أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-04-26
1336
التاريخ: 9-4-2019
1855
التاريخ: 20-2-2019
2727
التاريخ: 2-6-2021
2048
|
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): "يا علي لأنّ ادخل يدي في فم التنين إلى المرفق أحبّ إليّ من أن أسأل من لم يكن ثمّ كان" (1).
مفردات لغوية:
يتضمّن الحديث الشريف موضوعات عميقة سنتعرّض لها بمقدار ما يتسع له البحث.
قوله (صلى الله عليه وآله): «لأن أدخل يدي»: اليد تطلق في اللغة على عدة معان:
منها الجارحة، والنعمة، والقوة، والملك، وتحقيق إضافة الفعل.
أمّا الجارحة: وهي اليد المحسوسة عند جميع البشر وهي من أعضاء الإنسان المهمّة التي يؤدّي بها أعماله ووظائفه.
قال تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195].
وأما النعمة: فهي كما لو قلت لفلان عندي يد أشكرها أي نعمة أشكرها وهنا قد استعيرت - أي استعمل اللفظ لغير معناه مع وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي - قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64].
ويد الله سبحانه أي نعمته لاستحالة أن يكون له يد جارحة.
وأمّا القوة فنحو قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45].
أي ذوي القوى والعقول أو يقال لفلان يد على كذا أي قوة على كذا فعل أو ما لي بكذا يد أي ما لي قوة على كذا فعل.
وأمّا الملك، فكقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237].
أي يملك عقدة النكاح أو بحوزته ومثل هذه الأرض في يد فلان أي في ملكه.
وأمّا إضافة الفعل، نحو قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75].
أي لما تولّيت خلقه تخصيصاً لآدم وتشريفاً له بهذا وإن كانت جميع المخلوقات هو أيضاً خالقها لا غيره.
وهناك معان عديدة أخرى لا مجال لذكرها (2).
والظاهر أنّ المراد من اليد في الحديث هي اليد الجارحة - أي المعنى الحقيقيّ - بقرينة قوله إلى المرفق وإن كانت القرينة تنصب علامة على المجاز ولكن استعمالها هنا لتخصيص اليد بالجارحة حتّى تخرج عن الإطلاق الذي يحتمل فيه الوجوه المذكورة.
وأمّا التنين -كسكّين - فهو الحيّة العظيمة، وقيل إنّه شر من الكوسج، في فمه أنياب مثل أسنّة الرماح، أحمر العينين برّاق طويل كالنخلة، واسع الفم والجوف، يبلع كثيراً من الحيوانات.
وإذا تبيّن هذا فإنّ إدخال اليد في فم هذا الحيوان المفترس عملية خطيرة وفيها ألم ولكنّها أحبّ عند الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من سؤال من لم يكن ثم كان فأيّ نوع من السؤال الذي ينهى عنه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ومن أي جهة؟
ولكي يتّضح لنا الجواب بشكل أدق لا بد من بيان مقدمة:
السؤال في طلب العلم:
إنّ السؤال منه ما هو ممدوح ومنه ما هو مذموم، أمّا الممدوح فهو طلب العلم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
والمروي في أغلب التفاسير أنّ أهل الذكر هم أهل البيت (عليهم السلام)، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين والباقر (عليهما السلام): «نحن أهل الذكر» (3).
ولا سيما والآية الشريفة هنا دفعتنا للسؤال من أهله في سبيل المعرفة وواضح أنّ طلب العلم والمعرفة ممدوح إذا كان من مصدريه الأساسيين، القرآن الكريم وأهل البيت (عليهم السلام).
وقد جاء في حديث الثقلين:
«إنّي قد تركت فيكم الثقلين، ما إن تمسكّتم بهما لن تضلّوا بعدي وأحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض» (4).
فتوجّب على الناس أن يطلبوا العلم ويتفقّهوا فيه.
وفي حديث عن الصادق (عليه السلام) يقول: «ليت السياط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقّهوا في الحلال والحرام» (5).
وقد بلغت الأحاديث الشريفة والروايات الحاثّة على السؤال في طلب العلم حدّاً كبيراً إذ أفردت كتب الحديث له باباً طويلاً كما في الكافي والبحار وغيرهما لما في العلم من الأهمّيّة البالغة على تقدّم المجتمعات وسعادتها ولأنّ العلم خزائن وأسرار لا يتمكن الإنسان من التوصل إليها واكتشافها إلاً بالبحث والتحقيق والسؤال فلا بد إذن من السؤال والسؤال هنا فضيلة ممدوحة وسبيل إلى الرقي والكمال.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
«العلم خزائن ومفاتيحه السؤال فاسئلوا رحمكم الله فإنّه يؤجر أربعة: السائل، والمتكلم، والمستمع، والمحبّ لهم» (6).
والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض» (7).
وقال (عليه السلام) أيضاً: «القلوب أقفال ومفاتيحها السؤال» (8).
الذل في طلب الحاجة:
هذا من جانب وأمّا السؤال المذموم فهو سؤال الحاجة من غير الخالق تعالى والتكدّي من الناس.
قال تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}.
والإلحاف يعني الإلحاح في المسألة وفي سبب نزول الآية ومعناها قال الإمام الباقر (عليه السلام): إنّها نزلت في أصحاب الصُفّة. وهم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر يأوون إليهم فأووا إلى المسجد وقالوا نخرج في كلّ سريّة يبعثها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فحثّ الله النّاس عليهم بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273].
وفي معنى الآية الكريمة:
«إنّ الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويكره البؤس والتباؤس ويحب الحليم المتعفّف من عباده ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف.
وعنه (عليه السلام): إنّ الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ونهى عن عقوق الأمهات ووأد البنات وعن منع وهات.
وقال (عليه السلام): الأيدي ثلاث فيد الله العليا ويد المعطي التي تليه ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة ومن سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة كدوحاً أو خموشاً أو خدوشا في وجهه» (9).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر(ره):
«يا أبا ذر إيّاك والسؤال فإنّه ذلّ حاضر، وفقر متعجّله (10)، وفيه حساب طويل يوم القيامة» (11).
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «السؤال يضعف لسان المتكلم، ويكسر قلب الشجاع البطل، ويوقف الحرّ العزيز موقف العبد الذليل، ويذهب بهاء الوجه، ويمحق الرزق» (12).
فالسؤال المذموم هو التكدّي، وطلب الحاجة من غير الله سبحانه، والآن لنأتِ إلى بعض مضامين الحديث الشريف.
السؤال المذموم:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لأن أدخل يدي في فم التنين إلى المرفق أحب إليّ من أن أسأل من لم يكن ثم كان» (13).
والظاهر أنّ السؤال هنا يقصد به السؤال المذموم، وكأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يريد أن يشبّه حالة السائل كمن يدخل أكثر يده في فم التنين والذي ربّما يبتلعه وينهي حياته، فإنّ السؤال أيضاً يبتلع شخصيّة السائل أحياناً ويعرضه لموت عزته وكرامته، بل إنّ هذا أسوء حالاً عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأكثر مبغوضيّة من أن يبتلعه التنين؛ لأنّ التنين يبتلع الإنسان شخصاً أمّا السؤال فيبتلع شخصية الإنسان.
وهنا سؤال: ماذا يعني قوله (صلى الله عليه وآله): «من لم يكن ثم كان»؟
والجواب: إنّنا نستظهر منه أحد احتمالين هما:
1 - من لم يكن ثم كان هو المخلوق؛ لأنّه لم يكن ثم كان.
2 - أو الأفراد الذين لم تكن لهم شخصيّة وكانوا معدمين ثم صاروا بعد ذلك من أهل المكنة والاستطاعة وهم لؤماء.
والفرق بين الاحتمالين هو أنّ الأول يلاحظ الإنسان من جهة وجوده وعدمه في أصل الخلق والتكوين إذ إنّه ما كان موجوداً ثم أوجده الله سبحانه.
بينما الثاني يلحظ الإنسان من جهة حالاته الماديّة أو الاجتماعيّة بأنّه ما كان له شأن ثم حصله.
ولتوضيح الفكرة أكثر سأفصّل المسألة:
لم يكن ثم كان:
أمّا الاحتمال الأول: فإنّ المخلوق لم يكن ثم كان؛ لأنّه ممكن الوجود والممكن هو المسبوق بالغير الذي هو الواجب بعكس الواجب فإنّه كان منذ الأزل قديم أبديّ سرمديّ ليس مسبوقاً بعلة.
ذكر السيد عبد الله شبر في كتابه حقّ اليقين بعض خصوصيّات الواجب تعالى فقال: إنّه تعالى قديم أزليّ أبديّ سرمديّ ليس مسبوقاً بعلّة ولا يعتريه عدم بل هو الأول بلا أول يكون قبله والآخر بلا آخر يكون بعده ولم يسبق له حال حالا فيكون أولا قبل أن يكون آخراً ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً.
قال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة: 60].
والدليل على ذلك مضافا إلى النقل الصحيح أنّه لو جاز عليه ذلك لاحتاج إلى مؤثر في إيجاده وإعدامه فيكون ذلك المؤثر أولى بأن يكون هو الواجب ولأنّه لو لم يكن كذلك لم يكن وجوده واجباً ولا أزلياً فيكون محتاجاً تعالى الله عن ذلك بل هو الغني بذاته عمّا سواه ولأنّ الشيء لا يقتضي عدم نفسه وإلّا لما تحقّق بل هو قيوم دائم لا يقال له متى ولا يضرب له أمد بحتّى، ولهذا لمّا سُئل الإمام الباقر (عليه السلام) عن الله تعالى متى كان؟ فقال: متى لم يكن؟ حتى أخبرك متى كان!!.
وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "إنّما يُقال متى كان؟ لمّا لم يكن، فأمّا ما كان فلا يُقال متى كان، كان قبل القبل بلا قبل، وبعد البعد بلا بعد" (14).
وإذا ثبتت أزليّته وسرمديّته وقدمه فالقديم هو الذي يتقدّم على الكل أي ليس مسبوقاً بعلّة أو عدم أو شيء "هو الأول قبل كلّ شيء" (15) فيكون غنياً عن الكل، أمّا المخلوق فيجب عليه أن يسأل الخالق تعالى لأنّه الغني بذاته، وأن يتوجّه إليه في طلبه وحاجته لا أن يسأل المخلوق الذي هو الآخر فقير معدم بالنسبة إلى الخالق. وطبعاً هنا ينبغي أن نعرف أنّ هذا الحديث لا يريد أن يجلس الإنسان عن السعي ويقعده عن التعامل مع الناس والأخذ والعطاء مع الاخرين في قضاء الحوائج وإنجاز الأدوار كلا، لأنّ من الواضح أنّ الحياة البشرية قائمة بالتعامل الاجتماعي والتعاطف والتكافل والأخذ والعطاء بين الناس، وإنّما يريد الحديث الشريف أن يلفت الإنسان إلى أن الذي يملك الحاجات كلها وبيده أزمتها هو واحد في هذا الكون وهو الله سبحانه فهو الغني المطلق ولا غني سواه وهو الرازق ولا رازق سواه وفي الدعاء عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ضمير الصامتين، لكلّ مسألة منك سمع حاضر وجواب عتيد، اللهم ومواعيدك الصادقة وأياديك الفاضلة ورحمتك الواسعة فأسألك أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تقضي حوائجي للدنيا والآخرة إنّك على كلّ شيء قدير» (16).
ولكنّ الله سبحانه وتعالى لا ينزل رزقه إلى الإنسان مباشرة وبالمعجزات الغيبية كما لا يخلقه من أول الأمر بالمعجزات الغيبيّة وإنّما جعل الله سبحانه لكلّ شيء سبباً وأراد من الإنسان أن يسلك سبل الأسباب والطرق الطبيعية لتدبير أموره. فالله سبحانه هو الخالق للإنسان ولكن عن طريق التزاوج الشريف بين الوالدين، فالزواج طريت طبيعي وسبب إلهي من أسباب الخلق.
كما أنّ الله سبحانه هو الرازق ولكن عن طريق السعي والعمل والجد في الكسب والتجارة أو غيرها من الأعمال الإنسانية الشريفة، وهكذا في قضاء الحوائج، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
«مَن سألنا أعطيناه ومَن استغنى أغناه الله» (17).
وقوله (صلى الله عليه وآله): "اطلبوا المعروف والفضل من رحماء أمتي تعيشوا في أكنافهم" (18).
إذ لا يمكن للإنسان أن يستغني عن الآخرين في إدارة شؤون الحياة إلا أنّه إذا اضطر إلى سؤال أحد حاجة، عليه أن يعرف ويلتفت إلى أنّ النّاس جعلهم الله سبحانه من الأسباب الطبيعية لقضاء الحوائج، ولهذا فهو عندما يطلب من أحد حاجة عند اضطراره يطلبها من الله أولاً بواسطة فلان أو فلان. وليس يطلبها من فلان وحده؛ لأنّ طلب الحاجة من الله طلب من أهلها وسؤال من الغني الكريم، وهذا لا بأس به أمّا إذا طلبها من الناس لا من الله فهذا هو السؤال المذموم الذي يبغضه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
كان الأطباء القدامى يكتبون على الوصفات المرضية (هو الشافي) لكي يلفتوا المريض إلى أنّ الشفاء الحقيقي والطبيب الحقيقي هو الله سبحانه ولكن الطبيب من أسبابه الطبيعية ولذا ورد في قوله تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 79، 80].
وفي الحديث الشريف: «أبى الله أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً..» (19).
قادر على كلّ شيء:
إنّ نادر شاه لما قدم العراق زائراً مرقد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في النجف الأشرف وزار العلماء في بيوتهم، كان ممّن زاره «السيد هاشم الحطّاب» وكان من علماء النجف الأشرف، ومع علمه الجمّ وتقاه كان يمتهن بيع الحطب ليتقوّت به - تحرّجاً من الحقوق الشرعيّة المعدّة لطلبة العلم وأهله - وكان السيد متواضعاً وزاهداً بحيث كان فراشه الحصير فقط.
فقال له السلطان عندما زاره: أنا نادر شاه، ألا يوجد عندك أمر أو حاجة تأمرني بها لأنجزها لك، وأنا بذلك فخور.
فأجابه السيد: نعم، احبس عني البعوض فإنّه لا يدعني أنام في الليل.
فقال له الملك: سلني مالاً ينفعك، فإنّي أقدر على ذلك.
فقال له السيد: إنّي أسأل المال ممّن يقدر على كلّ شيء.
عندها قام السلطان ولم يأخذ منه السيد شيئاً (20).
والعبرة من ذلك أنّ السيد «هاشم الحطاب» قد أوصله علمه إلى أنّ سؤال من لم يكن ثم كان «المخلوق» بأيّ درجة من الغنى كان لا يمكن أن يصل إلى الغنى المطلق فهو قد هيّأ الأسباب لمعيشته ومن ثمّ يرجو نيل ما يبغيه من الخالق تعالى لا المخلوق لأنّ الرزق بيد الله لا بيد السلاطين والإنسان العارف يسأل الله رزقه وقضاء حاجاته ولا يسألها من الناس.
موعظة بالغة:
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال:
"كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيت أم سلمة في ليلتها، ففقدته من الفراش، فقامت تطلبه في جوانب البيت حتى انتهت إليه وهو في جانب من البيت قائم رافع يديه يبكي وهو يقول: اللهمّ لا تنزع منّي صالح ما أعطيتني أبداً، اللهمّ لا تشمت بي عدوا ولا حاسداً أبداً، اللهمّ ولا تردني في سوء استنقذتني منه أبداً، اللهمّ ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً.
قال: فانصرفت أم سلمة تبكي حتّى انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبكائها فقال لها: ما يبكيك يا أم سلمة؟ فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ولم لا أبكي وأنت بالمكان الذي أنت به من الله، قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، تسأله ألّا يشمت بك عدواً أبداً، وأن لا يردك في سوء استنقذك منه أبداً، وألّا ينزع منك صالحاً أعطاك أبداً، وألّا يكلك إلى نفسك طرفة عين أبداً؟ فقال يا أم سلمة وما يؤمنني؟
وإنّما وكّل الله يونس بن متى إلى نفسه طرفة عين وكان منه ما كان" (21)
إنّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لا يغفل عن التوكّل على الله ولو بطرفة العين التي قد لا تسجل سوى لحظات قصيرة من الزمن ففي ذلك العبرة لمن يتوكّل على المخلوق.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يقول الله عزّ وجلّ:
«ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلّا قطعت أسباب السماوات والأرض من دونه، فإن سألني لم أعطه، وإن دعاني لم أجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلّا ضمنت السماوات والأرض برزقه، فإن سألني أعطيته، وإن دعاني أجبته، وإن استغفر لي غفرت له» (22).
فالله تعالى هو المقتدر وقدرته لا تدرك ولا يمكن من أن نحدّد قدرة الله بمقدار وهو الغني الذي يمد كلّ محتاج ولا يمكن تحديد ما يعطيه.
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإنّ موسى بن عمران (عليه السلام) خرج يقتبس لأهله ناراً فكلّمه الله عزّ وجلّ فرجع نبياً، وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان (عليه السلام)، وخرج سحرة فرعون يطلبون العزّة لفرعون فرجعوا مؤمنين"(23).
وقال الإمام الحسين (عليه السلام):
إذا ما عضك الدهر *** فلا تجنح إلى خلق
ولا تسأل سوى الله *** تعالى قاسم الرزق
فلو عشت وطوّفت *** من الغرب إلى الشرق
لما صادفت من يقد *** ر أن يسعد أو يشقي (24)
إذن هذا الاحتمال لا يريد أن يعزل الإنسان عن المجتمع ويبعده عن الآخرين كلا.
وإنّما يريد أن يعلم الإنسان أنّ المؤثّر الحقيقيّ والمدبّر الحقيقيّ للأمور في الكون هو الله سبحانه وما سواه، فإن كان تدبيره في طول تدبير الله ومن أسبابه فإذا سلكه الإنسان والتجأ إليه فلا بأس به وأّما إذا اعتبر تدبير الناس وقضاء حوائجهم بمعزل عن الله سبحانه فهذا هو السؤال المذموم المبغوض
صور ومواقف من اللؤم واللؤماء:
وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك، فشكا إليه خلته، فقال ألست القائل:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي *** أنّ الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه *** ولو قعدت أتاني لا يعنيني
وقد جئت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق فقال عروة: لقد وعظت فأبلغت، وذكرتني ما أنسانيه الدهر.
وخرج من عنده فركب ناقته وكرّ إلى الحجاز راجعاً. فلمّا كان الليل نام هشام على فراشه فذكر عروة، وقال رجل من قريش قال حكمة ووفد عليّ فجبهته ورددته خائباً، فلمّا أصبح وجّه إليه بألفي دينار. فقرع عليه الرسول باب داره بالمدينة، وأعطاه المال. فقال له عروة أبلغ الخليفة منّي السلام وقل له: كيف رأيت قولي سعيت، فأكديت، فرجعت خائباً، فأتاني رزقي في منزلي (25).
أمّا الاحتمال الثاني في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَن لم يكن ثم كان» فهو طلب الحاجة من لؤماء الناس الذين ما كانوا في يوم من الأيام من أهل الشأن والمكانة ثم صاروا.
واللؤم: هو أن يحرص الإنسان على الدنيا ويبخل فيها على الآخرين وبتعبير أدقّ إنّ للؤم ركنين:
الأول: هو الحرص على الدنيا: إذ يعتبر الدنيا مبدأه وغايته ولأجلها يعمل ولا تهمّه الفضيلة أو الكمال، فتراه يلهث وراء المال أو الجاه أو المنصب لأجل نفسه ودنياه لا لأجل آخرته أو كماله وهكذا شخص لا يعرف للفضيلة مكاناً.
الثاني: البخل: وهو الإمساك حيث ينبغي البذل، قال تعالى في ذم البخل:
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 37].
وإذا جمع الإنسان هذين الركنين فهو لئيم.
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَن جمع له مع الحرص على الدنيا البخل بها، فقد استمسك بعمودي اللزم» (26).
وقال الإمام الحسن (عليه السلام) في تفسير اللؤم: «إحراز المرء نفسه، وإسلامه عرسه» (27).
والأخبار التي جاءت لذم هذه الصفة الرذيلة كثيرة منها:
عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «اللؤم مضاد لسائر الفضائل، وجاع لجميع الرذائل» (28).
«اللؤم قبيح فلا تجعله لبسك» (29).
«اللؤم أس الشر» (30).
وفي رواية ««وقع بين سلمان الفارسيّ (رضوان الله عليه) عليه وبين رجل خصومة، فقال الرجل: من أنت؟ وما أنت؟! فقال سلمان: أمّا أوّلي وأوّلك فنطفة قذرة، وأمّا آخري وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة ونصبت الموازين فمن ثقلت موازينه فهو الكريم، ومن خفّت موازينه فهو اللئيم» (31).
وعن خصائص اللئيم، قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
«اللئيم إذا بلغ فوق مقداره تنكّرت أحواله» (32).
و«اللئيم إذا قدر أفحش، وإذا وعد أخلف» (33).
و«كلما ارتفعت رتبة اللئيم نقص الناس عنده والكريم ضد ذلك» (34).
و«يستدل على اللئيم بسوء الفعل وقبح الخلق وذميم البخل» (35).
وإذا عرفت اللئيم وخصائصه فهل يبقى لك ميل إلى الحاجة إليه.
وجاء في دعاء سنانة بنت حاتم الطائي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) "ولا جعل لك إلى لئيم حاجة" (36).
وهنا قصدت البخيل الذي حرص على الدنيا بعدما كان فقيراً لأنّ بعض الفقراء عندما يستغني يبقى فقره ملازماً له ليس فقره الماليّ، لا؛ لأنّه صار غنياًّ وإنّما فقير النفس فيبقى طبع النفس يحاكي تصرفاته وبعكسه غني النفس فإنّه حتى لو افتقر يبقى طبعه الكريم وسنانة أرادت التذكير بدعائها للرسول ص بأننا كرام وأغنياء النفس، وكل من كان كذلك فعله في الدنيا فضائل ومكارم، ولهذا أكرمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأكرم أخاها عدي بن حاتم الطائي وكما أنّ حاتم الطائي كان مشهوراً بكرمه ولم يلحق بالإسلام ولكنّه لامتلاكه هذه الصفة الفاضلة لا يعذّب بالنار يوم القيامة كما مرّ ذكره في أبحاثنا السابقة وجاء في كلام مشهور:
«الفقير لا يفارقه فقره أربعين عاماً حتّى وإن استغنى - والمقصود فقر النفس - والغني لا يفارقه غناه أربعين عاماً ولو افتقر - والمقصود غنى النفس -».
وعلى هذا فإنّ الاحتمال الثاني أخصّ من الأول؛ لأنّ الأول كان الطلب، والسؤال المذموم يشمل جميع المخلوقات وأمّا الثاني فيقتصر على اللؤماء فهم بما عرفت من خصائصهم وإنّما صارت مسألة اللئيم أبغض لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من أن يدخل يده إلى المرفق في فم التنين لأنّ اللئيم لا يراعي للناس عزّة ولا كرامة ولؤمه يدفعه لأنّ يذلّ الناس ويبتلع وجاهتهم واحترامهم لأنّه هو الآخر لا شخصية ولا وجاهة له.
قال رجل لابنه:
«إيّاك أن تريق ماء وجهك عند من لا ماء في وجهه» (37).
وأوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام):
«لأن تدخل يدك في فم التنين إلى المرفق خير لك من أن تبسطها إلى غني قد نشأ في الفقر» (38).
فهناك أفراد عاشوا الفقر مثلاً فأصبحت نفوسهم لئيمة وعندما استغنوا أصبحوا لؤماء بخلاً لا يسألهم أحد شيئاً إلّا وأدركتهم طبيعتهم اللئيمة فردوه ومنعوه وأحرقوا شخصيته. ولذا ينبغي على العاقل الموزون الذي يحترم نفسه ألّا يسأل لئيماً حاجة، وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها» (39).
وقال الإمام أمير المؤمنين لابنه الحسن (عليهما السلام):
«يا بُنيّ إذا نزل بك كلب الزمان وقحط الدهر فعليك بذوي الأصول الثابتة والفروع النابتة، هنّ أهل الرحمة والإيثار والشفقة فإنّهم أقضى للحاجات وأمضى لدفع الملمّات..» (40).
ولهذا على الإنسان التوجه إلى الله تعالى في طلب الحاجة مع تهيئة الأسباب بأن لا يكسل أو يعتزل كل شيء ويقول إن الله تعالى قدر لي رزقي! نعم الله تعالى قدر كل شيء ولكنه يريدك أن تعمل وتتعاون مع الآخرين وتتعايش معهم لتكسب الفضائل وتجعلها وسيلة لهدفك الأجل وهو الكمال.
وإذا غدر بك الزمان واحتجت مع عملك بالأسباب فيمكن لك أن تطلب يد المساعدة من أهلها ولا تطلبها من اللؤماء واعلم أنك بطلبك حاجتك من الناس، تطلبها من الله تعالى وليكن هذا في نيتك وقلبك دائماً لأنّ كلّ ما عند الناس فهو من عند الله تعالى (الغني المطلق)، ولا تردنّ سائلاً فبقدر إمكانك على العطاء أعط ولا تخف فقراً أو عوزاً لأنّك مهما أنفقت في الخير فلا يصل إلى عطاء ربّك وإن أعطيت في الخير فإنه لا ينقص من أموالك شيء أو من حملك بل قد امتلأت بأفضل منها خيراً دائماً وجنّة عرضها السماوات والأرض... أعدّت للمتّقين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مدينة البلاغة: ج 1، ص 424.
(2) للمزيد راجع مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني كلمة (يد) وتفسير مجمع البيان للطبرسيّ (ره) المجلد 2، ص 336، المائدة.
(3) مجمع البيان: المجلّد 3، ص 64، الأنبياء.
(4) البحار: ج23، ص 106، باب 7، ح 7، ط ـ بيروت.
(5) البحار: ج1، ص 213، باب 6، ح 12، ط ـ بيروت.
(6) البحار: ج74، ص 144، باب 7، ح 39، ط ـ بيروت.
(7) نهج البلاغة: الخطبة 189.
(8) غرر الحكم: ص 60، ط 1.
(9) مجمع البيان: المجلد الأول، ص 667، البقرة.
(10) هكذا في الأصل والظاهر: متعجّل.
(11) البحار: ج 74، ص 60، باب 3، ط ـ بيروت.
(12) تصنيف غرر الحكم: ص 361، ط 1.
(13) مدينة البلاغة: ج 1، ص 424.
(14) حق اليقين في معرفة أصول الدين: ج 1، ص 29.
(15) التوحيد للصدوق (ره): ص 314، باب 47، ح 2.
(16) مفاتيح الجنان: من أعمال وأدعية شهر رجب، ص 189، ط ـ الأعلميّ.
(17) البحار: ج 70، ص 174، باب 129، ح 14، ط ـ بيروت.
(18) البحار: ج 93، ص 160، باب 16، ح 38، ط ـ بيروت.
(19) الكافي: ج 1، ص183، ط 3.
(20) معارف الرجال: ج 3، ص 251.
(21) البحار: ج16، ص 217 ـ 218، باب مكارم أخلاق الرسول: ح 6، ط ـ بيروت.
(22) البحار: ج 68، ص 143، باب 63، ح 40، ط ـ بيروت.
(23) نفس المصدر: ص 13.
(24) الفصول المهمة: ص 180.
(25) حديقة الأفراح لإزاحة التراح: ص 78.
(26) تصنيف غرر الحكم: ص 261، ط 1.
(27) تحف العقول: ص 163.
(28) تصنيف غرر الحكم: ص 260، ط 1.
(29) المصدر نفسه.
(30) المصدر نفسه.
(31) من لا يحضره الفقيه: ج 4، ص 289.
(32) تصنيف غرر الحكم: ص 260، ط 1.
(33) المصدر نفسه.
(34) المصدر نفسه.
(35) المصدر نفسه.
(36) المستطرف في كلّ فن مستظرف: ج 1، ص 368.
(37) المستطرف في كلّ فن مستظرف: ج2، ص 151.
(38) نفس المصدر.
(39) البحار: ج 73، ص 62، باب 107، ح 2، ط ـ بيروت.
(40) البحار: ج 93، ص 160، باب 16، ح 38، ط ـ بيروت.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|