أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-8-2016
842
التاريخ: 23-8-2016
1112
التاريخ: 12-5-2020
1073
التاريخ: 1-8-2016
691
|
..قد استدلّوا بوجوه :
الاستدلال بالآيات:
منها الآيات ; وهي على طوائف :
منها : ما دلّ على حرمة الإلقاء في التهلكة ، كقوله تعالى : {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
وفيه : أنّ ملاحظة سياق الآيات يرشدنا إلى المرمي منه ; فإنّها نازلة في مورد الإنفاق للفقراء وسـدّ عيلتهم وأداء حـوائجهم بإعطاء الـزكاة والصدقات ; حتّى يتحفّظ بذلك نظم الاجتماع ، ويتوازن أعدال المجتمع ، ولا ينفصم عروة المعيشة لأرباب الأموال بالثورة على ذوي الثروة ; فإنّ في منعهم عـن حقّهم إلقاء لنفوسهم إلى التهلكة .
أو في مورد الإنفاق في سبيل الجهاد ; لأنّ في ترك الإنفاق مظنّة غلبة الخصم . إلى غير ذلك من محتملات .
وأمّا مورد الشبهة : فليس هاهنا أيّة هلكة ; لا اُخروية بمعنى العقاب لقيام الأدلّة على جواز الارتكاب ، ولا دنيوية ; إذ لا يكون في غالب مواردها هلكة دنيوية .
ومنها : ما دلّ على حرمة القول بغير علم ، كقوله تعالى : {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [النور: 15] ، وقوله تعالى : {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 28]
وجه الدلالة : أنّ الحكم بجواز الارتكاب تقوّل بلا علم وافتراء عليه تعالى .
قال الشيخ الأعظم : ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ; لأنّهم لا يحكمون بالحرمة ، بل يتركون لاحتمالها . وهذا بخلاف الارتكاب ; فإنّه لا يكون إلاّ بعد الحكم بالرخصة والعمل على الإباحة.
والظاهر منه : ارتضاؤه بهذا الفرق ; ولهذا أجاب عن الإشكال بأنّ فعل الشيء المشتبه حكمه ـ اتّكالاً على قبح العقاب بلا بيان ـ ليس من ذلك(1) .
وأنت خبير : بأنّ النزاع بين الأخباري والاُصولي في وجوب الاحتياط وعدمه لا في الترك وعدمه ; فالأخباري يدّعي وجوب الاحتياط ويحكم به ، والاُصـولي ينكر وجوبـه ويقول بالبراءة والإباحـة . فكلّ واحـد يـدّعي أمـراً ويقيم عليه أدلّة .
والجواب عن أصل الاستدلال : أنّه سيوافيك في مباحث الاستصحاب أنّ المراد من العلم واليقين في الكتاب والسنّة ـ إلاّ ما شذّ ـ هو الحجّة لا العلم الوجداني(2) ، والمنظور من الآيات هو حرمة الفتوى بلا حجّة والتقوّل بلا دليل من الكتاب والسنّة والعقل .
وعليه : فليس الاُصولي في قوله بالبراءة متقوّلاً بغير الدليل ; لما سمعت من الأدلّة المحكمة الواضحة .
ومن الآيات : ما دلّ على وجوب الاتّقاء حسب الاستطاعة والتورّع بمقدار القدرة ، مثل قوله سبحانه : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] ، وقوله عزّ اسمه : {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ......} [الحج: 78] الآية ، وقوله عزّ شأنه : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102].
وأجاب عنه شيخنا العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ بأنّ الاتّقاء يشمل المندوبات وترك المكروهات ، ولا إشكال في عدم وجوبهما . فيدور الأمر بين تقييد المادّة بغيرهما وبين التصرّف في الهيئة بحملها على إرادة مطلق الرجحان ; حتّى لا ينافي فعل المندوب وترك المكروه . ولا إشكال في عدم أولوية الأوّل ، إن لم نقل بأولوية الثاني ; من جهة كثرة استعمالها في غير الوجوب ; حتّى قيل : إنّه صار من المجازاة الراجحة المساوي احتمالها مع الحقيقة(3) ، انتهى .
وفيه أمّا أوّلاً : فإنّ شمول الاتّقاء لفعل المندوب وترك المكروه مورد منع ; فإنّ التقوى عبارة عن الاحتراز عمّا يوجب الضرر ، أو يحتمل في فعله أو تركه الضرر ، وليس المندوب والمكروه بهذه المثابة . وأمّا شموله لمشتبه الحرمة أو الوجوب فلاحتمال الضرر في فعله أو تركه . ويشهد على المعنى المختار الاستعمالات الرائجة في الكتاب والسنّة .
وأمّا ثانياً : فلو سلّم كون استعمال الهيئة في غير الوجوب كثيراً ، إلاّ أنّ تقييد المادّة أكثر ، بل قلّما تجد إطلاقاً باقياً على إطلاقه ، وهذا بخلاف هيئة الأمر ; فهي مستعملة في الوجوب واللزوم في الكتاب والسنّة إلى ما شاء الله .
أضف إلى ذلك : أنّ ترجيح التصرّف في الهيئة على التصرّف في المادّة يوجب تأسيس فقه جديد ، ولا أظنّ أنّه ـ قدس سره ـ كان عاملاً بهذه الطريقة في الفروع الفقهية ; وإن تكرّر منه القول بترجيح التصرّف في الهيئة على المادّة في مجلس درسه .
نعم ، يتعيّن في المقام التصرّف في الهيئـة دون المادّة ، لا لكون ذلك قاعـدة كلّية ، بل لخصوصيـة في المقام ; لأنّ الآيـة شاملـة للشبهات الموضوعية والوجوبية الحكمية . ولو حملنا الآية على الوجوب بلا تصرّف في مفاد الهيئة يستلزم تقييد الآية وإخراج بعض الأقسام ، مع أنّ لسانها آبية عن التقييد . بل التقييد يعدّ أمراً بشيعاً .
وكيف يقبل الطبع أن يقال : اتّقوا الله حقّ تقاته إلاّ في مورد كذا وكذا ؟ فلا مناص عن التصرّف في مفاد الهيئة بحمل الطلب على مطلق الرجحان حتّى يتمّ إطلاقها ، ولا يرد عليها تقييد أو تخصيص . وليس الاُصولي منكراً لرجحان الاحتياط أبداً .
أضف إلى ذلك : أنّ الآيات شاملة للمحرّمات والواجبات المعلومة ، ولا إشكال في امتناع تعلّق الأمر التعبّدي بوجوب إطاعتهما ، فيجب حمل الأوامر فيها على الإرشاد ، فتصير تابعة للمرشد إليه .
فلو حكم العقل أو ثبت وجوبه أو حرمته يتعيّن العمل على طبق المرشد إليه ، وإن لم يثبت وجوبه أو حرمته أو ثبت خلافه لابدّ من العمل أيضاً على طبقه .
الاستدلال على وجوب الاحتياط بالسنّة وهي على طوائف :
الطائفة الاُولى : ما دلّ على حرمة القول أو الإفتاء بغير علم(4) .
وقد أوضحنا المراد من تلك الطائفة عند البحث عن الآيات الدالّة على حرمة القول بغير علم ، فراجع .
الطائفة الثانية : ما دلّت على الردّ على الله ورسوله والأئمّة من بعده ، وإليك نماذج من تلك الطائفة :
منها : رواية حمزة الطيّار : أنّه عرض على أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ بعض خطب أبيه ; حتّى إذا بلغ موضعاً ، منها : قال له : «كفّ واسكت» ، ثمّ قال أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ : «إنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ، ويجلو عنكم فيه العمى ، ويعرّفوكم فيه الحقّ ، قال الله تعالى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43](5) .
وفيه : أنّ الظاهر من الأمر بالكفّ اشتمال الخطبة على المطالب الاعتقادية ، فإذن النهي راجع إلى التقوّل فيها بلا رجوع إلى أهل الذكر . ولو سلّم كونها أعمّ من الاعتقادية فالنهي حقيقة راجع إلى الإفتاء فيها بلا رجوع إلى أهل الذكر ، فلا ترتبط بالمقام ; فإنّ الاُصولي إنّما أفتى بالبراءة بعد الرجوع إلى الكتاب والسنّة .
ومنها : رواية جميل بن صالح عن الصادق ـ عليه السلام ـ قال : «قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في كلام طويل» إلى أن قال : «وأمر اختلف فيه ، فردّه إلى الله»(6) .
ومنها : رواية الميثمي عن الرضا ـ عليه السلام ـ في اختلاف الأحاديث ، قال : «وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا»(7) .
ومنها : رواية سليم بن قيس الهلالي في كتابه : أنّ علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ قال لأبان بن أبي عيّاش : «يا أخا عبد قيس ، إن وضح لك أمر فاقبله ، وإلاّ فاسكت تسلم ، وردّ علمه إلى الله فإنّك أوسع ممّا بين السماء والأرض»(8) .
ومنها : رواية جابر عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ في وصية له لأصحابه ، قال : «إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا»(9) .
ومنها : رواية عبدالله بن جندب عن الرضا ـ عليه السلام ـ في حديث : «إنّ هؤلاء القوم سنح لهم شيطان اغترّهم بالشبهة ، ولبّس عليهم أمر دينهم» إلى أن قال : «والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحيّر ، وردّ ما جهلوه من ذلك إلى عالمه ومستنبطه»(10) .
والجواب عن الكلّ : بأنّ شيئاً منها غير مربوط بالمقام ، بل إمّا مربوط بالتقوّل بلا رجوع إلى أئمّة الدين ، أو مربوط بالفتوى بالآراء والأهواء ، من غير الرجوع إليهم . والاُصولي لا يفتي في أيّة واقعة من دون الرجوع إلى أئمّة الحقّ .
وبالجملة : أدلّة الحلّ مستندة للأصولي في الفتوى بالحكم الظاهري ، وأدلّة البراءة المؤيّدة بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مستند له في الفتوى بعدم وجوب الاحتياط ، فتلك الأدلّة واردة على تلك الروايات .
الطائفة الثالثة : ما دلّ على التوقّف بلا تعليل :
منها : مرسلة موسى بن بكر ، قال أبو جعفر لزيد بن علي : «إنّ الله أحلّ حلالاً وحرّم حراماً» إلى أن قال : «فإن كنت على بيّنة من ربّك ويقين من أمرك وتبيان من شأنك فشأنك ، وإلاّ فلا ترومنّ أمراً»(11) .
ومنها : رواية زرارة عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ : «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا»(12) .
وفيه : أنّ الرواية ناظرة إلى الإنكار بلا دليل وستر الحقّ بلا جهة ، وأين هي من الدلالة على ردّ البراءة المستفادة من الكتاب والسنّة ؟ ! وهذه الرواية مربوطة بالاُصول وشبهات أهل الضلال .
ومنها : كتاب أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ إلى عثمان بن حنيف : «فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه»(13) .
وفيه : أنّها راجعة إلى الشبهة الموضوعية ،كما هو غير خفي على من لاحظ الكتاب .
ومنها : كتابه إلى مالك الأشتر : «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممّن لا تضيق به الاُمور» إلى أن قال «أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الاُمور»(14) .
وفيه : أنّه راجع إلى أدب القاضي في المرافعات التي لا تخرج عن حدود الشبهة الموضوعية ، فكيف يستدلّ على المقام ؟ مع أنّه سوف يوافيك عن الجميع جواباً آخر ، فانتظر .
ومنها : خطبة منه ـ عليه السلام ـ : «فيا عجبا ، وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها ، لا يقتفون أثر نبي ، ولا يقتدون بعمل وصي» إلى أن قال : «يعملون في الشبهات»(15) .
وفيه : أنّها راجعة إلى المارقين أو القاسطين من الطغاة الخارجين عن بيعته ، المحاربين لإمام عصرهم .
ومنها : وصيته ـ عليه السلام ـ لابنه الحسن ـ عليه السلام ـ : «يا بنيّ دع القول فيما لا تعرف»(16) .
ومنها : وصية اُخرى له : «لا تخرج عن حدود الاُولى»(17) .
وملخّص الجواب عن هذه الطائفة ـ مع ما عرفت من المناقشة في أكثرها ـ أنّها ممّا تلوح منها الاستحباب ; فإنّ كلمات الأئمّة ـ لاسيّما أميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ ـ مشحونة بالترغيب إلى الاجتناب عن الشبهات .
وبهذه الطائفة تفسّر الروايات التي يستشمّ منها الوجـوب ، مثل ما رواه الشهيد في «الذكرى» ، قال : قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»(18) ، مـع احتمال أن يكـون المراد منـه ردّ ما يريبك ـ أي المشتبـه ـ إلى غيره حتّى يتّضح معناه .
وفي وزان ما تقدّم من تلك الطائفة قوله ـ عليه السلام ـ : «أورع الناس من وقف عند الشبهة»(19) ، وقوله ـ عليه السلام ـ : «لا ورع كالوقوف عند الشبهة»(20) ; فإنّ الروايتين وما قارنهما من الروايات في المعنى أقوى شاهد على الحمل على الاستحباب .
الطائفة الرابعة : أخبار التثليث :
منها : رواية النعمان بـن بشير ، قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول : «إنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى الله حلاله وحرامه ، والمشتبهات بين ذلك ، كما لو أنّ راعياً رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن تقع في وسطه ، فدعوا المشتبهات»(21) .
ومنها : رواية سلام بن المستنير عن أبي جعفر الباقر ـ عليه السلام ـ قال : «قال جدّي رسول الله : أيّها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة ، وحرامي حرام إلى يوم القيامة» إلى أن قال : «وبينهما شبهات من الشيطان وبدع بعدي ، من تركها صلح له أمر دينه ، وصلحت له مروّته وعرضه ، ومن تلبّس بها وقع فيها واتبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى ، ومن رعى ماشيته قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى»(22) .
أقول : هذه الروايات صريحة في الاستحباب ; ضرورة أنّ الرعي حول الحمى لم يكن ممنوعاً، غير أنّ الرعي حوله ربّما تستوجب الرعي في نفس الحمى ، فهكذا الشبهات ; فإنّها ليست محرّمة ، غير أنّ التعوّد بها كالتعوّد بالمكروهات ربّما يوجب تجرّي النفس وجسارته لارتكاب المحرّمات ، بل في هذه الروايات شهادة على التصرّف في غيرها ، لو سلّمت دلالتها .
الطائفة الخامسة : ما دلّ على التوقّف ; معلّلاً بأنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات ، كما عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي ـ عليهم السلام ـ قال : «الوقوف في الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة»(23) ، وفي رواية جميل بن درّاج عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه»(24) .
ولا يقصر عنها مقبولة عمر بن حنظلة التي سيوافيك بطولها في التعادل والترجيح(25) ، وفيها بعد ذكر المرجّحات : «إذا كان كذلك فارجه حتّى تلقى إمامك ; فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(26) .
وإليك الجواب : إنّ في تلك الروايات آثار الإرشاد ; ولو كان فيها ما يتوهّم فيه الدلالة على الوجوب يجب التصرّف فيه بالشواهد التي في غيرها ، بل الظاهر عدم استعمال هذا التعليل في شيء من الموارد في الوجوب ; وإن ذهب الشيخ(27) ـ وتبعه غيره(28) ـ إلى استعماله في رواية جميل والمقبولة في الوجوب ، لكنّه غيرتامّ ; فإنّ الكبرى المذكورة في رواية جميل بن درّاج ـ أعني قوله : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» ـ لا تنطبق على ما ذكره بعده ـ أعني قوله : «وما خالف كتاب الله فدعوه» ـ لأنّ مخالف الكتاب ليس ممّا يجب فيه الوقف أو يستحبّ فيه التوقّف ، بل يجب طرحه وسلب إسناده إلى الأئمّة ـ عليهم السلام ـ .
وحينئذ : فلابدّ أن تحمل الكبرى المذكورة على غير هذا المورد ، بل تحمل على الأخبار التي ليس مضامينها في القرآن ; لا على نحو العموم ولا الخصوص . ولو لم تحمل على هذا فلابدّ أن تحمل إمّا على الموافق للقرآن أو مخالفه صريحاً ، وكلاهما خارجان عنها : أمّا الموافق فيجب الأخذ به ، وأمّا المخالف فيجب طرحه لا التوقّف فيه .
فانحصر حمله على الروايات التي لا تخالف القرآن ولا توافقه . وعلى هذا فلو حملنا الأمر بالوقوف على الاستحباب في مورد الشبهة ثبت المطلوب ، وإن حملناه على الوجوب فلا تجد له قائلاً ; فإنّ الأخباري والاُصولي سيّان في العمل بالأخبار التي لا تخالف القرآن ولا توافقه ، ولم يقل أحد بوجوب الوقوف أصلاً ; وإن كان التوقّف والعمل على طبق الاحتياط أولى وأحسن .
وأمّا المقبولة فسيوافيك الكلام في مفادها عند نقل الروايات الواردة في مرجّحات الأخبار عند التعارض(29) ، وما نذكره هنا قليل من كثير ، فنقول : بعدما فرض الراوي تساوي الحكمين في العدالة ، وكونهما مرضيين عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر قال ـ عليه السلام ـ : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به من حكمهما(30) ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ; فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الاُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله . . .»(31) إلى آخره .
وحاصل الجواب : هو إرجاع الراوي عند تساوي الحكمين إلى النظر في مدرك الحكمين ، فما كان مجمعاً عليه بين الأصحاب يؤخذ به ; لكونه لا ريب فيه ، وما كان شاذّاً متروكاً لا يعمل به ويترك .
وعليه : فليس المراد من الشهرة في المقام هو الشهرة الروائية المجرّدة بين أصحاب الجوامع والحديث وإن لم يكن مورداً للفتوى بينهم ; إذ أيّ ريب ووهن أولى وأقوى من نقل الحديث وعدم الإفتاء بمضمونه ; فإنّ هذا يوجب وهناً في الرواية بما لا يسدّ بشيء .
بل المراد هو الشهرة الفتوائية ; بأن يكون الرواية مورداً للفتوى ، وقد اعتمد عليه أكابر القوم من المحدّثين والفقهاء ; مذعنين بمضمونه . وهذا هو الذي يجعل الرواية ممّا لا ريب فيه ; لأنّ أهل البيت أدرى بما في البيت ، كما تجعل تلك الشهرة ما يقابلها من الرواية الشاذّة ممّا لا ريب في بطلانها .
وبذلك تقف على أنّ الرواية المشهورة بالمعنى المختار داخلة في الاُمور التي هي بيّن الرشد ، كما أنّ الشاذّة ممّا هي بيّن الغيّ ; لكون المشهور ممّا لا ريب فيه ، كما أنّ الشاذّ ممّا لا ريب في بطلانه ، فيدخل كلّ فيما يناسبه .
واحتمال أنّ الشاذّ ممّا فيه ريب لا ممّا لا ريب في بطلانه ، فلا يدخل تحت بيّن الغيّ ، بل يكون مثالاً للأمر المشكل الذي يردّ حكمه إلى الله ، مدفوع بأنّ لازم كون إحدى الروايتين المتضادّتين ممّا لا ريب في صحّتها كون الاُخرى ممّا لا ريب في بطلانها ; ضرورة عدم إمكان كون خبرين مخالفين : أحدهما لا ريب فيه ، والآخر ممّا فيه ريب ويعدّ مشتبهاً .
فإنّ وجوب صلاة الجمعة إذا كان ممّا لا ريب فيه فلا يمكن أن يكون عدم وجوبها ممّا فيه ريب، بل لا ريب في بطلانه وفساده ; لأنّ الحقّ واحد ليس غير .
وعلى ذلك : فلم يذكر الإمام ـ عليه السلام ـ مثالاً للأمر المشكل الذي ذكره عند تثليث الاُمور ، لكن يعلم من التدبّر فيما سبق من المثالين ; فإنّ غير المجمع عليه وغير الشاذّ من الاُمور هو المشكل الذي يردّ حكمه إلى الله ورسوله ، وهذا هو الذي عبّر عنه الإمام ـ عليه السلام ـ في رواية جميل بن صالح بأمر اختلف فيه ; حيث نقل الراوي عن الصادق ـ عليه السلام ـ عن آبائه ـ عليهم السلام ـ أنّه : «قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : الاُمـور ثلاثـة : أمـر تبيّن لك رشده فاتّبعـه ، وأمـر تبيّن لك غيّه فاجتنبه ، وأمـر اختلف فيه فردّه إلى الله عزّوجلّ»(32) .
لا يقال : لو كان المراد من الشهرة هي الفتوائية ـ أعني الفتوى على طبقها ـ فما معنى قول الراوي بعد الفقرات الماضية قال : قلت فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم . قال : «ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة . . .» إلى آخـره ; إذ لا معنى لكون كلّ واحـد مـن الخبريـن مشهوراً مجمعاً عليه بحسب الفتوى ; فإنّ كـون أحـدهما مجمعاً عليه يستلزم اتّصاف الآخـر بالشذوذ والندرة .
وهذا بخلاف ما إذا حملناها على الشهرة الروائية ، فيمكن أن يكون كلّ واحد مشهوراً حسب النقل ، بل نقلهما الثقات وأصحاب الجوامع ; وإن لم يكن الفتوى إلاّ على طبق واحد منهما .
لأنّا نقول : إنّ المراد من المجمع عليه هو مقابل الشاذّ النادر ممّا يطلق عليه «المجمع عليه» عرفاً .
وبذلك يتّضح معنى قوله : «فإن كان الخبران عنكم مشهورين . . .» إلى آخره ; لإمكان اشتهار فتوائين بين الأصحاب ، لكن لا بمعنى كون أحدهما شاذّاً نادراً ، بل بعد عرفان حكم المشهور والشاذّ ، أنّ إحدى الروايتين ليست نادرة بحسب الفتوى ، بل مساوية مع صاحبها في أنّ كليهما مورد فتوى لجمع كثير منهم ، وأنّ الحكمين معروفان بينهم ، هذا فقه الحديث .
وأمّا عدم دلالته على مدّعى الأخباريين : فلما علم أنّ المراد من الأمر المشكل الذي أمر فيه بالردّ إلى الله ورسوله هو القسم الثالث الذي ليس بمجمع عليه ولا شاذّ ، بل ممّا اختلف فيه الرأي .
ولا أظـنّ أنّ الأخباري ممّن يلتزم فيه بوجـوب التوقّف والـردّ إلى الله تعالى ; فإنّ الأخباري لا يجتنب عـن الرأي والإفتاء في المسائل التي اختلفت فيها كلمـة الأصحاب ، بل نراه ذات رأي ونظر في هـذه المسائل ، مـن دون أن يتوقّف ويردّ حكمها إلى الله ورسوله ; وإن كان الأرجح عقلاً هو التوقّف والاحتياط فيما ليس بيّن الرشد المجمع عليه ، ولا بيّن الغيّ الشاذّ النادر ، وإرجاع الأمر فيه إلى الله .
وبما ذكرنا يظهر : حال التثليث الواقع في كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ; حيث استشهد الإمام به ; حيث قال : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن اجتنب الشبهات نجى عن المحرّمات . . .»(33) إلى آخره ; فإنّ الحلال البيّن والحرام البيّن ما اجتمعت الاُمّة على حلّيته وحرمته ، والمشتبه ليس كذلك ، فهي ممّا يترجّح فيه الاحتياط بالاجتناب .
ويشهد على أنّ الاحتياط ممّا هو راجح في المقام تعليله ـ عليه السلام ـ بأنّ الأخذ بالشبهات أخذ بالمحرّمات ; بمعنى أنّ النفس مهما تعوّدت على ارتكاب المشتبه فلا محالة تحصل فيه جرأة الارتكاب بالمحرّمات ، فارتكاب الشبهات مظنّة الوقوع في المحرّمات والهلاك من حيث لا يعلم سرّه .
وما أحسن وأبلغ قوله ـ عليه السلام ـ في بعض الروايات ; حيث شبّه مرتكب الشبهات بالراعي حول الحمى لا يطمئنّ عن هجوم القطيعة على نفس الحمى(34) ، وإلاّ فالرعاية حول الحمى من دون تجاوز إليه ليس أمراً محرّماً بلا إشكال .
وبذلك يظهر : أنّ مفاد قوله ـ عليه السلام ـ في آخر المقبولة : «فارجه حتّى تلقى إمـامك» هـو الرجحان والاستحباب ; لصيرورة الصـدر قـرينة على الـذيل ، كما هـو واضح .
ولو سلّم ظهوره في الوجوب يقع التعارض بينه وبين ما دلّ على التخيير في الخبرين المتعارضين ، كرواية ابن جهم(35) والحارث بن مغيرة(36) ، والجمع العرفي يقتضي حمل الأمر على الاستحباب ; تحكيماً للنصّ على الظاهر ، مع ما مرّ من القرائن المتقدّمة وغيرها ممّا سيوافيك بيانه في التعادل والترجيح(37) .
ولو أغمضنا النظر عن كلّ ما ذكر فالأمر دائر بين حمل الأمر على الاستحباب أو تخصيص قوله : «الوقوف عند الشبهات» بالشبهة الموضوعية . ولا إشكال أنّ الأوّل هـو المتعيّن ; لإباء الكبرى المذكورة عـن التخصيص ، كما تقدّم بيانه(38) .
وأمّا ما أفاده شيخنا العلاّمة من ترجيح حمل الأمر على الاستحباب ; معلّلاً بأنّ التصرّف في الهيئة أهون من التصرّف في المادّة فقد مرّ عدم وجاهته(39) .
فتبيّن ممّا ذكرنا : عدم دلالة هذه الطائفة من الأخبار على مقالة الأخباريين .
الطائفة السادسة : ما دلّت على الاحتياط ، وإليك نبذ من تلك الطائفة :
منها : صحيحة عبد الرحمان بن الحجّاج ، قال : سألت أبا الحسن ـ عليه السلام ـ عن رجلين أصابا صيداً ، وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء ؟
قال : «لا ، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما جزاء الصيد» . فقلت : إنّ بعض أصحابنا سألني من ذلك ، فلم أدر ما عليه . قال : «إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم الاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا»(40) .
قلت : الاحتمالات في الرواية كثيرة ; لأنّ قوله : «إذا أصبتم بمثل هذا» إمّا إشارة إلى حكم الواقعة ، أو إلى نفس الواقعة . وعلى كلا الفرضين : فإمّا أن يراد من المثل مطلق المماثلة ، أو المماثل في كون الشبهة وجوبية مطلقاً أو كونها وجوبية دائرة بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين ـ إن قلنا بلزوم القيمة في جزاء الصيد ـ أو الارتباطيين ، بناءً على وجوب البدنة ، فمع هذه الاحتمالات يستدلّ بها على لزوم الاحتياط في خصوص الشبهة التحريمية مع كونها بمراحل عن مورد الرواية ؟ !
ثمّ إنّه لو قلنا بكون المشار إليه هو حكم الواقعة : إمّا أن يراد من قوله : «فعليكم الاحتياط» الاحتياط في الفتوى ، أو الفتوى بالاحتياط ، أو الفتوى بالطرف الذي هو موافق للاحتياط .
ومع ذلك فبما أنّه ـ عليه السلام ـ ذيّل قوله : «فعليكم الاحتياط» بعد قوله : «فلم تدروا» ، بقوله: «حتّى تسألوا عنه فتعلموا» فالمتبادر من الأمر بالاحتياط هو الاحتياط في الفتوى وعدم التقوّل على الله تعالى . ولأجل ذلك يترجّح حمل الرواية على الفتوى قبل الفحص مع إمكان التفحّص عن مورده ، كما هو مفروضها .
ودلالتها على مقالة الأخباري يتوقّف على حملها على مطلق الشبهات ; تحريمية أو وجوبية ، ثمّ إخراج الوجوبية منها لقيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها ، مع أنّه من قبيل إخراج المورد المستهجن ، كما لا يخفى .
ومنها : رواية عبدالله بن وضّاح قال : كتبت إلى العبد الصالح : يتوارى عنّا القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعاً ويستتر عنّا الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ويؤذّن عندنا المؤذّنون فاُصلّي حينئذ وأفطر إن كنت صائماً ، أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل ؟
فكتب : «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك»(41) .
ووصفها الشيخ الأعظم بالموثّقة(42) ، مع اشتمال سنده على سليمان بن داود ، المردّد بين الخفاف والمروزي المجهولين ، والمنقري الذي وثّقه النجاشي(43) ، والمظنون أنّه المنقري .
وعلى أيّ حال : فالظاهر أنّ السؤال عن الحمرة المشرقية ; إذ هي التي ترتفع فوق الجبل ، وأمّا المغربية فلا ترتفع ، بل تنخفض إلى أن ينتهي إلى فوق الجبل .
وعلى ذلك : فالرواية واردة مورد التقيّة ; فإنّ المشهور هو لزوم زوال الحمرة المشرقية فتوى ودليلاً . وعليه : فالأمر بالانتظار والأخذ بالحائط للدين لأجل إفادة الحكم الواقعي بهذه العبارة ، وعلى ذلك : فلا يدلّ على لزوم الاحتياط مطلقاً وفي عامّة الشبهات ، كما لا يخفى .
وبقي في المقام روايات كثيرة تلوح منها الاستحباب ، كقوله ـ عليه السلام ـ : «أخوك دينك فاحتط لدينك»(44) ، وقس عليه كلّ ما مررت عليه ; فإنّ مفادها الاستحباب بلا إشكال .
الاستدلال على وجوب الاحتياط بالدليل العقلي (العلم الإجمالي)
استدلّ الأخباري على لزوم الاحتياط بالعلم الإجمالي(45) ; قائلاً بأنّا نعلم بوجود محرّمات كثيرة في الشريعة الغرّاء ، فيجب علينا الخروج عن تبعاتها ،ولا يحصل إلاّ بترك كلّ ما علم حرمته أو شكّ فيها ; حتّى يحصل العلم القطعي بالامتثال ، أو يرد من الشارع الترخيص ، ومعه يحصل الأمن من العقاب .
وخلاصة هذا البرهان ادّعاء قطعين : الأوّل القطع بوجود محرّمات كثيرة في الشريعة ، الثاني القطع بعدم رضاء الشارع بارتكابها ; كائنة ما كانت .
ومن المعلوم ـ حينئذ ـ لزوم الاجتناب إلى أن يحصل اليقين بالبراءة ، وهذا اليقين لا يحصل إلاّ بترك معلوم الحرمة ومشكوكها .
قلت : وبما أنّ الأجوبة المذكورة في المقام يدور حول القول بانحلال العلم الإجمالي بالمراجعة إلى الأدلّة فلا بأس من التعرّض لميزان الانحلال وأقسامه ; حتّى يكون كالضابط لعامّة الأجوبة:
فنقول : إنّ ما به ينحلّ العلم الإجمالي : تارة يكون قطعاً واُخرى يكون غيره من الأمارات والاُصول الشرعية كالاستصحاب ، أو العقلية كالاشتغال . وعلى التقادير : تارة يكون العلم الإجمالي مقدّماً لقيام الطريق واُخرى مؤخّراً وثالثة مقارناً ، وعلى التقادير : تارة يكون المؤدّى بالعلم الإجمالي مقدّماً على المؤدّى بالطريق التفصيلي واُخرى مؤخّراً وثالثة مقارناً .
وعلى التقادير أنّ ما به ينحلّ : إمّا أن يكون أمراً تفصيلياً ; سواء كان علماً أو حجّة ، وإمّا يكون أمراً إجمالياً ، كما لو علم إجمالاً بتكاليف بين جميع الشبهات ، وعلم بوجود تكاليف أيضاً بين الطرق والأمارات ، مع إمكان انطباقهما .
ثمّ إنّه لو علم أنّ ما هو المعلوم تفصيلاً عين ما هو المعلوم بالإجمال ، ووقف على انطباق المعلومين انطباقاً قطعياً فلا إشكال في الانحلال . ومثله ما إذا قطع بأنّ ما في دائرة العلم الإجمالي الكبير عين ما هو في دائرة الصغير ; إذ مع هذا ينحلّ العلم في الكبير ويبقى في الصغير فقط .
وأمّا إذا احتمل الانطباق فهل ينحلّ العلم الإجمالي حينئذ حقيقة أو حكماً ، أو لا ينحلّ مطلقاً ؟
فيظهر من بعضهم : أنّه ينحلّ حقيقة ، وأفاد في وجهه : بأنّ العلم الإجمالي قد تعلّق بأمر غير معنون ولا متعيّن ، والتفصيلي تعلّق بالمعيّن ، وانطباق اللامعيّن على المعيّن قهري ; لأنّ عدم الانطباق إمّا لأجل زيادة الواقعيات المعلومة بالإجمال عن المعلوم بالتفصيل ، أو من جهة تعيّن الواقعيات المعلومة بالإجمال بنحو تأبى عن الانطباق ، أو تنجّز غير الواقعيات بالأمارات ، والكلّ خلف(46) ، انتهى .
قلت : إنّ وجه عدم الانحلال لأجل احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على غير المعلوم بالتفصيل.
وما ادّعى ـ قدس سره ـ من أنّ انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل قهري غير مسموع ; فإنّ المعلوم بالإجمال لمّا كان أمراً غير متعيّن فيحتمل أن يكون عين ما تعيّن بالعلم التفصيلي ، ويمكن أن يكون غيره ، ومع هذا فكيف يمكن أن يقال بالانطباق القهري ؟ ! والحاصل : أنّ لازم الانطباق القهري العلم بأنّ المعلوم بالإجمال هو عين ما علم بالتفصيل ، ولكنّه مفقود ; لقيام الاحتمال بالمغايرة بعد .
والتحقيق أن يقال : إنّ ميزان الانحلال لو كان قائماً باتّحاد المعلومين مقداراً ، مع العلم بأنّ المعلوم بالتفصيل هو عين ما علم بالإجمال لكان لعدم الانحلال وجه ، إلاّ أنّ الميزان هو عدم بقاء العلم الإجمالي في لوح النفس ، وانقلاب القضية المنفصلة الحقيقية أو المانعة الخلوّ إلى قضية بتّية ومشكوكة فيها ، أو إلى قضايا بتّية وقضايا مشكوكة فيها .
فلو علم بوجود واجب بين أمرين ; بحيث لا يحتمل الزيادة حتّى يكون القضية منفصلة حقيقية ، أو مع احتمال الزيادة حتّى يكون مانعة الخلوّ فمع العلم التفصيلي بوجوب بعض الأطراف أو واحد من الطرفين ينقلب القضية إلى قضية بتّية ; أي إلى وجوب واحد معيّناً ، وإلى مشكوكة فيها .
فلا يصحّ أن يقال : إمّا هذا واجب أو ذاك ، بل لابدّ أن يقال : هذا واجب بلا كلام ، والآخر مشكوك الوجوب ، وهذا ما ذكرنا من ارتفاع الإجمال الموجود في لوح النفس .
وإن شئت قلت : لا يصحّ عقد قضية منفصلة على نحو الحقيقية ، ولا على نحو المانعة الخلوّ .
ولو قيل : إنّ القضية المنفصلة لا تنافي مع كون أحد الطرفين جزمي الحكم فلا مشاحة في الاصطلاح ، ولكن لا يحكي عن تردّد في النفس وإجمال في الذهن ، بل ينحلّ المعلوم بالإجمال إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي لا يعدّ طرفاً للعلم .
واحتمال كون المعلوم بالإجمال عين المشكوك فيه الذي خرج عن الطرفية غير مضرّ ; لأنّ المعلوم بنعت المعلومية الفعلية غير محتمل الانطباق ، وإنّما المحتمل انطباق ما كان معلوماً سابقاً مع زوال وصف العلم بالفعل على الطرف الآخر ; لأنّ المعلومية الإجمالية الفعلية ملازم للعلم الإجمالي ، ومع زوال العلم لا معنى لوجود المعلوم بالفعل ، فتدبّر .
ثمّ إنّ بعـض محقّقـي العصـر ـ قدس سره ـ قـد حكـم ببقاء العلم الإجمالـي وعـدم انحلاله حقيقةً ، وحاصل ما أفاد : أنّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علـى المعلوم بالتفصيل وعلى الطرف الآخـر كاشف قطعي عـن بقاء العلم الإجمالي ; لكونه مـن لوازمه .
ودعوى : أنّه يستلزم محذور تعلّق العلمين بشيء واحد بتوسيط العنوانين الإجمالي والتفصيلي ; وهو من قبيل اجتماع المثلين ، مدفوعة بأنّه لا يزيد عن التضادّ الموجود بين الشكّ والعلم . مع أنّه يمكن أن يتعلّق العلم والشكّ بشيء واحد بعنوانين ، كما في أطراف العلم الإجمالي .
وعليه : فلا مجال للإشكال في تعلّق العلمين بشيء بتوسيط عنوانين الإجمالي والتفصيلي(47) ، انتهى .
وفيه : أنّ ما ذكره خلط بين احتمال انطباق المعلوم بالإجمال فعلاً واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال سابقاً ، وقد زال عنه العلم فعلاً . والمفيد لما ادّعاه هو الأوّل ، مع أنّه غير واقع ; ضرورة ارتفاع العلم الإجمالي عن مركزه ; فإنّ العلم بكون هذا واجباً أو خمراً لا يجتمع مع التردّد في كونه واجباً أو عدله ، أو كونه خمراً أو الآخر ; فإنّ الإجمال متقوّم بالتردّد ، وهو ينافي العلم التفصيلي ولا يجتمع معه .
وأمّا ما ذبّ به عن الدعوى في قياس اجتماع العلم الإجمالي والتفصيلي باجتماع الشكّ والعلم الإجمالي ففي غاية الضعف ; إذ لا مانع من اجتماع العلم الإجمالي والشكّ ، بل هو متقوّم به أبداً ; إذ لا منافاة بين تعلّق العلم بكون أحدهما خمراً ، وبين الشكّ في كون الآخر معيّناً خمراً .
وهذا بخلاف المقام ; فإنّ تعلّق العلم الإجمالي والتفصيلي بشيء واحد بتوسيط عنوانين معناه كون هذا معيّناً خمراً ، والشكّ في كونه خمراً ، وهما لا يجتمعان أصلاً .
وإن شئت قلت : فرض تعلّق العلم الإجمالي بكون أحدهما خمراً فرض الترديد في كلّ واحد بعينه ، وفرض العلم التفصيلي بكون واحد منهما بعينه خمراً فرض اللاترديد ، وهذا اجتماع النقيضين .
فتحصّل : أنّ الانحلال إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي في الموارد المزبورة هو الحقّ القراح ، غير أنّه يمكن أن يقال : إنّ إطلاق الانحلال في هذه الموارد لا يخلو عن مسامحة ; لأنّ الانحلال فرع مقارنة العلم التفصيلي والإجمالي ، وهما غير مجتمعين . وكيف كان : فالحقّ ما مرّ .
وربّما يقال : بالانحلال الحكمي ; بمعنى بقاء العلم الإجمالي مع وجود العلم التفصيلي ، أو قيام الأمارة أو الأصل على بعض الأطراف بمقدار المعلوم بالإجمال ممّا يحتمل انطباق مؤدّاه على المعلوم بالإجمال .
وقد اُفيد في تقريره وجوه :
منها : ما أشار إليه بعض محقّقي العصر ; حيث أفاد : أنّه مع قيام المنجّز في أحد طرفي العلم الإجمالي ـ علماً كان أو أمارةً أو أصلاً ـ يخرج العلم الإجمالي عن تمام المؤثّرية في هذا الطرف لما هو المعلوم من عدم تحمّل تكليف واحد للتنجيزين .
وبالجملة : معنى منجّزية العلم الإجمالي كونه مؤثّراً مستقلاًّ في المعلوم على الإطلاق ، وهذا المعنى غير معقول بعد خروج أحد الأطراف عن قابلية التأثّر ، فلا يبقى في البين إلاّ تأثيره على تقدير خاصّ ، وهو أيضاً مشكوك من الأوّل .
والحاصل : أنّ الجامـع المطلق القابل للانطباق على كلّ واحـد غير قابل التأثّر مـن قبل العلم الإجمالي ، والجامـع المقيّد بانطباقـه على الطرف الآخـر لا يكون معلوماً من الأوّل(48) .
وفيه : أنّه يظهر النظر فيه ممّا يأتي في الجواب عن المحقّق الخراساني من الخلط بين العلم الوجداني وغيره .
منها : ما أفاده المحقّق الخراساني ـ قدس سره ـ من انحلال العلم الإجمالي بثبوت طرق واُصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار المعلوم بالإجمال أو أزيد ، وأنّ حجّية الأمارات شرعاً وإن كانت بتنجيز ما أصابه والعذر عمّا أخطأ عنه ـ كما في الطرق العقلية ـ إلاّ أنّ نهوض الحجّة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف يكون عقلاً بحكم الانحلال ، وصرف تنجّزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر عمّا إذا كان في سائر الأطراف(49) ، انتهى .
وفيه : أنّه خلط بين العلم الوجداني الإجمالي بوجود تكاليف في البين ; بحيث لا يرضى المولى بتركه أصلاً ، والعلم بالخطاب ، أو العلم بقيام الأمارة إجمالاً .
فلو كان من قبيل الأوّل ـ أعني العلم بالتكليف الفعلي ـ فلا يعقل عدم تنجّزه في أيّ طرف كان ، ولا يعقل صرف تنجّزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر عمّا إذا كان في سائر الأطراف .
كما لا يعقل الترخيص ; فإنّ ترخيص بعض الأطراف المحتمل كونه هو المعلوم بالإجمال أو غيره لا يجتمع مع بقاء العلم بفعليته ، بل لو قامت الأمارة على كون المؤدّى هو المعلوم بالإجمال يجب عقلاً رفع اليد عن الأمارة والعمل بما هو مقتضى العلم الوجداني الفعلي .
وإن شئت قلت : إنّ الترخيص ، بل احتماله مع العلم الوجداني الفعلي بالتكليف من الاُمور المتنافية ، لا يجتمعان أصلاً ; لأنّ احتمال الترخيص مع احتمال كون التكليف في طرفه مع القطع بالتكليف الفعلي مطلقاً متناقضان .
نعم ، يصحّ ما ذكره وكلّ ما ذكره الشيخ الأعظم ـ قدس سره ـ ، في العلم بالخطاب أو العلم بقيام الأمارة إجمالاً ، كما تقدّم إجمالاً وسيجيء توضيحه في مباحث الاشتغال(50) .
ومنها : ما أفاده بعض الأعيان المحقّقين في تعليقته : من أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بوجوب ما لا يخرج عن الطرفين لا بأحدهما المردّد ، فلا ينجّز إلاّ بمقداره ، وتنجّز الخصوصية المردّدة به محال .
ففي كلّ طرف يحتمل الحكم المنجّز ، لا أنّه منجّز ، وذاك الاحتمال هو الحامل على فعل كلّ من المحتملين ; لاحتمال العقاب .
وأمّا الحجّة القائمة على وجوب الظهر بخصوصها فهي منجّزة للخاصّ بما هو خاصّ ، وليس لها في تنجيز الخاصّ مزاحم ، فلا محالة تستقلّ الحجّة في تنجيز الخاصّ .
وتنجيز الخاصّ الذي لا مزاحم له يمنع عن تنجّز الوجوب الواحد المتعلّق بما لا يخرج عن الطرفين ; إذ ليس للواحد إلاّ تنجّز واحد ، وإذا دار الأمر بين منجّزين : أحدهما يزاحم الآخر بتنجيزه ـ ولو بقاءً ـ والآخـر لا يزاحمـه في تنجيزه ـ ولو بقاءً ـ لعدم تعلّقه بالخاصّ حتّى ينجّزه فلا محالة يكون التأثير للأوّل(51) ، انتهى ملخّصاً .
وفي ما ذكره مواقع للنظر :
أمّا أوّلاً : فلأنّ القول بأنّ العلم قد تعلّق بوجوب ما لا يخرج عن الطرفين لا بأحدهما المردّد خلاف الوجدان ، فإنّ الوجدان أقوى شاهـد على أنّ العلم متعلّق بوجوب أحـدهما ; بمعنى أنّ الشخص واقف على أنّ الواجب هـو الجمعـة بما لها مـن الخصوصية ، أو الظهر كـذلك . وتأويل ذلك العلم إلى أنّـه متعلّق بما لا يخرج عن الطرفين تأويل بعد تعلّق العلم ، ولا يلتفت على ذلك التأويل إلاّ عند التوجّه الثانوي(52) .
وثانياً : أنّ معنى منجّزية الأمارة ليس إلاّ أنّ المؤدّى على فرض كونـه تكليفاً واقعياً وموافقتـه للواقـع يكون تخلّفها موجباً لاستحقاق العقوبـة ، فلا تكون الأمـارة منجّزة للتكليف إلاّ على سبيل الاحتمال ، كما أنّ العلم الإجمالي كـذلك ، فأيّ فرق بينه وبين الأمارة ؟ !
وما أفاد من أنّ طرف العلم الإجمالي يحتمل وجود الحكم المنجّز فيه لا أنّه منجّز ، بخلاف الأمارة فإنّها منجّزة للخاصّ ، في غير محلّه ; لأنّ التنجيز في كليهما بمعنىً واحد ، وحكم العقل في كليهما على نسق واحد ; وهو لزوم الاتّباع لاحتمال التكليف المنجّز الموجب لاستحقاق العقوبة .
لا يقال : إنّ لسان أدلّة حجّية الأمارات أو لسان نفسها هو أنّ المؤدّى نفس الواقع وأنّه منجّز عليك ، لا أنّ المؤدّى على فرض مطابقته للواقع منجّز وموجب للعقوبة ، وكم فرق بينهما ؟ ! وعليه يحصل الفرق بين تنجيز الأمارة والعلم الإجمالي .
لأنّا نقول : والأمارة وإن قامت على الخصوصية لكن لم تكن منجّزة على أيّ حال ، بل على فرض المطابقة للواقع . والعلم الإجمالي أيضاً منجّز للتكليف بخصوصيته في أيّ طرف كان ; بمعنى أنّه مع العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة إذا تركهما المكلّف ، وكان الظهر واجباً بحسب الواقع يستحقّ العقوبة على الظهر بخصوصيته .
وثالثاً : سلّمنا أنّ متعلّق العلم إنّما هو وجوب ما لا يخرج عن الطرفين ، ولكنّه يستلزم تنجيز ما هو المنطبق ـ بالفتح ـ لهذا العنوان ; أعني نفس التكليف الواقعي .
وعلى هذا : فلو فرض صحّة الأمارة وتطابقها للواقع يكون مؤدّاها نفس التكليف الواقعي ، فلا محالة يقع التنجيز على شيء واحد معيّن واقعي ، ويكون التنجيز مستنداً إلى العلم الإجمالي والأمارة ، لا إلى الأمارة فقط ، لو لم نقل باستناده إلى العلم الإجمالي فقط ; لسبقه وتقدّمه . وعليه : فما أفاد من أنّ الأمارة في تنجيزها بلا مزاحم غير صحيح .
فظهر : أنّه لا صحّة للقول بالانحلال الحكمي مع حفظ العلم الإجمالي ، كما تقدّم .
التحقيق في الجـواب : ما تقدّم منّا على الوجـه الكلّي(53) مـن أنّ الميزان لانحلال العلم هـو ارتفاع الترديد ، وانقلاب القضيـة المنفصلـة الحقيقيـة أو المانعـة الخلـوّ إلى قضيـة بتّيـة ومشكوكة ، ولا يلزم العلم بكـون المعلوم تفصيلاً هـو المعلوم إجمالاً .
وعلى هذا فما أشار إليه المحقّق الخراساني في بعض كلماته(54) يمكن أن يكون وجهاً للانحلال الحقيقي ، وحاصله : تحقّق العلم الوجداني بوجود تكاليف واقعية في مؤدّى الطرق والأمارات والاُصول المعتبرة بمقدار المعلوم بالإجمال ، ومعه ينحلّ العلم الإجمالي الكبير في دائرة العلم الإجمالي الصغير .
وبعبارة أوضح : أنّ العلم بوجود تكاليف بسبب الأمارات والاُصول يرفع الترديد الموجود في دائرة العلم الإجمالي الكبير .
وإن شئت فأوضح المقام بما يلي : لو علم إجمالاً بكون واحد من الإنائات الثلاثة خمراً ، واحتمل الزيادة ، ثمّ علم جزماً بأنّ واحداً من هذين الإنائين خمرٌ فلا يعقل بقاء العلم الأوّل ; لعدم إمكان الترديد بين أحد الإنائين وبين الآخر ; فإنّه ينافي العلم الإجمالي ، فلا يمكن تعلّق علمين بواحد من الإنائين وواحد من الثلاثة .
نعم ، يمكن تعلّق العلمين بسببين للتكليف أو الوضع ، كما لو علم إجمالاً بوقوع قطرة من الدم في واحـد مـن الإنائين ، وعلم بوقوع قطرة اُخـرى مقارناً لوقوع الأوّل في أحدهما أو إناء آخر ; فإنّ العلمين تعلّقا بالقطرتين والسببين لا بالنجاسة .
وهذا نظير العلم بوقوع قطرة بول أو دم فـي إناء معيّن ; فإنّ العلم تعلّق بوقـوع القطرتين ، فكلّ منهما معلوم ، وأمّا النجاسة المسبّبة فلم تكن معلومة مرّتين ; لعدم تعقّل ذلك .
وهاهنا وجه آخر في ردّ مقالة الأخباري ، وحاصله : منع تعلّق العلم الإجمالي على وجود تكاليف فعلية لا يرضى الشارع بتركها . كيف ، وجعل الحجّية للأمارات والاُصول أو إمضاء حجّيتها مع إمكان مخالفتها للواقع أدلّ دليل على عدم فعليتها مطلقاً ورضاء الشارع بتركها في موارد قيام الأمارة على الخلاف ; إذ فعليتها مطلقاً تستلزم وجوب العمل بالاحتياط حتّى في موارد قيام الأمارات والاُصول .
وعلى هذا : لا معنى لتنجيز ما عدا مؤدّيات الأمارات والاُصول ; لعدم تعلّق العلم بالتكليف الفعلي ، بل إنّما تعلّق بخطابات قابلة للانطباق على مؤدّياتها .
ولهذا لا يلتزم الأخباري بلزوم الاحتياط عند قيام الأمارة على نفي التكليف في مورد . فلو صحّ ما يدّعيه من العلم الفعلي بالتكاليف الفعلية التي لا يرضى الشارع بتركها على أيّ حال لزم عليه الاحتياط في ذلك المورد ، مع أنّه لا يلتزم به .
وهذا ـ أي التعبّد بالأمارات والاُصول ـ أوضح دليل على عدم كون الأحكام بمثابة لا يرضى بتركها ، وأنّ الشارع قد رفع اليد عنها في غير موارد الأمارات والاُصول من الشبهات .
استدلال عقلي آخر للأخباري (أصالة الحظر):
وهو مسألة كون الأصل في الأشياء الحظر ، وأنّ العالَم كلّه ـ من سمائه وأرضه ـ مملوك لله ، كما أنّ المكلّف عبد له تعالى ، فلابدّ أن يكون عامّة أفعاله ـ من حركة وسكون ـ برضىً منه ودستور صادر عنه . وليس لأحد أن يتصرّف في العالم بغير إذنه ; لكون المتصرّف ـ بالكسر ـ والمتصرَّف مملوكين لله .
وفيه : أنّه إن اُريد من كون المكلّف والعالم مملوكين لله بالملكية الاعتبارية الدائرة في سوق العقلاء فلا نسلّمه ، بل لا وجه لاعتبار ملكية اعتبارية لله عزّوجلّ ; فإنّ اعتبارها لابدّ وأن يكون لأغراض حتّى يقوم به المعيشة الاجتماعية ، وهو سبحانه أعزّ وأعلى منه .
وإن اُريد منه المالكية التكوينية ; بمعنى أنّ الموجودات والكائنات ـ صغيرها وكبيرها ، أثيريها وفلكيها ـ كلّها قائمة بإرادته ، مخلوقة بمشيّته ، واقعة تحت قبضته تكويناً ، فلا يمكن للعبد أن يتصرّف في شيء إلاّ بإذنه التكويني وإرادته ، وأنّ العالم تحت قدرته ; قبضاً وبسطاً تصرّفاً ووجوداً فهو غير مربوط بالمقام ، ولا يفيد الأخباري شيئاً .
على أنّ الآيات والسنّة كاف في ردّ تلك المزعمة ; حيث يدلّ على وجود الإذن من الله بالنسبة إلى تصرّفات عبيده ، قال عزّ من قائل : {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10] إلى غير ذلك .
______________
1ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 62 ـ 63 .
2 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 81 ـ 82 و 239 .
3 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 429 .
4 ـ راجع وسائل الشيعة 27 : 20 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 4 ، الحديث 1 و2 و3 و5 و9 و10 و14 و29 و30 .
5 ـ الكافي 1 : 50 / 10 ، وسائل الشيعة 27 : 155 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 3 .
6 ـ الفقيه 4 : 285 / 854 ، وسائل الشيعة 27 : 162 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 28 .
7 ـ عيون أخبار الرضا ـ عليه السلام ـ 2 : 20 / 45 ، وسائل الشيعة 27 : 115 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 21 .
8 ـ كتاب سليم بن قيس : 67 ، وسائل الشيعة 27 : 166 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 40 .
9 ـ الأمالي ، الشيخ الطوسي : 231 / 2 ، وسائل الشيعة 27 : 168 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 48 .
10 ـ تفسير العياشي 1 : 260 / 206 ، وسائل الشيعة 27 : 171 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 56 .
11 ـ الكافي 1 : 356 / 16 ، وسائل الشيعة 27 : 157 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 10 .
12 ـ الكافي 2 : 388 / 19 ، وسائل الشيعة 27 : 158 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 11 .
13 ـ نهج البلاغة : 416 ـ 417 ، وسائل الشيعة 27 : 159 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 17 .
14 ـ نهج البلاغة : 434 ، وسائل الشيعة 27 : 159 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 18 .
15 ـ نهج البلاغة : 121 ، وسائل الشيعة 27 : 160 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 20 .
16 ـ نهج البلاغة : 392 ، وسائل الشيعة 27 : 160 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 21 .
17 ـ راجع وسائل الشيعة 27 : 167 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 47 .
18 ـ ذكرى الشيعة 2 : 444 ، وسائل الشيعة 27 : 173 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 63 .
19 ـ الخصال : 16 / 56 ، وسائل الشيعة 27 : 165 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 38 .
20 ـ نهج البلاغة : 488 ، وسائل الشيعة 27 : 161 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 23 .
21 ـ الأمالي ، الشيخ الطوسي : 381 / 69 ، وسائل الشيعة 27 : 167 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 45 .
22 ـ كنز الفوائد 1 : 352 ، وسائل الشيعة 27 : 169 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 52 .
23 ـ تفسير العياشي 1 : 8 / 2 ، المحاسن : 215 / 102 ، وسائل الشيعة 27 : 171 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 57 .
24 ـ نقله عن الراوندي في وسائل الشيعة 27 : 119 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 35 .
25 ـ التعادل والترجيح ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 169 .
26 ـ الكافي 1 : 67 / 10 ، وسائل الشيعة 27 : 106 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 1 .
27 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 64 ـ 65 .
28 ـ كفاية الاُصول : 392 .
29 ـ التعادل والترجيح ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 169 .
30 ـ كما في الاحتجاج والمستدرك .
31 ـ الكافي 1 : 67 / 10 ، الاحتجاج 2 : 260 / 232 ، وسائل الشيعة 27 : 106 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 1 ، مستدرك الوسائل 17 : 302 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 1 .
32 ـ الفقيه 4 : 285 / 854 ، وسائل الشيعة 27 : 162 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 28 .
33 ـ الكافي 1 : 67 / 10 ، وسائل الشيعة 27 : 157 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 9 .
34 ـ وسائل الشيعة 27 : 167 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 45 .
35 ـ الاحتجاج 2 : 264 / 233 ، وسائل الشيعة 27 : 121 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 40 .
36 ـ الاحتجاج 2 : 264 / 234 ، وسائل الشيعة 27 : 122 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 41 .
37 ـ التعادل والترجيح ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 135 .
38 ـ تقدّم في الصفحة 96 .
39 ـ تقدّم في الصفحة 96 .
40 ـ الكافي 4 : 391 / 1 ، وسائل الشيعة 27 : 154 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 1 .
41 ـ تهذيب الأحكام 2 : 295 / 1031 ، وسائل الشيعة 4 : 176 ، كتاب الصلاة ، أبواب المواقيت ، الباب 16 ، الحديث 14 .
42 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 76 .
43 ـ رجال النجاشي : 184 / 488 .
44 ـ الأمالي ، الشيخ الطوسي : 110 / 22 ، وسائل الشيعة 27 : 167 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 46 .
45 ـ الفوائد الطوسية : 507 ، اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 87 .
46 ـ نهاية الدراية 4 : 114 ـ 115 .
47 ـ نهاية الأفكار 3 : 250 ـ 251 .
48 ـ نهاية الأفكار 3 : 251 ـ 252 .
49 ـ كفاية الاُصول : 395 .
50 ـ يأتي في الصفحة 179 .
51 ـ نهاية الدراية 4 : 120 ـ 121 .
52 ـ فإن قلت : الظاهر أنّ مراده هو الفرق بين طرف العلم ومتعلّقه ; فإنّ ما لا يقبل الإجمال والتردّد إنّما هو الطرف ; ضرورة أنّ العلم ـ سواء كانت داخلة تحت مقولة أو لا ـ من الاُمور العامّة التي لها نحو إضافة إلى المعلوم ، وله نحو تشخّص معه ، فلا يعقل أن يتشخّص بأمر مردّد . والمراد من الطرف هنا هو الوجوب ، وقد تعلّق به العلم وتطرّف بذلك . وأمّا ما يقبل التردّد فإنّما هو متعلّقه وحواشيه ; أعني الظهر والعصر .
وعلى هـذا فلا بأس بـأن يقال : إنّ العلم ـ مطلقاً ـ يتعلّق بأمـر معيّن ; وهو الوجوب ـ مثلاً ـ المردّد تعلّقـه بالظهـر أو الجمعـة . ولا مانع مـن كون متعلّق الوجـوب أمـراً مـردّداً ; لكونه أمـراً اعتبارياً .
قلت : نعم ، العلم بما أ نّه متشخّص في النفس لا يعقل تعلّقه وتشخّصه بالمردّد الواقعي وبالحمل الشائع ; ضرورة أ نّه لا تشخّص ولا تحقّق له ; لا خارجاً ولا ذهناً . لكن في العلم الإجمالي تعلّق على عنوان أحد الخاصّين القابل للانطباق على كلّ منهما بخصوصية ، لا على عنوان ما لا يخرج عنهما ، كما هو الموافق للوجدان . [المؤلّف]
53 ـ تقدّم في الصفحة 113 ـ 114 .
54 ـ كفاية الاُصول : 395 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|