما أنشأ نقله ليس بموجود ، بل الموجود حقيقة أخرى ، ولو عند العرف الذي نظرهم هو المتّبع في أبواب المعاملات ، وما هو الموجود لم يقع عليه نقل وإنشاء.
وأمّا إن كان من قبيل الثاني ، فإنشاء النقل والانتقال وقع على هذا الموجود بلا إكراه ولا إجبار ، فهذه المعاملة وقعت عن تراض معاملي ، ولا وجه لبطلانها.
نعم التزامه بالوفاء بهذه المعاملة منوط بوجود ذلك الوصف أو الشرط ، فعند تخلّفهما لا التزام له ، فلا يشملها دليل اللزوم.
وأمّا الجواب عن هذا الإشكال بتعدّد المطلوب ، بأن يقال : إنّ كون طرف المبادلة هو الواجد للوصف أو الواجد للشرط هو مطلوب أوّلي ، وكون الفاقد لهما طرفا للمعاملة مطلوب آخر ، غاية الأمر أنّه مطلوب ثانوي ، بمعنى أنّه على تقدير فقد الوصف أو الشرط أيضا مطلوب ، لكن في طول الأوّل ، لا في عرضه.
فبناء على هذا ، العقد ينحلّ إلى عقدين ، وكلاهما صادران عن تراض بينهما ، حتّى ولو كان المراد من التراضي هو طيب النفس ، أي الحالة النفسانيّة التي يعبّر عنها بالرضاء الباطني ، فكأنّه في الدرجة الأولى يكون المشروط له رضاءه بهذه المعاملة مع وجود الشرط وعدم تخلّفه ، وكذلك الأمر في الوصف. وفي الدرجة الثانية يكون أيضا راضيا حتّى مع فقد الوصف أو الشرط.
وقد أفاد هذا المجيب أنّ المشخّص لذلك ـ أي أنّه من قبيل وحدة المطلوب كي تكون المعاملة فاسدة مع فقدهما ، أو من قبيل تعدّد المطلوب كي تكون صحيحة ـ هو العرف ، ثمَّ قال : هذا باب مطرد في العبادات والمعاملات والأوقاف والنذور ، ثمَّ استظهر اتّفاقهم على أنّ الشروط الواقعة في ضمن العقود من قبيل تعدّد المطلوب ، لأنّهم اتّفقوا على أنّ الشرط الخارج عن غرض العقلاء فاسد ، ولا يوجب فساده فساد العقد.
وهذا الجواب أفاده بعض الأجلّة من تلاميذ شيخنا الأعظم .
وفي هذا الجواب نظر من وجوه عديدة :
الأوّل : أنّ العرف لا طريق لهم إلى تشخيص وحدة المطلوب أو تعدّده ، لاختلاف الناس بحسب الأغراض والموارد ، فربّ شخص يريد مبادلة ماله بمال آخر مشروطا بأمر ، وفي صورة عدم وجود ذلك الشرط لا يريد المبادلة أصلا ، وشخص آخر يريد مع وجود ذلك الشرط وعدمه ، غاية الأمر مع وجود الشرط مطلوب أوّلي ، وفي صورة عدمه مطلوب ثانويّ.
وكذلك الاختلاف بحسب الموارد ، حتّى بالنسبة إلى شخص واحد ، فذلك الشخص الواحد في مورد تكون مبادلته بالنسبة إلى ذلك الشرط من قبيل تعدّد المطلوب ، وفي مورد آخر تكون بنحو وحدة المطلوب ، فلا يمكن تعيين ضابط كلّي لتشخيص أنّ المعاملة المشروطة بشرط هل تكون بنحو وحدة المطلوب بالنسبة إلى ذلك الشرط ، كي يكون تخلّف ذلك الشرط موجبا لفسادها ، أو بنحو تعدّد المطلوب كي لا يكون موجبا لفسادها.
الثاني : أنّ الأغراض والدواعي في أبواب المعاملات والعقود ما لم تدخل في مرحلة الإنشاء ، لا يترتّب عليها أثر من الصحّة والفساد ، بل المدار فيهما على الإنشاء.
نعم الإنشاء بلا قصد أيضا لا أثر له ، بل يكون صرف لقلقة لسان ، فصرف أنّ مطلوبه واحد أو متعدّد لا أثر له ما لم يقع على طبقه الإنشاء.
فلا بدّ وأن ينظر ويلاحظ العقد المنشأ ، فإن كان المنشأ مقيّدا بالوصف أو الشرط ، فالنقل والانتقال تعلّق بالمقيّد ، فمطلوبيّة نقل الذات بلا قيد لا أثر له ، لأنّه لم يقع تحت الإنشاء.
فالعمدة في موارد تخلّف الوصف والشرط علاج هذا الإشكال ، وهو لا يرتفع بتعدّد المطلوب ، لما قلنا من أنّه لا أثر للمطلوبيّة ما لم يقع ذلك المطلوب تحت الإنشاء ، والتراضي أيضا لا بدّ وأن يكون بما أنشأ. وإلاّ فصرف الرضاء بالمبادلة بدون الإنشاء ليس تجارة.
فالعقد المتعلّق بعوض موصوف كما أنّه إذا قال : بعتك هذا العبد الكاتب ، أو المشروط كما إذا قال في نفس المثال : بشرط أن يكون كاتبا ، تعلّق بالمقيّد ، وتحقّق الرضاء المعاملي أيضا به ، فلو كان هناك له رضاء آخر في الرتبة الثانية بفاقد القيد أيضا، لا يصير بصرف هذا الرضاء الباطني ـ الذي لم يقع تحت الإنشاء ـ تجارة ومعاملة من بيع أو غيره ، ولا يمكن أن يقال بالنسبة إلى فاقد القيد : أنّه بيع صحيح بواسطة تعدّد المطلوب.
ولا يمكن الجواب عن هذا الإشكال إلاّ بما قلنا ، من أنّ إنشاء المبادلة والمعاوضة تعلّق بنفس هذه العين الخارجيّة ، والتزام الطرف بالشرط أمر آخر غير مربوط بنقل هذه العين ، بل هو التزام آخر في ضمن التزامه بهذا النقل ، فالتزامه بنقل هذه العين منوط بالتزام الطرف بالشرط أو الوصف ، لا أصل النقل.
نعم لو كان الشرط أو الوصف عنوانا ، ومن قبيل الصورة النوعيّة بالنسبة إلى ما وقع عليه إنشاء النقل ، فتخلّفه يوجب فساد النقل وبطلان المعاملة ، لأنّ ما قصد لم يقع عليه الإنشاء ، وما وقع عليه الإنشاء ـ أي العين الخارجيّة ـ لم يقصد. ولا يمكن أن يقال : إنّ ما هو من قبيل الصورة النوعيّة للشيء يكون من الدواعي والأغراض الخارجة عن حقيقة الشيء.
الثالث : ممّا استدلّوا على فساد العقد بفساد الشرط طائفة من الأخبار.
منها : رواية عبد الملك بن عتبة ، قال : سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن الرجل ابتاع منه طعاما ، أو ابتاع منه متاعا على أن ليس منه على وضيعة هل يستقيم هذا؟ وكيف يستقيم وجه ذلك؟ قال عليه السلام : « لا ينبغي » فقالوا إنّ المراد من قوله عليه السلام : « لا ينبغي » هو أنّ مثل هذا البيع المشتمل على هذا الشرط الفاسد ـ أي كون الوضيعة والخسارة في البيع الثاني على البائع الأوّل ـ ممّا لا ينبغي صدوره من المؤمنين ، فلا بدّ وأن يكون البيع بواسطة ذلك الشرط الفاسد فاسدا كي يقول عليه السلام : « لا ينبغي » وإلاّ لو كان بيعا صحيحا لا وجه لنهيه.
وفيه : أنّه من الممكن أن يكون النهي عن هذه المعاملة مع صحّتها لحزازة فيها كسائر المعاملات المكروهة ، ولا إشكال في كون معاملة صحيحة يترتّب عليها الأثر ، ومع ذلك تكون مكروهة. ونظائرها في المعاملات كثيرة ، فهذه الرواية لا تدلّ على فساد الشرط ، فضلا عن فساد العقد.
وقد تقدّم أنّ القائلين بعدم كون الشرط الفاسد مفسدا للعقد أيضا تمسّكوا بهذه الرواية. والحقّ أنّها لا تدلّ على كلّ واحد من الطرفين ، كما بيّنّاه وشرحناه.
ومنها : ما رواه الحسين ابن منذر عن أبي عبد الله عليه السلام في بيع العينة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : يجيئني الرجل فيطلب العينة ، فاشترى له المتاع مرابحة ، ثمَّ أبيعه إيّاه ، ثمَّ أشتريه منه مكاني؟ قال : « إذا كان بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع ، وكنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر ، فلا بأس » فقلت : إنّ أهل المسجد يزعمون أنّ هذا فاسد ، ويقولون إن جاء به بعد أشهر صلح؟ قال : « إنّما هذا تقديم وتأخير فلا بأس » .
وتقريب الاستدلال بهذه الرواية ـ على أنّ الشرط الفاسد مفسد للعقد ـ هو أنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة أنّه إن لم يكن بالخيار وكان ملزما بأن يبيع على البائع ، ففي هذه المعاملة بأس ، أي فاسد ، ومنشأ فسادها هو اشتراط البائع على المشتري أن يبيعه بعد اشترائه منه ، وهذا الشرط فاسد ، لما تقدّم في شرائط صحّة الشروط في قاعدة : « المؤمنون عند شروطهم » (26) ، فصار سببا لفساد العقد.
وبعبارة أخرى : البيّاع المذكورون في هذه الرواية ثلاثة : البائع الأوّل هو الذي يبيع المتاع مرابحة من هذا السائل عن الإمام ، ولكن فرض هذا البائع أجنبيّ عن مسألتنا ، وإنّما فرض لأجل أنّ الجنس لم يكن عنده ، ففي الحقيقة البائع اثنان ، وظاهر الرواية أنّه حسين بن المنذر. والبائع الثاني هو نفس هذا السائل الذي اشتراه مرابحة عن البائع الأوّل. والبائع الثالث هو ذلك الرجل الذي يطلب العينة.
ومفاد الرواية ما هو ظاهرها هو أنّ البائع الثالث كان ملزما بالبيع من البائع الثاني ، بواسطة شرط البائع الثاني عليه أن يبيعه منه ، فهذا البيع الثاني باطل وفاسد لفساد شرطه. فبناء على هذا تدلّ الرواية على فساد العقد بواسطة فساد الشرط ، وبيع العينة عبارة :
عن بيع مال نسيئة بقيمة أزيد ممّا يباع نقدا ، فيكون الزائد مقابل ذلك الأجل الذي عينه في بيعه نسيئة ، ثمَّ يشتريه منه نقدا بقيمة أقلّ ممّا باعه ، وفي الواقع هذا القسم من البيع للفرار عن الرباء مع تحصيل ما هو نتيجتها من أخذ الزائد على ما يعطي بعد مضيّ مدّة.
ولكن يمكن الجواب عن دلالة هذه الرواية ـ على فساد العقد بواسطة فساد الشرط ـ بالبيان الذي تقدّم ، بأن يقال : بأنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة وإن كان بطلان البيع الثاني إن كان البائع ألزم المشتري بالشرط أن يبيعه ثانيا منه ، فيكون سبب بطلانه وفساده هو فساد ذلك الشرط.
ولكن يمكن أن يكون جهة بطلانه أنّ هذا الشرط مستلزم للمحال ، أي : الدور ، كما ذكره العلاّمة (27) فليس جهة الفساد فساد الشرط ، كما توهّمه المستدلّ ، بل الجهة أنّ البيع الثاني من البيوع الثلاثة المذكورة في الرواية باطل من جهة استلزامه للدور.
ولكن هذا الجواب غير تامّ ، وقد ذكرنا في شرائط صحّة الشروط في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » في الشرط السابع أنّ هذا الشرط لا يستلزم منه محال ، فلا يمكن حمل البطلان في الرواية على هذا المعنى ، وإن شئت فراجع هناك.
وأجاب شيخنا الأستاذ عن هذا الدليل ـ بعد أن قال : في هذا الاستدلال تكلّف واضح ـ بأنّ المراد من القضيّة الشرطيّة هو أن يكون البيع الأوّل ـ أي : البيع الثاني من البيوع الثلاثة المذكورة في الرواية ـ جدّيا لا صوريّا ومقدّمة للبيع الثاني ، أي البيع الثالث من البيوع الثلاثة المذكورة في الرواية.
ولا شكّ في أنّ البيع الأوّل إن كان صوريّا غير جدّي ، فلم يصير الثاني ـ أي الذي طلب العينة ـ مالكا ، فبيعه من البائع الأوّل باطل وفيه بأس ، لأنّه « لا بيع إلاّ في ملك » (28) فلا يكون لها ربط بمحلّ كلامنا ، أي كون الشرط الفاسد مفسدا.
ولكن أنت خبير بأنّ ما ذكره أكثر تكلّفا من الاستدلال ، لأنّ ظاهر الرواية تعليق عدم البأس على اختيار البائع والمشتري في البيع والشراء ، وعدم كونهما ملزمين بواسطة التزامهما ، أو إلزام الغير إيّاهما على البيع والشراء شرعا ، ولا شكّ في أنّ التزامهما أو إلزامهما شرعا بالأمرين لا بدّ وأن يكون بواسطة الشرط ، فعدم البأس معلّق على عدم الشرط.
وأمّا في صورة وجود ذلك الشرط الفاسد ففيه بأس ، ومنشأ البأس ليس إلاّ فساد الشرط.
وأجيب : أيضا عن ذلك الدليل : بأنّ كون البيع فيه بأسا لا يدلّ على فساده ، إذ البأس يصدق مع الحرمة التكليفيّة وإن لم يكن فساد وضعا في البين.
وفيه : أنّ الحرمة وإن لم تكن ملازمة مع الفساد ، إلاّ أنّه لا وجه للحرمة التكليفيّة بدون الفساد ، وذلك من جهة أنّ الحرمة التكليفيّة لا بدّ وأن يتعلّق بفعل اختياري يكون فيه مفسدة ملزمة ، وأيّ مفسدة يمكن أن يكون في البيع الثاني كي يكون حراما.
ومنها : رواية عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال : سألته عن رجل باع ثوبا بعشرة دراهم ثمَّ اشتراه بخمسة دراهم ، أيحلّ؟ قال : « إذا لم يشترط ورضيا به فلا بأس » (29)
ورواه عليّ بن جعفر في كتابه ، إلاّ أنّه قال : بعشرة دراهم إلى أجل ثمَّ اشتراه بخمسة دراهم بنقد (30).
وتقريب الاستدلال بهذه الرواية مثل الرواية السابقة ، بل هي أوضح دلالة منها ، لأنّها صريحة مفهوما في أنّ البائع الأوّل إذا اشترط على المشتري أن يبيعه ما اشتراه ، ففي هذه المعاملة بأس ، وحيث علّق عليه السلام عدم البأس على عدم الاشتراط فيكون الاشتراط سببا للبأس ، ومعنى هذا هو فساد العقد لفساد الشرط.
وقد أجاب شيخنا الأعظم عن هاتين الروايتين بأنّ غاية مدلوليهما فساد البيع المشروط فيه بيعه عليه ثانيا ، وهو ممّا لا خلاف فيه ، حتّى ممّن قال بعدم فساد العقد بفساد الشرط كالشيخ في المبسوط ، فلا يتعدّى منه إلى غيره (31).
وفيه : أنّ ما ذكره لا بأس به إن لم يستظهر من الروايتين أنّ علّة فساد ذلك العقد هو فساد الشرط ، وإلاّ فيكون حكمه عليه السلام عامّا يشمل كلّ شرط فاسد ، ولا يقف على مورده.
ولا شكّ في أنّ ظاهر التعليق في القضيّة الشرطيّة في الروايتين هو علّيّة فساد الشرط لفساد العقد ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ظاهرها علّيّة هذا الشرط الفاسد لفساد العقد ، لا كلّ شرط فاسد ، فافهم.
وأمّا الذي أفاده أوّلا من أنّ فساد البيع الثاني لعلّه من جهة عدم الرضا وعدم طيب النفس بواسطة التزامه في خارج العقد ، فهذا كلام عجيب ، من جهة أنّ في جميع الشروط يسلب اختيار المشروط عليه شرعا بالنسبة إلى ما اشترط عليه ، سواء أكان الاشتراط في ضمن العقد ، أو في خارجه.
ولازم هذا الكلام بطلان أيّ معاملة أو معاوضة اشترط عليه ، بل بطلان أيّ معاملة نذر أن يوجدها ، لأنّه ملزم في جميع ذلك بإيجادها شرعا.
والسرّ في عدم بطلان المذكورات أنّ الإلزام الآتي من قبل التزامه باختياره من قبل شرط أو نذر لا ينافي الرضا المعاملي ، ولا فرق في عدم تنافي الإلزام الآتي ـ من قبل التزامه مع الرضا المعاملي ـ بين أن يكون هذا الإلزام إلزاما واقعيّا ومن قبل الشارع ، أو كان إلزاما تخيليّا وهميّا.
فلو باع أو أوقع إحدى المعاملات الأخر بتوهّم أنّه نذر أو شرط ، وفي الواقع لم ينذر ولم يكن شرط في البين ، فهذه المعاملة صحيحة وإن لم يكن له الرضا الباطني وطيب النفس ، بل إنّما أوجدها باعتقاد أنّه واجب عليه من باب النذر أو الشرط.
فالأحسن أن يقال : إنّ هاتين الروايتين وإن كان لهما ظهور ما في علّيّة فساد مطلق الشرط للعقد الذي وقع هذا الشرط في ضمنه ، ولكن لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور وحمله على علّيّة خصوص هذا الشرط ـ أي شرط أن يبيع المشتري ثانيا ـ على البائع لتلك الأدلّة القطعيّة التي تقدّمت ، وكانت تدلّ على أنّ الشرط الفاسد ليس بمفسد.
خصوصا قضيّة بريرة التي أعتقها عائشة ، وكان بائعوها شرطوا عليها أن يكون ولائها لهم ، فحكم رسول الله صلى الله عليه واله بصحّة البيع وبطلان الشرط.
ولا يبعد ادّعاء القطع بصدور هذا الحديث الشريف عنه صلى الله عليه واله ، لما رواه الفريقان من غير نكير لأحد من الفريقين .
ودلالته أيضا جليّة يشبه أن يكون نصّا ، مع ما في سند الروايتين من عدم الوثوق مع عدم جابر في البين ، والله الهادي إلى الصواب.
ها هنا أمور يجب أن يذكر :
[ الأمر ] الأوّل : لو أسقط المشروط له الشرط الفاسد ، فهل على القول بأنّه مفسد يصحّ العقد ، لأنّه بعد سقوطه بإسقاط المشروط له ليس شيء في البين كي يكون مفسدا ، أم لا يصح؟ لأنّ الشيء بعد ما وجد لا ينقلب عمّا هو عليه ، والمفروض أنّه وجد باطلا؟
أمّا أنّه قابل للإسقاط فقد تقدّم الكلام فيه في الجزء الثالث من هذا الكتاب في شرح قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » وقد بيّنّا هناك أنّ ظاهر أدلّة وجوب الوفاء بالشروط ـ والثبوت والوقوف عندها ـ هو أنّ الشرط يحدث حقّا للمشروط له على المشروط عليه ، ومن هذه الجهة قابل للإسقاط ، وذلك من جهة القابليّة للإسقاط خاصّة شاملة للحقّ ، ولذلك عرفوا الحقّ بهذا الأمر.
ولكن هذا الكلام في الشروط الصحيحة ، ومحلّ بحثنا ليس فيها ، بل كلامنا فعلا في الشروط الفاسدة ، وتلك الشروط لا توجب ثبوت حقّ للمشروط له على المشروط عليه ، فالإسقاط لا معنى له ، إذ ليس شيء في البين كي يسقطه.
فالمراد بالإسقاط ها هنا ليس بمعناه المعروف ، بل المراد به رضا المشروط له بالعقد والمعاملة بدون ذلك الشرط الفاسد ، وإذا كان الأمر كذلك ، فربما يقال : لو كان جهة بطلان العقد بالشرط الفاسد هو عدم الرضا بالعقد المجرّد ـ لأنّ الشرط الفاسد لا يجب الوفاء به ، بل لا يجوز إذا كان محرّما ، فلو كان العقد مع ذلك صحيحا يجب الوفاء بالعقد المجرّد عن ذلك الشرط ، مع أنّ رضائه كان بالعقد المقيّد بذلك الشرط ، فبعد أن أسقط الشرط ـ يكون ذلك الإسقاط رضا بالعقد ، فيرتفع المانع من البين، فيكون العقد صحيحا.
ولكن أنت خبير بأنّ العقد تعلّق بالمقيّد ، والرضاء المتجدّد تعلّق بالعقد المجرّد ، فما تعلّق به العقد ـ أي المقيّد ـ لم يتعلّق به الرضا ، وما تعلّق به الرضا المتجدّد ـ أي المجرّد ـ لم يتعلّق به العقد ، والمعتبر هو أن يكون ما تعلّق به العقد يكون متعلّقا للرضا كي يصدق عليه أنّه تجارة عن تراض.
وأمّا القول بأنّ العقد تعلّق بالذات وبالقيد أيضا ـ فهاهنا تعلّقان : تعلّق بالذات ، وتعلّق آخر بالقيد ، فلو قال : اشتريت منك هذا العنب بشرط أن تعصره لي خمرا ، والتزم الطرف بذلك ، فكان ها هنا تعهّدان من البائع : أحدهما نقل العنب إلى ذلك المشتري ، ثانيهما أن يعصره خمرا ، والمشتري قبل كذلك ورضى به ، فلما منع الشارع عن العمل بأحد التعهّدين ـ والممتنع الشرعي كالعقلي ـ بقي تعهّد نقل العنب فقط ، ولكن المشتري لم يرض بهذا التعهّد وحده ، أي بانتقال العنب إليه وحده من دون أن يعصره البائع خمرا ، فيبقى العقد المتعلّق بنقل العنب وحده ـ أي : تعهّده بذلك ـ موقوفا على رضا المشتري بذلك. والظاهر أنّ مراد العلاّمة من الإيقاف هو هذا المعنى ـ فهو رجوع من القول بالإفساد إلى القول بعدمه ، وقد تقدّم تفصيل ذلك، وهو المختار.
هذا كلّه لو كان مدرك القائلين بالإفساد هو عدم الرضا بالعقد المجرّد عن الشرط ، وأمّا لو كان مدركهم جهالة عوض المبيع ، لأنّ للشرط قسط من الثمن ، وقد تقدّم تفصيل ذلك ، أو كان مدركهم الروايات ، فالرضا المتجدّد وإن كان يرتفع به جهالة الثمن ، لأنّه يرضى بكون تمام الثمن في مقابل نفس المبيع ـ مثلا ـ بدون ذلك الشرط ، ولكن صرف هذا لا يصدق عليه التجارة ، ولا بدّ من وقوع العقد عليه ، وقد عرفت عدم وقوعه عليه.
وأمّا بالنسبة إلى مفاد الروايات على تقدير دلالتها على الإفساد وصحّة سندها ، فمفادها أنّ ذلك العقد الذي وقع من حيث اشتماله على الشرط الفاسد باطل ، فكأنّه لم يكن ولم يوجد. وقلنا :
إنّ صرف رضائه بالانتقال المجرّد عن الشرط لا يجعله معاملة وتجارة عن تراض بدون عقد جديد ، لأنّ العقد الأوّل بناء على هذا انعدم في عالم التشريع ، والشارع في عالم اعتباره لا يرى له وجودا.
والمفروض أنّه ليس عقد جديد في البين ، فلا وجه للقول بصحّة تلك المعاملة ، فيكون العنب ـ بناء على القول بالإفساد في المثال المذكور ـ في يد المشتري ـ لو قبضه بعنوان أنّه ملكه بذلك العقد ، حتّى مع رضا الطرفين ـ من المقبوض بالعقد الفاسد الذي يجري مجرى الغصب عند المحصّلين بقول ابن إدريس (32).
الأمر الثاني : لو ذكر الشرط الفاسد قبل العقد ولم يذكره في متنه ، فهل يكون مفسدا ـ بناء على القول بالإفساد ـ أم لا؟
فيه وجهان ، بل قولان : الإفساد مطلقا ، وعدمه أيضا كذلك.
وحكى عن الشهيد الثاني في المسالك (33) ـ التفصيل بين ما لو علما أنّ الشرط المتقدّم على العقد لا يؤثّر فلا يفسد ، وبين ما لو لم يعلما ذلك فيكون موجبا للفساد.
وذلك من جهة أنّه مع العلم بعدم تأثير الشرط المتقدّم على العقد لم يقدّما على ثبوت ذلك الشرط والوفاء به ، بخلاف ما إذا كان جاهلين ، فبنائهما على العمل بذلك الشرط ولزوم الوفاء به ، فهما أقدما على هذا الشرط الفاسد ، فيكون مفسدا في هذه الصورة.
إذا عرفت هذا فنقول : أمّا القول بالإفساد مطلقا ، فمبنيّ على أنّ الشرط الخارج عن العقد مطلقا ، سواء أكان صحيحا أم فاسدا ، لا أثر له ، لأنّ وجوده بالنسبة إلى العقد كالعدم ، إذ الالتزام بالوفاء بمضمون العقد غير مربوط بشيء ، وكذلك تعهّده بالنقل والانتقال غير منوط بشيء ، فيجب عليه الوفاء بتعهّده وعقده ، ويكون عقده مشمولا لأوفوا بالعقود.
وأمّا إن قلنا بأنّ الشرط المتقدّم يؤثّر أثره ، خصوصا إذا وقع العقد مبنيّا عليه ، فيكون العقد فاسدا وباطلا ، لأنّه بناء على هذا يكون الشرط الخارج عن العقد مثل الداخل فيه في الآثار والأحكام ، فبناء على القول بالإفساد لا محالة يكون مفسدا ، لما قلنا من أنّ الشرط الخارج على هذا المبنى مثل الداخل ، ويجري فيه ما يجري في الداخل.
وأمّا إنّ أيّ واحد من المبنيين صحيح ، فالحقّ أنّ الشرط في خارج العقد لا أثر له كما عليه المشهور. وقد حقّقنا هذا الأمر في بعض شرائط صحّة الشروط الصحيحة في قاعدة : « المؤمنون عند شروطهم » في الجزء الثالث من هذا الكتاب وهو الشرط الثامن ، وهو عبارة عن التزام المشروط عليه بذلك الشرط في متن العقد.
وخلاصة ما ذكرنا هناك في وجه هذا الشرط هو أنّه بعد الفراغ عن أنّ الشروط الابتدائيّة ليس واجبة الوفاء ، فالشروط التي لم تذكر في متن العقد إن لم يقع العقد مبنيّا عليها ، فلا وجه لتوهّم وجوب ترتيب الأثر عليها ، لأنّها تكون من قبيل الشروط الابتدائيّة المحضة.
وأمّا إن وقع العقد مبنيّا عليها بدون أن تذكر في متن العقد ـ التي اصطلحوا على تسميتها بشروط التباني ـ ففي وجوب الوفاء بها ـ كالشروط المذكورة في ضمن العقد ، أو عدمه كالتي لم تذكر ولم يقع العقد مبنيّا عليها ـ فيه خلاف.
والقائلون بوجوب الوفاء بتلك الشروط ذكروا وجوها ذكرناها هناك مع ردّها ، وإن شئت فراجع.
والنتيجة أنّ شروط التباني لا يجب الوفاء بها ، فضلا عمّا ذكر في خارج العقد ولم يقع العقد مبنيّا عليها.
وممّا ذكرنا ظهر لك حال نسيان الشرط حال العقد ، بعد أن كان بناء الطرفين على ذكره ، وهو على كلّ حال حاله حال سائر شروط التباني ولا أثر له ، لأنّ العقد وقع بلا قيد ولا شرط ، وصرف نيّتهما بدون الإنشاء لا أثر لها.
وقد ذكرنا في هذا الكتاب ـ في قاعدة « العقود تابعة للقصود » أنّ وجوب الوفاء يحتاج إلى أمرين : الإنشاء باللفظ ، مع القصد ، وإنّ القصد بلا إنشاء أو الإنشاء بلا قصد لا أثر له ، فلا بدّ من اجتماع كلا الأمرين ، ففي صورة النسيان لا لفظ قطعا ، كما هو المفروض ، وقد لا يكون القصد أيضا ، كما إذا كان غافلا حال العقد عن أصل الشرط.
وقد فرّق شيخنا الأعظم (34) بين هذه الصورة فقال فيها بالصحّة لما ذكرنا من وقوع العقد مجرّدا عن كلّ قيد وشرط ، وبين الصورة التي لم يكن غافلا من أصل الشرط ، وإنّما غفل عن ذكره في محلّه ، فقال في هذه الصورة بأنّه كتارك ذكر الشرط عمدا ، تعويلا على تواطئهما.
ولكن أنت خبير بأنّ الشرط غير المذكور لا أثر له أصلا ، سواء أكان مغفولا بالمرّة ، أو كان ملتفتا إليه حال العقد ، غاية الأمر نسي ذكره في محلّه.
الأمر الثالث : لو كان فساد الشرط لأجل عدم تعلّق غرض عقلائي معتدّ به بذلك الشرط ، فقالوا بأنّ مثل هذا الشرط الفاسد لا يفسد به العقد ، وإن قيل بالإفساد في سائر أقسام الشروط الفاسدة ، فقد حكى على العلاّمة (35) التصريح بصحّة العقد ولغويّة الشرط.
وعمدة الوجه في نظرهم : أنّ مثل هذا الشرط لا يعتنى به عند العقلاء ، ويرون وجوده كالعدم ، فليس قابلا لأن يقيّد به العقد ، ويكون كالكلام اللغو والمهمل الذي يصدر عنه في أثناء العقد ، ولذلك ذكروا في باب السلم لغويّة بعض الشروط غير العقلائيّة ، وعدم لزوم ترتيب أثر عليها.
هذا ، ولكن الإنصاف أنّه لو قلنا بأنّ الشرط الفاسد يفسد العقد ، فجملة من الأدلّة التي استدلّوا بها يشمل المقام ، خصوصا مسألة الرضا بمضمون العقد ، فلا ريب في أنّ رضا المشروط له بمضمون هذا العقد مقيّد بوجود هذا الشرط ، وذلك لاختلاف الأنظار ، فربما يكون أمر عند نوع العقلاء لغوا ولا يعتنون به ولا يبذلون بإزائه المال ، بل إذا كان في ملكهم وأتلفه الغير لا يرونه ضامنا لعدم الاعتناء به ، ولكن مع ذلك كلّه هناك شخص يهتمّ به كلّ الاهتمام ، ويعتني به كلّ الاعتناء لغرض من الأغراض ، وإن كان ذلك الغرض غير عقلائي لا يعتني به نوع العقلاء.
الأمر الرابع : في الموارد التي خرجت عن تحت الكلّية التي اخترناها ، وهي أنّ كلّ شرط فاسد لا يوجب فساده فساد العقد :
فمنها : ما إذا كان الشرط مجهولا وسرى جهالته إلى أحد العوضين ، فالمعاملة فاسدة ، وإن قلنا بأنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد ، وذلك من جهة أنّه من شرائط صحّة المعاوضة أن يكون العوضان معلومين ، وجهالتهما أو أحدهما موجب لبطلان المعاملة ، لنهيه صلى الله عليه واله عن بيع الغرر (36).
ومنها : أن يشترط البائع على المشتري أن يبيعه عليه بعد اشترائه ، فهذا البيع فاسد ، حتّى عند القائلين بأنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد.
وذكروا لذلك وجوها ذكرناها مفصّلا مع أجوبتها في الشرط السابع من شروط صحّة الشروط في الجزء الثالث من هذا الكتاب في مقام شرح « قاعدة المؤمنون عند شروطهم » .
ومنها : الشروط المخالفة لمقتضى العقد ، فيكون العقد المشتمل على مثل هذا الشرط فاسدا ، للتناقض بين مدلول العقد ومفاد الشرط ، إمّا مطابقة وصريحا ، وإمّا التزاما. فالأوّل كما إذا قال : بعتك هذا بشرط أن لا تملكه. والثاني كما إذا قالت هي أو قال وكيلها : زوجتك موكّلتي فلانه بشرط أن لا تستمتع منها أيّ استمتاع.
والوجه في فساد هذا الشرط ومفسديته للعقد واضح ، وقد بيّنّا ذلك في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » فراجع .
ومنها : فيما إذا كان الشرط غير مقدور ، فيكون العقد المشتمل على مثل هذا الشرط غير قابل للوفاء. فلا يشمل أدلّة وجوب الوفاء بالعقد ، ولا أدلّة وجوب الوفاء بالشرط ، فيكون مثل هذه المعاملة لغوا وباطلا عند العقلاء ، ولا يمضيه الشارع أيضا ، فافهم.
ومنها : كون الشرط حراما ، وذلك مثل أن يبيع العنب على أن يجعله خمرا ، أو الخشب على أن يعمله صنما أو صليبا. لأنّ الشارع أسقط أمثال هذه المنافع عن درجة الاعتبار في عالم التشريع ، فلا يملكها المالك للعنب ، أو الخشب مثلا. فإذا حصر المنفعة التي يبيعهما ـ أي : العنب والخشب لأجل تلك المنفعة في المذكورات المحرّمات ـ يكون أكل المال بإزائها أكلا بالباطل، فتكون المعاملة باطلة.
ولكن أنت خبير بأنّ خروج هذه الموارد عن تحت تلك الكلّية بالتخصّص لا بالتخصيص ، وذلك من جهة أنّ فساد العقد في تلك الموارد ليس لفساد العقد كما توهّم ، بل لوقوع خلل في بعض أركان العقد.
وبعبارة أخرى : موارد هذه الكلّية هي فيما إذا كان فساد الشرط من قبيل الواسطة في العروض ، بمعنى أنّ الفساد أوّلا وبالذات عرض على الشرط ، ويكون انتسابه إلى العقد بالعرض والمجاز ، لا أن يكون الشرط واسطة في الثبوت ، بمعنى أنّ الفساد أوّلا وبالذات عرض على نفس العقد لاختلال بعض أركانه ، ويكون الشرط سببا وعلّة لعروض ذلك الاختلال على نفس العقد.
مثلا : إذا كان الشرط مجهولا ، كما إذا شرط أن يكون المبيع بكيل كذا ، أو بوزن كذا ، وكان ذلك الكيل أو ذلك الوزن مجهولا ، فتسرى الجهالة إلى نفس المبيع ، فيكون البيع غرريّا وفاسدا ، ففساد البيع ليس إلاّ لوقوع غرر في نفس البيع ، لا لفساد ذلك الشرط. وكذا في شرط البيع على البائع يكون بطلان مثل هذا البيع لأجل استلزامه للمحال ، للزوم الدور. فليس فساده ، لأجل فساد الشرط ، بل لو كان هذا الشرط جائزا كان هذا البيع فاسدا ، لما ذكرنا من استلزامه للمحال.
وإن شئت قلت : إنّ الشرط بوجوده يوجب فساد العقد ، لا بفساده ، لما قلنا إنّ وجود هذا الشرط موجب لصيرورة البيع الأوّل مستلزما للمحال وهو الدور. وأمّا إن أجبنا عن الدور ، فيخرج عن محلّ الكلام بالمرّة ، فلا يكون العقد ولا الشرط فاسدا. وقد تقدّم ما هو التحقيق فيه في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم ».
وكذا الشروط المنافية لمقتضى العقد بوجودها يوجب التناقض بين مفاد العقد ومفاد الشرط ، ولا يكون مستندا إلى فساد الشرط ، وكذلك الشرط غير المقدور بوجوده يوجب لغويّة المعاملة ، فليس فساده مستندا إلى فساد الشرط ، بل يكون لوجوده.
وخلاصة الكلام : أنّ تلك الموارد المذكورة خارجة عن تحت هذه الكلّية تخصّصا ، لا تخصيصا.
ثمَّ إنّ الذين اختاروا عكس ما اخترناه ـ أي قالوا بأنّ كلّ شرط فاسد يوجب فساد العقد ـ أيضا قالوا بخروج الشرط الذي يكون فساده ـ أي : عدم لزوم وجوب الوفاء به ـ من جهة لغويّته وعدم تعلّق غرض العقلاء به ، مع أنّه فاسد لا يوجب فساد العقد.
وهذا كان منشأ تفصيل ابن المتوج البحراني بأنّ الشرط الفاسد مفسدا للعقد ، إلاّ فيما إذا كان جهة فساد الشرط لغويّته وعدم تعلّق غرض العقلاء به ، فإنّ العقد لا يفسد به (37) ، لأنّ وجود ذلك الشرط وعدمه سواء ، فلا يؤثّر في العقد.
وأنت خبير بأنّ خروج هذا القسم أيضا من قبيل التخصّص لا التخصيص ، لأنّ أدلّة وجوب الوفاء بالشرط منصرفة عن مثل هذه الشروط.
نعم في باب النكاح ورد الدليل على أنّ بعض الشروط الفاسدة ـ كشرط عدم التزويج والتسرّي عليها ـ لا يوجب فساد عقد النكاح ، وقلنا إنّ تلك الروايات الواردة في باب النكاح ممّا تدلّ على أنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد.
وقد ظهر لك ممّا ذكرنا أنّ التفاصيل في هذه المسألة لا وجه لها ، وأنّه ينبغي أن تحرّر المسألة ذات قول بالإفساد مطلقا ، وقول بعدمه مطلقا كما هو المختار ، وأمّا الموارد التي صارت سببا لتلك التفاصيل فهي خارجة عن تحت القاعدة تخصّصا.
الأمر الخامس : في بيان موارد جريان هذه القاعدة ، فنقول :
تجري هذه القاعدة في جميع العقود ، فإذا باع شيئا وشرط عليه شرطا مخالفا للكتاب والسنّة أو لمقتضى أصل العقد ـ لا مقتضى إطلاقه ـ أو لم يكن مقدورا ، أو لم يكن ممّا فيه غرض عقلائي ، أو كان مجهولا ، أو كان مستلزما للمحال ، أو لم يكن منجّزا ، أو لم يلتزم به في متن العقد ، فمثل هذه الشروط لا يجب الوفاء بها قطعا لا كلام فيه. وقد بيّنّا جميع ذلك في شرح قاعدة : « المؤمنون عند شروطهم » مع وقوع الخلاف في بعضها.
إنّما الكلام في أنّ هذه المذكورات توجب فساد ذلك العقد الذي وقعت هذه الشروط في ضمنه أم لا؟
وقد عرفت أنّ بعضها خارج عن محلّ الخلاف تخصّصا لا تخصيصا ، وعمدة ما هو داخل في محلّ الخلاف هو الشرط الذي مخالف للكتاب والسنّة ، فإذا باع أو أجار أو أعار أو رهن أو اقترض أو أودع أو صالح أو وكل ، أو أيّ عقد من العقود المذكورة في أبواب المعاملات ، وشرط شرطا مخالفا للكتاب والسنّة ، يكون محلا للخلاف.
وبناء على ما اخترناه في هذه القاعدة الشرط فاسد لا يجب الوفاء به ، ولكن لا يكون مفسدا لذلك العقد الذي وقع فيه. نعم في خصوص عقد النكاح ادّعى بعضهم خروجه عن محلّ الخلاف ، لورود أخبار كثيرة تدلّ على عدم فساد عقد النكاح بالشرط المخالف للكتاب والسنّة ، مع دلالتها على أنّ ذلك الشرط فاسد لا يجب العمل به ، وقد عرفت أنّ تلك الأخبار كانت من جملة ما استدلنا بها على عدم الإفساد.
الأمر السادس : في أنّه هل يأتي هذا الخلاف في الإيقاعات أم لا؟ مثلا : لو أعتق عبده ، أو طلّق امرأته وشرط عليهما شرطا مخالفا للكتاب والسنّة ، فهل يوجب ذلك الشرط بطلان ذلك العتق وذلك الطلاق ، أم لا؟
ربما يقال بعدم دخول الشرط في الإيقاعات مطلقا ، سواء أكان شرطا صحيحا أو فاسدا ، وذلك من جهة أنّ الشرط لا بدّ وأن يكون بين اثنين ، والإيقاع ليس بين اثنين ، بل هو متقوّم بواحد ، فهو يعتق عبده من دون اطلاع أحد ، لا العبد ولا غيره ، أو يطلق زوجته من دون إخبارها. وأمّا لزوم كونه بحضور شاهدين عدلين ، فهو من باب الإشهاد ، لا أنّ الطلاق بين المطلّق وبينهما.
وفيه أوّلا : أنّهم يقولون بجواز اشتراط خدمة مدّة في عتق عبده.
وثانيا : قوله : « إنّ الشرط لا بدّ وأن يكون بين اثنين » إن كان مراده أنّه لا بدّ من المشروط له والمشروط عليه ـ أو الشارط والمشروط عليه ـ فهذا موجود في الإيقاعات ، مثلا في الإطلاق المشروط له أو الشارط هو الزوج ، والمشروط عليها هي الزوجة ، وفي الإبراء بين الدائن والمديون ، وفي العتق بين السيد وعبده ، وهكذا في سائر الإيقاعات.
وإن كان مراده أنّه يحتاج إلى إيجاب من الشارط وقبول من المشروط عليه ـ فيكون الشرط من العقود ، لا أنّه فقط في ضمن العقود أو الإيقاعات أيضا ـ فمضافا إلى أنّه ليس كذلك قطعا ـ لأنّ الشروط الواقعة في ضمن العقود لم يقل أحد إنّه يحتاج صحّة الشرط إلى قبول مستقلّ من طرف المشروط عليه عدا قبول ذلك العقد ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ قبوله يتحقّق في ضمن قبول العقد وليس ببعيد ـ لا مانع من قبوله في الإيقاعات أيضا كما أنّهم قالوا في اشتراط خدمة العبد في عتقه بلزوم قبوله من طرف العبد.
وخلاصة الكلام : أنّه لا مانع عقليّا ولا شرعيّا عن دخول الشرط في الإيقاعات ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ في مورد مخصوص على المنع ، أو كان في الشرط خصوصيّة لا يلائم مع ذلك الإيقاع.
الحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.
__________________
(*) « القواعد والفوائد » ج 2 ، ص 241 ، « الحق المبين » ص 74 ، « عناوين الأصول » عنوان 50 ، « قواعد فقه » ص 68 ، « مستقصى مدارك القواعد » ص 9 و 39 ، « قواعد فقهيّة » ص 119 ، « سه قاعدة فقهي ( الشرط الفاسد ليس بمفسد. ) » سيد محمد موسوي بجنوردى ، فصليّة « حق » ، دفتر 11 و 12 ، العام 1366.
(1) « المبسوط » ج 2 ، ص 148 ـ 149.
(2) نقل قوله العلاّمة في « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، ولم نعثر عليه في « المهذب » ولعلّه في « الكامل » من كتب القاضي « مخطوط ».
(3) « الجامع للشرائع » ص 251.
(4) « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 152 ، « مختلف الشيعة » ج 5 ، ص 321 ، الفصل (18) في الشروط ، مسألة : 295.
(5) « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 415 و 431.
(6) الشهيدين « اللمعة ـ الروضة البهية » ج 3 ، ص 505 ، خيار الاشتراط.
(7) « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص 524 ـ 525.
(8) حكى عنه الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 287.
(9) « كتاب المكاسب » ص 287.
(10) « الكافي » ج 2 ، ص 270 ، باب خلف الوعد ، ح 2 ، « وسائل الشيعة » ج 8 ، ص 515 ، أبواب أحكام العشرة ، باب 109 ، ح 2.
(11) « الكافي » ج 2 ، ص 270 ، باب خلف الوعد ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 8 ، ص 515 ، أبواب أحكام العشرة ، باب 109 ، ح 3.
(12) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 371 ، ح 1503 ، باب (31) في المهور والأجور. ، ح 66 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 232 ، ح 835 ، باب (142) من عقد على امرأة وشرط لها أن لا يتزوّج عليها ولا تيسر ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 30 ، أحكام المهور ، باب 20 ، ح 4.
(13) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 59 ، ح 253 ، باب البيع بالنقد والنسيئة ، ح 53 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 409 ، أبواب أحكام العقود ، باب 35 ، ح 1.
(14) « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهيّة » ص 524.
(15) « الكافي » ج 6 ، ص 198 ، باب الولاء لمن أعتق ، ح 4 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 134 ، ح 3497 ، باب ولاء المعتق ، ح 4 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 250 ، ح 907 ، باب العتق وأحكامه ، ح 140 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 47 ، أبواب العتق ، باب 37 ، ح 2 ، « صحيح البخاري » ج 7 ، ص 62 ، باب 16 ، « سنن الترمذي » ج 4 ، ص 436 ، ح 2124 ، باب ما جاء في الرجل يتصدّق أو يعتق عند الموت ، « سنن ابن ماجه » ج 1 ، ص 671 ، ح 2076 ، باب خيار الأمة إذا أعتقت.
(16) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 370 ، ح 1500 ، باب المهور والأجور. ، ح 63 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 231 ، ح 832 ، باب من عقد على امرأة وشرط لها أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 46 ، أبواب المهور ، باب 38 ، ح 1.
(17) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 373 ، ح 1509 ، باب المهور والأجور. ، ح 72 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 44 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 15 ، ح 2.
(18) « الكافي » ج 5 ، ص 212 ، باب شراء الرقيق ، ح 17 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 67 ، ح 289 ، باب ابتياع الحيوان ، ح 3 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 43 ، أبواب بيع الحيوان ، باب 15 ، ح 1.
(19) « كشف الرموز » ج 1 ، ص 475.
(20) « كتاب المكاسب » ص 281.
(21) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 59 ، ح 253 ، باب البيع بالنقد والنسيئة ، ح 53 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 409 ، أبواب أحكام العقود ، باب 35 ، ح 1.
(22) « الفقيه » ج 3 ، ص 425 ، ح 4475 ، باب ما أحل الله عزّ وجلّ من النكاح وما حرّم منه ، ح 60 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 369 ، ح 1497 ، باب المهور والأجور وما ينعقد من النكاح من ذلك وما لا ينعقد ، ح 60 ، وفيه : قضى عليّ 7. ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 41 ، أبواب المهور ، باب 29 ، ح 1.
(23) صاحب المدارك في « نهاية المرام » ج 1 ، ص 420.
(24) العلاّمة في « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 152.
(25) « كتاب المكاسب » ص 285.
(26) « الكافي » ج 5 ، ص 202 ، باب العينة ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 51 ، ح 223 ، باب البيع بالنقد والنسيئة ، ح 23 ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 370 ، أبواب أحكام العقود ، باب 5 ، ح 4.
(27) « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 490.
(28) « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 247 ، ح 16 ، نحوه ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 252 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 2 ، ح 1 ، نحوه ، « المستدرك » للحاكم ، ج 2 ، ص 17 ، نحوه.
(29) « قرب الإسناد » ص 267 ، ح 1062 ، باب ما يحل من البيوع ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 371 ، أحكام العقود ، باب 5 ، ح 6.
(30) « مسائل علي بن جعفر » ص 127 ، ح 100.
(31) « كتاب المكاسب » ص 289 ، « المبسوط » ج 2 ، ص 148 ـ 149.
(32) « السرائر » ج 2 ، ص 488.
(33) « مسالك الأفهام » ج 1 ، ص 142.
(34) « كتاب المكاسب » ص 290.
(35) الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 277 ، حكى على العلاّمة.
(36) « عيون أخبار الرضا » ج 2 ، ص 45 ، باب (31) فيما جاء عن الرضا 7 من الأخبار المجموعة ، ح 168 ، « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 248 ، باب المتاجر ، ح 17 ، « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 254 ، ح 3376 ، باب في بيع الغرر ، « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 330 ، أبواب آداب التجارة ، باب 40 ، ح 3 ، « صحيح مسلم » ج 3 ، ص 1153 ، ح 1513 ، كتاب البيوع ، ح 4 ، باب (2) بطلان بيع الحصاة ، والبيع الذي فيه غرر ، « سنن الترمذي » ج 3 ، ص 532 ، ح 1230 ، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر.
(37) الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص 287 ، حكى عن ابن المتوج.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|