أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-11-2021
1726
التاريخ: 17-11-2021
2164
التاريخ: 2024-07-28
463
التاريخ: 2024-07-28
476
|
من القواعد الفقهية المعروفة قاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ».
وهو أمور :
الأول : اتفاق العقلاء من جميع الملل كافة على نفوذ إقرار كل عاقل على نفسه ، بمعنى أن إقرار العاقل على نفسه طريق مثبت لما أقر به عندهم جميعا ، ولم ينكره أحد.
وذلك أن العاقل لا يقدم على إضرار نفسه إلا لبيان ما هو الواقع لوخز ضميره من الخلاف الذي صدر عنه ، سواء أكان ذلك الخلاف هي السرقة أو جناية أو غصب أو قذف وما شابه ذلك ، أو يقر على نفسه ببيان الواقع حذرا من العذاب الأخروي.
مثلا لو كان مال غيره في يده وتحت سيطرته وتصرفه ، فلا يعترف أنه لذلك الغير إلا لما ذكرنا من الوجوه ، كما أنه لو كان لنفسه فلا يعترف إنه لغيري ، لعدم الداعي إلى ذلك في الغالب.
نعم قد يتفق له الداعي على إقراره بما هو ضرر عليه مع أنه على خلاف الواقع ، ولكن هذا القسم شاذ قليل الوجود ، ولو لم يكن موجودا أصلا لكان الإقرار على النفس موجبا للعلم بصحة ما أقر به ، ولكن وجود هذا القسم من الإقرار على النفس اتفاقا صار سببا لأن يكون من الأمارات الظنية القوية ، ولذلك العقلاء بنوا على حجيته.
ألا ترى أن أحدهم لو اتهم بسرقة أو جناية أو غصب أو غير ذلك ـ مما يكون الإقرار به ضررا على نفسه ـ لو أقر واعترف بذلك ، لا يتردد أحد في تصديقه وقبول قوله وصدور هذه الأفعال عنه ، فإذا أنكر شخص آخر صدور هذه الأفعال عنه يقال له : كيف تقول إنها لم يصدر عنه ، وهو بنفسه أقر واعترف بذلك؟! ولعل هذا مضمون كلام أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام في مرسل عطار : « المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمن عليه » (1).
ولذلك ترى أن القضاة والحكام من جميع الملل والأقطار والأمصار في جميع الأعصار ، يعدون اعتراف الجاني والسارق والقاتل بهذه الأمور من أقوى المدارك لصدور هذه الأفعال عنه ، ولم يردع الشارع عن هذه الطريقة ، بل أمضاها كما يمر عليك دليل الإمضاء في الأمور الآتية.
وإذا أردت أكثر من هذا أدلة الإمضاء فراجع كتاب القصاص والحدود والديات من كتب الحديث التي ألفها العامة والخاصة.
الثاني : الإجماع من كافة علماء الإسلام ، وعدم الخلاف من أحدهم في حجية إقرار العقلاء على أنفسهم ، ونفوذه في الجملة بطور الموجبة الجزئية.
ولكن أنت خبير بأنّ هذا الإجماع والاتفاق الظاهر أنه ليس اتفاقا وإجماعا تعبديا من جهة تلقيهم هذا الحكم من المعصوم عليه السلام ، بل من جهة أنهم يرونه طريقا عند العقلاء مثبتا لما أقر به ، ولم يردع عند الشارع بل أمضاها ـ كما ذكرنا ـ فليس من الإجماع المصطلح ، كما نبهنا عليه مرارا.
الثالث : الأخبار ، وعمدتها الحديث المشهور بين الفريقين ـ وقد عبر عنه صاحب الجواهر بالنبوي المستفيض أو المتواتر (2) ، ولا يبعد تواتره لاتفاق الفريقين على نقله والاستدلال به في الموارد الخاصة ـ وهو قوله صلى الله عليه واله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (3). وقوله صلى الله عليه واله : « قولوا الحق ولو على أنفسكم » (4).
أما قوله صلى الله عليه واله : « قولوا الحق ولو على أنفسكم جائز » سنتكلم عنه في بيان مفاد القاعدة مفصلا إن شاء الله تعالى.
وأما قوله صلى الله عليه واله : « قولوا الحق ولو على أنفسكم ». فتقريب الاستدلال به أن الأمر ظاهر في الوجوب ، فإذا كان قول الحق واجبا ولو كان على نفسه فيجب قبوله ، وإلا يكون وجوب قول الحق لغوا وبلا فائدة ، فلا بد من القول بوجوب القبول ، وهذا معناه حجية الإقرار على النفس لكونه واجب القبول.
وفيه : أن ظاهر الحديث ـ بناء على ما ذكرت ـ أن قول الحق واجب القبول ، سواء أكان على نفسه أو لنفسه ، أو على غيره ، أو كان لا له ولا عليه ، ولكن بعد ما ثبت أنه قول حق بعلم أو علمي ، وأما أن كل ما يقول ويقر على نفسه فهو قول حق فمن أين؟
ولعله يقول قولا باطلا ، وإقرارا كاذبا على نفسه لجهة من الجهات ، كما أنه يريد إظهار سخاوته ، فيقول : استدنت من فلان مبلغ كذا وقسمته بين الفقراء ، أو يريد إثبات شجاعته فيقول: جنيت على فلان بكذا وكذا.
فالإنصاف أن الحديث لا ربط له بهذه القاعدة ، بل في مقام بيان وجوب إظهار الحق وعدم جواز كتمانه ، وإن كان إظهاره على ضرره.
وأما الأخبار المروية عن الأئمة المعصومين : فكثيرة جدا ، خصوصا في الموارد الخاصة بصورة القضايا الشخصية ، وتقدم مرسل عطار عن الصادق عليه السلام : « المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمن ».
وظاهره أن شهادة المؤمن على نفسه ـ أي إقراره على نفسه ـ أكشف من شهادة سبعين مؤمن ، وأيضا خبر جراح المدائني عن الصادق عليه السلام : « لا أقبل شهادة الفاسق إلا على نفسه » (5).
وهذا الخبر يدل على نفوذ الإقرار على النفس وإن كان فاسقا ، لأنه لا فرق فيما هو المناط في نفوذ إقراره بين أن يكون فاسقا أو عادلا.
وخلاصة الكلام : أن الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة : في الموارد الخاصة الدالة على نفوذ إقرار كل عاقل على نفسه كثيرة جدا ، ومن راجع كتب الحديث من الفريقين ـ باب القصاص ، وباب الحدود ، وباب الديات ، وباب الغصب ، وباب الإقرار ، وباب القضاء منها وأمعن النظر ـ لا يتأمل في أن ذكر الموارد لأجل تطبيق الكبرى الكلية عليها ، أو لأجل الجواب عن القضايا الشخصية ، وإلا فلا خصوصية لها ، بل الحكم عام ، أي مفاد تلك الأخبار نفوذ إقرار كل عاقل على نفسه في أي مورد كان ، ويكون حكما كليا لإقرارات جميع العقلاء في جميع الموارد.
الرابع : الآيات ، ومنها قوله تعالى : {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].
ومنها قوله تعالى {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102].
وقوله تعالى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } [النساء: 135].
وفيها : أما الآية الأولى ، فلا ربط لها بمقامنا ومحل بحثنا ، أي نفوذ الإقرار على النفس ، لأن الله تعالى في الآية يخاطب الناس ويقول بعد أخذ العهد والمواثيق منهم : أن يؤمنوا وينصروا رسله ، هل أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ، أي ثقلي؟ والمراد بالثقل : العهود والمواثيق الذي أخذ منهم ، أي قبلتم عهودي ومواثيقي ، قالوا : أقررنا ، أي قبلنا تلك العهود والمواثيق ، فقال الله تعالى : فاشهدوا أيتها الملائكة أو الأنبياء أو الأمم على قبولكم ، وأنا الله أيضا من الشاهدين، فلا ربط لها بنفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم ، لأن المراد من الأمر بالشهادة تثبيت تلك العهود والمواثيق عليهم وإتمام الحجة ، ولذلك يقول هو تعالى بعد ذلك ( وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ ) أي لا يمكن لكم أن تنكروا هذه العهود.
وأما الآية الثانية ، فالمراد من قوله تعالى ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) إما هم الفاسقون ، المعترفون بذنوبهم ، التائبون عما فعلوا من خلط العمل الصالح بالعمل السيء ، أو هم المتخلفون عن غزوة تبوك فندموا وتابوا ، على التفصيل المذكور في كتب التفاسير ، وعلى كل واحد من التقديرين لا ربط لها بنفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم.
نعم اعترافهم بذنوبهم إقرار على أنفسهم ، ولكن أي ربط له بنفوذ إقرار كل عاقل على نفسه.
وأما الآية الثالثة ، فتقريب الاستدلال بها أن أمره تعالى بكونهم شهداء لله ولو على أنفسهم ملازم مع وجوب قبول تلك الشهادة التي على النفس ، وهذا معناه نفوذ إقراره على نفسه.
وفيه : أن ظاهر الآية وجوب أداء الشهادة وحرمة كتمانها ولو كانت على أنفسهم ، وهذا لا يدل على أزيد من وجوب قبول شهادة المؤمنين وإن كانت على أنفسهم إذا كانت واجدة لشرائط وجوب قبول الشهادة من التعدد والعدالة ، فلا ربط لها بنفوذ إقرار العاقل على نفسه وإن كان فاسقا وغير متعدد الذي هو محل البحث.
وقد ظهر مما ذكرنا أن الدليل على اعتبار هذه القاعدة أمران :
أحدهما : هو الأمر الأول ، أي اتفاق كافة العقلاء على أماريتها ، وعدم ورود ردع عن قبل الشارع ، بل ورد الإمضاء.
الثاني : هي الأخبار ، وعمدتها النبوي المشهور ، وهو قوله صلى الله عليه واله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ».
في بيان مفاد هذه القاعدة وأنه ما المراد منها :
فنقول : إن مفاد القاعدة والمراد منها تابع للسعة والضيق في مدركها ، فإرادة المعنى الأوسع من مدركها يرجع إلى إرادة ما لا دليل عليه ، وإرادة الأضيق من دليلها معناه عدم الاعتناء بدليلها ، وعدم القول باعتبار ما اعتبره الشارع.
وقد عرفت أن المدرك لهذه القاعدة أمران : اتفاق العقلاء على أن إقرار العاقل على نفسه أمارة على ثبوت ما أقر به ، من حيث أنه على نفسه لا بقول مطلق ـ أي ولو كان له أثر على الغير ، فلو أقر بأن فلانة زوجتي ، فالعقلاء يبنون على زوجية فلانه له من حيث الآثار التي على المقر، أي المهر مثلا.
وأما أن المرأة تطيعه وترتب آثار الزوجية فلا ـ والأخبار وعمدتها قوله صلى الله عليه واله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » ومفاد الحديث هو عين ما اتفق عليه العقلاء ، فلا بد من توضيح مفاد الحديث وبيانه.
فنقول : أما « الإقرار » لغة وبحسب المتفاهم العرفي عبارة عن جعل الشيء ذا قرار وثبات ، فمعنى أقره على شغله أى : جعله ثابتا على ذلك الشغل.
والمتبادر من كلمة « على نفسه » هو كون الشيء على ضرره ، كما أن معنى لنفسه كونه لنفعه. ومنه قولهم أنت لنا أو علينا، أي : تنفعنا أو تضرنا.
ومعنى كلمة « جائز » أي : نافذ وماض لا الجواز مقابل الحرام ، وذلك من جهة أنها بذلك المعنى ليست مختصة بالإقرار على النفس ، بل الإقرار للنفس وبما ينفع المقر أيضا جائز ، فمن الواضح أن الجواز هاهنا بمعنى النفوذ والمضي ، كما قلنا أن على هذا المعنى اتفاق العقلاء.
هذا ، مضافا إلى أن الإقرار على النفس أيضا ربما يكون حراما ، وذلك فيما إذا كان كاذبا فيما يخبر عنه ، وخصوصا فيما إذا كان مضافا إلى أنه كذب مضرا للغير وموجبا لإهانته ، كما أنه إذا أقر واعترف كاذبا بأنه زنى بالمرأة المحصنة الفلانية ولا شك في أن مثل هذا الإقرار وإن كان على نفسه ، ولكنه من أشد المحرمات ، كما هو صريح الآية الشريفة {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] .
ثمَّ إنه إن كان الظرف ، أي « على أنفسهم » متعلقا بـ « جائز » فيكون المعنى أن إقرار العقلاء مطلقا جائز على أنفسهم ، وإن كان متعلقا بـ « الإقرار » ، فيكون الحاصل أن إقرار العقلاء على أنفسهم لا مطلق أقاريرهم ، وتكون كلمة « جائز » مطلقا لا أنه مقيد بالجواز على أنفسهم فقط.
والفرق بين الصورتين في كمال الوضوح ، لأنه بناء على الصورة الأولي يكون المعنى عبارة عن أن إقرار العقلاء الذي يكون على ضررهم ـ لا مطلق إقرارهم ولو لم يكن على ضررهم ـ نافذ مطلقا ، سواء أكان النفوذ على ضرره أو على نفعه ، بمعنى أن الإقرار إذا كان على ضرره ولكن كان له لازم يكون لنفعه ، فبناء على تقدير الأول يرتب ذلك اللازم عليه ، لأنه يصدق عليه أنه إقرار على النفس. كما أنه لو أقر على أن هذا الولد ابني أو هذه المرأة زوجتي ، فهذا الإقرار ضرر عليه من حيث وجوب إعطاء النفقة لهما ، ولكن لازمه أنهما لو ماتا يرث منهما.
فلو كان الظرف من قيود الإقرار وكان الجواز مطلقا ، فيلزم القول بنفوذ هذا الإقرار بالنسبة إلى هذا اللازم ، وأما لو كان من قيود الجواز فيكون المعنى أن إقرارهم جائز في خصوص ما يضرهم لا فيما ينفعهم ، فيلزم القول بعدم نفوذ ذلك الإقرار في اللازم المذكور.
ولكن الإنصاف أن ظاهر هذا الكلام أنه صلى الله عليه واله بصدد بيان أن إقرار العقلاء إذا كان على ضررهم فهو ـ أي : ذلك الإقرار الذي على ضرره ـ جائز ونافذ على نفسه ، فلو كان لإقرارهم الضرري لازم غير ضرري عليه ، سواء أكان نافعا له أو لم يكن ، وسواء أكان ضرر على الغير أو لم يكن ، ففي جميع هذه الصور لا يشمله الحديث ، لما ذكرنا أن معنى الحديث أن الإقرار الذي على أنفسهم جائز عليهم لا لهم. فكان الظرف المذكور في القضية متعلق بكلمة « إقرار العقلاء » وهو ظاهر اللفظ ، وإلا محذوف ومقدر متعلق بكلمة « جائز » بقرينة الأول ، مثل قوله تعالى {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] أي : بهم ، فحذف من الثاني بقرينة الأول ، فكان الكلام هكذا : إقرار العقلاء على أنفسهم جائز على أنفسهم.
ونتيجة هذا أنه إذا كان للإقرار مدلول التزامي لا يكون ضررا على المقر لا يشمله الحديث.
إن قلت : إذا حكم الشارع بثبوت المقر به بالإقرار على النفس فقهرا يترتب آثار المقر به عليه ، سواء أكانت تلك الآثار واللوازم على المقر العاقل أو لنفعه ، أو لا لنفعه ولا على ضرره.
قلت : الأمر هكذا بناء على أمارية الإقرار كما هو كذلك ، ولكن تقدير الظرف المتعلق بكلمة « جائز » يمنع عن شمول الحديث لغير ما يضر المقر ، كما ذكرنا من أن معنى الحديث بعد تقييد الإقرار بكونه على نفس المقر وضرريا عليه ، وأيضا تقييد كلمة « جائز » بـ « على نفسه » المقدر ، فيكون المعنى أن الإقرار الذي عليه جائز عليه لا له.
إن قلت : بعد حكم الشارع بثبوت المقر به بذلك الإقرار ، كيف يمكن التفكيك بين ثبوته وثبوت لوازمه؟
قلت : إن الثبوت لو كان ثبوته واقعيا تكوينيا لكان لهذا الإشكال مجال ، وأما الثبوت التعبدي فهو بلحاظ الآثار ، فيمكن أن يرد الدليل بثبوته بلحاظ بعض الآثار دون بعض ، فيمكن أن يقول الشارع : تعبد بثبوت ما أقر به بلحاظ آثاره التي تكون على المقر لا له.
فتلخص مما ذكرنا أن معنى هذا الحديث ـ الذي هو مفاد هذه القاعدة والمراد منها ـ أن إقرار العقلاء الذي يكون على ضررهم مثبت وطريق كاشف عن وجود المقر به وثبوته ، ولكن من حيث آثاره التي تكون ضررا على المقر ، ففي كل مورد لم يكن الأثر ضرريا عليه لا يثبت ما أقر به من تلك الجهة.
والتفكيك بين اللوازم والملزومات في التعبديات لا مانع منه ، وله نظائر كثيرة ، لأن الثبوت فيها ليس ثبوتا حقيقيا ، بل هو ثبوت تعبدي بلحاظ الآثار ، فيمكن التفكيك بين ثبوته ـ أي : ما أقر به ـ من حيثية دون أخرى.
كما أنه قيل في قاعدة التجاوز ونحن بنينا على هذا (6) إنه لو شك في إتيان صلاة الظهر في أثناء الاشتغال بصلاة العصر ، أو شك في أنه توضأ للصلاة أم لا في أثناء الصلاة ، فقاعدة التجاوز تثبت الإتيان بصلاة الظهر من حيثية شرطية إتيانها قبل صلاة العصر ، ولا تثبت وجودها بقول مطلق ، ولذلك بعد الفراغ عن الصلاة يجب الإتيان بها ، لأن قاعدة التجاوز مفادها أن بعد التجاوز عن محل الشرط لو شك في إتيان الشرط يمضي في عمله ويبنى على الإتيان بالشرط. فالتعبد بوجود صلاة الظهر بما هو شرط ، لا بما هو هو.
وبعبارة أخرى : مفاد القاعدة أنه تعبد بأن العمل الذي أنت مشغول به ليس فاقد الشرط ، وأما ذات صلاة الظهر وأنه أتى بها أو لم يأت بها ، فلا نظر للقاعدة إليها ، ولذلك بعد الفراغ يلزم أن يأتي بها.
وكذلك الأمر في الشك في الوضوء في أثناء الصلاة ، فقاعدة التجاوز تثبت وجود الطهارة من حيث شرطيتها لهذه الصلاة ، ولا تثبت ذات الوضوء من حيث نفسه ، ولذلك بالنسبة إلى الصلوات الآخر لا بد له إلا أن يتوضأ.
وحاصل الكلام : أن قاعدة التجاوز مفادها التعبد بوجود صلاة الظهر من حيث شرطيتها لصلاة العصر ، وكذلك بوجود الوضوء من حيث شرطيته للصلاة ، لا أصل وجوده.
ومما ذكرنا ظهر أنه لا وجه لما توهموه من الإشكال ، بأنه إن كان الإقرار على النفس مثبتا لما أقر به فيجب ترتيب جميع آثار ما أقر به ، وإن لم يكن مثبتا له فلا يترتب عليه شيء أصلا ، لأنه بناء على هذا يكون إقراره ، وجوده كعدمه ، وذلك من جهة أن إقراره يثبت ما أقر به ، لكن بالنسبة إلى آثاره التي تكون على ضرر المقر ، لا ما يكون له ، ولا ما يكون ضررا على غيره ، ولا ما يكون لنفع غيره ، ولا ما يكون لا له ولا عليه.
فلا ينقض على هذه القاعدة بأنّه لو أقرّ بما يكون له ضرر على نفسه ، وعلى نفسه وعلى غيره ، كالزنا مثلا ، فإنّ ما أقرّ به يكون عليه وعلى غيره ، أي المرأة التي يقرّ بالزنا معها.
فالفقهاء يقولون بأنّ المقرّ يجلد إذا كان غير محصن ، ويرجم إذا كان محصناً.
وأمّا المرأة فلا شيء عليها من ناحية هذا الإقرار ، نعم هي بنفسها لو أقرّت ، أو أقيمت عليها البيّنة تكون حالها حال المقرّ من ناحية إقرار نفسها ، أو من ناحية قيام البيّنة على أنّها مزنية بها.
وذلك من جهة أنّ إقرار ذلك الرجل بالزنا لا يثبت الزناء إلاّ بالنسبة إلى الآثار التي تكون ضرريّة على المقرّ دون غيرها. وأمّا التفكيك بين اللوازم ، فقلنا إنّه لا مانع منه في التعبّديات.
وكذلك لو أقرّ بأبوّة شخص له ، أو بنوّته ، أو أخوّته ، أو غير ذلك من النسب التي تكون من الطرفين ولم يقرّ الآخر ، فلا يترتب على إقراره إلا الآثار التي تكون ضررية على المقر ، دون ما يكون ضررا على ذلك الطرف الآخر ، فإذا كان واجب الإنفاق على المقر يجب عليه الإنفاق عليه ، ويرث من المقرّ.
وأما الطرف الآخر فلا يجب عليه الإنفاق على المقر ، وإن كان على تقدير ثبوت النسبة التي أقر بها واقعا يجب عليه الإنفاق على المقر ويرث المقر منه ، ولكن الإقرار لا يثبت النسبة واقعا وتكوينا ، والتعبد أيضا ليس بلحاظ جميع الآثار ، بل يكون بلحاظ الآثار التي تكون ضررية على المقر ، ولا يثبت الآثار التي تكون ضررية على غير المقر ، ولا الآثار التي تكون فيها نفع المقر.
إن قلت : أليس الإقرار أمارة على ثبوت المقر به ، فإذا ثبت الزناء مثلا القائم بالطرفين ـ الزاني والمزني بها ـ ولا يمكن تحقق أحدهما بدون الآخر ، وهكذا الحال في جميع موارد المتضايفين ، فأبوه زيد لعمرو لا يمكن أن تتحقق بدون بنوة عمرو، فإذا أقر زيد بأبوته لعمرو وقلنا أن أبوته لعمرو تثبت بالإقرار الذي من الأمارات ، فقهرا يثبت بنوة عمرو بتلك الأمارة.
كما أنه لو قامت البينة على أبوه زيد لعمرو ، تثبت بنوة عمرو له أيضا بتلك البينة ، وذلك لحجية مثبتات الأمارات.
قلت : أن أمارية الإقرار ليست مطلقة ، بل يثبت ما أقر به من حيث كونه منشأ للآثار التي تكون ضررية على المقر ، ولا يثبت ما أقر به مطلقا ، وقلنا إن الثبوت ليس ثبوتا حقيقيا وجدانيا وتكوينيا ، وإنما هو ثبوت تعبدي بلحاظ الآثار ، فيمكن أن يكون الإقرار أمارة على ثبوت الأبوة من حيث آثارها التي تكون ضررية على المقر فقط ، كما مثلنا بقاعدة التجاوز والشك في أثناء صلاة العصر أنه أتى بصلاة الظهر أم لا ، والشك في أنه توضأ أم لا.
وخلاصة الكلام : أن الإقرار قد يكون على نفس المقر فقط ـ مثل أن يقر بأن لفلان عليه كذا ـ فنافذ قطعا ، وقد يكون على نفسه وعلى غيره ، وهذا على قسمين :
الأول : أن يكون المقر به في كل واحد منهما مستقلا غير مربوط بالآخر ، مثل أن يقر أحد الشريكين ببيع تمام دار المشترك بينه وبين غيره ، فينفذ في حصته من تلك الدار دون حصة شريكه. وهذا الصورة أيضا لا كلام ولا إشكال فيها ، لأنه في الحقيقة إقراران : إقرار ببيع حصته ، وهذا على نفسه ونافذ. وإقرار ببيع شريكه حصته ، وهذا إقرار على الغير وليس بنافذ.
الثاني : أن يكون المقر به في كل واحد منهما مربوطا بالآخر ، لا ينفك أحدهما عن الآخر ، لأن المقر به معنى قائم بالطرفين، وذلك كإقراره بأبوة شخص أو بنوته أو أخوته ، أو بالزنا مع امرأة معينة ، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة لهذا القسم.
وهذا القسم هو الذي وقع محل الإشكال ، وأنه كيف يمكن التفكيك بأن يكون نافذا في حقه ولا يكون نافذا في حق ذلك الطرف الآخر ، مع أنهما متضايفان ووجود أحدهما متوقف على وجود الآخر.
وهذا هو الذي أجبنا عنه ، وقلنا بأن توقف أحدهما على الآخر إنما هو في مقام الثبوت ، لا في مقام الإثبات.
نعم في مقام الإثبات أيضا ملازمة بين إثبات أحدهما وإثبات الآخر إن كان الإثبات تكوينيا وجدانيا ، لأن الملازمة بين المتلازمين كما تكون في مقام الثبوت كذلك تكون في مقام الإثبات ، فإن العلم بأحد المتلازمين ـ سواء كانا معلولين لعلة واحدة ، أو كان أحدهما علة والآخر معلولا ـ علة للعلم بالآخر ، ولكن هذه الملازمة بينهما ليست في مقام الإثبات إذا كان الإثبات تعبديا ، إذ من الممكن أن يحكم الشارع بالتعبد بأحد المتلازمين دون وذلك بأن يأمر بترتيب آثار أحدهما دون الآخر ، فلا يبقى إشكال في البين.
وهاهنا أمور يجب التنبيه عليها :
[ الأمر ] الأول : أن الإقرار لغة وعرفا عبارة عن جعل الشيء ذا قرار وثبات ، وهذا المعنى قد يكون مدلولا مطابقيا للفظ ، كما أنه إذا قال : أنا مديون لزيد مثلا بكذا مقدار ، وقد يكون مدلولا التزاميا كقوله : رددت عليك بعد قول زيد لي عليك كذا.
وذلك من جهة أن مدلول المطابقي لكلمة « رددت عليك » هو إرجاع ما أخذ منه ، ولكن العرف يفهم منها بالدلالة الالتزامية أنه اعترف بأنه كان مديونا غاية الأمر يدعي أداء دينه.
وقد يكون بغير اللفظ ، كما إذا أقر بدين عليه بالإشارة المفهمة ، مثل أن يقول له الحاكم مثلا : إن فلانا يقول بأنك مديون له بكذا مقدار ، فهل ادعاه صحيح وأنت مديون له بهذا المقدار؟ فيصدقه بالإشارة ، بحيث يفهم منها العرف تصديقه للمدعي بهذه الإشارة ، ولذلك يكون الأخرس العاجز عن الكلام إقراره بالإشارة.
والحاصل : أن الإقرار عبارة عن إثبات الشيء ، أي جعله ذا قرار وثبات سواء أكان هذا الإثبات بالقول أو بالفعل ، غاية الأمر حجية ظواهر الأقوال معلومة وعليها بناء العقلاء وسيرتهم ، سواء كان المراد مدلولا مطابقيا للفظ ، أو مدلولا التزاميا. وأما الأفعال فليست كذلك ، فلا بد وأن يكون الفعل الذي يتحقق به الإقرار صريحا فيه ، لا يكون ذا وجوه بحيث أن العرف يرى أنه أقر واعترف بما ادعاه المدعي.
وبعبارة أخرى : يكون ذلك الفعل في نظر العرف وعندهم مصداقا لمفهوم « الإقرار » ويحمل عليه مفهوم « الإقرار » بالحمل الشائع. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المقر عاجزا عن الكلام كالأخرس ، أم لا ولكن أقر بالفعل لا بالقول لجهة أخرى غير العجز ، فكذلك الأمر في الكتابة ، فإن كانت عند العرف صريحة في الإقرار بحيث لا يشكون في أنه أقر بذلك ، أيضا يثبت بهذا الإقرار ، وحيث أن الإقرار عبارة عن الإخبار بثبوت مال أو حق ـ سواء كان حق الناس أو حق الله على نفسه أو لنفسه ـ أو الإخبار بثبوت أمر يستتبع مالا أو حقا على نفسه ، كإقراره بثبوت نسبة بينه وبين غيره ، فكل ما أفاد هذا المعنى عند العرف يسمى إقرارا.
ولعل هذا مراد صاحب الجواهر حيث يقول بعد ذكره تعاريف القوم : ولعل الأولى من ذلك ـ أي : من تلك التعاريف ـ إيكاله إلى العرف الكافي في مفهومه ومصداقه. فبناء على هذا لو فهم العرف من الكتابة مثل المعنى الذي ذكرنا وصدق بأنه إقرار ، فتكون تلك الكتابة إقرارا. (7)
الأمر الثاني : هل نفي الحق عن نفسه ، أو نفي المال ، أو نفي النسبة بعد إقرار الطرف بثبوت هذه الأمور له يعد إقرارا على نفسه كي يكون جائزا ونافذا عليه ، أم لا بل هو إنكار لما أقر الطرف ، فلو قال أحد المتبايعين للآخر : لك الخيار في هذه المعاملة ، فنفي ذلك الآخر وقال : ليس لي هذا الحق ، أو قال : هذا المال لك ، أو قال : لك علي كذا من الدنانير ، فقال في جواب الأول : ليس هذا المال لي ، و [ في ] جواب الثاني : ليس لي عليك شيء ، أو ورثة الميت قالوا له : أنت أخونا من هذا الأب الميت ، فأنكر هو وقال : لست ابنا لهذا الميت كي أكون أخاكم.
ولا شك في أن النفي في هذه الموارد مستتبع للضرر عليه ، فإن كان النفي إقرارا يكون من مصاديق « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » فلو صدق المقر بعد النفي ـ أي رجع عن نفيه ـ يكون من الإنكار بعد الإقرار ، ولا يسمع.
وأما لو يكن النفي في هذه الموارد وما يشبهها إقرارا ، فلا دليل على نفوذ هذه الإنكارات ، فالإقرارات من ذلك المقر باق بحالها ، والنفي لم يؤثر فيها ، فإذا رجع عن إنكاره وصدق المقر يكون له هذه الأمور ، ويؤخذ المقر بإقراراته المفروضة.
والظاهر أن النفي في الموارد المذكورة وما يماثلها ، حيث أنه مستتبع للضرر عليه ، يكون إقرارا على نفسه ، ولا يرى العرف فرقا في صدق الإقرار بين أن يكون ما أقر به وجود صفة ، أو يكون عدم تلك الصفة ، فكما أنه لو اعترف بأنه فاسق مرتكب للكبائر يكون هذا إقرارا على نفسه ، كذلك لو قال بأنه ليس بعادل ، أو اعترف أنه ليس بمجتهد يكون هذا أيضا إقرارا على نفسه.
فبناء على أمارية الإقرار على النفس لإثبات ما أقر به ، يكون الإقراران من الأمارتين المتعارضتين ، وبعد عدم الترجيح لإحداهما على الأخرى تتساقطان ، فلا يؤخذ كل واحد منهما بإقراره ، لا المقر ولا النافي.
فإذا رجع النافي عن نفيه وصدق المقر ، فإن كان المقر باقيا على إقراره فيكون كإقرار جديد بلا معارض ، فيؤخذ بإقراره. وإن لم يكن باقيا على إقراره يدخل في باب الدعاوي ، وتنطبق عليه موازين القضاء من جديد.
الأمر الثالث : في أن الإنكار بعد الإقرار لا يسمع ولا أثر له ، وذلك من جهة أن الإقرار ـ كما تقدم ـ أمارة على ثبوت ما أقر به على نفسه ونفوذه في حقه ، والإنكار الذي يصدر منه بعد إقراره لا دليل على اعتباره ، فوجوده كعدمه ، وهذا معنى سماعه ـ أي : كلام ـ لا أثر له.
ولكن هذا فيما إذا تمَّ الإقرار وجرت أصالة الظهور لتشخيص المراد ، وهذا فيما إذا لم تكن قرينة متصلة أو منفصلة تكون أصالة الظهور فيها حاكمة على أصالة الظهور في طرف ذي القرينة ، ولذلك لا يكون الاستثناء عما أقر به إنكارا بعد الإقرار.
فلو قال له : علي عشرة إلا درهما ، كان إقرارا بتسعة لا بعشرة كي يكون استثناء الدرهم إنكارا بعد الإقرار ، وكذلك لو قال : هذه الدار لزيد إلا الغرفة الفلانية ، فهذا إقرار بما عدا تلك الغرفة ، ولو قال : هذه الدار لي إلا الغرفة الفلانية ، فإنها لزيد مثلا، فالإقرار على نفسه يكون بتلك الغرفة فقط ، وهكذا الأمر في سائر الموارد.
فإذا كان الاستثناء عن الإيجاب ، وأقر بالمستثنى منه لغيره ، فيكون ما أقر به ما عدا المستثنى ، وإن كان الاستثناء في الكلام المنفي بأن قال : ليس لزيد شيء من هذه الدار إلا الغرفة الفلانية ، فيكون ما أقر به نفس المستثنى.
والحاصل : أن في مقام الاستثناء تارة يكون إخباره بالنفي أو الإثبات متعلقا بحق الغير عليه ، فالاستثناء في الكلام الموجب نتيجته أن المقر به ما بقي بعد الاستثناء ، كما إذا قال له : علي عشرة إلا درهما ، فيكون الإقرار بتسعة. وأما الاستثناء ، في الكلام المنفي ، كما إذا قال : ليس له علي شيء إلا درهم ، نتيجته أن المقر به هو نفس المستثنى ، أعني الدرهم الواحد. وتارة يكون إخباره بالنفي والإثبات بحق نفسه على الغير ، ففي الكلام الموجب كما إذا قال : لي على زيد عشرة إلا درهما ، يكون الإقرار بالنسبة إلى الدرهم الواحد فقط ، لأن نفي الملكية عنه هو الإقرار على نفسه ، فيكون المقر به هو المستثنى فقط ، عكس السابق.
وأما إذا كان الاستثناء في الكلام المنفي ، كما إذا قال : ليس لي من هذه العشرة دراهم إلا درهما ، فيكون المقر به هو تمام هذه التسعة الذي غير المستثنى ، فيكون ما أقر به في الصورتين ـ أي النفي والإيجاب ـ فيما إذا كان إخباره بالنفي والإثبات بحق نفسه على الغير ، عكس ما كان إخباره بهما بحق الغير عليه.
الأمر الرابع : في أن أمارية الإقرار واعتباره لإثبات المقر به هل مخصوص بما إذا كان في قبال من يدعي ما أقر به ، أو يكون أمارة مطلقا وإن لم يكن مدع في البين أصلا؟
وبناء على الأول ، فلو أقر بأن هذه الدار التي في يدي وتحت تصرفي لزيد ، أو ليس لي ، ولم يكن من يدعيها ، فلو أنكر بعد ذلك ما أقره وقال : إنها ليست لزيد ، أو قال : إنها ملكي ، فليس من قبيل الإنكار بعد الإقرار ، وتكون يده أمارة الملكية ، فلو وهبها لشخص أو وقفها أو باعها أو غير ذلك من التصرفات التي تنفذ للملاك في أملاكهم ، تكون هذه التصرفات نافذة ، ولا تأثير لإقراره السابق ، لأنه بناء على هذا التقدير يكون إقراره السابق كالعدم.
وأما بناء على الثاني ـ أي بناء على كونه أمارة مطلقا ، سواء أكان مدع في البين أو لم يكن ـ فإنكاره بعد ذلك يكون إنكارا بعد الإقرار ولا يسمع منه ، وتسقط يده عن الاعتبار بإقراره ، فلا يجوز له أي تصرف ناقل للعين أو لمنفعتها.
هذا فيما إذا لم يدع الملكية الجديدة ، وأما إذا ادعاها ، فإذا كان حصولها غير ممكن ـ من جهة اتصال زمان تصرفه بزمان إقراره للغير ، أو بوقفيته ، أو بشيء آخر لا يمكن حصول الملكية معه ـ فالأمر واضح ، لسقوط يده عن الاعتبار بواسطة إقراره ، ولم يحصل سبب جديد لملكيته على الفرض ، فتكون تصرفاته غير نافذة حسب الأدلة والأمارات.
وأما إذا كان حصولها ممكنا ، فهل يده أمارة على الملكية الجديدة فيما لا علم بعدم حصولها أم لا؟
والمسألة تدور مدار أن استصحاب حال اليد مقدم أو أمارية اليد الفعلي ، وذلك من جهة أنه لا شك في أنه بعد إقراره ـ بناء على نفوذه وإن لم يكن مدع في البين كما هو المفروض ـ تكون يده يد أمانة ، فيشك في أن تلك الحالة ـ أي كونها أمانة ـ باقية أم زالت وتبدلت يده من الأمانية إلى المالكية.
كما إذا كان مستأجرا لدار وكانت يده يد أمانة قطعا ، ثمَّ يدعي انتقالها إليه بناقل شرعي ، فهل مثل هذه اليد أمارة الملكية ، أو استصحاب حالتها السابقة يبطل أماريتها؟ لا يبعد جريان استصحاب حال اليد وعدم كونها أمارة الملكية.
ثمَّ إن الاحتمالين الذين بيناهما بالنسبة إلى أمارية اليد ـ من كونها أمارة مطلقا ، أو في خصوص ما إذا كان مدع في البين ـ كان بحسب مقام الثبوت.
وأما في مقام الإثبات ، فظاهر النبوي المستفيض أو المتواتر ، أي قوله صلى الله عليه واله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » هو نفوذ الإقرار مطلقا ، كان هناك مدع أو لم يكن ، ولا مخصص ولا مقيد لهذا الإطلاق في البين.
فنقول : إن موارد تطبيق هذه القاعدة التي يذكرها الفقهاء في كتاب الإقرار كثيرة ، ولكن الموارد مختلفة ، فبعضها محل الوفاق ولا خلاف فيها ، لوضوح كونها من مصاديق القاعدة.
مثلا لو أقرّ العاقل البالغ اختيارا بأنّ هذه الدار التي تحت تصرّفي وفي يدي ملك زيد ، أو له عليّ كذا مقدار من الدراهم والدنانير ، وكذا مقدار من الحنطة أو الشعير أو سائر الأجناس التي لها ماليّة ، أو أقرّ بحقّ من الحقوق كحقّ الخيار ، أو حقّ التولية والنظارة على وقف ، أو حقّ التحجير ، أو حقّ السبق في مكان للعبادة أو للمعاملة والتكسّب ، ففي جميع هذه الموارد إذا كان إقراره ممّا يكون على نفسه لا له ، يكون نافذا ولا إشكال ولا خلاف فيه.
ولا فرق بين أن يكون المقرّ له حيّا أو ميّتا ، والمقرّ به عينا أو دينا أو حقا.
نعم يشترط في صحّة إقراره ونفوذه أن لا يكون إقراره معلقا على أمر ، لأنّ التعليق ينافي الإقرار ، وذلك من جهة أنّ الإقرار ـ كما رجّحناه ـ عبارة عن الإخبار جزما وبتّا بثبوت شيء عليه ، أي يكون ثبوت ذلك الشيء على نفسه ، سواء أكان ذلك الشيء عينا أو دينا أو حقّا من الحقوق ، أو كان ثبوت ذلك الشيء مستتبعا لثبوت عين أو دين أو حقّ عليه. وثبوت الشيء فعلا مع كونه معلّقا بثبوته على أمر ـ وإن كان محقّق الوجود فيما سيأتي كطلوع الشمس غدا ـ ممّا يتنافيان ، ولذلك يكون الإقرار معلّقا على أمر باطلا وليس بنافذ ، فلو قال : لك عليّ كذا إن قدم زيد من السفر ، يكون باطلا ولا ينفذ ، بل وكذلك لو قال : لك عليّ كذا إن طلعت الشمس غدا ، باطل ولا ينفذ.
والسرّ في ذلك ما ذكرنا من تنافي حقيقة الإقرار مع التعليق ، حتّى وإن كان المعلّق عليه أمرا محقّق الوقوع.
وبعض الموارد الآخر ليس انطباق القاعدة عليها بتلك المثابة من الوضوح ، ولذا وقع فيها الخلاف والإشكال.
فمنها : لو قال بعد ادّعاه المدّعي شيئا من مال أو حقّ عليه : إن شهد لك فلان فهو صادق ، فقال جماعة ـ وهم الشيخ (8) على ما حكى عنه ، وابن سعيد (9) ، والعلامة (10) على ما في الجواهر (11) ، بل حكى في الجواهر عن فخر الإسلام أنّه حكى عن والده نسبته إلى الأصحاب (12) ـ أنّه إقرار ويلزمه ما ادّعاه المدّعي ، وذكروا لكون هذا الكلام إقرارا وأنّه يلزمه ما ادّعاه المدّعي وجوها :
منها : ما ذكره المحقّق في الشرائع : أنّه إذا صدق يلزمه الحقّ وإن لم يشهد. (13)
بيان ذلك : أنّه أقرّ بصدق الشاهد إذا شهد ، ومعلوم أنّ شهادة ذلك الشاهد لا أثر لها في صدقه ، بل صدقه معلول سبب ثبوت ذلك الشيء على المقرّ ، فصدق الشاهد على تقدير شهادته معناه أنّ ذلك السبب موجود ، فحيث أنّه أقرّ بصدق الشاهد على تقدير شهادته فأقرّ بوجود ذلك السبب على ذلك التقدير ، وحيث أنّ ذلك التقدير أجنبي عن وجود ذلك السبب ، فيكون إقراره بوجود السبب مطلق سواء شهد أو لم يشهد.
وهذا هو المراد من قول المحقّق « إذا صدق يلزمه الحقّ وإن لم يشهد » أي ليس للشهادة تأثير في صدقه ، أو عدمها في كذبه، بل مناط صدقه وكذبه وجود سبب الثبوت وعدم وجوده.
ومنها : أنّ ما يدّعيه المدّعي عليه إمّا ثابت عليه في الواقع ، أو ليس بثابت.
وعلى الثاني ، فعلى تقدير الشهادة أيضا ليس بصادق ، فصدقه على تقدير الشهادة متوقّف على ثبوت ما يدّعيه المدّعي في الواقع ، فإقراره بصدق الشاهد على تقدير الشهادة يرجع إلى الإقرار بثبوت ما يدّعيه المدّعي ، فيلزمه المال أو الحقّ.
وذلك لأنّ الإقرار باللازم الذي هو الصدق على تقدير الشهادة إقرار بملزومه ، أعني ثبوت ما يدّعيه المدّعي.
ومنها : أنّه يصدق هذه القضية ، أي كلّما لم يكن المال ثابتا أو الحقّ كذلك في ذمّة المقرّ لم يكن الشاهد صادقا على تقدير الشهادة ، فعكس ما نقيضه كلّما كان الشاهد صادقا على تقدير الشهادة كان المال ثابتا في ذمّته يكون صادقا ، وذلك لما تقرّر في المنطق أنّ الأصل إذا كان صادقا كان العكس أيضا صادقا ، والمقدّم في عكس النقيض أي : كلّما كان الشاهد صادقا على تقدير الشهادة ثابت بإقراره ، فيترتّب عليه التالي ، وهو كان المال ثابتا في ذمّته.
ثمَّ انّ هاهنا كلام طويل وإيرادات ذكرها صاحب الجواهر في كتاب الإقرار (14) ، تركنا ذكرها والبحث عنها ، لأنّ محلّ ذكرها والبحث عنها هو كتاب الإقرار.
ومنها : لو قال : نعم ، بعد قول المدّعي : ألست مديونا لي بكذا؟ وقع الخلاف في أنّه إقرار أم لا ، بعد الفراغ عن أنّه لو قال : بلى ، لا شكّ في أنّه إقرار ، وذلك من جهة أنّ « بلى » حرف جواب وتختصّ بالنفي وتفيد إبطاله.
وإن شئت قلت : إنّ مفادها تصديق المنفي لا النفي ، بخلاف « نعم » فإنّها تصديق للجملة التي قبلها نفيا كانت أم إثباتا ، ولذلك حكي في المغني عن ابي عباس 2 أنّه قال : لو قالوا في جواب قوله تعالى {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] « نعم » كفروا ، وذلك من جهة أنّ « نعم » تصديق لتمام الجملة ، فيصير مفاد نعم ـ العياذ بالله ـ نفي ربوبيّته تعالى لهم ، ولكن قالوا « بلى » وأبطلوا النفي وصدقوا ما بعده ـ أي المنفي ـ أعني صدقوا ربوبيّته تعالى لهم (15).
ولكن مع ذلك ذهب جماعة إلى أنّه إقرار ، لأنّ « نعم » تستعمل بمعنيين ، أي تصديق النفي تارة ، والمنفي أخرى.
وقد استشهد لهم صاحب الجواهر (16) بقول الأنصار في جواب النبيّ صلى الله عليه واله حين قال لهم : « ألستم ترون ذلك»؟ فقالوا : نعم ، في مقام تصديق أنّه لهم.
وبقول الشاعر :
أليس الليل يجمع أم عمرو وإيّانا فذاك بنا تداني
نعم وأرى الهلال كما تراه ويعلوها النهار كما علاني.
ثمَّ حكى عن المسالك أنّ الحكم بكونه إقرارا قويّ.
ولكن أنت خبير بأنّ صرف استعمال « نعم » مقام « بلى » في بعض الاستعمالات لا يثبت كونه إقرارا ما لم يكن له ظهور عرفي ، وإثبات مثل هذا الظهور بمجرّد استعماله مقام « بلى » في بعض الأحيان لا يخلو من نظر ، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك.
ومعلوم أنّه إذا بلغت النوبة إلى الشكّ ، فالأصل عدم ثبوت الإقرار ، إلاّ أن يكون في مورده إطلاق لفظي يرفع الشكّ. وأمّا لو كان السؤال كلاما مثبتا ـ كما إذا سأل عنه : أنّ لي كذا درهما أو شيئا عليك؟ فأجاب بنعم أو بأجل ـ يكون إقرارا بمضمون ذلك الكلام ، وذلك لأنّ نعم وأجل كلاهما حرف تصديق وجواب ، فإذا أجاب بها أو بإحداهما فقد صدّق السائل فيما أثبته عليه.
ثمَّ انّ الفقهاء ذكروا فروعا كثيرة في كتاب الإقرار ، وتردّدوا أو تنظروا في انطباق هذه القاعدة على بعضها لم نذكرها ، لأنّ محلّ البحث عنها هو كتاب الإقرار ، والمقصود هاهنا بيان اعتبار هذه القاعدة وشرح مفادها والإشارة إلى موارد تطبيقها بطور الإجمال ، لا تفصيل مسائلها ، وإلاّ كان اللازم ذكر جميع مسائل كتاب الإقرار ، وهو خروج عن وضع الكتاب.
والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.
__________________
(*) « الحق المبين » ص 99 ، « عوائد الأيام » ص 172 ، « عناوين الأصول » عنوان 81 ، « خزائن الأحكام » ش 43 ، « مجموعه رسائل » العدد 22 ، ص 497 ، « مستقصى مدارك القواعد » ص 7 ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 207 ، « القواعد » ص 53 ، « قواعد فقهي » ص 223 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج 1 ، ص 63 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 403 ، « در باب إقرار » محمد اعتضاد البروجردي ، مجلة « كانون وكلاء » 27 ، « إقرار » سيد على شايكان نشرة « مجموع حقوقي » العام 1 ، العدد 30.
(1) « صفات الشيعة » ص 37 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 110 ، أبواب كتاب الإقرار ، باب 3 ، ح 1.
(2) « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 3.
(3) « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 223 ، ح 104 ، وج 2 ، ص 257 ، ح 5 ، وج 3 ، ص 442 ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 110 ، أبواب كتاب الإقرار ، باب 3 ، ح 2.
(4) « بحار الأنوار » ج 77 ، ص 173 ، ب 7 ، ح 7. « قل الحق ولو على نفسك ».
(5) « الكافي » ج 7 ، ص 395 ، باب ما يرد من الشهود ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 242 ، ح 600 ، باب البينات ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 16 ، ص 112 ، أبواب كتاب الإقرار ، باب 6 ، ح 1.
(6) « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 315.
(7) « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 2.
(8) « المبسوط » ج 3 ، ص 36.
(9) « الجامع للشرائع » ص 340.
(10) « قواعد الأحكام » ج 1 ، ص 277.
(11) « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 9.
(12) « إيضاح الفوائد » ج 3 ، ص 423 ـ 424.
(13) « شرائع الإسلام » ج 3 ، ص 110.
(14) « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 9.
(15) « مغني اللبيب » ج 2 ، ص 452.
(16) « جواهر الكلام » ج 35 ، ص 84.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|