أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-08-2015
![]()
التاريخ: 7-08-2015
![]()
التاريخ: 20-11-2014
![]()
التاريخ: 7-08-2015
![]() |
قال الشيخ المفيد - قدس سره -: أقول: إن الله عز وجل عدل كريم، خلق الخلق لعبادته وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وعمهم بهدايته، بدأهم بالنعم وتفضل عليهم بالإحسان، لم يكلف أحدا إلا دون الطاقة ولم يأمره إلا بما جعل له عليه الاستطاعة، لا عبث في صنعه، ولا تفاوت في خلقه، ولا قبيح في فعله، جل عن مشاركة عباده في الأفعال، وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال، لا يعذب أحدا إلا على ذنب فعله، ولا يلوم عبدا إلى علي قبيح صنعه، لا يظلم مثقال ذرة، فإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما، وعلى هذا القول جمهور أهل الإمامة وبه تواترت الآثار عن آل محمد صلى الله عليه وآله.
وإليه يذهب المعتزلة بأسرها إلا ضرارا منها وأتباعه، وهو قول كثير من المرجئة (1)، وجماعة من الزيدية والمحكمة (2)، ونفر من أصحاب الحديث، وخالف فيه جمهور العامة وبقايا ممن عددناه، وزعموا أن الله تعالى خلق أكثر خلقه لمعصيته وخص بعض عباده بعبادته، ولم يعمهم بنعمه، وكلف أكثرهم ما لا يطيقون من طاعته وخلق أفعال جميع بريته وعذب العصاة على ما فعله فيهم من معصيته، وأمر بما لم يرد ونهى عما أراد وقضى بظلم العباد وأحب الفساد وكره من أكثر عباده الرشاد، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا (3).
ب: قال المحقق نصير الدين الطوسي - قدس سره - في قواعد العقائد، في مقام تبيين ما ذهب إليه العدلية من الحسن والقبح العقليين: " فصل - الأفعال تنقسم إلى حسن وقبيح، وللحسن والقبح معان مختلفة: فمنها أن يوصف الفعل الملايم أو الشئ الملايم بالحسن وغير الملايم بالقبح، ومنها أن يوصف الفعل أو الشئ الكامل بالحسن والناقص بالقبح، وليس المراد هنا هذين المعنيين.
بل المراد بالحسن في الأفعال ما لا يستحق فاعله بسببه ذما أو عقابا، وبالقبح ما يستحقها بسببه.
وعند أهل السنة ليس شئ من الأفعال عند العقل بحسن ولا بقبيح، وإنما يكون حسنا أو قبيحا بحكم الشرع فقط. وعند المعتزلة أن بديهة العقل تحكم بحسن بعض الأفعال، كالصدق النافع والعدل، وقبح بعضها كالظلم والكذب الضار، والشرع أيضا يحكم بهما في بعض الأفعال، والحسن العقلي ما لا يستحق فاعل الفعل الموصوف به الذم، والقبيح العقلي ما يستحق به الذم، والحسن الشرعي ما لا يستحق به العقاب، والقبيح ما يستحق به، وبإزاء القبح، الوجوب، وهو ما يستحق تارك الفعل الموصوف به الذم والعقاب، ويقولون: إن الله تعالى لا يخل بالواجب العقلي، ولا يفعل القبيح العقلي البتة، وإنما يخل بالواجب ويرتكب القبيح جاهل أو محتاج، واحتج عليهم أهل السنة بأن الفعل القبيح كالكذب مثلا، قد يزول عند اشتماله على مصلحة كلية عامة، والأحكام البديهية ككون الكل أعظم من الجزء لا يمكن أن يزول بسبب أصلا " (4).
ج: قال العلامة الحلي - قدس سره - في شرحه عليها، المسمى بكشف الفوائد: " فعند الأشاعرة أنه لا حسن ولا قبح عند العقل، بل الحسن ما أسقط الشارع العقاب عليه، والقبيح ما علق الشارع العقاب بفعله، وليس للفعل صفة باعتبارها يكون حسنا أو قبيحا، وإنما الحسن والقبيح بجعل الشارع، فكل ما أمر به فهو حسن، وكل ما نهى عنه فهو قبيح.
وقالت المعتزلة: إن من الأشياء ما هو حسن في نفسه، لا باعتبار حكم الشارع، ومنه ما هو قبيح في نفسه لا بحكم الشارع، والفعل الحسن يشتمل على صفة تقتضي حسنه، وكذا القبيح، وبعضهم عللهما بذوات الأفعال لا بصفاتها، وجعلوا الشرع كاشفا عما خفي منها، لا سببا فيهما، فمن الأشياء ما يعلم بضرورة العقل حسنه أو قبحه، كحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار، وحسن الاحسان وقبح الظلم، ومنها ما يعلم حسنه وقبحه عقلا بالنظر والاستدلال، كقبح الصدق الضار، وحسن الكذب النافع، ومنها ما لا يستقل العقل به فيحتاج إلى الشرع ليكشف عنه كحسن الشرايع وقبح تركها، والأولان حسنهما وقبحهما عقلي، والأخير شرعي، بمعني أنه كاشف.
والحسن العقلي ما لا يستحق فاعل الفعل الموصوف به ذما، ويدخل تحته الواجب العقلي، والمندوب، والمباح، والمكروه، والقبيح العقلي ما يستحق فاعله به الذم وهو الحرام لا غير، والحسن الشرعي ما لا يستحق به العقاب، والقبيح ما يستحق به، وبإزاء القبح الوجوب وهو ما يستحق تارك الفعل الموصوف به الذم والعقاب، فالأول عقلي والأخير شرعي، واحتجوا بأن الضرورة قاضية بقبح الظلم وحسن العدل، ولأنهما لو كانا شرعيين، لجاز إظهار المعجزة على يد الكذاب، فينتفي الفرق بين النبي والمتنبي، ولأنهما لو كانا شرعيين لما قبح من الله شئ فجاز الخلف في وعده ووعيده، وانتفت فائدة التكليف، ولأنهما لو كانا شرعيين لم تجب المعرفة ولا النظر عقلا، فيلزم إفحام الأنبياء، قالوا: ويمتنع من الله تعالى أن يفعل قبيحا أو يخل بواجب، لأن حكمته تنافي ذلك فإن فاعل القبيح والمخل بالواجب، إما أن يفعل ذلك مع علمه أو لا، والثاني جهل، والله تعالى منزه عنه، والأول يلزمه منه إما الحاجة أو السفه، وهما منتفيان عنه تعالى.
اعترضت الأشاعرة بأن القبيح لو كان عقليا، لما اختلف حكمه، ولما جاز زواله، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية: إن الأحكام الضرورية لا يمكن تغيرها، وأن كون الكل أعظم من الجزء لا يمكن زوال الحكم به بسبب أصلا، وبيان انتفاء التالي، أن الكذب قد يستحسن إذا اشتمل على مصلحة عامة، ولو كان قبحه بديهيا لما زال.
والجواب المنع من زواله فإن هذا الكذب حسن، لا باعتبار كونه كذبا، بل باعتبار اشتماله على المصلحة، وقبحه من حيث هو كذب لا يزول. ويتعين ارتكاب الحسن الكثير، وإن اشتمل على قبح يسير، كما أن من توسط أرضا مغصوبة يجب عليه الخروج عنها، وإن كان غصبا، لاشتماله على أقل الضررين - إلى أن حكى جواب الحكماء عن ذلك، وقال: -
قال الحكماء: للنفس الناطقة قوة نظرية، وهي تعقل ما لا يكون من أفعالنا واختيارنا، وقوة عملية، وهي تعقل ما يكون من أفعالنا واختيارنا، والعقل النظري الذي يحكم بالبديهيات من كون الكل أعظم من الجزء، لا يحكم بحسن شئ من الأفعال ولا بقبحه، وإنما يحكم بذلك العقل العملي الذي يدبر مصالح نوع الإنسان وأشخاصه، ولذلك ربما يحكم بحسن فعل وقبحه بحسب مصلحتين، كما يقولون في الكذب المشتمل على المصحلة العامة. لا إذا خلا عنها، ويسمون ما يقضيه العقل العملي من الأحكام المذكورة، إذا لم يكن مذكورا في شريعة من الشرايع بأحكام الشرايع غير المكتوبة وهي الأحكام الثابتة في كل الشرايع، كالحكم بأن الانصاف والاحسان حسن، ويسمون ما ينطق به شريعة من الشرايع - وهي الأحكام المختصة بشريعة دون أخرى - بأحكام الشرايع المكتوبة " (5).
د: قال في التجريد: " وهما عقليان، للعلم بحسن الإحسان وقبح الظلم، من غير شرع، ولانتفائهما مطلقا لو ثبتا شرعا، ولجاز التعاكس، قال الشارح العلامة - قدس سره - في توضيحه: وتقرير الأول بأنهما لو ثبتا شرعا لم يثبتا لا شرعا ولا عقلا، والتالي باطل إجماعا، فالمقدم مثله.
بيان الشرطية: إنه لو لم نعلم حسن الأشياء وقبحها عقلا، لم نحكم بقبح الكذب، فجاز وقوعه من الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فإذا أخبرنا في شئ أنه قبيح لم نجزم بقبحه، وإذا أخبرنا في شئ أنه حسن لم نجزم بحسنه، لتجويز الكذب، وتقرير الثاني بأنه يجوز أن يكون أمم عظيمة يعتقدون حسن مدح من أساء إليهم، وذم من أحسن إليهم، كما حصل لنا اعتقاد عكس ذلك " (6).
ويستفاد من كلماتهم أمور:
1 - إن محل النزاع في الحسن والقبح العقليين بين العدلية والأشاعرة وغيرهم من أهل الخلاف هو حكم العقل باستحقاق فاعل العدل للمدح، وباستحقاق فاعل الظلم للذم، كما صرح به الخواجة نصير الدين الطوسي، والعلامة الحلي - قدس سرهما -، فالعدلية والمعتزلة أثبتوه، بخلاف الأشاعرة وأما حسن الملائم وقبح المنافر، أو حسن الكامل وقبح الناقص، من معاني الحسن والقبح، فلا خلاف فيه، بل كلهم اتفقوا على حكم العقل بهما، ومما ذكر يظهر ما في دلائل الصدق، من أن هذا التفصيل مما أحدثه المتأخرون من الأشاعرة تقليلا للشناعة (7)، لأن عبارة المحقق الطوسي والعلامة كافية لإثبات التفصيل المذكور.
2 - ذهب الإمامية والمعتزلة على ما في كشف الفوائد، إلى أن حكم العقل في ذلك بديهي في بعض الأفعال كحسن الصدق النافع، والإحسان والعدل، وقبح الكذب الضار والإساءة والظلم، ونظري في بعض آخر كقبح الصدق الضار، أو حسن الكذب النافع، كما أنه لا حكم له في قسم ثالث من الأفعال كالعباديات والمخترعات الشرعية، بل يحتاج في تشخيص حسنها أو قبحها إلى الشرع الكاشف عنهما، فدعوى الحسن والقبح العقليين بلا واسطة الشرع في بعض الأفعال لا جميعها.
3 - استدل الإمامية والمعتزلة بأمور: منها بداهة حكم العقل بهما، ومنها أنه لو لم يكونا عقليين لزم التوالي الفاسدة، من انتفاء الفرق بين النبي والمتنبي: ومن عدم قبح صدور شئ منه تعالى، ومن افحام الأنبياء، ومن عدمهما رأسا مع أن الخصم لا يلتزم بهذه اللوازم الفاسدة.
4 - استدل الأشاعرة على نفي الحكم العقلي في التحسين والتقبيح بأن الأحكام الضرورية لا تتغير ولا تتبدل، كحكم العقل بأن الكل أعظم من الجزء وليس الحكم بحسن الصدق وقبح الكذب كذلك، لأن الكذب قد يستحسن، كما إذا اشتمل على مصلحة عامة والصدق قد يستقبح، كما إذا اشتمل على مفسدة عامة. هذا مضافا إلى استدلالهم بالدليل السمعي كما سيأتي.
أجيب عن استدلال الأشاعرة على نفي الحكم العقلي بأجوبة:
(أحدها): ما عن المتكلمين وحاصله هو منع التبدل والتغير، حيث إن للكذب النافع حيثيتين يكون الكذب باعتبار أحدهما حسنا، وهو اشتماله على المصلحة، وبالاعتبار الآخر قبيحا، وهو كونه خلاف الواقع وكذبا، وحيث كان جانب الحسن غالبا على جانب القبح، فاللازم هو ارتكاب الكذب النافع، وإن اشتمل على قبح يسير فقبحه لا يزول ولا يتغير، بل يزاحمه مصلحة غالبة.
وفي هذا الجواب نظر، لأن قبح الكذب بعد اشتماله على المصلحة الغالبة، لا يبقى على الفعلية، وكفى ذلك في التبدل والتغير، هذا مضافا إلى أن الحسن والقبح ليسا ذاتيين لعنوان الصدق والكذب، لأنهما من الأمور التي تختلف بالوجوه والاعتبارات، فلا يحمل الحسن والقبح عليهما إلا بتوسيط عنوان ذاتي آخر، فالحسن والقبح ذاتي لذلك العنوان، وعرضي لعنوان الصدق والكذب، والعنوان الذاتي كالعدل في القول، لا يصدق بالفعل على الصدق، إلا إذا كان خاليا عن جهة المفسدة الفعلية، أو كالظلم في القول لا يصدق بالفعل على الكذب إلا إذا كان خاليا عن جهة المصلحة الفعلية، فإذا اشتمل الصدق على جهة المفسدة الفعلية لا يصدق عليه بالفعل إلا عنوان الظلم فلا يكون إلا قبيحا ومذموما، كما أنه إذا اشتمل الكذب على جهة المصلحة الفعلية لا يصدق عليه بالفعل إلا عنوان العدل فلا يكون إلا حسنا وممدوحا، لأن الصدق والكذب من الأمور التي تختلف بالوجوه والاعتبارات، وليس الحسن والقبح ذاتيين لهما والمفروض أن العنوان الذاتي واحد وليس بمتعدد إذ الصدق مثلا اما عدل أو ظلم، فأين اجتماع الحسن والقبح، حتى يلتزم ببقائهما وعدم زوالهما.
(وثانيها): ما ذهب إليه بعض الأعاظم، كالمحقق اللاهيجي (8) والمحقق السبزواري من منع التغير في ناحية الحكم العقل ومن انحصار الاختلاف والزوال في ناحية الموضوع، وتقريبه أن عناوين الأفعال بالنسبة إلى الحسن والقبح على ثلاثة أقسام:
الأول: ما هو علة للحسن والقبح، كالعدل والظلم، فإنهما في حد نفسهما محكومان بهما من دون حاجة إلى اندراجهما تحت عنوان آخر، فالحسن والقبح ذاتيان لهما، لا يقال: لا مصداق لهما، لأن جميع الأفعال الخارجية تتغير بالوجوه والاعتبارات، لأنا نقول ليس كذلك، لأن مثل إطاعة الله تعالى أو شكر المنعم أو دفع الضرر المحتمل أو تصديق النبي والولي لا تنفك عن الحسن، كما أن مثل مخالفة الله تعالى في أوامره ونواهيه أو كفران نعمته لا تنفك عن القبح. وليس ذلك إلا لعدم اختلافها بالوجوه والاعتبارات، فهذه الأمور من مصاديق العدل أو الظلم في جميع الأحوال، ولذا لا تنفك عن الحسن أو القبح فتدبر جيدا.
الثاني: ما هو مقتض لهما كالصدق والكذب، فإنهما لو خليا وطبعهما مندرجان تحت عنوان العدل والظلم، وباعتبارهما يتصفان بالحسن والقبح، وحيث إن توصيفهما بهما من جهة اندراجهما تحت العناوين الحسنة والقبيحة يسمى الحسن والقبح فيهما بالعرضيين.
الثالث: ما لا علية ولا اقتضاء له بالنسبة إلى الحسن والقبح كالضرب فهو لا يتصف بهما ما لم يترتب عليه مصلحة أو مفسدة، فإذا ترتب عليه مصلحة التأديب كان حسنا باعتبار اندراجه تحت عنوان العدل، وإذا ترتب عليه مفسدة، كالتشفي والتجاوز كان قبيحا باعتبار اندراجه تحت عنوان الظلم وإذا لم يترتب عليه شئ كضرب الساهي أو النائم فلا يتصف بهما.
فإذا عرفت ذلك، فاعلم أن حسن الأشياء وقبحها على أنحاء، فما كان ذاتيا لا يقع فيه اختلاف فإن العدل بما هو عدل لا يكون قبيحا أبدا. وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون حسنا أبدا، أي أنه ما دام عنوان العدل صادقا فهو ممدوح، وما دام عنوان الظلم صادقا، فهو مذموم. وأما ما كان عرضيا، سواء كان مقتضيا لهما أم لا فإنه يختلف بالوجوه والاعتبارات، فمثلا الصدق أو الضرب، إن دخل تحت عنوان العدل كان ممدوحا، وإن دخل تحت عنوان الظلم كان قبيحا، ولكن الاختلاف في ناحية الموضوع لا في ناحية الحكم، بعد ما عرفت من أن اتصاف الأفعال بهما، فيما إذا لم تكن علة لهما باعتبار اندراجهما في العناوين الحسنة أو القبيحة الذاتية، وأما الحكم بحسن العدل وقبح الظلم فهو ثابت، ولا تغير فيه، فالتغير في الموضوعات فإنهما قد تكون مصداق العدل فيتصف بالحسن وقد تكون مصداق الظلم فتتصف بالقبح فلا تغفل.
(وثالثها): ما أفاده بعض المحققين من أن الموضوع في قولنا الصدق حسن، ليس مطلق الصدق، بل الصدق المفيد بقيد المفيد، وحمل الحسن على مطلق الصدق من المشهورات التي لا تكون برهانا، بل لا يفيد إلا ظنا، لأن الحسن ليس محمولا على الصدق ذاتا بما هو صدق، بل يحتاج إلى حد وسط، وهو كونه مفيدا بحال المجتمع، فهذا التعليل يعمم ويخصص، فكل شئ يفيد بحال المجتمع ولو كان هو الكذب حسن، وكل شئ يضر بحال المجتمع ولو كان هو الصدق قبيح، فالموضوع الأصلي للحسن أو القبح هو المفيد أو المضر للمجتمع والحكم في مثلهما ثابت ولا تبديل ولا تغير فيه، وبه يظهر أن الأصول الأخلاقية أو المحسنات والمقبحات العقلية أصول ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل، وتوهم نسبية هذه الأصول كما ذهبت إليه الماركسية سخيف جدا وبالجملة لا تغيير في ناحية التحسين والتقبيح الذاتيين.
ولكن الجواب الثاني أولى من هذا الجواب فإن ظاهره هو اختصاص الحكم العقلي بالتحسين والتقبيح الذاتيين دون العرضيين، مع أن قضية الصدق حسن، ما لم تنضم إليها جهة القبح صحيحة بحكم العقل، لكونه عدلا في القول، حيث إن حق السامع والمخاطب، هو إلقاء الكلام المطابق للواقع له، فإلقاء الكلام الصدق عدل في القول، ولو لم يكن مفيدا للمجتمع، نعم يعتبر في صدق العدل عليه عدم انضمام جهة القبح إليه فالصدق ما لم ينضم إليه جهة القبح مقتض للحسن، لصدق العدل عليه، والعدل يكفي للتوسيط، ولا حاجة إلى قيد الإفادة، كما أنه إذا انضم إليه جهة القبح صار ظلما، والكذب بالعكس، فالتحسين والتقبيح في مثل الصدق والكذب يكونان عرضيين ويختلفان باختلاف الوجوه والاعتبارات، فلا وجه لانحصار الحكم العقلي في التحسين والتقبيح الذاتيين، لأن الصدق ولو لم يكن مفيدا حسن عقلا، لكونه مصداقا للعدل، والكذب ولو لم يكن مضرا قبيح عقلا، لكونه خلاف الواقع فلا حاجة في تحسين الصدق وتقبيح الكذب إلى قيد الإفادة أو الاضرار، نعم يحتاج إليهما في التحسين والتقبيح الذاتيين بناء على مدخليتهما في الموضوع الأصلي والعنوان الذاتي.
ثم إن الموضوع الأصلي للحسن والقبح كما عرفت هو عنوان العدل والظلم اللذين هما من العناوين الذاتية الحسنة والقبيحة، ولذا لا يتغير حكمهما وأما الصدق المفيد والكذب المضر فهما باعتبار كونهما مصداقين للعدل والظلم مشمولان للحسن والقبح، وليسا من العناوين الذاتية، ولذا يمكن أن يكون صدق مفيدا بحال مجتمع، ومع ذلك لا يكون عدلا، لكونهم محاربين مع الإسلام والمسلمين مثلا.
ثم إن ثبات الأصول الأخلاقية وعدم نسبيتهما يكفيه التحسين والتقبيح الذاتيين في العناوين الذاتية الحسنة والقبيحة، كقولنا: العدل حسن والظلم قبيح.
(ورابعها): ما عن أكثر الحكماء من أن قضية الحسن والقبح من أحكام العقل العملي التي تتغير بحسب تغير المصالح والمفاسد والوجوه والاعتبارات، ولا ضير فيه، وإنما الثابت هو حكم العقل النظري فالتغير في مثل الصدق حسن والكذب قبيح لا ينافي عقلية الأحكام، لعدم اختصاص الأحكام العقلية بالضروريات التي يدركها العقل النظري، ولا تتغير ولا تبديل فيها. فقد أشار إليه العلامة - قدس سره - تبعا للخواجة نصير الدين الطوسي - قدس سره - وأوضحه المصنف - قدس سره - في كتاب منطقه حيث قال في المنطق عند عد أقسام المشهورات: " 2 - التأديبات الصلاحية وتسمى المحمودات والآراء المحمودة، وهي ما تطابقت عليها الآراء من أجل قضاء المصلحة العامة للحكم بها، باعتبار أن بها حفظ النظام، وبقاء النوع، كقضية حسن العدل، وقبح الظلم ومعنى حسن العدل أن فاعله ممدوح لدى العقلاء ومعنى قبح الظلم أن فاعله مذموم لديهم، وهذا يحتاج إلى التوضيح والبيان فنقول:
إن الانسان إذا أحسن إليه أحد بفعل يلائم مصلحته الشخصية، فإنه يثير في نفسه الرضا عنه، فيدعوه ذلك إلى جزائه وأقل مراتبه المدح على فعله، وإذا أساء إليه أحد بفعل لا يلائم مصلحته الشخصية، فإنه يثير في نفسه السخط عليه فيدعوه ذلك إلى التشفي منه والانتقام، وأقل مراتبه ذمه على فعله، وكذلك الإنسان يصنع إذا أحسن أحد بفعل يلائم المصلحة العامة من حفظ النظام الاجتماعي، وبقاء النوع الانساني فإنه يدعوه ذلك إلى جزائه وعلى الأقل يمدحه، ويثني عليه، وإن لم يكن ذلك الفعل يعود بالنفع لشخص المادح، وإنما ذلك الجزاء لغاية حصول تلك المصلحة العامة التي تناله بوجه (وهكذا في طرف الإساءة) إلى أن قال: وكل عاقل يحصل له هذا الداعي للمدح والذم، لغرض تحصيل تلك الغاية العامة، وهذه القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء من المدح والذم. لأجل تحصيل المصلحة العامة، تسمى الآراء المحمودة والتأديبات الصلاحية، وهي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء وسبب تطابق آرائهم شعورهم جميعا بما في ذلك من مصلحة عامة.
وهذا هو معنى التحسين والتقبيح العقليين اللذين وقع الخلاف في اثباتهما بين الأشاعرة والعدلية فنفتهما الفرقة الأولى، وأثبتهما الثانية، فإذ يقول العدلية بالحسن والقبح العقليين، يريدون أن الحسن والقبح من الآراء المحمودة والقضايا المشهورة، التي تطابقت عليها الآراء، لما فيها من التأديبات الصلاحية، وليس لها واقع وراء تطابق الآراء.
_________________
(1) الذين يعتقدون بأن مع الإيمان لا تضر المعصية، وسموا بالمرجئة لاعتقادهم بأن الله أرجى تعذيبهم إي اخره عنهم وبعده أو لاعتقادهم بأن أهل القبلة كلهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر بالايمان، مع رجاء المغفرة لجميعهم (راجع كتاب مولى علي الرازي ص 45 المطبوع في أواخر كتاب منتهى المقال وكتاب فرق الشيعة، ص 27 طبع النجف).
(2) وفي الملل والنحل للشهرستاني: هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي - عليه السلام -. ج 1 ص 115.
(3) أوائل المقالات: ص 24 - 25.
(4) كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد: ص 64.
(5) كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد: ص 64 - 65.
(6) شرح التجريد: ص 186.
(7) دلائل الصدق: ج 1 ص 181.
(8) سرمايه ايمان: ص 59.
|
|
علماء يطورون أداة ذكاء اصطناعي.. تتنبأ بتكرار سرطان خطير
|
|
|
|
|
ناسا تكشف نتائج "غير متوقعة" بشأن مستوى سطح البحر في العالم
|
|
|
|
|
المجمع العلمي يقيم دورتين لتعليم أحكام التلاوة لطلبة العلوم الدينية في النجف
|
|
|