أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-03-2015
11730
التاريخ: 26-03-2015
10088
التاريخ: 13-9-2020
33636
التاريخ: 26-09-2015
3887
|
الإيجاز
اختصار بعض ألفاظ المعاني ليأتي الكلام وجيزاً من غير حذف لبعض الاسم، ولا عدول عن
لفظ المعنى الذي وضع له، فإن الاختصار أن نحذف بعض الاسم كما قدمناه، فهو مجاز،
وإن كان بتغير لفظ المعنى بوجه من وجوه التغير كان من أنواع المجاز التي قدمنا ذكر
بعضها، كالاستعارة، والإشارة، والإرداف وغير ذلك.
ومثاله
أن يقتص المتكلم قصة بحيث لا يغدر منها شيئاً، في ألفاظ قليلة موجزة جداً، بحيث لو
اقتصها غيره ممن لم يكن في مثل طبقته من البلاغة، أتى بها في أكثر من تلك الألفاظ،
وأكثر قصص الكتاب العزيز من هذا القبيل، كقصة موسى عليه السلام في طه ،
فإن معانيها أتت بألفاظ الحقيقة تامة غير محذوفة، وهي مستوعبة في تلك الألفاظ.
وقد
رأيت أكثر العلماء على تقديم الأعشى في اقتصاصه قصة السموءل في أدراع امرئ القيس
الشاعر التي أودعها عنده لما قصد قيصر، ووفاء السموءل بها، حتى سلمها لأهل امرئ
القيس وبذل دونها دم ولده وهو يشاهده، وهي [بسيط]
كن
كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار
بالأبلق
الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار
إذ
سامه خطتي خسف فقال له ... مهما تقول فإني سامع حار
فقال:
غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر فما فيهما حظ لمختار
فشك
غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري
إن له
خلفا إن كنت قاتله ... وإن قتلت كريماً غير عوار
مالاً
كثيراً وعرضاً غير ذي دنس ... وإخوة مثله ليسوا بأشرار
جروا
على أدب مني بلا نزق ... ولا إذا شمرت حرب بأغمار
وسوف
يخلفه إن كنت قاتله ... رب كريم وبيض ذات أطهار
لا
سرهن لدينا ضائع هدراً ... وكاتمات إذا استودعن أسراري
فقال
يقدمه إذ قام يقتله ... أشرف سموءل فانظر للدم الجاري
أأقتل
ابنك صبراً أو تجئ بها ... طوعاً فأنكر هذا أي إنكار
فشد
أوداجه والصدر في مضض ... عليه منطويا كاللذع
بالنار
واختار
أدراعه ألا يسب بها ... ولم يكن عهده فيها بختار
وقال:
لا نشتري عاراً بمكرمة ... واختار مكرمة الدنيا على
العار
والصبر
منه قديماً شيمة خلق ... فزنده في الوفاء الثاقب الواري
فانظر
كيف أغنى الأعشى عن تحفظ القصة بطولها من يريد حفظها بهذه الأبيات التي استوعبها
فيها مع ما انطوت عليه ألفاظها التي خرجت كلها مخرج الحقيقة من المدح للسموءل
بالوفاء، ولابنه بالصبر على البلاء، والتحريض للممدوح على التخلق بمثل هذا الخلق،
ليبقى له مثل هذا الذكر، والاحتراس في البيت الذي يقول فيه:
أأقتل
ابنك صبراً أو تجئ بها
فإنه
لما أضمر فيه ذكر الأدراع، فطن إلى أن البيت مفتقر إلى شرح إن لم يؤت به يتوقف
السامع في فهمه، فاحترس عن ذلك بقوله:
واختار
أدراعه ألا يسب بها
ليوضح
أن الضمير في البيت الذي قبله يعود على الأدراع، فتلافى في ذلك الخلل، واستغنى عن
الشرح المطول.
وقد
ذكر الحاتمي في الحلية بعد هذه الأبيات قول بعض العرب يمدح بني كعب بقوله طويل:
لعمري
لنعم الحي حي بني كعب ... إذا نزل الخلخال منزلة
القلب
وقال
الحاتمي: إذا ريعت ربة الخلخال، فأبدت ساقها للهرب فتكون قد أنزلت الخلخال منزلة
القلب في الظهور، لأن عادة المرأة من العرب أن تبدى معصمها وتستر ساقها، ولا عار
عليها في ذلك، وحاصل هذا الكلام مدح الحي بالمحاماة، وشدة البأس عند الخوف.
وقد
قيل فيه غير ذلك، وهو أن المرأة من الروعة تذهل فتلبس الخلخال موضع القلب دهشاً
وحيرة، والمرجع في التفسيرين إلى مقصد واحد.
وعندي
أن هذا البيت لا يصلح أن يكون من شواهد الإيجاز، لأن حقيقة الإيجاز إخراج المعاني
في قوالب ألفاظها الحقيقة الموضوعة لها، فإن الإيجاز إيجازان: إيجاز مجازى، وإيجاز
حقيقي، فما كان منه حقيقياً بقي عليه اسم الإيجاز، وما كان مجازياً وضعوا لكل قسم
منه اسماً يخصه ويناسب اشتقاقه، فإن المجاز إيجاز، وهو حذف بعض الكلام لدلالة
الباقي عليه، أو للاستغناء بالقرينة، كقوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ والإشارة والإرداف والتمثيل إيجاز، لكن هذه الأبواب
تجيء بغير ألفاظ المعاني الموضوعة لها، وقول هذا الشاعر:
إذا
نزل الخلخال منزلة القلب
وهو
يريد إذا ارتاعت فلبست خلخالها في معصمها، أو ذهلت للخوف عن تخفرها، معلوم أنه غير
لفظ المعنى الخاص، وهذا بالإشارة أولى، فإن شئت جعلته من شواهد الإشارة، ومن شواهد
الاتساع، أو منهما، ثم ذكر أعني الحاتمي بيتي لبيد، وهما [رمل]:
وبنو
الديان أعداء للا ... وعلى ألسنهم ذلت نعم
زينت
أحسابهم أنسابهم ... وكذاك الحلم زين للكرم
ولفظ
البيت الأول لفظ الأرداف، فلا يصلح أن يكون من شواهد الإيجاز، لأنه أراد أن يقول:
بنو الديان أجواد، فعدل عن هذا اللفظ إلى لفظ هو ردفه، وهو ذكر معاداتهم للا
ليبالغ في وصفهم بالجود، والبيت الثاني جاء بلفظ الإشارة، إذ التزيين يكون بضروب
من المحاسن، فإن قيل: إذا كان المجاز نوعاً من الإيجاز جاز أن يسمى كل صنف من ذلك
النوع إيجازاً.
قلت
للتسميات علامات تعرف بها المسميات، ومن سمى النوع باسم الجنس فهو غير معرف لذلك
النوع، فإنك لو قلت في حد الإنسان: هو حيوان، من غير ذكر الفصل لكنت غير معرف
لحقيقته، لكونك لم تأت إلا بالقدر القدر المميز، ولما كان من الإيجاز ما يدل على
المعنى بلفظ المعنى بلفظ الموضوع له، ومنه ما يدل على المعنى بلفظ هو ردف لفظه
تارة، وبلفظ هو مثل لفظه، أو به، وبلفظ مستعار من لفظه حيناً والحقيقة أصل،
والمجاز فرع، والإيجاز أصل نفي الاسم الأصلي على الكلام الذي دل لفظه على معناه
بظاهره، وسمى ما دل على معناه بالتأويل بأسماء مجازية، إذ كانت مسمياتها مجازية.
ومن
أمثلة الإيجاز قول النابغة الذبياني في اقتصاصه قصة الزرقاء. للنعمان: [بسيط]
فاحكم
كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع واردي
الثمد
يحفه
جانبا نيقٍ وتتبعه ... مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد
قالت
ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد
فحسبوه
فألفوه كما حسبت ... تسعا وتسعين لم ينقص ولم يزد
وكملت
مائة منها حمامتها ... وأسرعت حسبة في ذلك العدد
فإن
النابغة سرد هذه القصة بألفاظ الحقيقة عرية عن الحشو الخشن والمعيب، ولم يغادر
منها شيئاً، ويروى البيت الأول سراع بسين مهملة، وهو أبلغ في وصف نظر الزرقاء،
ويدل على صحة هذه الرواية أن قوله: واردى الثمد يغني عن قوله: شراع بشين معجمة فلم
يبق الإسراع بسين مهملة لما يدل عليه من المبالغة في حدة نظر الزرقاء بدليل قوله
بعد هذا البيت: وأسرعت حسبة.
فإن
قيل: فما الفرق إذا بين الإيجاز والمساواة؟ قلت: المساواة لا تكون إلا في المعنى
المفرد يعبر عنه بلفظ مساو له لا يزيد عليه ولا يقصر عنه، والإيجاز يكون في ذكر
القصص والأخبار التي تضمنت معاني شتى متعددة، وخلاصة ذلك أن المساواة في معاني
الجمل التي تتركب منها الأبيات والفصول، والإيجاز في الأبيات والفصول.
ومن
الإيجاز نوع يختصر فيه بعض اللفظ ويؤتى بلفظ الحقيقة كقوله سبحانه:
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ
فإن تقديره تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، كما تقول: [رجز]:
علفتها
تبناً وماء باردا
وكما
قال الشاعر كامل مجزوء:
ورأيت
زوجك في الوغى ... متقلد سيفاً ورمحا
أي
ومعتقلاً رمحاً ومن إيجاز الكتاب العزيز قوله سبحانه وتعالى: إن الله يأمر
العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم
تذكرون فإنه عز وجل أمر في أول الآية بكل معروف، ونهى بعد ذلك عن كل منكر
ووعظ في آخرها أبلغ موعظة وذكر ألطف تذكير بألفاظ اتفق فيها ضروب من المحاسن مع
كونها ألفاظ الحقيقة، وهي صحة الأقسام، لأنها استوعبت جميع أقسام أجناس المعروف
والمنكر، والطباقين اللفظي والمعنوي وحسن النسق والتسهيم، وحسن البيان، والإيجاز،
وائتلاف لفظ الكلام مع معناه، والمساواة، وصحة المقابلة، وتمكين الفاصلة، فأما
استيعاب الأقسام فلأنه سبحانه أمر بالعدل، وهو معاملة المكلف نفسه وغيره بالإنصاف،
ثم أمر بعد العدل بالإحسان، وهو اسم عام يدخل تحته التفضل بعد العدل، وقدم ذكر
العدل لأن العدل واجب، وتلاه بالإحسان لأن الإحسان مندوب، ليقع وضع الكلام على
أحسن ترتيب، وخص ذا القربى بالذكر بعد دخوله في عموم من أمره بمعاملته بالعدل
والإحسان لبيان فضل ذي القربى وفضل الثواب عليه، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي
بصيغة تعريف الجنس ليستغرق كل ما يجب أن ينهى عنه، كما استغرق كل ما يجب أن يؤمر
به، والمطابقة اللفظية في قوله تعالى: يأمر وينهي ،
والمعنوية في قوله سبحانه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وقوله
الفحشاء والمنكر والبغي فإن الثلاثة الأخر أضداد الثلاثة الأول، لأن
الأول من الفعل الحسن، والآخر من الفعل القبيح، فطابق بين الحسن والقبح مطابقة
معنوية.
وحسن
التنسيق في ترتيب عطف بعض الجمل على بعض كما ينبغي، حيث قدم العدل وعطف عليه
الإحسان الذي هو جنس عام، وخص منه نوعاً خاصاً، وهو إيتاء ذي القربى، وعطفه عليه،
ثم أتى بالأمر مقدماً، وعطف عليه النهي ثانياً، ثن رتب جمل المنهيات كما رتب جمل
المأمورات في العطف، بحيث لم يتأخر في الكلام ما يجب تقديمه ولم يتقدم في ما يجب
تأخيره.
وأما
التسهيم فهو أن صدر الآية يدل على عجزها كما يدل صدر البيت المسهم على عجزه.
وأما
حسن البيان فلأن لفظ الآية لا يتوقف في فهم معناه أحد إذ سلم من التعقيد في نظمه،
فقد دل على معناه دلالة واضحة بأقرب الطرق، واستوى في فهمه الذكي والبليد، والقريب
من هذه الصناعة والبعيد.
وأما
الإيجاز فهو دلالة الألفاظ القليلة الحقيقية على المعاني الكثيرة من غير إشارة ولا
إرداف ولا حذف.
وأما
ائتلاف لفظ الكلام مع معناه، فلأن كل لفظة لا يصلح مكانها غيرها.
وأما
المساواة فلأن ألفاظ الكلام قوالب لمعانيه، لا تزيد عليها، ولا تقصر عنها.
وأما
صحة المقابلة فلأن النهي قابل الأمر، والمنهيات قابلت المأمورات مع مراعاة
الترتيب.
وأما
تمكن الفاصلة فلأن مقطع الآية مستقر في مكانه، مطمئن في موضعه ومعناه متعلق بما
قبله إلى أول الكلام، لأنه لا تحسن الموعظة إلا بعد الأمر والنهي، فإن الوعد
والوعيد لا يقعان إلا بعد امتثال الأمر أو مخالفته والتذكرة بعد الموعظة.
ومن
إيجاز الكتاب العزيز أيضاً قوله: ولكم في القصاص حياة لأنه قد أجمع
النقاد على أن أبلغ كلام قيل في هذا المعنى قول القائل: القتل أنفى للقتل
وإذا نظرت بين هذا الكلام وبين لفظ القرآن وجدت هذا الكلام ليس فيه من ضروب
البديع سوى الإيجاز، مع كونه لم يخل من عيب، ووجدت لفظ القرآن قد جمع الآجام
والإيضاح والإشارة والكناية والطباق وحسن البيان والإبداع، وسلم من العيب الذي جاء
في ذلك الكلام.
فأما
الإيجاز فلأن اللفظ المماثل من لفظ القرآن للأول هو قوله تعالى: القصاص
حياة وهو عشرة أحرف، والأول أربعة عشر حرفاً، وأما الإيضاح فإن لفظة القصاص
أوضحت المعنى المراد، إذ هو قتل مقيد، لا قتل مطلق، وأما الإشارة، ففي قوله
سبحانه: حياة فإن هذه اللفظة أشارت إلى أن القتل الذي أوجبه العدل
يكف القتل الذي يأتي به العدوان، وفي ذلك حياة الأحياء.
والكناية
في قوله تعالى: القصاص فإنه كنى بهذه اللفظة عن الموت المستحق الذي يوجبه العدل.
وأما
الطباق ففي قوله القصاص حياة لأن القصاص الموت، فكأنه سبحانه قال:
الموت حياة، وهذا طباق معنوي. وأما حسن البيان، فكون المخاطب فهم المراد من هذا
النظم من غير توقف، وأما الإبداع فلأن في كل لفظة من هذا الكلام عدة من المحاسن،
وأما السلامة من العيوب بالنسبة فلأن الكلام خلا عن التكرار الذي وقع في الكلام
الأول، فإن قيل لا يعد التكرار الذي وقع في قول القائل: القتل أنفى للقتل
عيباً لاختلاف المعنى قلت: لكن اللفظ إذا اختلف معناه واتحدت صيغته اتحاداً
لا يعد تحسيناً وكان الكلام به معيباً، فهذا عيب لفظ الكلام الأول الذي سلم منه
لفظ القرآن، وأما عيب المعنى فلأن القائل سمى الخاص باسم العام، فإن مطلق القتل صالح
للقصاص ولغيره، كما أنه صالح للعدوان ولغيره، وهذه العبارة موجبة للبس المضاد لحسن
البيان الذي هو خارج مخرج العدوان ولفظ القرآن مخلص للعدل.
وإذا
وصلت في هذا الباب إلى قوله تعالى: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت
عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين
فإنه سبحانه أتى في هذه الآية الكريمة بأمرين ونهيين، وخبرين متضمنين
بشارتين، في أسهل نظم، وأحسن لفظ، وأوجز عبارة، ولم يخرج الكلام عن الحقيقة في شيء
من ذلك.
واعلم
أن الإيجاز على ضربين: ضرب بسيط وضرب مختصر، ويكون البسيط مختصراً بالنسبة لغيره،
فالبسيط كقصة يوسف عليه السلام من قوله: نحن نقص عليك أحسن القصص
إلى آخر القصة، والمختصر مثل قوله على لسان يوسف عليه السلام: هذا تأويل
رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو
من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي اختصر القصة كلها في هذه الآية،
لأنه ذكر أصول الأسباب المستلزمة جميع المسببات التي هي جملة القصة، فإن قوله:
هذا تأويل رؤياي من قبل اقتصر على ذكر رؤياه التي كانت سبب حسد
اخوته حين فعلوا به ما فعلوا، وذكر خروجه من السجن الذي كان سبباً في الملك الذي
كان سبباً في اجتماعه بأبيه واخوته، فكأنه قد اقتص جميع القصة مختصرة لمن يشارك في
علمها، فالأولى لعلم تفاصيلها، والثانية لعلم جملها، وهذا أحسن إيجاز وقع في كلام،
والله أعلم.