أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-08-12
442
التاريخ: 2/10/2022
3065
التاريخ: 2023-08-28
1048
التاريخ: 2024-07-02
563
|
حجية مراسيل ابن أبي عمير (1):
إذا بني ــ كما هو الصحيح ــ على وثاقة من روى عنهم ابن أبي عمير من مشايخ الحديث، استناداً إلى ما ذكره الشيخ الطوسي (قدس سره) من كونه من الرجال الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة، فقد يستشكل مع ذلك في حجية مراسيله بما أشار إليه المحقق الحلي (قدس سره) (2) من (أن في رجال ابن أبي عمير من طعن الأصحاب فيه وإذا أرسل احتمل أن يكون الراوي أحدهم).
وقد تبنّى السيد الأستاذ (قدس سره) (3) هذا الإشكال وقال في تقريبه: (إنا نعلم خارجاً بأن ابن أبي عمير قد روى عن غير الثقة أيضاً ولو من باب الاشتباه والخطأ في الاعتقاد، فيحتمل أن يكون البعض في قوله: (عن بعض أصحابنا) هو البعض غير الموثق الذي روى عنه في موضع آخر مسنداً، ومع الشبهة في المصداق لا يبقى مجال للاعتماد على مراسيله).
وقال (قدس سره) أيضاً في موضع آخر (4): (إذا ثبتت رواية ابن أبي عمير عن الضعيف ولو في مورد واحد فمن الجائز عند روايته عن رجل مرسلاً أن يكون المراد به هو ذاك الضعيف، ولا دافع لهذا الاحتمال، فتكون الرواية من قبيل الشبهة المصداقية.
وبعين هذه المناقشة ناقش المحقق في المعتبر بالنسبة إلى مراسيل ابن أبي عمير، ونعم ما تفطن به).
أقول: هناك ثلاث محاولات للجواب عن هذا الإشكال تعرض لإحداها
بعض الأعلام من تلامذته (قدس سره) في شرحه على العروة (5)، وحكي عنه (6) التعرض للأخريين في مجلس درسه، وهي كما يأتي:
(المحاولة الأولى): إن مبنى الإشكال المذكور هو تمثل أفراد العام في الرواة، فإنه مع العلم بسقوط حجية العام بالنسبة إلى بعض الرواة تصبح الشبهة في المراسيل مصداقية، بخلاف ما إذا افترض تمثل أفراد العام في الروايات بحيث كانت كل رواية فرداً من العام المشهود بوثاقة طريقه، فإن هذا الافتراض يجعل الشك في وثاقة الواسطة في المرسلة شكاً في تخصيص زائد.
وهذا الافتراض هو المطابق مع ظاهر قول الشيخ: (عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة)، أي لا يروون رواية إلا عن ثقة، فمورد الشهادة هي الروايات لا المشايخ.
أقول: لو كان المستند في وثاقة مشايخ ابن أبي عمير هو شهادة الطائفة بأنه لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة ــ المستفادة من كلام الشيخ ــ فالجواب المذكور في محله، فإن مورد الشهادة هي الروايات لا المشايخ بمقتضى ظاهر الكلام.
وأما لو قلنا بأن المستند في ذلك هو شهادة ابن أبي عمير بوثاقة مشايخه أو بأن رواياته مروية كلها عن الثقات ـ وشهادة الطائفة إنما تكشف عن شهادته ــ فلا يتم ما ذكر، لأن مورد شهادة ابن أبي عمير لم يذكر في كلام الشيخ، أي أن شهادته مستفادة بالملازمة، فهي غير مذكورة بلفظها ليعرف أن موردها المشايخ أو الروايات، ومجرد كون الروايات هي مورد شهادة الطائفة لا يقتضي أن تكون هي مورد شهادة ابن أبي عمير أيضاً لأنها لا تحكي عنها بل هي المنشأ لها، ولا يوجد ما يقتضي التطابق بينهما في الخصوصيات.
وبالجملة: بناء على هذا الوجه لا تتم المحاولة المذكورة للجواب عن الإشكال المتقدم، ويمكن أن يقال: إن هذا الوجه هو المتعين ولا مجال للبناء على الوجه الأول، لأن شهادة الطائفة بأن ابن أبي عمير لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة لا تكون مستندة إلى الحس إلا على أحد تقديرين:
1 ــ شهادة ابن أبي عمير بذلك مع عدم ظهور تخلفه عنه.
وهذا هو الوجه الثاني المذكور.
2 ــ استقراء مشايخه وملاحظة عدم وجود ضعيف فيهم.
وهذا هو مبنى الوجه الأول، ولكنه بعيد عملياً في المسانيد، وأما في المراسيل فغير ممكن. ومن هنا جعل السيد الأستاذ (قدس سره) (7) ذلك ــ أي عدم إمكان التتبع في المراسيل ــ دليلاً على بطلان ما ذكره الشيخ من معروفية ابن أبي عمير وأخويه بعدم الرواية عن غير الثقة.
ثم إنّ المحكي عن بعض الأعلام (طاب ثراه) (8) أنّه أجاب عن المحاولة الأولى المذكورة من جهة أخرى غير ما تقدم، وهي أن حجية شهادة ابن أبي عمير بوثاقة مشايخه مرجعها إلى أمرين: إلغاء احتمال تعمده للكذب. وإلغاء احتمال اشتباهه وخطئه استناداً إلى أصالة عدم الاشتباه، التي هي من الأصول العقلائية في المحسوسات وما يقاربها.
فإذا روى ابن أبي عمير عن شخص مرسلاً فهو وإن شهد بأن روايته هذه عن الثقة أو أن شيخه في هذه الرواية ثقة، ولكن المنفي هو احتمال تعمده للكذب وأما احتمال اشتباهه وخطئه في عدِّ من ليس بثقة ثقة فلا يمكن نفيه، لأن أصالة عدم الاشتباه موردها ما إذا احتمل اشتباه زائد للمخبر، وأما احتمال تكرار الاشتباه المتيقن السابق فلا تفي أصالة عدم الاشتباه بنفيه.
وهاهنا يحتمل أن يكون من روى عنه هو أحد المضعفين ممن له عنه رواية أخرى، فهذا ليس اشتباهاً جديداً بل تكرار لنفس الاشتباه السابق أو فقل إن أصالة عدم الاشتباه قد سقطت بالنسبة إلى روايته عن هؤلاء الأشخاص المضعفين ــ ولو لأجل المعارضة ــ فلو تكررت الرواية فليس في ذلك اشتباه جديد، واحتمال التكرار وارد ولا دافع له، فلا يمكن الأخذ بشهادة ابن أبي عمير بوثاقة شيخه في المرسلة.
أقول: إذا كان مورد الشهادة بالوثاقة هو الأخبار لا الأفراد ــ كما تبتني عليه المحاولة الأولى للجواب ــ فلا محل للقول بأن تكرار الخبر عمن شهد ابن أبي عمير بوثاقته اشتباهاً ليس اشتباها جديداً بل هو اشتباه آخر، ولكن منشأ الاشتباهات المتعددة اشتباه واحد، وهذا يحدث كثيراً، فالمؤكد هو اشتباه ابن أبي عمير في اعتقاده وثاقة فلان، واشتباهه في الرواية عنه ــ بصفته ثقة ــ مرة، فإذا كرر النقل كان ذلك اشتباها آخر ومقتضى الأصل عدمه.
(المحاولة الثانية): أن المقام ليس من موارد الشبهة المصداقية، لأن معنى الشبهة المصداقية للمخصص الذي لا يجوز فيها الرجوع إلى العام هو أن يرد على العام مخصص منفصل يكشف عن ضيق دائرة المراد الجدي منه، بحيث تتحدد كاشفية العام الفعلية وحجيته بدائرة خاصة، ويشك في فرد أنه مصداق لهذه الدائرة الخاصة أو مما خرج عنها.
وفي المقام الدليل على عدم وثاقة بعض مشايخ ابن أبي عمير لا يكون كاشفاً عن ضيق دائرة المراد الجدي من العام، وإنما هو من باب قيام الحجة الأقوى على تخطئة الحجة الأخرى، مما يعني أن المراد الجدي من العام لا يتعنون بعنوان خاص بل الأفراد الذين قام الدليل الأقوى على ضعفهم لا يزالون مندرجين في دائرة المراد الجدي من العام، وإنما يرفع اليد عن حجية هذه الشهادة بالعموم من باب استحالة جعل الحجية لشهادتين متنافيتين.
ومن المعلوم أن المستحيل هو جعل حجتين لشهادتين متنافيتين بنحو تكون كل من الحجتين واصلة إلى المكلف، وأما مع عدم وصول إحداهما فلا منافاة، وعليه لا تسقط حجية الشهادة التي يتكفلها العام إلا في حالات وصول الحجة الأخرى، وحيث إنه لم يحرز وجود حجة أخرى على نفي الوثاقة عن الوسيط في المرسلة تبقى حجية شهادة العام ثابتة بالنسبة إليه.
ويمكن أن تناقش هذه المحاولة بوجوه:
(الأول): أن مبناها هو كون الشهادة صادرة من ابن أبي عمير وكون روايته عن المضعفين على أساس اعتقاده بوثاقتهم، وأما لو قيل إن الشهادة هي من الأصحاب بتتبعهم روايات ابن أبي عمير وملاحظة وثاقة مشايخه، فإنه لو عثر على روايات له عن غير الثقة يكشف ذلك عن خروج الموارد المذكورة أو المشايخ الذين روى عنهم في تلك الموارد عن دائرة المراد الجدي من عموم شهادة الطائفة بوثاقة مشايخه أو كون رواياته مروية عن الثقات، وكذلك لو كانت الشهادة من ابن أبي عمير ولكنه روى عن هؤلاء بالرغم من اعتقاده عدم وثاقتهم، فإنه يكون من قبيل التخصيص.
والسيد الأستاذ (قدس سره) الذي استوجه إشكال الشبهة المصداقية تبنى الاحتمال الأول في المعجم، أي كون الشهادة من الأصحاب. ولكن تقدم ضعف هذا الاحتمال. كما أن الاحتمال الثاني وهو اعتراف ابن أبي عمير بضعف هؤلاء غير مدعوم بدليل، وعموم الشهادة ينفيه.
اللهم إلا أن يقال: إن ضعف بعض هؤلاء بمثابة من الوضوح بحيث لا يمكن أن يخفى على مثل ابن أبي عمير. ولكن هذا الكلام غير صحيح، وليس فيمن ثبتت روايته عنه من يمكن أن يدعى في حقه ذلك كما مرَّ في محله. فالنتيجة: أن هذا الوجه في المناقشة غير تام.
(الثاني): أن مبنى المحاولة المذكورة هو عدم التنافي بين الحجج إلا في مرحلة الوصول وأما قبل ذلك فلا تنافي. ولكن هذا خلاف مسلك المجيب (طاب ثراه) لأنّه يقول (9): (إنّ الحكم الظاهري ناشٍ عن مبادئ حقيقية هي نفس المبادئ الواقعية، ومقدار اهتمام المولى بها في مقام التزاحم الحفظي، فحينئذٍ لا يعقل جعل حكمين ظاهريين متعاكسين حتى واقعاً ولو لم يصل إلى المكلف، لأن جعل الإلزامي منهما معناه اهتمام المولى بملاكاته الإلزامية الواقعية، وجعل الترخيصي منهما معناه عدم اهتمامه بها بل ترجيحه لملاكاته الواقعية الترخيصيّة، والاهتمام مع اللااهتمام بأمر واحد متنافيان لا محالة).
وهذا غير المسلك المشهور، فإنّ مقتضاه كون المصلحة في نفس جعل الأحكام الظاهرية، ولا تنافي بين حكمين ظاهريين متعاكسين بوجوديهما الواقعيين، وإنما التنافي بين وجوديهما الواصلين إلى المكلف، حيث يتنافيان من حيث التنجير والتعذير، وأما بلحاظ المبادئ فلا تنافي، لتعدد الجعلين واقعاً وتعدد موضوع المصلحة.
(الثالث): أنّه بناء على عدم التنافي بين الحجتين إلا في مرحلة الوصول يمكن أن يقال: إن الشهادة المعارضة بعدم وثاقة المنقري مثلاً ــ الذي هو أحد مشايخ ابن أبي عمير ــ تعتبر واصلة وتكون حجة وإن لم يتم تشخيص أن المروي عنه في مرسلة ابن أبي عمير هو المنقري أو غيره، فإن حجية تلك الشهادة لا تناط بتشخيص ذلك، بل هي حجة وإن لم يتم تشخيصه حتى في مورد واحد، فإن تشخيصه إنما هو منشأ لحصول الأثر العملي بانضمامه إلى تلك الشهادة.
وعليه فمع الشك في كون المروي عنه في مرسلة ابن أبي عمير هو المنقري أو غيره لا شك في قيام الحجة على عدم وثاقة بعض من روى عنه ابن أبي عمير، بل الشك في انطباق ما قامت عليه الحجة على المورد، وهو يمنع من التمسك بعموم حجية شهادة ابن أبي عمير على وثاقة مشايخه.
وبعبارة أخرى: إنّ شهادة ابن أبي عمير وإن كانت عامة لكل من روى عنه بعنوانه الخاص أو بعنوان مبهم كبعض أصحابنا إلا أن دليل حجية هذه الشهادة يشمل خصوص من لم يرد من طريق آخر تضعيفه، فإذا ورد دليل على ضعف المنقري ــ مثلاً ــ استثني من مشايخ ابن أبي عمير في مرحلة شمول دليل الحجية لشهادته لهم بالوثاقة، أي مقتضى دليل الحجية أن كل مشايخ ابن أبي عمير ثقات إلا المنقري، فإذا شك في كون من روى عنه بعنوان مبهم هو المنقري أو غيره يشك في كون هذا الشخص داخلاً في العموم فيما هو حجة فيه أو في الخاص؟ فلا يمكن التمسك بالعموم لإثبات وثاقته، لنظير النكتة التي لأجلها لا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص.
فالنتيجة: أن ورود التضعيف من طريق آخر في حق بعض مشايخ ابن أبي عمير وإن لم يكن موجباً لكشف أن المراد الجدي من شهادته بالعموم لا يشمل هذا الشيخ ولكنه موجب لتضييق شمول دليل الحجية لشهادة ابن أبي عمير.
ولكن يمكن أن يقال: إنّ المجيب (طاب ثراه) يسلِّم حصول التضييق في مرحلة شمول دليل الحجية لشهادة ابن أبي عمير، ولكن يقول: إن الخارج ليس هو (المنقري) بعنوانه بل من قام الدليل على تضعيفه من طريق آخر. وينطبق ذلك على المنقري في الرواية المروية بطريقه، وأما في المرسلة فلم يقم دليل على تضعيف المذكور مبهماً، لأن المفروض أن الحجية منوطة بالوصول، ولم يصل تضعيف هذا، فالشهادة بالعموم تشمله بلا معارض. وهذا بخلاف الحال في العام المخصص، فإن الخارج من العام هو الفاسق مثلاً، فإذا شك في كون شخص فاسقاً يشك في دخوله في العام فيما هو حجة فيه وعدمه، وأما هنا فالخارج عن دليل حجية شهادة ابن أبي عمير هو من يصل ضعفه من طريق آخر، ومثله لا ينطبق على الوسيط المبهم إلا إذا شهد ثقة بأنه يعرف الوسيط وهو ضعيف، والمفروض أنه لم يتحقق مثل ذلك.
وأما القول بأنّه يكفي وصول تضعيف المنقري وكون الشك في مصداق ما هو الحجة فليس دقيقاً، لأن الوصول منوط بوصول الكبرى والصغرى معاً، فما لم يصل المصداق لا يكون وصول، نظير ما ذكروه في الشبهة الموضوعية من أنه لا يصير الحكم فعلياً ليكون قابلاً للتنجّز إلا مع العلم بتحقق الموضوع فتأمل.
(الرابع): أنّ دليل حجية شهادة ابن أبي عمير وإن لم نتحقق من ثبوت معارض له في مورد الوسيط في المرسلة، ولكنه مع ذلك لا يشمله، لأن شموله يتوقف على إعمال أصالة عدم الاشتباه في حق ابن أبي عمير في شهادته له بالوثاقة، وهي لا تنفي احتمال تكرار الاشتباه وإنما تنفي احتمال تجدد الاشتباه، وحيث لا دافع لاحتمال التكرر فلا حجية لهذه الشهادة.
وقد مرَّ هذا الوجه منه (قدس سره) في مناقشة المحاولة الأولى، ومرَّ الجواب عنه.
(الخامس): أنّ كلاً من مشايخ ابن أبي عمير مشمول لدليل حجية شهادته بالوثاقة مرة واحدة لا مرتين، مرَّة بعنوانه الخاص ومرَّة بعنوانه المبهم. وعلى ذلك فهو وإن كان يشهد لمن روى عنه بعنوان مبهم بالوثاقة إلا أنه لما كان من المؤكد أن عدداً كبيراً ممن روى عنهم بعنوان مبهم هم من الذين روى عنهم بعناوينهم الخاصة فالشهادة لهم بالوثاقة بالعناوين المبهمة لا تكون مشمولة لدليل الحجية، وحيث لا يعلم بتطابقها مع الشهادات غير المعارضة أو المعارضة، فلا سبيل إلى الاعتماد عليها.
وتوضيح هذا يتوقف على بيان أمور:
1 ــ أنّ معروفية الشخص بأنه لا يروي إلا عن الثقة تقوم على أساس أمرين:
أ ــ التزامه الشخصي بعدم الرواية إلا عمن ثبتت عنده وثاقته، مع اطلاع الناس منه على ذلك من خلال تصريحه به أو قيام القرائن الحالية أو المقاليّة عليه.
ب ــ إقرار الناس له على صواب توثيقاته فيما يتيسر لهم الاطلاع على مناشئها، نعم لا يضرّ عدم موافقتهم له في موارد نادرة، وأما إذا كانت موارد المخالفة كثيرة مما يكشف عن خلل في تطبيق موازين التوثيق عنده فلا يقال بأنه ممن يُعرف بأنه لا يروي إلا عن ثقة.
فالنتيجة: أنّه ليس المقصود بكون الشخص معروفاً بعدم الرواية إلا عن الثقة أنه يروي عمن هم ثقات عند نفسه، وإن لم يكونوا ثقات عند الناس، كما أنه ليس المقصود من هم ثقات عند الناس بحيث يعني تتبع الناس توثيقاته بصورة عامة وحصول العلم لهم بكونهم ثقات بالفعل.
2 ـ أنّ مقتضى التزام ابن أبي عمير بعدم الرواية عن غير الثقة هو أنه كلما قال: (حدثني فلان) فهو شهادة ضمنية منه بوثاقته، نعم الشهادات المتطابقة أي الواردة في حق شخص واحد تعتبر بمثابة شهادة واحدة من حيث شمولها لدليل حجية شهادة ابن أبي عمير بالوثاقة، وإن فرضنا ورودها بعناوين مختلفة، أي أن كل شخص من مشايخ ابن أبي عمير إنما يكون مشمولاً لدليل حجية شهادته له بالوثاقة مرَّة واحدة لا مرتين، مرَّة بعنوانه الخاص ومرَّة بعنوان كونه رجلاً من أصحابنا، ونحو ذلك من العناوين التي تذكر في المراسيل.
3 ــ أنّه قد ثبتت رواية ابن أبي عمير عن أناس ورد تضعيفهم من طرق أخرى معتبرة. والملاحظ في ذلك:
أ ــ أنّ عدد هؤلاء وإن كان قليلاً حيث لا يتجاوز الأربعة أو الستة ــ وفق ما أجريته من الإحصاء ــ كما أن عدد الروايات المروية بطرقهم وإن كانت قليلة، ولكن في كل الأحوال يبقى احتمال توسطهم في مراسيل ابن أبي عمير قائماً.
ب ــ أنّ هؤلاء وإن لم يتأكد ضعف أيّ منهم على سبيل اليقين، ولكن حيث ورد تضعيفهم بطرق معتبرة، ولم يثبت خطؤها فلا محالة يقع التعارض بين شهادة ابن أبي عمير لهم بالوثاقة بمقتضى روايته عنهم وشهادات المضعفين، فلا يمكن الاعتماد على شهادة ابن أبي عمير في حقهم.
بل ربّما يحتمل أن تكون رواية ابن أبي عمير عن هؤلاء تخلفاً عن التزامه بعدم الرواية عن غير الثقة، فلا تكون الشهادات الصادرة من الآخرين بضعفهم معارضة من قبل ابن أبي عمير.
ولكن هذا الاحتمال ممّا لا مثبت له، بل مقتضى ما عرف من التزامه بعدم الرواية إلا عمن ثبتت عنده وثاقته هو خلاف ذلك.
ج ــ أنّ مقتضى ما تقدم هو أن مشايخ ابن أبي عمير يمكن تقسيمهم إلى مجموعتين: المجموعة (أ) وهم مشايخه الذين لم يرد في حقهم تضعيف من طريق معتبر آخر، والمجموعة (ب) وهم مشايخه الذين ضعّفوا بطرق أخرى، وكلما كانت رواية ابن أبي عمير عن أحد أفراد المجموعة (ب) فلا يمكن الاعتماد عليها.
4 ــ أنّ لابن أبي عمير مراسيل كثيرة في كتب الأخبار، ومن المؤكّد أنّ قسماً كبيراً من هذه المراسيل مروية عن المشايخ الذين روى عنهم المسانيد، إذ لا يحتمل التباين بين مشايخه في المسانيد والمراسيل، بل النسبة بينهما إما عموم من وجه وإما عموم مطلق، مع كون العموم في جانب المشايخ في المسانيد.
ومقتضى ذلك أنه إذا قال ابن أبي عمير: حدثني بعض أصحابنا أو رجل ونحو ذلك فهو وإن كان شهادة ضمنية منه بوثاقة هذا المروي عنه إلا أن هذه الشهادة لما لم تكن ــ ولا أقل في قسم من المراسيل ــ شهادة إضافية وجديدة غير ما اشتملت عليه مسانيده، فهي غير مشمولة لدليل حجية شهادة ابن أبي عمير بالوثاقة بما هي هي، بل من حيث مطابقتها مع إحدى الشهادات التي تشتمل عليها المسانيد.
وحيث أن تلكم الشهادات كانت على مجموعتين، ولا يعلم بمطابقة الشهادة في الرواية المرسلة مع إحدى الشهادات في المجموعة (أ) أو في المجموعة (ب)، ولا دافع لاحتمال مطابقتها مع إحدى الشهادات في المجموعة (ب) التي كانت معارضة لشهادات آخرين بضعفهم لم يمكن البناء على حجيتها، وبذلك تسقط جميع المراسيل عن الحجية، لعدم إحراز مطابقة ما تتضمنها من الشهادة بالوثاقة مع بعض الشهادات في المجموعة (أ).
هذا، وسيأتي عند التعقيب على المحاولة الثالثة ما يتضح به الجواب عن هذا الوجه ولو في بعض الموارد.
(المحاولة الثالثة): أنه يمكن تضعيف احتمال أن يكون الوسيط المبهم من المضعفين على أساس حساب الاحتمالات وإثبات الاطمئنان الشخصي بوثاقته، لأنه مردد بين جميع مشايخ ابن أبي عمير وعددهم حوالي (400) نفر، وعدد المضعفين لعله لا يزيد على الخمسة أي أن قيمة احتمال كون الوسيط واحداً من الثلاثمائة وخمسة وتسعين هو (39,5) من (40)، وهذا يبلغ درجة الاطمئنان.
إن قيل: كيف حصرتم احتمالات الوسيط المجهول في الأربعمائة مع وجود احتمال أن يكون شخصاً آخر، لعدم قيام دليل على انحصار من روى عنه ابن أبي عمير في أولئك.
قلنا: إنّ هذا الاحتمال لا يضر، لأن احتمال أن يكون الوسيط غير الأربعمائة من غير الثقات احتمال منفي بدليل حجية شهادة ابن أبي عمير وبأصالة عدم الاشتباه، لأنه يعني احتمال اشتباه زائد.
ثم أجاب (قدس سره) (10) عن هذه المحاولة بأنّه مبني على افتراض أنّ الاحتمالات الأربعمائة في الوسيط المجهول متساوية في قيمتها، وإلا بأن كانت هناك أمارة احتمالية تزيد من قيمة احتمال أن يكون الوسيط المجهول أحد الخمسة فسوف يختل الحساب المذكور، ويمكن أن ندعي وجود عامل احتمالي يزيد من قيمة هذا الاحتمال وهو نفس كون ابن أبي عمير يروي الرواية عن رجل أو عن بعض أصحابه ونحو ذلك من التعبيرات، إذ يحتمل نشوء ذلك من درجة من عدم الاعتناء وعدم الوثوق بالرواية، المناسب لكون المروي عنه أحد أولئك الخمسة، فاحتمال كون الإرسال بالنحو المذكور بنفسه نكتة مشتركة ملاكها ذلك يوجب تقوية احتمال أن يكون الوسيط أحد الخمسة إلى الدرجة التي لا يبقى معها اطمئنان بالخلاف.
ثم تأمل في هذا الجواب مشيراً إلى أن هناك احتمالاً أقوى مما ذكر، وهو احتمال أن يكون الإرسال في روايات محمد بن أبي عمير من جهة تلف كتبه حينما حبس أربع سنوات، فإنه لما أطلق سراحه حدَّث من حفظه، فكان الإرسال بسبب نسيانه لأسماء الرواة في بعض رواياته لا لجهة أخرى.
أقول: يمكن الخدش في المحاولة الثالثة المذكورة للجواب من جهتين:
الأولى: أنّها تبتني على كون العبرة في حساب الاحتمالات بملاحظة عدد المشايخ. ولكن يمكن أن يقال: إنه لا بد فيه من ملاحظة عدد الروايات.
الثانية: أنّها تبتني على كفاية ملاحظة عدد المشايخ من دون النظر إلى خصوصية المروي عنه في كل مورد. ولكن هذا أيضاً غير صحيح.
ولتوضيح الحال وتقريب الاستفادة من حساب الاحتمالات للجواب عن أصل الإشكال، ولا سيما بالتقريب المار ذكره في الوجه الخامس من وجوه المناقشة في المحاولة الثانية.
أقول:
أ ــ إن لابن أبي عمير ما يناهز خمس آلاف رواية مسندة في كتب الأخبار، وعدد روايات المضعفين بطرق أخرى لا تتجاوز الخمس والعشرين
رواية، أي بنسبة نصف الواحد في المائة (0,5 %).
ومعنى ذلك أنا إذا اخترنا رواية من روايات ابن أبي عمير بصورة عشوائية من دون ملاحظة اسم من روى عنه فاحتمال أن يكون من الرجال المضعفين من مشايخه هو بنسبة (0,5 %) فقط، وهذا احتمال ضعيف جداً لا يعتد به العقلاء، لقيام الاطمئنان على خلافه.
ب ــ إن لابن أبي عمير ما يناهز مائتي رواية مرسلة في كتب الأخبار، والإرسال في رواياته لم ينشأ من محاولته إخفاء اسم المروي عنه لكونه ضعيفاً أو مشوَّه السمعة عند أصحاب الحديث أو نحو ذلك من الخصوصيات بل إنما نشأ من تعرض كتبه للتلف فاضطر إلى رواية جملة من الأحاديث على وجه الإرسال بعد عدم تذكر أسماء المشايخ الراوين لها.
وعلى ذلك فمراسيل ابن أبي عمير نماذج لمسانيده، ولا اختلاف بينهما في نوع المشايخ الذين روى عنهم.
وعلى هذا الأساس يمكن القول أنّ نسبة رواية المضعفين في رواياته المرسلة لا تزيد أيضاً على نسبة (0,5 %) أي رواية واحدة من مجموع مائتي رواية، وهذا يعني أن في كل رواية مرسلة يحصل الاطمئنان بعدم كون المروي عنه أحد المضعفين، وأما احتمال أن يكون مضعّفٌ آخر غير من تم العثور عليهم في المسانيد فهو احتمال منفي بشهادة ابن أبي عمير بوثاقة مشايخه مع عدم وصول معارض لهذه الشهادة في غير من عرفناهم.
ونظير المقام ما إذا أحرز وجود إناء نجس في مائة إناء، فإن احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل إناء لا يكون إلا بنسبة (1 %)، وهو احتمال لا يعتد به، وأما احتمال وجود إناء نجس آخر في المجموعة فيمكن البناء على خلافه بأصالة الطهارة، وبضم الوجدان إلى الأصل يحكم بطهارة كل إناء.
ويلاحظ أن هذا الجواب قد تم تقريبه على أساس ملاحظة نسبة روايات ابن أبي عمير عن غير المضعّفين إلى رواياته عن المضعّفين. وقد يجاب عن الإشكال ــ كما مرَّ ــ بملاحظة نسبة عدد مشايخه غير المضعّفين إلى المضعّفين فيقال: إن عدد مشايخ ابن أبي عمير أربعمائة شيخ مثلاً، وعدد المضعّفين أربعة مثلاً، ففي كل رواية مرسلة لا يتجاوز احتمال كون المروي عنه هو أحد المضعفين (1 %)، فيكون ملغياً لضعفه جداً.
ولكن هذا الكلام ليس صحيحاً، لأنه لا أثر لعدد المشايخ في تضعيف احتمال أن يكون الوسيط في المرسلة من المشايخ المضعّفين، بل العبرة بعدد الروايات.
فلو كان عدد المشايخ أربعمائة وعدد المضعّفين أربعة، ولكن الروايات المروية عن الأربعة تساوي في العدد الروايات المروية عن الثلاثمائة وستة وتسعين شيخاً الباقين لم يكن احتمال أن يكون الوسيط في الرواية المرسلة أحد الأربعة المضعّفين ضعيفاً جداً.
وبالعكس إذا كان عدد المضعّفين من المشايخ مائتين وعدد غير المضعّفين مثل ذلك، ولكن كانت رواياته عن المضعّفين مائتي رواية فقط وعدد رواياته عن غيرهم خمسة آلاف رواية لا يكون احتمال أن يكون الوسيط في الرواية المرسلة أحد المضعّفين مساوياً لاحتمال كونه من غيرهم بل أضعف بمراتب.
والحاصل: أنّ العبرة في تضعيف احتمال أن يكون الوسيط من المضعّفين إنما هو بملاحظة عدد الروايات لا عدد المشايخ.
هذا ولكن يمكن أن يلاحظ على الجواب المذكور بأمور:
(الأول): أنّ رقم خمسة آلاف لا يمثِّل الرقم الحقيقي لروايات ابن أبي عمير في كتب الأخبار الموجودة بأيدينا، بل عددها أقل من ذلك بكثير.
والوجه فيه: أن الروايات المبثوثة في كتب الحديث عن طريق ابن أبي عمير لها عدة مصادر:
أ ــ ما كان موجوداً في كتب ابن أبي عمير وهو منقول عنها، ولعل الذي وصل إلى أصحاب الجوامع كالكليني ومن بعده من كتب ابن أبي عمير ينحصر في النوادر، ومن المؤكد أنه كان من مصادر الصدوق كما ذكره في مقدمة الفقيه، كما يظهر من سند الشيخ إلى ابن أبي عمير في المشيخة أنه كان من مصادره في التهذيبين، وأما بقية كتب ابن أبي عمير فيظهر مما ذكر في الكشي أنها قد تلفت.
ب ــ ما تلقاه عنه تلاميذه مشافهة وأثبتوه في كتبهم، وأصحاب الجوامع قد اعتمدوا على هذه الكتب في نقلها.
ج ــ الكتب التي وقع ابن أبي عمير في طريق نقلها، وهي كانت كثيرة، ويوجد في فهرست الشيخ ورجال النجاشي ما يناهز مائة وخمسة وعشرين كتاباً رواه ابن أبي عمير.
والظاهر أنّ معظم الروايات المروية عن طريق ابن أبي عمير في الجوامع إنما هي مقتبسة من الكتب التي رواها، ككتاب أبي أيوب الخزاز وعمر بن أذينة وإبراهيم بن عبد الحميد وجميل بن دراج وحفص بن البختري وحماد بن عثمان وعبد الرحمن بن الحجاج ومحمد بن أبي حمزة ومعاوية بن عمار وهشام بن الحكم وهشام بن سالم وأضرابهم.
والملاحظ أنّ القسم الأعظم من روايات ابن أبي عمير في جوامع الحديث أي ما يناهز (75%) منها إنما هي عن هؤلاء الأشخاص المذكورة أسماؤهم آنفاً، ولا يبعد أن يكون أزيد من (90%) من رواياته الموجودة بأيدينا في الكافي وكتب الصدوق والتهذيبين وغيرها هي مما أخذت من الكتب المروية بطريق ابن أبي عمير، لا مما رواها في كتابه أو رواها لتلاميذه وأثبتوها في كتبهم. ونتيجة ذلك أنّ مجموع روايات معاوية بن عمار مثلاً وهي تناهز (500) رواية تعدُّ رواية واحدة، وكذلك روايات جميل بن دراج وهي تناهز (400) رواية، وروايات حماد بن عثمان وهي تناهز الثلاثمائة وهكذا.
وعلى ذلك فلا تكون نسبة الروايات المروية عن المضعّفين إلى الروايات المروية عن غيرهم نصف الواحد من المائة بل أزيد من ذلك، مما يمنع من حصول الوثوق في الرواية المرسلة بأن الوسيط ليس من المضعّفين.
والجواب:
(أولاً) بأنّه لو سلِّم أنّ (90%) من الروايات المروية بطريق ابن أبي عمير إنما أخذت من كتب من رويت بواسطته، وكل ما أخذ من كتاب فهو يعدُّ رواية واحدة، وإن وزِّع على مئات الموارد، إلا أنّ مثل هذا الكلام يجري في الروايات المروية عن المضعّفين، فبدل أن تحتسب (25) رواية ينبغي أن تحسب خمس روايات مثلاً، فإذا فرضنا أن مجموع روايات ابن أبي عمير المسندة خمسمائة رواية في ضوء الحساب المذكور فالنسبة بين رواياته عن المضعّفين ورواياته عن غيرهم تكون (1 %)، وهي قريبة من النسبة بينهما على غير هذا الحساب.
(وثانياً) بأن ابن أبي عمير كان له أربعة وتسعون كتاباً ــ كما ذكر في الفهارس ــ ومن المؤكد أنه وزَّع روايات كتب مشايخه على مؤلفاته، وبالأحرى ألفها من كتب مشايخه، فروايات كتاب جميل أو ابن أذينة ومعاوية بن عمار قد وزعها فيما ألَّفه في مختلف الموضوعات، فتتعدد الرواية بذلك، فليتأمّل.
(الثاني): أنّ الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف من أطراف الشبهة ليس اطمئناناً يعتمد عليه العقلاء، ومن المعلوم أن حجية الاطمئنان إنما هي بالبناء العقلائي، فإذا لم يثبت بناؤهم على الحجية في هذا النوع من الاطمئنان الناشئ من توزيع الاحتمالات في أطراف العلم الإجمالي لم يكن حجة.
والجواب: أن الظاهر أن العقلاء لا يفرقون بين مناشئ الاطمئنان على النحو المذكور، أي أن الاطمئنان الذي يكون له منشأ عقلائي يعدُّ حجة عندهم وإن كان حصوله بلحاظ حساب الاحتمالات.
(الثالث): أنّه لو سلِّم حجية الاطمئنان المذكور فإنما ينفع فيما لو أريد ارتكاب بعض الأطراف بحدٍّ لا يوجب انتفاء الاطمئنان بعدم مصادفة المعلوم بالإجمال، وإلا فلا ينفع الاطمئنان بلحاظ كل طرف مع انتفائه بملاحظة مجموع الأطراف المستخدمة، كما في مثال الأواني المائة التي يعلم بتنجس إناء واحد منها، فإنه يجوز شرب الماء من واحد من تلك الأواني، لأن احتمال كونه هو المتنجس يكون (1%)، وهو احتمال موهوم يطمأن بخلافه، وأما شرب الماء من خمسة منها فلا يجوز، لأن احتمال عدم كون أيٍّ من الخمسة متنجساً يكون بمقدار (95%)، وهو ظن غير اطمئناني.
وعلى ذلك فلو أريد هنا العمل ببعض مراسيل ابن أبي عمير بحيث يطمأن بعدم توسط المضعّف في شيء من رواتها فلا مانع من ذلك، وأما إذا أريد العمل بعدد وافر منها فضلاً عن الجميع فلا يمكن ذلك، إذ لا اطمئنان بعدم وجود المضعّف في رواتها.
والجواب: ليس الأمر كما ذكر، بل يكفي في مورد العلم الإجمالي بتنجس إناء واحد من مائة إناء الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على كل إناء من الأواني المائة، أي يكون الاطمئنان في كل واحد منها حجة يمكن الاعتماد عليه، ولا يضر عدم الاطمئنان بمطابقة الاطمئنان للواقع في جميع الأواني التي يراد شرب ما فيها من الماء، وإنما يضر الاطمئنان بمخالفة الاطمئنان في بعضها للواقع، ولذلك يبنى على عدم جواز شرب الماء من تسعة وتسعين إناءً من تلك الأواني، لحصول الاطمئنان بانطباق المعلوم بالإجمال على بعضها.
وفي المقام لا يضر عدم الاطمئنان بمطابقة الاطمئنان للواقع في جميع المراسيل التي تشتمل على الأحكام الشرعية بعدم توسط المضعّف في طرقها. نعم لو كان هناك اطمئنان بوقوع المضعّف في طريق بعضها لأضرَّ بحجيتها، ولكنه غير حاصل.
(الرابع): أن ما ذكر من أن المراسيل هي من نوع المسانيد، فما تحتويها من روايات المضعّفين لا تزيد على ما تحتويها المسانيد غير تام، لأنها وإن كانت من نفس النوع من جهة ابن أبي عمير إلا أن المسانيد قد تعرضت للغربلة والتمحيص والتحقيق، والموجود بأيدينا جزء مختار من مسانيد ابن أبي عمير، ويحتمل أن نقَّاد الأحاديث قد ألغوا ولم يرووا عدداً كبيراً من روايات المضعّفين كالمفضل بن عمر الجعفي والمفضل بن صالح والحسين بن أحمد المنقري، لأنهم لم يجدوا شواهد على صحتها، وكان رواتها ضعافاً فألغوها، بخلاف الحال في المراسيل، فإن عدم معرفتهم بالمروي عنهم لم يفسح المجال لهم لذلك. فالنتيجة: أنه يحتمل أن تكون روايات المضعّفين أضعاف ما وصل إلينا ــ وهو (25) رواية كما مرَّ ــ فإذا فرضنا أنها كانت (150) رواية يصبح احتمال أن يكون أي من المراسيل من روايات المضعفين بنسبة (3%)، وهو ينافي حصول الاطمئنان بخلافه.
ولا دافع لاحتمال أن يكون لابن أبي عمير روايات أخرى عن المضعّفين الخمسة، إذ ليس في ذلك اشتباه زائد على أصل اشتباهه بوثاقة هؤلاء، وليس الحال مثل احتمال روايته عن أشخاص مضعّفين آخرين، فإنه بعد شهادته للمشايخ بالوثاقة، وعدم وصول معارض لشهادته بالنسبة إلى غير الأربعة يبنى على وثاقة الباقين.
نعم لو بني على أن رواية ابن أبي عمير عن هؤلاء قد حصل بالرغم من اعتقاده عدم وثاقتهم، وبني على أن مركز شهادته هي الروايات لا المشايخ يمكن نفي وجود روايات أخرى عن هؤلاء، ولكن الأول مما لا مثبت له، والثاني غير تام أيضاً كما تقدم.
وبالجملة: أنّ أصل احتمال وجود روايات أخرى له عن المضعّفين في المراسيل كافٍ في منع العمل بها، لأن المعلوم بالإجمال وإن كان مما يطمأن بعدم انطباقه على كل واحد ــ على ما مرَّ ــ ولكن احتمال وجود روايات زائدة غير منفي بأيِّ دليل، كما لو علمنا بنجاسة إناء من مائة إناء، واحتملنا وجود أوانٍ نجسة أخرى من دون أن يكون مقتضى الأصل فيها هو الطهارة، لتعاقب الحالتين في كل منها.
والجواب: أنّ احتمال أن تكون نسبة روايات المضعّفين إلى غيرهم في المراسيل أزيد من نسبتها في المسانيد، من جهة عدم إدراج جملة من رواياتهم المسندة في جوامع الحديث الواصلة إلينا وإن كان مما لا ينكر، ولكن الظاهر أن الاختلاف في النسبة إن كان فهو ليس بحدٍّ يعتد به، فإنه لا يوجد مؤشر إلى اعتناء الماضين ــ ولا سيما الكليني والشيخ ــ بفرز روايات الضعفاء وعدم إيرادها في كتبهم مهما أمكن، نعم ربما يظهر من بعض كلمات الصدوق (قدس سره) (11) أنّه لا يروي ما لم يصححه شيخه محمد بن الحسن بن الوليد، ولكن هذا أمر آخر.
وبالجملة: الظاهر أنّ نسبة روايات المضعّفين إلى روايات غيرهم في المراسيل لا تختلف بمقدار يعتد به عن نسبتها في المسانيد، فلا محل للخدش في البيان المذكور من هذه الجهة.
(الخامس): أنّ ما ذكر من حصول الاطمئنان بحساب الاحتمالات إنما يتم لو لم تلاحظ خصوصية من روى عنه الواسطة المحذوفة أو المبهمة وأما مع ملاحظتها فلا يحصل الاطمئنان في كثير من الحالات.
مثلاً: لابن أبي عمير عشر روايات في الكافي عن إسحاق بن عمار مع تعيين الواسطة بينهما، والواسطة في واحدة هو الحسين بن أحمد المنقري المضعّف، وفي الباقي آخرون كحفص بن البختري ومحمد بن أبي حمزة والحسين بن عثمان ومنصور بن يونس وإسماعيل بن عمار وعقبة بن محرز وعلي بن إسماعيل، وله ثلاث مراسيل عن إسحاق بن عمار أيضاً، وعلى ذلك فاحتمال كون المنقري هو الوسيط بينهما في كل واحدة منها هو (10%)، مما يعني عدم الاطمئنان بخلافه.
وأيضاً لابن أبي عمير ما يناهز ثلاثين رواية في الكافي عن أبي بصير مع تعيين الواسطة بينهما وهو في الجميع غير عبد الرحمن بن سالم الأشل المضعف الذي روى عنه ابن أبي عمير في بعض الأسانيد، ولكن المذكور في ترجمة الرجل أنه كان قد روى عن أبي بصير، فاحتمال أن يكون هو الوسيط في بعض مراسيل ابن أبي عمير عن أبي بصير مما لا يمكن الاطمئنان بخلافه فتدبر.
نعم لابن أبي عمير روايات كثيرة عن زرارة مع الواسطة، وربما تزيد على مائة وأربعين رواية وبعضها مراسيل، وقد توسط بينهما الحسين بن أحمد المنقري في رواية واحدة فقط، وعلى ذلك يكون احتمال توسطه بينهما في بعض المراسيل احتمالاً ضعيفاً لا يعتدّ به.
وأيضاً لابن أبي عمير روايات كثيرة جداً بواسطة واحدة عن الإمام الصادق (عليه السلام) والمضعّف من الوسائط بينهما واحد أو اثنان، فيمكن استحصال الاطمئنان بعدم كون الواسطة المحذوفة أو المبهمة في بعضها أحد المضعّفين.
والحاصل: أنّ إعمال حساب الاحتمالات في مفروض الكلام لا يجدي إلا جزئياً، ولا يثمر في كثير من الموارد إذا لوحظت ــ كما يلزم ــ خصوصية من يروي عنه الواسطة المحذوفة أو المبهمة.
ثم إنّه بناءً على حجيّة مراسيل ابن أبي عمير فان الحجية تختص بمراسيله بواسطة واحدة ولا تشمل ما إذا كانت بواسطتين، كما أوضحته في موضع آخر (12).
وعلى ذلك فإن أحرز أنّ الواسطة المحذوفة أو المبهمة واحدة فلا اشكال، وأما مع احتمال تعددها (13) فلا سبيل إلى البناء على اعتبارها كما هو ظاهر.
ولكن يمكن أن يقال: إنّ هذا الاحتمال على خلاف الظاهر، فإن المنساق من قوله: (عن بعض أصحابنا) أو (عن رجل) أو (عمن ذكره) أو نحو ذلك هو كون الواسطة المبهمة رجلاً واحداً لا أزيد، وإلا لكان المناسب أن يقول: (عن بعض أصحابنا عمن ذكره) أو شبه ذلك كما ورد في روايات غيره (14).
نعم يمكن أن يقال: إن هناك أموراً عديدة تثير الريب في كون جميع مراسيل ابن أبي عمير عن الصادق (عليه السلام) المشتملة على التعابير المذكورة من قبيل المراسيل بواسطة واحدة:
منها: عدم العثور على رواية له مزدوجة الإرسال على النحو المذكور في شيء من المصادر مع أن له روايات كثيرة بواسطتين عن الإمام (عليه السلام) وقد تكون مرسلة في إحداهما، كأن يقول: (إبراهيم بن عبد الحميد عن رجل) أو (محمد بن أبي حمزة عن رجل) أو (عن بعض أصحابنا عن إسحاق بن عمار) أو (عن بعض أصحابه عن ذريح) ونحو ذلك.
فكيف لم يقع الإرسال في كلتا الواسطتين في شيء من الموارد، مع أن السبب الذي ذُكر لإرسال رواياته وهو تلف كتبه يقتضي وقوع الإرسال في كلا القسمين من رواياته عن الصادق (عليه السلام)، أي ما كانت بواسطة واحدة وما كانت بواسطتين.
ومنها: ورود مراسيل له عن الباقر (عليه السلام) بنفس التعبير المستخدم في مراسيله عن الصادق (عليه السلام)، مع أنها لا تكون إلا مزدوجة الإرسال، لاقتضاء الطبقة عدم روايته عنه (عليه السلام) إلا بواسطتين.
ومن ذلك ما رواه الكليني (15) بإسناده عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه قال: (عطس رجل عند أبي جعفر (عليه السلام)..)، وما رواه (16) أيضاً بإسناده عنه عن بعض أصحابه قال: (شكا الأبرش الكلبي إلى أبي جعفر..)، وما رواه الشيخ (17) بإسناده عنه عن رجل عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال لرجل..).
ومنها: أنّ بعض مراسيله عن الصادق (عليه السلام) قد رويت أيضاً مسندة إليه (عليه السلام) بواسطتين.
ومن ذلك أن الكليني (18) روى بإسناده عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى...
ورواه الصدوق (19) بإسناده عن ابن أبي عمير عن ابن أبي حمزة عن عبد الأعلى قال: (سألت جعفر بن محمد عن قول الله..).
وروى الشيخ (20) بإسناده عن ابن أبي عمير عن رجل من أصحابنا قال:
سمعته يقول: ((لا يحلّ لأحد..)).
ورواه الصدوق (21) بإسناده عن ابن ابي عمير عن أبان عن حماد قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ..).
فيظهر من ذلك أنّ ابن أبي عمير لم يكن مقيداً بأن يشير إلى ازدواج الإرسال في موارده باستخدام التعبير المناسب لذلك بل يستخدم فيها أيضاً التعبير المستخدم في موارد الإرسال بواسطة واحدة، فجميع مراسيله عن أبي عبد الله (عليه السلام) من موارد الشبهة المصداقية للمرسل بواسطتين فلا يمكن البناء على حجيتها.
هذا ولكن يمكن الجواب عن الأمور المذكورة..
أما الأول فبأن استبعاد أن لا يكون لابن أبي عمير روايات مزدوجة الإرسال إلى الصادق (عليه السلام) وإن كان في محله، ولكن من المحتمل أنه كانت طريقته في مثل ذلك هي رفع السند إليه (عليه السلام) لا الإرسال بإبهام واسطتين (22)، وهذا متداول (23) في رواياته في مجاميع الحديث، فلاحظ.
وأمّا الثاني فبأنه لو ثبت عدم إدراك ابن أبي عمير أياً من أصحاب الباقر (عليه السلام) وإن كان معمراً فيمكن أن يعدّ ذلك قرينة على وقوع الإرسال بحذف الواسطة فيما رواه بعض مشايخ ابن أبي عمير له عن الباقر (عليه السلام)، ولا يتعيّن أن يكون من جهة استخدام ابن أبي عمير لتعبير (بعض أصحابنا) ــ مثلاً ــ في مورد الإرسال المزدوج، ليتطرق احتمال ذلك في موارد إرساله عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضاً.
وأمّا الثالث فبأنه لم يُتأكد اتحاد الروايتين المرسلة والمسندة في الموردين المذكورين، ولا سيما مع وجود بعض الاختلاف بين النصين.
وبالجملة: احتمال تعدد الرواية في ذينك الموردين قائم فلا شاهد فيهما للمدعى المذكور، فتدبر.
فالنتيجة: أنّ الخدش في حجية مراسيل ابن أبي عمير عن الصادق (عليه السلام) استناداً إلى ما ذكر غير وجيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|