أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-10-2014
5282
التاريخ: 2-07-2015
745
التاريخ: 9-3-2019
614
التاريخ: 2-07-2015
3978
|
أجمع الإِلهيون على أنَّ العلم من صفات الله الذاتيَّة الكماليَّة ، و أنَّ العالِمْ من أسمائه العليا ، و هذا لم يختلف فيه اثنان على إجماله. و لتبيين الحال تُمهد بمقدمة :
ما هو العلم؟
عُرِّف العلمُ بأنَّه صورة حاصلة من الشيء على صفحة الذهن ، أو أنه انعكاس الخارج على الذهن عند اتصال الإِنسان بالخارج. و قد أخذ الحكماء هذا التعريف من العلوم الرائجة عن الإِنسان.
ولكن التَّعريف ناقص لعدم شموله لبعض أقسام العلم. فإِنَّ العلم ينقسم إلى حصولي و حضوري ، و التعريف المذكور يناسب الأول دون الثاني. و إليك توضيح القسمين :
إنَّ الإِنسان عندما يُطلُّ بنظره إلى الخارج و يلاحظ ما يحيط به في الكون من شجر و حجر ، و شمس و قمر ، يصبح مُدرِكاً والشَّيء الخارجيُ مدرَكاً ولكن بتوسط صورة بين المدرِك و المدرَك تُنْتَزَعُ تلك الصورة من الخارج بأدوات المعرفة ثم تَنْتَقِلُ إلى مراكز الإِدراك. فالشجرُ هو المعلوم بالعَرَض ، و الصورةُ هي المعلوم بالذَّات ، و الإِنسان هو العالم و إنما أسمينا الشيء الخارجي معلوماً بالعرَض و الصورة معلوماً بالذَّات ، لأن الخارجَ معلوم لنا بواسطة هذه الصورة و لولاها لانقطعت صلة الإِنسان بالواقع.
وبعبارة أخرى : إنَّ الواقعية الخارجية ليست حاضرة عندنا بهذه السِّمة. لأن الشيء الخارجي له أثره الخارجي : الحرارة في النار ، والرطوبة في الماء ، والثِقَل في الحجر والحديد. ومعلوم انَّ الشيء الخارجي لا يَرِدُ إلى أذهاننا بهذه الصفات. و لأجل ذلك أصبح الشيء الخارجي معلوماً بالعَرَض ، والصورة معلومة بالذَّات لمزاولة الإِنسان دائماً للصور الذهنيَّة.
وبذلك تقف على تعريف العلم الحصولي وهو : ما لا تكون فيه الواقعيَّة الخارجيَّة معلومة بنفسها ، بل بتوسط صورة مطابقة لها. و الأدوات الحسّية كلُّها موظَّفةٌ في خدمة هذا العِلْم ـ فهو يعتمد على ثلاثة ركائز : المدرك ، الخارج ، الصورة. و لا تَظُنَّنَ هذا اعترافاً بأصالة الصورة و فرعية الخارج ، إذ لا شك أنَّ الأَمر على العكس ، فالخارج هو الأصيل و الصورة هي المنتزعة منه والحاكية عنه ، غير أنَّ الذي يمارسه الذهن و يزاوله هو الصورة الموجودة عنده لا نفس الخارج. و هذه الصورة الذهنية و سيلته الوحيدة لدرك الخارج و إحساسه.
إلى هنا وقفت على تعريف العِلْم الحصولي. و أما العِلْم الحضوري فهو عبارة عن حضور المدرَك لدى المدرِك من دون توسط أي شيء ، وله قسمان :
1 ـ ما لا يتوسط فيه بين المدرِك و المدرَك شيء مع كون المدرِك غير المدرَك حقيقةً. و هذا كالعلم بنفس الصورة المنتزعة من الخارج. و ذلك أنَّ الخارج يدرَك بواسطة الصورة ، وأمّا الصورةُ نفسُها فمعلومةٌ بالذات و لا يتوسط بينها و بين المدرِك أي شيء. فعند اتصال الإِنسان بالخارج عن طريق الصورة الذهنية يجتمع هناك عِلمان : حصوليٌّ باعتبار علمه بالخارج عن طريق الصورة ، وحضوريٌّ باعتبار علمه بنفس الصورة و حضورها بواقعيتها عند المدرِك.
و بذلك تقف على فرق جوهري بين العِلْمين و هو أنَّ المعلومَ في العلم الحصولي غيرَ حاضر لدى المدرِك بواقعيته كما عرفت ، وفي الحضوري يكون المعلوم حاضراً لديه بواقعيته و هذا كالصورة العِلْمية الذهنيَّة فإنها بواقعيتها التي لا تخرج عن كونها موجوداً ذهنياً ، حاضرة لدى الإِنسان.
وبذلك يظهر أنَّ الحصوليَّ ثلاثيُّ الأطراف و الحضوريَّ ثنائيُّها في هذا القسم الأول منه.
2 ـ ما لا يتوسط فيه بين المدرِك و المدرَك أي شيء ولكنهما يتحدان بالذات و يختلفان باللحاظ و الاعتبار. و ذلك كعلم الإِنسان ودَرْكِه لذاته ، فإِنَّ واقعية كل إنسان حاضرة بذاتها لديه ، و ليست ذاتُه غائبةً عن نفسه ، و هو يشاهد ذاتَه مشاهدة عقلية و يحس بها إحساساً وجدانياً ويراها حاضرة لديه من دون توسط شيء بين الإِنسان المدرِك و ذاتِه المدرَكة. و في هذه الحالة يصبح العِلمُ أحاديَّ الأطراف بدل ثنائيِّها في الثاني و ثلاثيِّها في الأول. فالإِنسان في هذه الحالة هو العالم و هو المعلوم في آن واحد. و عندئذ يتّحد المدرِك و المدرَك و تصبح ذات الإِنسان عِلْماً و انكشافاً بالنسبة إلى ذاته. و من العلم الحضوري علم الإِنسان بأحاسيسه من أفراحه و آلامه ، فالكل حاضر لدى الذات بلا توسط صورة.
وبذلك تقف على ضعف الإِستدلال على وجود الإِنسان بتفكره ، فيقال : « أنا أفَكَّر إِذَنْ أَنَا موجود»، فاستُدِلَّ بوجود التَّفَكُّر على وجود
المُفَكِّر (1) ، وجه الضعف :
أولا ـ إنَّ عِلمَ الإِنسان بوجود نفسه ضروريٌ لا يحتاج إلى البرهنة ، فليس تفكر الإِنسان أوضح من علمه بذاته و نفسه.
ثانياً ـ إنَّ المستدل اعترف بالنتيجة في مقدمة الاستدلال حيث قال : « أنا » أُفكر. فقد أخذ وجود نفسه أمراً مفروضاً و مسلَّماً ثم حاول الاستدلال عليه.
تعريف جامع :
على ضوء ما ذكرنا من تقسيم العلم إلى الحصولي و الحضوري يصح أنْ يُقال إِنَّ العلم على وجه الإِطلاق عبارة عن « حضور المعلوم لدى العالم » ، و هذا التعريف يشمل العلم بكلا قسميه (2). غير أنَّ الحاضر في الأول هو الصورة الذهنية دون الواقعية الخارجية و في الثاني نفس واقعية المعلوم من دون وسيط بينها و بين العالم. فالصورة الذهنية في العلم الحصولي حاضرة لدى الإِنسان غير غائبة عنه. كما أنَّ ذات الإِنسان في العلم الحضوري حاضرة لديه ، و هي فيه ، بما أنها واقفة على نفسها ، تسمى عالمة ، و بما أنها مكشوفة لنفسها غير غائبة عنها ، تُعَدُّ معلوماً ، و بما أنّ هناك حضوراً لا غيبوبة ، يسمى ذلك الحضور علماً.
وهذا التعريف جامع شامل كلَّ أنواع العلوم الحاصلة في الممكن والواجب. فإِذا وقفت على هذه المقدمة يقع البحث في علمه سبحانه تارة بذاته و أخرى بفعله (الأشياء الخارجة عن ذاته).
علمُه سبحانه بذاتِه :
إِنَّ علمه سبحانه بذاته ليس حصولياً بمعنى أخذه الصورة من الذات و مشاهدتها عن ذاك الطريق لإمتناع هذا القسم من العلم عليه كما سيأتي ، بل حضوري بمعنى حضور ذاته لذاته ، و يدل على ذلك أمران :
الأول ـ إِنَّ مفيض الكمال لا يكون فاقده:
إِنَّه سبحانه خلق الإِنسان العالم بذاته علماً حضورياً ، فمُعطي هذا الكمال يجب أنْ يكون واجداً له على الوجه الأتمّ و الأكمل لأن فاقد الكمال لا يعطيه ، فهو واجد له بأحسن ما يمكن. و نحن و إِنْ لم نُحِطْ ولن نحيط بخصوصية حضور ذاته لدى ذاته غير أنَّا نرمُز إلى هذا العِلْم ب ـ « حضور ذاته لدى ذاته و علمه بها من دون وساطة شيء في البَيْن ».
وباختصار : لا يسوغ عند ذي فطرة عقلية أنْ يكون واهبُ الكمال و مفيضُه ، فاقداً له. و إلاّ كان الموهوب له أشرف من الواهب ، و المستفيدُ أكرمَ من المفيد. و حيث ثبت استناد جميع الممكنات إليه و منها الذوات العالمة بأنفسها ، وجب أنْ يكون الواجب واجداً لهذا الكمال أي عالماً بذاته عِلماً يكون نفس ذاته لا زائداً عليها (3).
الثاني ـ إنَّ عوامل غيبوبة الذَّات و اختفائها غير موجودة:
توضيحه : إنَّ الموجود المادي بما أنَّه موجود كمّي ذو أبعاض و أجزاء ليس لها وجود جمعي ـ إذ لا تجتمع أجزاؤه في مقام واحد ـ تغيب بعض أجزائه عن البعض الآخر فلا يصحّ للموجود المادّي من حيث إنَّه مادي أنْ يعلم بذاته ، لمكان الغيبوبة المسيطرة على أجزاء ذاته.
فالغيبوبة مضادة لحضور الذات و تمنع تحقق علم الذات بالذات. فإِذا كان الموجود منزّهاً من الغَيْبة و الجزئية و التَّبَعُّض و كان موجوداً بسيطاً جمعياً دون أجزاء و أبعاض ، كانت ذاتُه حاضرةً لديها حضوراً كاملا مطلقاً. و بذلك نشاهد حضور ذواتنا عند ذواتنا لكن لا بمعنى حضور أبعاض أجسامنا و أبداننا بل بمعنى حضور الواقعية الإِنسانية المعبر عنها بلفظة « أنا » المنزهة عن الكمّ و البَعْض و التجزئة. فلو فرضنا موجوداً على مستوى عال من التجرد و البساطة عارياً عن كل عوامل الغيبة التي هي من خصائص الكائن المادي ، كانت ذاته حاضرة لديه. و هذا معنى علمه سبحانه بذاته أي حضور ذاته لدى ذاته بأتم وجه لتنزهه عن المادية و التركّب و التفرّق كما سيوافيك برهان بساطته عند البحث عن الصفات السلبية.
وهناك دلائل أُخر تركناها رَوْماً للاختصار. غير أنَّ هناك جماعة ينفون علمه بذاته و إليك بيان مذهبهم :
العلم بالذَّات يستلزم التغاير :
استدلَّ النافون لعلمه سبحانه بذاته بأنَّ العِلْم نسبةٌ قائمةٌ بين العالمِ و المعلوم و النسبة إنَّما تكون بين الشيئين المتغايرين ، و نسبة الشيء إلى نفسه محال إذْ لا تغاير و لا إثنينيَّة. و باختصار : الشيء الواحد أعني سبحانه تعالى ، بما هو شيء واحد ، لا تتصور فيه نسبة.
وقد أجاب عنه المحققون بما هذا حاصله إِنَّ التعدّد و التغاير إنما هو في العلم الحصولي لأنه عبارة عن إضافة العالِم إلى الخارج بالصورة الذهنية ، ففيه الصورة المعلومة غير الهُويَّة الخارجية. و أمَّا العلم الحضوري فلا يشترط فيه التغاير خارجاً بل يكفي التعدد اعتباراً.
مثلا : إنَّه سبحانه بما أنّ ذاته غير غائبة عن ذاته فهو عالم ، و بما أنَّ الذات حاضرة لديها فهي معلومة.
وبعبارة أخرى : إنَّ إطلاق العِلْم و العالِم و المعلوم لأجل حيثيات و اعتبارات. فباعتبار انكشاف الذات للذات يسمى ذلك الانكشاف « عِلْماً » ، و باعتبار كون الذات مكشوفة لدى الذات يطلق عليها « معلومة » ، و باعتبار كونها واقفة على ذاتها تسمى « عالِمة ». و لو اعتبرتَ كيفية علم الإِنسان بذاته ، لربما يسهل عليك تصديق ذلك.
وإلى ما ذكرنا يعود قول المحققين إِنَّ المغايرة قد تكون بالذات و قد تكون بنوع من الاعتبار. و هنا، ذاته تعالى من حيث إنها عالمة مغايرةٌ لها من حيث إنها معلومة ، و ذلك كاف في تعلق العِلْم (4).
علمه سبحانه بالأشياء قبل إيجادها :
إنَّ علمَه سبحانه بالأشياء على قسمين : على قبل الإِيجاد ، و علم بعده. و الأول هو الذي نرتئيه و هو من أهم المسائل الكلاميَّة ، وإليك الدليل عليه :
1 ـ العلم بالسببيَّة علم بالمسبَّب :
إِنَّ العِلْم بالسبب ، بما هو سبب ، علم بالمسبَّب. و العلم بالعلَّة ، بما هي علَّة ، علم بوجود المعلول ، و المراد من العلم بالعلَّة ، العلم بالحيثية التي صارت مبدأً لوجود المعلول و حدوثه. و لتوضيح هذه القاعدة نمثل بالأمثلة التالية.
أ ـ إنَّ المنجم العارف بالقوانين الفلكية و المحاسبات الكونية يقف على أنَّ الخسوف أو الكسوف أو ما شاكل ذلك يتحقق في وقت أو وضع خاص.
وليس علمه بهذه الطوارئ إلاّ من جهة علمه بالعلة من حيث هي علّة لكذا و كذا.
ب ـ إنَّ الطبيب العارف بحالات النَّبض و أنواعه و أحوال القلب و أوضاعه يقدر على التنبؤ بما سيصيب المريض في مستقبل أيامه. و ليس هذا العلم إلاّ من جهة علمه بالعلَّة من حيث هي علَّة.
ج ـ إنَّ الصيدلي العارف بخصوصية السّم إذا شربه الإِنسان يخبر عن أنَّه سيقضي على حياة الشارب في مدة معينة ، أيضاً.
إذا عرفت هذه الأمثلة نقول : إنَّ العالَم بأجمعه معلول لوجوده سبحانه و ليس له علَّة إلاّ ذاته سبحانه. فالعِلْم بالذات علم بالحيثية التي هي سبب لتحقق العالم و تكوّنه. و بعبارة أخرى : العِلْمُ بالذات ـ كما عرفت دلائله علم بالحيثية التي صدر منها الكون بأجمعه ، و العلم بتلك الحيثية يلازم العلم بالمعلول. و هذا البرهان مبني على مقدمات مسلمة عند الإِلهيين نشير إلى خلاصتها :
الأولى ـ إنَّ العالم بجميع أجزائه مستند إليه سبحانه و هو مقتضى التوحيد في الخالقية ، و إنَّه لا خالق إلاّ هو.
الثانية ـ علّيَّة شيء لشيء عبارة عن كونه مشتملا على خصوصية تقتضي صدور المعلول عنه و توجب إيجاباً قطعياً وجود المعلول في الخارج بحيث لولا تلك الخصوصية لما تحقق المعلول. و لأجل ذلك تكون بين الخصوصية القائمة بالعلَّة و وجود المعلول رابطةٌ وصلةٌ خاصةٌ تقتضي وجودَ المعلول ، ولولا تلك الخصوصية لكانت نسبةُ المعلول إلى العلَّة ، و غيرِها الفاقد لها ، متساوية ، مع أنه ضروري البطلان.
فالخصوصية الموجودة في النار الموجبة للحرارة غير الخصوصية الموجودة في الماء المقتضية للرطوبة.
الثالثة ـ إنَّ فاعليته تعالى لِمَا عداه ، بنفس ذاته لا بخصوصية طارئة ، وجهة زائدة عليها. فهو بنفس ذاته فاعل الكل ، كما هو مقتضى بساطة ذاته و غناه عن كل شيء (الخصوصية الزائدة) سواه. فالواجب تبارك و تعالى فاعل بذاته لا بحَيْثِيَّة منضمة إليها.
الرابعة ـ إنَّ العِلْم بالجهة المقتضية للشيء ، علم بذاك الشيء.
فيتحصل أنَّ علمه تعالى بذاته ، علم بتلك الخصوصية و الجهة. و يترتب عليه لازمه ، أعني علمه بالأشياء قضاءً للملازمة.
وقد أشار إلى هذا البرهان أعاظم المتكلمين و الفلاسفة. قال صدر المتألهين : « إنَّ ذاته سبحانه لما كانت علَّة للأشياء ـ بحسب وجودها ـ و العلم بالعلة يستلزم العلم بمعلولها ، فتعقّلها من هذه الجهة لا بُدّ أن يكون على ترتيب صدورها واحداً بعد واحد » (5).
وإلى ذلك يشير الحكيم السبزواري في منظومته بقوله :
وعالِمٌ بِغَيْرِهِ إِذا اسْتَنَد بالسَّبَبِ العِلْم بما هُوَ السَّبَب ... إليه و هو ذاتَه لقد شَهِد عِلْمٌ بِما مُسَبَّبٌ بِهِ وَجَب(6)
الإِحكام و الإِتقان دليل علمِهِ بالمصنوعات :
إنَّ لحاظ كل جهاز بسيط أو معقد (كقلم أو عقل الكتروني) يدلنا على أنَّ صانعه عالم بما يسود ذلك الجهاز من القوانين و العلاقات. كما تدل دائرة معارف ضخمة على علم مؤلفيها و جامعيها بما فيها.
وبعبارة أخرى : إنَّ وجود المعلول كما يدل على وجود العلة ، فخصوصياته تدل على خصوصية في علته ، فالعالَم بما أنه مخلوق لله سبحانه يدل ما فيه من بديع الخلق و دقيق التركيب على أنَّ خالقَه عالمٌ بما خلق ، عليم بما صنع. فالخصوصيات المكنونة في المخلوق ترشدنا إلى صفات صانعه.
وقد وقع هذا البرهان موضع عناية عند المتفكرين. فإِنَّ المصنوع يدلّ من جهة الترتيب الذي في اجزائه أي كون صنع بعضها من أجل بعض ، و من جهة موافقة جميعها للغرض المقصود من ذلك المصنوع ، على أنَّه لم يحدث عن فاعل غير عالم بتلك الخصوصيات ، بل حدث عن صانع رتب ما قبل الغاية ، فيجب أنْ يكون عالماً به. و الإِنسان إذا نظر إلى بيت و أدرك أنَّ الأساس قد صُنع من أجل الحائط و أنَّ الحائط من أجل السقف ، يتبين له أنَّ البيت قد وُجِدَ عن عالِم بصناعة البناء.
والحاصل ، أنَّ المصنوع بما فيه من إتقان ودقة و نظام بديع و مقادير معينة و مضبوطة يحكي عن أنّ صانِعَه مطّلع على هذه القوانين و الرموز ، عارف بما يتطلبه ذلك المصنوع من مقادير و أنظمة. و من هنا يشهد الكون ابتداءً من الذرة الدقيقة و انتهاء إلى المجرة الهائلة ، و من الخلية الصغيرة إلى أكبر نجم ، بما يسوده من أنظمة و تخطيطات بالغة الدقة ، على أنَّ خالق الكون عالم بكل ما فيه من أسرار و قوانين و أن من المستحيل أن يكون جاهلا. و قد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل بقوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
وقال تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16].
وقال الإِمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « عَلِمَ ما يَمْضِي و ما مَضَى ، مُبْتَدِعُ الخلائِقِ بِعِلْمِه و مُنْشِؤُوها بِحِكْمَتِه » (7).
وقال الإِمام علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام ) : « سبحان من خَلَقَ الخَلْقَ بِقُدْرتِه ، أتقَنَ ما خَلَق بِحِكْمَتِه وَ وَضَعَ كُلَّ شيء موضِعَهُ بِعِلْمِه » (8).
وإلى هذا الدليل أشار المحقق الطوسي في تجريد الاعتقاد بقوله : « و الإِحكامُ دليلُ العِلْم ».
فإن قُلتَ : قد يصدر من بعض الحيوانات أفعال متقنة في ترتيب مساكنها و معيشتِها ، كما في النحل و النمل و كثير من الوحوش و الطيور ، مع أنها ليست من أولي العلم؟
قلتُ : إنَّ ما ذكرنا من أن الإِتقان في الفعل يدل على علم الفاعل قضيةٌ عقلية غيرُ قابلة للتخصيص، و أما هذه الحيوانات فإن عملها بإِلهام من خالقها كما عليه النصوص القرآنية. قال سبحانه : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68، 69].
وما ربما يقال من تفسير هذه الأفعال العجيبة بغرائز الحيوانات ، فلا ينافي ما ذكرنا. فإن الغرائز الصَّمَّاء لا تزيد عن كونها مادة عمياء لا تقدر على إيجاد شيء موزون إلاّ إذا كانت هناك قيادة عالية تسوقها إلى ما هو المطلوب منها. و للتفسير مجال آخر.
علمه سبحانه بالأشياء بعد إيجادها
قد تعرفت على براهين علمه بذاته و بأفعاله قبل الإِيجاد ، و حان وقت البحث عن علمه سبحانه بأفعاله بعد إيجادها و تكوينها فنكتفي في المقام بالبرهانين التاليين :
1 ـ علمُه سبحانه فعلُه :
إنَّ الأَشياء الخارجية تنتهي في مقام الوجود إلى الله سبحانه و يُعَدُّ الكلُّ معلولا له. و كلُّ معلول حاضر بوجوده العيني عند علته لا يغيب و لا يحجب عنها. و قد عرفت أنَّ حقيقة العلم هو حضور المعلوم لدى العالم.
وبعبارة أخرى : إنَّ كل موجود سواه ممكن ، جوهراً كان أوْ عَرَضاً ، خارجياً كان أوْ ذهنياً. فالكل مصبوغ بِصبغة الإِمكان ، ولا محيص للممكن عن الاستناد إليه. و ليس الاستناد إلاّ الحضور لديه و إحاطته سبحانه به (9).
توضيح هذا الدليل : إنَّ كل ممكن معلول في تحققه لله سبحانه ، و ليس للمعلولية معنى سوى تعلق وجود المعلول بعلته و قيامه بها قياماً واقعياً كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الإِسمي. فكما أنَّ المعنى الحرفي بكل شؤونه قائم بالمعنى الإِسمي فهكذا المعلول قائم بعلته. و كما أنَّ انقطاع المعنى الحرفي عن الإِسمي يقضي على وجوده ، فهكذا انقطاع المعلول عن العلة ينتهي إلى انعدامه.
فإذا قلتَ : « سرتُ من البصرة » ، فهناك معنى إسمي و هو السير و البصرة ، و معنى حرفي و هو ابتداء السير من ذلك البلد. ولكن المعنى الثاني قائم بالطرفين و لولاهما لما كان له قوام. ومثله المعلول أي الوجود الإِمكاني المفاض ، قائم بالمفيض وليس له واقعية سوى تعلقه بعلته. و إلاّ يلزم استقلاله و هو ، مع فرض الإِمكان ، خلف. و ما هذا شأنه لا يكون خارجاً عن وجود علته ، إذ الخروج عن حيطته يلازم الاستقلال و هو لا يجتمع مع كونه ممكناً. فلازم الوقوع في حيطته و عدم الخروج عنها ، كون الأشياء كلها حاضرة لدى ذاته. والحضور هو العِلْم لما عرفت من أنَّ العلم عبارة عن حضور المعلوم لدى العالم.
ويترتب على ذلك أنَّ العالَم كما هو فعلُه ، فكذلك علمه سبحانه. و على سبيل التقريب لاحظ الصور الذهنية التي تخلقها النفس في مسرح الذهن ، فهي فعل النفس و في نفس الوقت علمها ، و لا تحتاج النفس في العلم بتلك الصور إلى صور ثانية ، و كما أنَّ النفس محيطة بتلك الصور و هي قائمة بفاعلها و خالقها فهكذا العالَم دقيقُه و جليلُه مخلوقٌ لله سبحانه قائمٌ به ، و هو محيطٌ به.
2 ـ سَعةُ وجودِه دليلُ عِلْمه :
أثبتتْ البراهين القاطعة أنَّ وجوده سبحانه منزَّهٌ عن الجسم و المادَّة و الزمان و المكان. و هو فوق كل قيد زماني أو مكاني و ما كان هذا شأنه يكون وجوده غير محدود ولا متناه إذ المحدودية و التقيّد فرع كون الشيء سجين الزمان و المكان. فالموجود الزماني و المكاني لا يتجاوز إطار محيطه و أمَّا المنزَّه عن ذينك القيدين فلا يحدّه شيء و لا يحصره حاصر. و ما هذا حاله لا يغيب عنه شيء و لا يحيطه شيء بل هو يحيط كل شيء.
وعلى سبيل التقريب نقول إنَّ الإِنسان الجالس في الغرفة الناظر إلى خارجها من كُوَّة صغيرة لا يرى من القطار العابر إلاّ جزءاً منه و هو بخلاف الواقف على السطح أو الناظر من أُفق أعلى كالطائرة.
وعلى هذا الأصل فكلما كان الإِنسان متجرّداً عن القيود تكون إحاطته بالأشياء أكثر وأكثر. و الله المنزه عن الزمان و المكان وكل حد و قيد لا يحيط به شيء من الأشياء الواقعة في إطار الزمان و المكان ، بل هو المحيط بكل ما يجري على مسرح الوجود.
وقد أشار الإِمام عليّ ( عليه السَّلام ) إلى بعض ما ذكرنا بقوله : « إِنَّ الله عزَّ وجلَّ أيَّن الأيْن فلا أيْنَ له ، و جَلَّ أَنْ يحويه مكان ، وهو في كل مكان ، بغير مُماسَّة ، و لا مُجاوَرَة. يحيط عِلْماً بما فيها ، و لا يخلو شيء منها من تدبيره ».
وسنتلو عليك بعض الآيات الكريمات عند البحث عن علمه سبحانه بالجزئيات ـ
مراتب علمه سبحانه :
قد تبين مما ذكرنا أنَّ علمه سبحانه بالأشياء ذو مرتبتين :
الأولى : عِلْمُهُ بها قبل إيجادها في مرتبة الذات و قد عرفت برهانه.
الثانية : عِلْمُهُ بها بعد إيجادها خارج مرتبة الذات وقد عرفت برهانه.
هذا حسب ما ساقتنا إليه البراهين الفلسفية. غير أنَّ الذكر الحكيم يذكر لعلمه سبحانه مظاهر عبّر عنها تارة :
باللوح المحفوظ ، و أخرى بالكتاب المسطور ، و ثالثة بالكتاب المبين ، ورابعة بالكتاب المكنون ، و خامسة بالكتاب الحفيظ ، وسادسة بالكتاب المُؤَجَّل ، و سابعة بالكتاب ، و ثامنة بالإِمام المبين ، و تاسعة بأُم الكتاب. و عاشرةً بلوح المحو و الإِثبات.
فإلى اللوح المحفوظ أشار سبحانه بقوله : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22]. و إلى الكتاب المسطور بقوله : { وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 2، 3]. و إلى الكتاب المبين بقوله : {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]. و إلى الكتاب المكنون بقوله : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } [الواقعة: 77، 78]. و إلى الكتاب الحفيظ بقوله : {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ق: 4]. و إلى الكتاب المؤجَّل بقوله : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا } [آل عمران: 145]. و إلى الكتاب بقوله :{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } [الإسراء: 4]. و إلى أم الإمام المبين بقوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [يس: 12]. و إلى أم الكتاب بقوله : {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4]. و إلى لوح المحو و الإِثبات بقوله : { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]. و قد اكتفينا في الإِشارة إلى كل كتاب بآية واحدة مع أنَّ بعض هذه الكتب وردت الإِشارة إليها في آيات كثيرة.
ثم إن المفسرين اختلفوا في حقيقة هذه الكتب و خصوصياتها فمن قائل بتجردها عن المادة و المادية حتى يَصِحَّ أنْ تُعَدَّ مظاهر لعلمه غير المتناهي. و من قائل بكونها ألواحاً و كتباً مادية سُطِّرَتْ فيها الأشياء و أعمارها و أوقاتها على وجه الرمز ، و لا يمكن الركون إلى هذين القولين بل يجب الإِيمان بها و تحرّي تفسيرها عن طريق الكتاب و السنَّة الصحيحة.
ثم إِنَّه يُعَدّ من مظاهر علمه القضاء و القدر ...
نكتتان يجب التنبيه عليهما :
أ ـ علمه سبحانه حضوريٌ لا حصوليّ :
قد تعرَّفتَ على الفرق بين العِلْم الحصولي و الحضوري و لا نعيده. غير أنَّ الذي يجب إلفات النظر إليه أنَّ عِلْمَهُ سبحانه بذاته وبفعله حضوري : أَمَّا عِلمُه الذاتي بذاته فلعدم غيبوبة ذاته عن ذاته و حضورها لديها. و أمّا علمه بالأشياء فقد عرفت أنَّه على وجهين :
الأول : إنَّ العلم بالذات علم بالحيثية التي تصدر عنها الأشياء و العلم بتلك الحيثية علم بالأشياء. و بذلك يتضح أنَّ علمه سبحانه بذاته كَشْفٌ تفصيليٌ عن الأشياء على الوجه اللائق بذاته.
الثاني : حضور الممكنات لدى الواجب. لأن الممكن قائم بوجود الباري سبحانه حدوثاً و بقاءً و إنَّ قيامَه بذاته سبحانه أشبَهُ بقيام المعنى الحرفيّ بالإِسمي. و هذا النحو من الوجود لا يقبل الغيبوبة إذ هي مناطُ انعدامه و فنائه. فإِذا كانت الموجودات الإِمكانية بهذه الخصوصية ، فكيف يُتصور لها الانقطاع عنها؟ و ما هو إلا فَرْضُ انعدامِها و فنائِها. فعلى ذلك فالعالَم بعامة ذراته ، فعله سبحانه و إيجاده ، و في الوقت نفسه حاضر لديه و هو أي الحضور ، علمه. فعلم الله و فعله مفهومان مختلفان ولكنهما متصادقان في الخارج.
وأمَّا أنَّ له سبحانه وراء العِلْم الحضوري علماً حصولياً أوْ لا ... فإن المشائيّين من الفلاسفة زعموا أنَّ له سبحانه علماً حصولياً أسمَوْه بالصور المرتسمة.
ب ـ عِلْمه سبحانه بالجزئيات :
وإن تَعجب فَعَجَبٌ إنكار بعض الفلاسفة علمه سبحانه بالجزئيات متأثرين ببعض الشبهات الواهية التي ستقف على بعضها و جوابِها. و الإِمعان فيما ذكرنا حول الموجودات الإِمكانية يُوضِح لزومَ علمه سبحانه بالجزئيات وضوحاً كاملا. و يتضح حقيقته إذا وقفتَ على كيفية الخِلْقة و إفاضةِ الوجود من الله سبحانه ، و إليك بيانه :
إنَّ الكون ـ بكل ما فيه من الذرَّة إلى المجرَّة متجدد متغير لا بعوارضه و صفاته فقط بل بجواهره و ذواته. و ما يتراءى للناظر من الثبات و الاستقرار و الجمود في عالم الطبيعة فهو من خطأ الحواس، و الحقيقة غير ذلك ، فالمادة بجميع ذرّاتها خاضعة للتغير والتبدل و السيلان في كل آن و أَوان. و معنى التغير في عالم المادة هو تجدد وجودها و سيلان تحققها آناً بعد آن. فكل ظاهرة مادية مسبوقة بالعدم الزماني. ووجود المادة ، التي حقيقتها التدرّج و السيلان ، أشبه بعين نابعة يتدفق منها الماء باستمرار ، فليس لها بقاء و ثبات وجمود و استقرار.
فإِذا كانت الخلقة و إفاضة الوجود على وجه التدريج و التجزئة ، ولم يكن بإمكان المعلول الخروج عن حيطة علته ، يظهر أن العالَم بذرّاته و أجزائه ، حسب صدوره من الله تعالى ، معلوم له. فالإِفاضة التدريجية ، و الحضور بوصف التَدَرُّج لديه سبحانه ، يلازم علمَه تبارك و تعالى بالجزئيات الخارجيَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المستدل هو الفيلسوف الفرنسي (ديكارت).
2 ـ ليس الهدف من التعريف إلا الإِشارة بوجه إلى حقيقة العلم من دون مراعاة شرط التعريف الحقيقي فلا يؤاخذ عليه بأنه مستلزم للدور لأخذ المُعَرَّف في التعريف.
3 ـ أنظر الأسفار ، ج 6 ، ص 176. و سيوافيك عينيّة صفاته مع ذاته في الأبحاث الآتية.
4 ـ كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، ص 175 ، و شرح القوشجي ، ص 313.
5 ـ الأسفار ، ج 6 ، ص 275. وراجع في ذلك أيضاً التجريد و شروحه.
6 ـ شرح المنظومة ، قسم الفلسفة ، ص 164.
7 ـ نهج البلاغة ، قسم الحكم ، 191.
8 ـ بحار الأنوار ج 4 ، ص 65.
9 ـ كشف المراد ، ص 175 ، بتصرف.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|