أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-8-2016
970
التاريخ: 1-8-2016
824
التاريخ: 23-8-2016
814
التاريخ: 23-8-2016
1112
|
قد استدلّ لهم بالأدلّة الثلاثة: الآيات والروايات والعقل.
الأوّل: الآيات:
أمّا الآيات: فهى على طوائف:
الطائفة الاُولى: ما أمر فيها بالتقوى وهى كثيرة (تسعة وستّون آية منها وردت بصيغة «اتّقوا»، وخمس آيات بصيغة «اتّقون» وأربع آيات بصيغة «اتّقوه»).
والأصرح منها قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة أنّ الاحتياط في الشبهات مصداق من مصاديق التقوى والتقوى، واجب بظاهر هذه الآيات لأنّ الأمر ظاهر في الوجوب.
وقبل الجواب عن هذه الطائفة ينبغي بيان معنى التقوى في اللغة فنقول: إنّها اسم مصدر من مادّة الوقاية على وزن فَعْلى، أصلها وَقْى فأُبدلت الواو بالتاء والتاء بالواو(1)، وهى كما في قاموس اللغة بمعنى الاجتناب والحذر عن كلّ ما يحذر منه، وهذا لا بأس به إذا كان مفعولها غير الباري تعالى، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا } [البقرة: 48] أو {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي...} [البقرة: 24] أو {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ..} [الأنفال: 25] وأمّا إذا كان المفعول وجود الباري كقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، فلابدّ من تقدير فيها كما ذكره المفسّرون لعدم كونه تعالى ممّن يحذر منه كما لا يخفى، وهذا بنفسه قرينة على تقدير شيء نحو عصيان الله (فاتّقوا عصيان الله) أو عذاب الله أو حساب الله، كما ورد في قوله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 40]
هذا كلّه في معنى الكلمة.
ثمّ نقول: يرد على الاستدلال بالطائفة المزبورة على الاحتياط أنّه يمكن النقاش في صغرى كون الاحتياط في الشبهات من مصاديق التقوى الواجبة، فإنّها عبارة عن الإتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرّمات، وأمّا ترك الشبهات فهو مرتبة عالية من التقوى ولا دليل على وجوبها بجميع مراتبها كما أنّ الاجتناب عن المكروهات أيضاً من مراتبه وهو غير واجب.
الطائفة الثانية: ما دلّ على النهي عن القول بغير علم:
منها قوله تعالى: { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 169]
ومنها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]
وتقريب الاستدلال بها أنّ الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة إفتراء وقول عليه بغير علم حيث إنّه لم يأذن فيه.
والجواب عنها: أنّ الترخيص في محتمل الحرمة حكم ظاهري ثابت بأدلّة قطعيّة، فليس هو قو بغير علم بل إنّه صادق في الحكم بوجوب الاحتياط لعدم دليل عليه.
الطائفة الثالثة: ما دلّ على النهي عن الإلقاء في التهلكة، وهى قوله تعالى: { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة: 195] بتقريب أنّ الإقدام في الشبهات مصداق من مصاديق الإلقاء في التهلكة.
ويرد عليه: أنّ الاستدلال بها غير تامّ صغرى وكبرى، أمّا الصغرى، فلأنّ كون إرتكاب المشتبهات من مصاديق الإلقاء في التهلكة أوّل الدعوى ومصادرة بالمطلوب لعدم دليل عليه، وأمّا الكبرى، فلأنّ النهي الوارد في هذه الآية يكون من قبيل النواهي الواردة في باب الإطاعة لأنّ التهلكة عبارة عن العقاب الأخروي الناشيء من العصيان، وقد مرّ في مبحث الأوامر والنواهي أنّ الواردة منها في باب الإطاعة إرشاديّة وإلاّ يلزم التسلسل المحال، فلا دلالة لهذه الآية على الحرمة، هذا إذا كان المراد من التهلكة ما ذكرنا من العقاب الاُخروي، وأمّا إذا كان بمعنى الهلاكة الدنيويّة فلا ربط لها بالمقام كما لا يخفى.
ثمّ لا يخفى عليك الربط بين صدر الآية (وأنفقوا في سبيل الله) وذيلها (ولا تلقوا ...)فالمقصود منها ما أشرنا إليه في بعض الأبحاث السابقة من أنّ عدم الإنفاق وبالنتيجة إيجاد الفقر في المجتمع يوجب الفوضى واختلال النظام وهلاك جميع الأفراد حتّى الممتنع من الإنفاق، فعدم الإنفاق في سبيل الله يوجب إلقاء أنفسكم في الهلكة ضمن إلقاء المجتمع فيها.
هذا كلّه في استدلال الأخباريين على الاحتياط بالآيات.
الثاني: الروايات:
أمّا الروايات فهى كثيرة جمع عمدتها صاحب الوسائل في كتاب القضاء في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي، وهى في الواقع على ثمانية طوائف.
الطائفة الاُولى: ما ورد في الشبهات قبل الفحص مثل صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان، الجزاء بينها، أو على كلّ واحد منهما؟ قال: «لا بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد». قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه فقال: «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا»(2) وفي هذا المعنى روايات اُخرى في نفس الباب كالرواية 3 و23 و29 و31 و43.
الطائفة الثانية: ما تتضمّن أنّ اجتناب الشبهات يوجب القدرة على ترك المحرّمات، وقد علّل فيها ذلك بأنّ المعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها.
منها: ما رواه الصدوق قال: إنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) خطب الناس فقال في كلام ذكره: «حلال بيّن وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له اترك، والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها».
وفي هذا المعنى أيضاً روايات في نفس الباب كالرواية 22 و39 و47 و61.
والجواب عنها: أنّه لا إشكال في أنّها أوامر استحبابيّة إرشاديّة كما لا يخفى.
الطائفة الثالثة: ما أمر فيها بالورع:
منها: ما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا ورع كالوقوف عند الشبهة» (3).
وفي هذا المعنى أيضاً روايات عديدة كالرواية 24 و25 و33 و41 و57.
والجواب عنها: أنّ التعبير بالورع بنفسه قرينة على الاستحباب لأنّ الورع ليس واجباً كما مرّ آنفاً.
الطائفة الرابعة: ما ورد في الشبهات الموضوعيّة التي لا إشكال في البراءة فيها حتّى عند الأخباري:
منها: ما رواه السيّد الرضي(رحمه الله) في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في كتابه إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة: «أمّا بعد يابن حنيف فقد بلغني أنّ رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان وتنقل عليك (إليك) الجفان وما ظننت إنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فَنَل منه»(4).
وفي هذا المعنى رواية اُخرى وهى الرواية 18 من نفس الباب.
ويرد عليها: مضافاً إلى أنّها ناظرة إلى الشبهات الموضوعيّة(5) إنّها أخصّ من المدّعى لورودها في حقّ الحكّام والقضاة، ولا يخفى الفرق بينهم وبين غيرهم.
الطائفة الخامسة: ما يكون النظر فيها إلى اُصول الدين.
منها: ما رواه زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا»(6).
وهناك روايات اُخرى في نفس الباب تدلّ على هذا المعنى كالرواية 53.
والجواب عنها: أنّها أيضاً خارجة عن محلّ الكلام لأنّ الكلام في الأحكام الفرعيّة لا الاُصوليّة التي يجب فيها العلم واليقين.
الطائفة السادسة: ما يكون ناظراً إلى حرمة الأخذ بالاستحسان والقياس والاجتهادات الظنّية في مقام الفتوى:
منها: ما رواه السيّد الرضي(رحمه الله) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة أنّه قال في خطبة له: «فيا عجباً وما لي لا أعجب عن خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها لا يقتفون أثر نبي ولا تقتدون بعمل وصي، يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات، المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأنّ كلّ أمرئ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرى وثيقات وأسباب محكمات»(7).
وفي معناها رواية اُخرى وهى الرواية 54 من الباب.
وهذه الطائفة أيضاً خارجة عن محل البحث، فإنّ حرمة العمل بالقياس والأخذ بالآراء الظنّية والاستحسانات ثابتة بأدلّة قطعيّة لا كلام فيها.
الطائفة السابعة: ما يدلّ على لزوم السكوت والكفّ عمّا لا يعلم.
منها: ما رواه هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) ما حقّ الله على خلقه؟ قال: «أن يقولوا ما يعلمون ويكفّوا عمّا لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى الله حقّه»(8).
وفي هذا المعنى الرواية 32 من نفس الباب.
والجواب عنها: أنّها ناظرة إلى الأحكام الواقعيّة ولا معنى لعدم العلم بالنسبة إلى الحكم الظاهري.
الطائفة الثامنة: ما يكون خارجاً عن جميع الطوائف السابقة ويدلّ على مدّعى الأخباريين في بدء النظر.
منها: ما رواه أبو شيبة عن أحدهما(عليهما السلام) قال في حديث: «الوقوف عند الشبهة خير من الإقتحام في الهلكة»(9).
وبهذا المعنى أيضاً الرواية15 و37 و41 و56.
واُجيب عنها: بأجوبة بعضها تامّ وبعضها غير تامّ:
الأوّل: أنّ وجوب الاحتياط إمّا أن يكون مقدّمياً، أي وجب الاحتياط لأجل التحرّز عن العقاب على الحكم الواقعي المجهول، أو يكون نفسياً لوجود ملاك في نفس الإحتراز عن الشبهة مع الغضّ عن الحكم الواقعي المجهول، والأوّل مستلزم لترتّب العقاب على التكليف المجهول، وهو مخالف لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، والثاني يستلزم ترتّب العقاب على مخالفة نفس وجوب الاحتياط لا مخالفة الواقع مع أنّ صريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة على تقدير الحرمة الواقعيّة كما يعترف به الأخباري أيضاً.
وأجاب المحقّق الخراساني(رحمه الله) عن هذا الوجه بأنّ إيجاب الاحتياط لا نفسي ولا مقدّمي بل يكون طريقيّاً من قبيل الأمر بالطرق والأمارات وبعض الاُصول كالاستصحاب، ومعه لا يحكم العقل بقبح العقاب، أي وجوب الاحتياط يكون حينئذ وارداً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
أقول: بناءً على ما اخترناه من كون القاعدة عقلائيّة (لا عقليّة) يكون الجواب أوضح، لأنّها حينئذ إنّما تكون حجّة فيما إذا لم يردع الشارع عنها، وأدلّة الاحتياط على فرض دلالتها ردع عنها.
الثاني: أنّ المراد من الهلكة إمّا أن يكون العقوبة الاُخرويّة فهى مندفعة بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو يكون المراد منها الهلكة الدنيوية فلا يستفاد منها الوجوب.
ويمكن الجواب عن هذا الوجه أيضاً بنفس ما اُجيب به عن الوجه السابق، وهو أنّ المراد منها الهلكة الاُخروية، ولا تجري حينئذ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنّ أدلّة الاحتياط بنفسها بيان على فرض دلالتها.
الثالث: ما ذكره المحقّق الأصفهاني(رحمه الله) وحاصله: أنّ روايات التوقّف عند الشبهة وردت في موردين خارجين عن موضع استدلال الأخباري:
أحدهما ما ورد في باب المرجّحات عند تعارض الخبرين، وهو مقبولة عمر بن حنظلة فورد فيها: فقلت جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: «ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر»، قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال: «إذا كان ذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات»(10).
فقد وردت هذه الرواية في باب القضاء عند تعارض الأخبار ولا بأس بالالتزام به ولكن البحث في المقام مربوط بباب الفتوى لا القضاء.
أقول: يا ليت أنّه صرف نظره في مقام الجواب عن هذه الرواية إلى قوله(عليه السلام)«فارجئه حتّى تلقى إمامك» فقط حيث إنّه ناظر إلى الشبهات قبل الفحص وما إذا أمكن لقاء الإمام(عليه السلام)وهو ليس داخلا في محلّ النزاع.
ثانيهما: ما رواه مسعدة بن زياد عن جعفر عن آبائه (عليه السلام) أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة، يقول: إذا بلغك إنّك قد رضعت من لبنها وإنّها لك محرم وما أشبه ذلك فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الإقتحام في الهلكة»(11).
ولا يخفى أنّ موردها هو المفاسد الدنيوية فهى أيضاً خارجة عن محلّ النزاع(12).
أقول: وهيهنا رواية ثالثة وهى ما مرّ ذكره من رواية داود بن فرقد، وهى رواية مطلقة لا يمكن الجواب عنها بما ذكره المحقّق الأصفهاني(رحمه الله).
الرابع: أنّ أخبار الاحتياط تخصّص بأخبار البراءة لأنّها عامّة في ثلاث جهات من ناحية كون الشبهة موضوعيّة أو حكميّة، ومن ناحية كونها قبل الفحص أو بعده، ومن ناحية كونها من أطراف العلم الإجمالي وعدمه، كما أنّ أدلّة البراءة خاصّة في نفس تلك الجهات.
الخامس: أنّه لو كان الأمر بالاحتياط في هذه الأخبار مولوية فلابدّ من إرتكاب التخصيص فيها بأن يقال: لا خير في الإقتحام في الهلكة بارتكاب الشبهات إلاّ إذا كانت الشبهة موضوعيّة مطلقاً أو حكميّة وجوبيّة، مع أنّ سياقها آب عن التخصيص كما لا يخفى، فلابدّ حينئذ من حملها على الإرشاد، والإرشاد في كلّ مورد يكون بحسبه، فيكون في بعض الموارد إرشاداً إلى الاستحباب وفي بعض آخر إرشاداً إلى الوجوب.
نعم يبقى في البين روايتان: إحديهما: ما رواه عبدالله بن وضّاح حيث ورد فيها: «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك»(13) ولكن يمكن الجواب عنها بوجوب حملها على الاستحباب بناءً على القول بكفاية استتار القرص في وقت المغرب كما هو الأقوى ومع قطع النظر عن هذا يكون المورد من موارد العلم بالاشتغال الذي يقتضي البراءة اليقينيّة فإنّ الاشتغال بالصلاة في الوقت مقطوع ولا تحصل البراءة إلاّ بالقطع بالإمتثال.
وثانيهما: ما رواه الشهيد(رحمه الله) في الذكرى قال: قال النبي(صلى الله عليه وآله): «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»(14)، ولكّنها مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها.
هذا تمام الكلام في أدلّة الأخباريين من ناحية السنّة.
الثالث: العقل:
وممّا استدلّ به الاخباريون وجوب الاحتياط في الشبهات التحريميّة سواءً من اعترف منهم بحجّية العقل في الجملة، أو من مال منهم إلى العقل، وتقريبه من وجوه ثلاثة:
الوجه الأوّل: العلم الإجمالي بوجود محرّمات كثيرة فعليّة في جملة المشتبهات فتتنجّز تلك المحرّمات بواسطة العلم الإجمالي، والمعلوم بالإجمال هنا من قبيل الكثير، في الكثير، فيجب الاحتياط في جميع المشتبهات حتّى يحصل العلم بالفراغ.
وأجاب عنه: جميع المحقّقين بأنّ العلم الإجمالي هذا ينحلّ بواسطة قيام الأمارات على المحرّمات الكثيرة في أطراف المعلوم بالإجمال بعد الفحص عن الأدلّة.
واستشكل على هذا الجواب أوّلا: بأنّه يعتبر في إنحلال العلم الإجمالي الاتّحاد زماناً بين حصول العلم الإجمالي وحصول العلم التفصيلي بالمقدار المعلوم كما سيأتي وجهه في مبحث الاشتغال، وهذا ليس حاصلا في المقام لأنّ العلم التفصيلي يوجد بعد الفحص عن الأدلّة.
ولكن يرد عليه: أنّ التقارن والاتّحاد الزماني حاصل في المقام لأنّنا في نفس زمان العلم الإجمالي بوجود محرّمات كثيرة في المشتبهات نعلم بوجود إجماعات وروايات وآيات توجب العلم التفصيلي بتلك المحرّمات وانحلال ذلك العلم الإجمالي.
وثانياً: بأنّ العلم الإجمالي ينحلّ بالعلم التفصيلي لا الظنّ التفصيلي، بينما الحاصل بظواهر الكتاب وخبر الواحد إنّما هو الظنّ.
ويندفع هذا الإشكال أيضاً بأنّ الموجب للانحلال إنّما هو قيام حجّة تفصيلية سواء كانت من قبيل البيّنة والظنّ المعتبر أو القطع واليقين كما سيأتي تفصيله في محلّه إن شاء الله تعالى.
هل الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة؟
الوجه الثاني: أنّ الأصل في الأشياء في غير الضروريات الحظر، فإن ورد من الشرع دليل على جوازه فهو، وإلاّ فيبقى على ممنوعيته.
توضيح ذلك: أنّ مسألة الحظر أو الإباحة في الأشياء مسألة تلاحظ بلحاظ ما قبل الشرع المقدّس أو مع قطع النظر عنه خلافاً لأصالة البراءة والاحتياط اللتين تلاحظان بلحاظ بعد الشرع، وحينئذ نقول: إذا راجعنا إلى العقل وأحكامه بالنسبة إلى قبل الشرع نجد أنّ الأفعال على ثلاثة أقسام فبعضها من المستقلاّت العقليّة يرجع حكمها إلى الحسن والقبح العقليين، وبعضها الآخر يكون من الضروريات كالتنفّس وسدّ الرمق، وقسم ثالث لا يكون من القسم الأوّل ولا من الثاني من قبيل شمّ الرياحين وأكل الفواكه وغيرهما من الرفاهيات ما لم تصبح أمراً ضرورياً، ففي هذا القسم هل يحكم العقل بالإباحة أو يحكم بالحظر. فيه أربعة أقوال:
1 ـ القول بالإباحة وهو المشهور بين القدماء.
2 ـ الحظر.
3 ـ عدم الحكم، أي يحكم العقل بخلوّها عن الحكم مطلقاً، وقد نقل هذا عن الحاجبي.
4 ـ التوقّف عن الحكم، قال به الأشعري.
ثمّ إنّ الفرق بين أصالة الحظر وأصالة الاحتياط، أو الفرق بين أصالة الإباحة والبراءة يتلخّص في اُمور:
الأوّل: ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ الحظر أو الإباحة تلحظ بما قبل الشرع أو مع قطع النظر عن الشرع والاحتياط أو البراءة تلحظ بالنسبة إلى ما بعد الشرع.
الثاني: أنّ الحكم في الأوّل واقعي، فمفاد أصالة الحظر أو الإباحة أنّ الشيء الفلاني ممنوع أو مباح واقعاً، بينما الحكم في الثاني ظاهري، فيترتّب العقاب على ترك الاحتياط مثلا في صورة الإصابة إلى الواقع لا مطلقاً.
الثالث: أنّ التحريم أو الترخيص بناءً على أصالة الحظر أو الإباحة تحريم أو ترخيص مالكي يحكم به الشارع بما أنّه مالك، بينما التحريم أو الترخيص بناءً على أصالة الاحتياط أو الإباحة تحريم أو ترخيص مولوي يحكم به الشارع بما أنّه مقنّن ومشرّع وبما أنّه مولى.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ عمدة ما استدلّ به القائلون بالحظر مالكية الباري تعالى وأنّ العالم كلّه ملك له والتصرّف في ملك الغير بدون إذنه قبيح عقلا لا سيّما في المالك الحقيقي، ونتيجته أنّ الأصل في الأشياء الحظر إلاّ ما أذن الله تعالى به.
ولا يخفى أنّ هذا مبنى على ثبوت الحسن والقبح العقليين والقول بالمستقلاّت العقليّة.
وقد اُورد على هذا الوجه من ناحية الكبرى والصغرى معاً.
أمّا الكبرى: وهى كون التصرّف في الأشياء تصرّفاً في ملك الغير بدون إذنه.
فيرد عليها أوّلا: أنّ الإذن حاصل في المقام بدليل الحكم فإنّ الحكمة تقتضي أن يكون خلق الأشياء للانتفاع والتمتّع بها فلا معنى مثلا لخلق الرياحين والفواكه مع المنع عن أيّ تصرّف فيها للإنسان الذي هو جوهر العالم السفلي.
ثانياً: أنّ اعتبار الإذن يتصوّر فيما إذا صدق التصرّف عرفاً فلا معنى لاعتباره في استماع الخطابة من الخطيب أو شمّ الرياحين مثلا، لعدم صدق التصرّف عليه عند العرف، كذلك في المقام، فربّما لا يصدق التصرّف العرفي فيه حتّى يقال بأنّه تصرّف في ملك الغير ولا يجوز بدون إذنه كما في النظر إلى الأجنبية، وهذا نظير ما يقال: إنّه يجوز الإستضاءة بنار الغير ونوره والإستظلال بجداره لعدم كونها تصرّفاً عرفاً، وحينئذ يصبح الدليل أخصّ من المدّعى.
وثالثاً: أنّه يمكن أن يستدلّ ببعض الآيات على وجود الإذن من الله بالنسبة إلى تصرّفات عبيده كقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]وقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10]
ورابعاً: الاستدلال بأدلّة البراءة الشرعيّة حيث تدلّ بالالتزام على وجود الإباحة المالكيّة وإن كان مدلولها المطابقي الإباحة الظاهريّة المولويّة.
وأمّا الصغرى: وهى كون العالم ملكاً اعتبارياً لله تعالى.
فأورد عليها في تهذيب الاُصول بما حاصله: أنّ المفيد بحال الأخباري في المقام إنّما هو المالكية القانونية الاعتباريّة، ولا وجه لاعتبار ملكيّة اعتباريّة لله عزّ وجلّ، فإنّ اعتبارها لابدّ وأن يكون لأغراض حتّى تقوم بها المعيشة الاجتماعيّة، وهو سبحانه أعزّ وأعلى منه، وأمّا المالكيّة التكوينيّة بمعنى أنّ الموجودات والكائنات قائمة بإرادته، مخلوقة بمشيّته، واقعة تحت قبضته تكويناً فلا يمكن للعبد أن يتصرّف في شيء إلاّ بإذنه التكويني وإرادته فهي غير مربوطة بالمقام(15).
أقول: أنّ المالكيّة التكوينيّة ليست في عرض المالكيّة القانونيّة بل إنّها أمر فوقها وحينئذ تتصوّر المالكيّة الاعتباريّة بالنسبة إلى الباري تعالى بطريق أولى، أي المالكية التكوينية تتضمّن المالكيّة القانونيّة وتكون منشأً لها كما يشهد به استدلال القائلين بالمالكيّة الشخصيّة للإنسان في محصول عمله في مقابل منكريها بأنّ الإنسان مالك تكويناً لنفسه وأعضائه وقواه، فيكون مالكاً لعلمه، وبالنتيجة يكون مالكاً لأمواله، حيث إنّه تجسّد للعمل وتبلور له.
أضف إلى ذلك أنّه يمكن الاستدلال لمالكيّته التشريعيّة مع قطع النظر عن مالكيته التكوينيّة بآية الخمس إذ إنّ مالكيته بالنسبة إلى الخمس في قوله تعالى {لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] تشريعية بلا ريب لأنّها جعلت في عرض مالكية الأصناف الخمسة الاُخرى، فمقتضى وحدة السياق أن تكون مالكيته تعالى من سنخ مالكية سائر الأصناف.
مضافاً إلى أنّه لو كان المراد المالكيّة التكوينيّة فلا معنى لأن يكون خصوص سهم من الخمس ملكاً تكوينياً له حيث إنّ العالم كلّه ملك له تعالى وكذا الكلام بالنسبة إلى الإنفال وشبهها.
وإن شئت قلت: إذا كان التصرّف في الملك الاعتباري غير جائز عقلا فعدم جواز التصرّف في الملك التكويني بطريق أولى.
ثمّ إنّه قد يستدلّ على القول بالإباحة في مقابل الحظر بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لكن الحقّ أنّه في غير محلّه لأنّ هذه القاعدة تتصوّر بعد أن قام الشارع للبيان ولم يبيّن، بينما المفروض في المقام إنّما هو ما قبل البيان، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يكون حكم العقل بعدم جواز التصرّف في ملك الغير بنفسه بياناً.
وهنا كلام للمحقّق الأصفهاني(رحمه الله) لإثبات أنّ الأصل هو الإباحة لا الحظر، حيث يقول:
«إنّ المنع تارةً ينشأ عن مفسدة في الفعل تبعث الشارع بما هو مراع لمصالح عباده وحفظهم عن الوقوع في المفاسد على الزجر والردع عمّا فيه المفسدة، وهذا هو المنع الشرعي، لصدوره من الشارع بما هو شارع، وفي قبالة الإباحة الشرعيّة الناشئة عن لا اقتضائيّة الموضوع وخلوّه عن المفسدة والمصلحة، فإنّ سنّة الله ورحمته مقتضية للترخيص في مثله لئلاّ يكون العبد في ضيق منه. واُخرى لا ينشأ عن مفسدة إمّا لفرض خلوّه عنها، أو لفرض عدم تأثيرها فعلا في الزجر كما في ما قبل تشريع الشرائع والأحكام في بدو الإسلام بل من حيث إنّه مالك للعبد وناصيته بيده يمنعه عن كلّ فعل إلى أن يقع موقع حكم من الأحكام حتّى يكون صدوره ووروده عن رأي مولاه، فهذا منع مالكي لا شرعي، وفي قباله الإباحة المالكيّة وهو الترخيص من قبل المالك لئلاّ يكون في ضيق منه إلى أن يقع الفعل موقع حكم من الأحكام، فنقول: حيث إنّ الشارع كلّ تكاليفه منبعث عن المصالح والمفاسد لانحصار أغراضه المولويّة فيها فليس له إلاّ زجر تشريعي أو ترخيص كذلك، فمنعه وترخيصه لا ينبعثان إلاّ عمّا ذكر، ولا محالة إذا فرض خلوّ الفعل عن الحكم بقول مطلق، أعني الحكم الذي قام بصدد تبليغه وإن كان لا يخلو موضوع من الموضوعات من حكم واقعي وحياً أو إلهاماً فليس الفعل منافياً لغرض المولى بما هو شارع فليس فعله خروجاً عن زيّ الرقّية، ومنه يتبيّن أنّ الأصل فيه هو الإباحة لا الحظر، فإنّ عدم الإذن المفروض في الموضوع لا يؤثّر عقلا في المنع العقلي إلاّ باعتبار كون الفعل معه خروجاً عن زي الرقّية، وحيث إنّه فرض فيه عدم المنع شرعاً فلا يكون خروجاً عن زيّ الرقّية إذ فعل ما لا ينافي غرض المولى بوجه من الوجوه بل كان وجوده وعدمه على حدّ سواء لا يكون خروجاً عن زي الرقّية»(16).
فملخّص كلامه أنّه بما أنّ كلّ تكاليف الشارع صادرة عن المصالح والمفاسد فإذا فرض خلوّ الواقع عن الحكم كما في ما قبل الشرع فلا يكون فعل العبد حينئذ خروجاً عن زي الرقّية فيكون الأصل في هذه الحالة الإباحة، فيكون لازم كلامه أنّ مالكيّة الله تعالى مندكّة في مولويته، أي كلّ ما هو وظيفة للعباد يكون من طريق مولويته لا مالكيته لأنّ أغراضه منحصرة في المصالح والمفاسد التشريعيّة، وحيث إنّ المفروض عدم وصول حكم من ناحية مولويته إلى العبد في ما قبل الشرع فلا يكون فعل العبد خروجاً عن زيّ العبوديّة فيكون الأصل هو الإباحة.
أقول: هذا الكلام أيضاً غير تامّ لأنّ المولويّة والمالكيّة وصفان مختلفان، فالعبد الذي يخرج إلى السفر بدون إذن المولى تارةً يركب مثلا على مركب المولى ويخرج إلى السفر، واُخرى يركب على مركب غيره، ففي كلتا الحالتين خرج عن زي عبوديّة المولى، لكنّه في الحالة الاُولى فعل معصية اُخرى، وهو الخروج عن مالكيّة المولى ونقض مالكيته أيضاً.
وبعبارة اُخرى: أنّ للمولى مالكيّة على العبد ولازمها حرمة الخروج إلى السفر بدون إذنه، ومالكيّة على الفرس ولازمها حرمة الركوب على فرسه بدون إذنه، فكذلك في ما نحن فيه، فكما أنّ العبد مملوك لله تعالى كذلك الرياحين والفواكه أيضاً مملوكة له ويكون التصرّف فيها تصرّفاً في ملك الغير بدون إذن، فلكلّ واحد من هذين حكمه ولا يندكّ أحدهما في الآخر. وبعبارة اُخرى: أنّ الله تعالى مالك للعباد وتنشأ من هذه المالكيّة وظائف الرقّية والعبوديّة، فهو مولى وهذا عبد، ومالك لما سوى العباد تنشأ منه حرمة التصرّف فيها بغير إذنه ولا ربط لأحدهما بالآخر.
الوجه الثالث: ـ من الوجوه العقليّة ـ حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، وقد تقدّم تفصيل الكلام فيه.
والجواب عنه: بأنّه لو كان المراد من الضرر ، الضرر الاُخروي فلا صغرى لهذه القاعدة لورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان عليها، وإن كان المراد الضرر الدنيوي ففي كثير الموارد لا يكون الضرر الدنيوي ملاك الحكم، فاحتمال الضرر لا يكون موجباً للزوم دفعه، هذا أوّلا.
وثانياً: أنّ هذه القاعدة إرشاد من ناحية العقل كأوامر الطبيب فلا ينشأ منها حكم مولوي.
______________
1. راجع شرح الشافية: ج 3، ص 80.
2. وسائل الشيعة: الباب 12، من أبواب صفات القاضي، ح1.
3. وسائل الشيعة: الباب 12، من أبواب صفات القاضي، ح 20.
4. المصدر السابق: ح 17.
5. والذي يدلّ على أنّ الرواية الثانية ناظرة إلى الشبهات الموضوعيّة قوله(عليه السلام) فيها: «وآخذهم بالحجج» لأنّ المراد من الحجج هو أدلّة الخصمين لإثبات دعواهما.
6. وسائل الشيعة: الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح 11.
7. وسائل الشيعة: الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح 19.
8. المصدر السابق: ح 4.
9. المصدر السابق: ح 13.
10. وسائل الشيعة: الباب 9، من أبواب صفات القاضي، ح 1.
11. المصدر السابق: الباب 157، من أبواب مقدّمات النكاح، ح 2.
12. راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 197، من الطبع القديم.
13. وسائل الشيعة: الباب 12، من أبواب صفات القاضي، ح 37.
14. وسائل الشيعة: الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح 56.
15. تهذيب الاُصول: ج 2، ص 213، طبع جماعة المدرّسين.
16. نهاية الدراية: ج 2، ص 205، طبع القديم.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|