أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-06-05
1203
التاريخ: 5-1-2023
1157
التاريخ: 11/12/2022
922
التاريخ: 5-1-2023
752
|
نموذج من كتاب "الأيام"
... على أن صبينا لم يلبث أن أضاف إلى هذه الالوان من العلم لوناً آخر جديداً هو "علم السحر والطلاسم"، فقد كان باعة الكتب ينتقلون في القرى والمدن بخليط من الاسفار، لعله أصدق مثل لعقيدة الريف في ذلك العهد، كانوا يحملون في حقائبهم مناقب الصالحين، وأخبار الفتوح والغزوات، وقصة القط والفأر، وحوار السلك والوابور، وشمس المعارف الكبرى في السحر، وكتاباً آخر لست أدري كيف يسمى، ولكنه كان يعرف بكتاب "الديربي" ثم أوراداً مختلفة، ثم قصص المولد النبوي، ثم مجموعات من الشعر الصوفي، ثم كتباً في الوعظ والإرشاد، وأخرى في المحاضرات وعجائب الاخبار، ثم قصص الابطال من الهلاليين والزناتيين وعنترة والظاهر بيبرس، وسيف بن ذي يزن، ثم القرآن الكريم مع هذا كله.
وكان الناس يشترون هذه الكتب كلها، ويلتهمون ما فيها التهاماً، وكانت عقليتهم تتكون من خلاصتها، كما تتكون أجسامهم من خلاصة ما يأكلون ويشربون.
وكان من القصص التي تكثر في أيدي الصبيان، يحملها إليهم باعة الكتب، قصة اقتطعت من ألف ليلة وليلة وتعرف بقصة "حسن البصري" وفي هذه القصة أخبار ذلك المجوسي الذي كان يحول النحاس ذهباً، وأخبار ذلك القصر الذي كان يقوم من وراء الجبل على أعمدة شاهقة في الهواء، وتقيم فيه بنات سبع من بنات الجن، والذي آوى إليه حسن البصري، ثم أخبار "حسن" هذا، وما كان من رحلته الطويلة الشاقة إلى دور الجن.
وبين هذه الاخبار خبر ملأ الصبي إعجاباً، وهو أن قضيباً أهدى إلى حسن البصري في بعض رحلته، وكان من خواص هذا القضيب أن تضرب به الارض فتنشق ويخرج منها تسعة نفر يأتمرون بأمر صاحب القضيب وهم بالطبع من الجن أقوياء، خفاف، يطيرون، ويعدون، ويحملون الاثقال، ويأتون من عجيب الامر ما لا حد له.
فتن الصبي بهذه العصا، ورغب في أن يظفر بها، رغبة شديدة قوية، أرقت ليله، ونغصت يومه، فأخذ يقرأ كتب السحر والتصوف، يتلمس عند السحرة والمتصوفين وسيلة تمكنه من هذه العصا.
وكان له قريب صبي مثله يرافقه إلى الكتاب، فكان أشد منه كلفاً بهذه العصا، وما هي إلا أن جدّ الصبيان في البحث حتى انتهيا إلى وسيلة يسيرة تمكنهما مما يريدان، وجداها في كتاب "الديربي"؛ وهي أن يخلو الفتى إلى نفسه وقد تظهر ووضع بين يديه ناراً ومقداراً من الطيب ثم يأخذ في ترديد هذا الاسم من أسماء الله "يا لطيف، يا لطيف" . ملقياً في النار شيئاً من الطيب من حين إلى حين؛ ويمضي في ترديد هذه الكلمة، وتحريق الطيب حتى تدور به الارض، وينشق أمامه خادم من الجن موكل بهذا الاسم من أسماء الله فيطلب إليه ما يريد، والحاجة مقضية من غير شك.
ظفر الصبيان بهذه الوسيلة، فاعتزما أن يستخدماها، وما هي إلا أن اشتريا ضروباً من الطيب، وخلا صبينا إلى نفسه في "المنظرة"، فأغلق بابها من دونه، ووضع بين يديه قطعاً من النار، وأخذ يلقي فيها الطيب، ويردد: يا لطيف، وطال به هذا، وهو ينتظر أن يخرج من الارض، وتنشق له الحائط، ويمثل الخادم بين يديه، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن.
وهنا تحول صبينا الساحر المتصوف إلى نصاب!
خرج من "المنظرة" مضطربا يمسك رأسه بيديه، ولا يكاد لسانه ينطق بحرف واحد؛ فتلقاه صاحبه الصبي يسأله: هل لقي الخادم؟ وهل طلب إليه العصا؟
وصاحبنا لا يجيب إلا مضطرباً مرتجفاً، تصطك أسنانه اصطكاكاً حتى روع رفيقه الصبي، وبعد لأي أخذ صاحبنا يهدأ، ويجيب في ألفاظ متقطعة، وبصوت متهدج:
"لقد دارت بي الارض، وكدت أسقط، وانشقت الحائط، وسمعت صوتاً ملأ الحجرة من جميع نواحيها ثم أغمى عليَّ، ثم أفقت وخرجت مسرعاً" .
سمع الصبي هذا فامتلأ فرحاً وإعجاباً بصاحبه وقال له: هون عليك، فقد أصابك الرعب، وملك عليك الخوف أمرك، فلنبحثن في الكتاب عن شيء يؤمنك ويشجعك على أن تثبت للخادم، وتطلب منه ما تشاء!
واستأنفا البحث في الكتاب، وانتهى بهما البحث إلى أن صاحب الخلوة يجب أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس إلى النار ويأخذ في ترديد هذا الاسم، وكذلك فعل الصبي من غده، وأخذ يلقي الطيب في النار ويردد دعاء "اللطيف" ينتظر أن تدور به الارض، وينشق له الحائط، ويمثل الخادم بين يديه، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن، وخرج الصبي إلى صاحبه هادئاً مطمئناً، فأخبره أن قد دارت الارض وانشق الحائط، ومثل الخادم بين يديه، وسمع منه حاجته، ولكنه لم يشأ أن يجيبه إليها حتى يمرن على هذه الخلوة، ويكثر من الصلاة وإطلاق البخور، وذكر الله، وضرب له موعداً لقضاء هذه الحاجة شهراً كاملاً يأتي فيه هذا الامر في نظام، فإن فسد هذا النظام فلابد من استئناف الامر شهراً كاملاً آخر.
وصدق الصبي صاحبه، وأخذ يلح عليه في كل يوم أن يخلو إلى النار ويردد الدعاء، وأخذ الصبي يستغل من صاحبه هذا الضعف، ويكلفه ما شاء من مشقة وعناء؛ فإن أبى أو أظهر الإباء أعلن إليه صاحبه أنه لن يخلو إلى النار، ولن يدعو "اللطيف" ولن يلتمس العصا، فيذعن إذعاناً سريعاً.
على هذا النحو أخذ "طه حسين" يقص تاريخ حياته، ويكتبه فصولا على شكل مقالات يبعث بها إلى مجلة الهلال، فيقبل القراء على قراءتها بشغف شديد، وحين انتهى من وصف طفولته، وصدر من شبابه أشير عليه بأن يجمع هذه الفصول في كتاب، فجمعها باسم "الايام".
ونعود إلى الحديث عن أسلوب "طه حسين" فنراه يتميز بصفات جعلت منه صحفياً ناجحاً إلى جانب أنه عالم وأديب، على أن الجانب الصحفي في شخصية "طه حسين" هو الذي يعنينا في هذا الفصل.
فمن الصفات التي أعانته على النجاح في ميدان الصحافة صفة السهولة في التعبير، والاسلوب الموسيقى العذب المتموج، والواقعية في التصوير، والإيناس في إجراء الحديث؛ حتى ليشعر القارئ لمقال من مقالات هذا الاديب أنه إنما يجلس إلى صديق من أصدقائه، ويستمع إلى بعض إخوانه يدور معه حيث يدور، ويدخل معه في شجون من الحديث لا يحب أن يصل إلى نهايتها.
على أن "طه حسين" يعتبر مدرسة صحفية لها تلاميذها في الوقت الحاضر، وهذه المدرسة تميل كما قلنا إلى عربية الاسلوب، ولا يسهل على تلميذ من تلاميذها أن ينزل بأسلوبه إلى مستوى العامية مهما كانت الظروف الداعية إلى هذا النزول، وعلى الرغم من ذلك فإن عربية هذه المدرسة من النوع الذي يخف على الاسماع بأكثر مما تخف عليها اللغة الشعبية التي يتكلمها الناس في النوادي والطرقات العامة، وعند هذه المدرسة إيمان عميق بقدرة اللغة العربية الفصيحة على سد حاجات الصحافة التي هي في الحقيقة نوع من الادب الإقليمي؛ أو الواقعي، وهو أدب تلزم له في الواقع لغة أخرى إلى جانب اللغة الفصيحة.
ومثل كتاب "الايام" في مجال المقال الذي على شكل اعتراف كل من كتاب "حياتي" للأستاذ أحمد أمين، و"مذكرات مدمن على الحشيش" لطبيب اسمه "الجريدني" نشر هذه المقالات في مجلة الهلال بدون توقيع، وكتاب عالم السدود والقيود للأستاذ عباس العقاد عن حياته في السجن.
وتعتبر هذه الكتب وأمثالها بحق من الكتب التي نقلت الادب العربي من طور إلى طور، ومن حالة إلى أخرى.
فقد كان هذا الادب العربي أرستقراطياً في العصور الوسطي، فأصبح عن طريق هذه الكتب، وبتأثير الصحافة بنوع خاص، ديموقراطياً بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة.
والحق أن أدب المذكرات يعتبر من أروع الآداب الحديثة، كما يعتبر أثراً من آثار الصحافة، ومن حق هذا النوع من الآداب أن يكون خالداً على الزمان، فقد اكتسب هذه الصفة من وجهين هما: الصدق أولا، والتصوير النفسي أو السيكولوجي بعد ذلك.
وربما كان هذا هو السبب في تهافت الصحف في جميع أنحاء العالم على هذا النوع من الادب، حتى أن بعض الصحف تشتري مذكرات فلان أو فلان من القادة والعظماء بأثمان لا يرقى إليها الخيال، وتبذل في سبيل الوصول إليها طرقاً ممتعة في الخفاء، ثقة منها بأن هذه المذكرات إنما تزيد في عدد القراء، وعلماً منها كذلك بأن هذه المذكرات تحرك في نفوسهم غريزة من أقوى الغرائز، هي غريزة حب الاستطلاع.
وفي النفس الإنسانية ميل قوي إلى معرفة الحقيقة حيث كانت، وقل أن نرى كتب التاريخ العام تكشف عن هذه الحقيقة، ولكن "شاهد العيان" أو الرجل الذي اشترك بنفسه في الحادث، ووقف بنفسه على " خشبة المسرح" هو وحده القادر على أن يمد القراء بهذه الحقيقة، ومن هنا جاءت أهمية "المذكرات" في الادب، كما جاءت خطورتها في الصحافة.
ولكن ليس معنى ذلك أن "أدب المذكرات"، أو"أدب الاعترافات" خاص بالعظماء أو المشهورين فقط من الرجال والنساء، فالحقيقة غير ذلك إذ المعروف أن في حياة كل إنسان في الوجود لوناً من الطرافة ربما لا يكون في حياة الآخر، وقد تبدو الحياة مملة أو عادية في نظرنا، ولكن فيها مع كذل ذلك شيئاً يثير اهتمام الناس، ويودون لو عرفوه.
وأن كتابة المذكرات أو الاعترافات لا تتطلب من صاحبها في الواقع أكثر من الهدوء النفسي فترة ما، واستيحاء الماضي البعيد أو القريب، وتصوير ما يوحي به هذا الماضي تصويراً يعين على تفهم النفس البشرية من حيث هي، ويعكس في الوقت ذاته صورة للمجتمع الذي أحاط بالصحفي أو بالأديب في فترة من فترات الحياة البعيدة أو القريبة.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
بالصور: تزامنا مع بداية العام الدراسي وعملية التسجيل.. ممثل المرجعية العليا يجري جولة في جامعة الزهراء (ع) للبنات ويلتقي بالطالبات والكوادر التعليمية
|
|
|