المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية

التطور التاريخي لإدارة الموارد البشرية
13-10-2016
اشارات الموت Death Signals
10-1-2018
وضع الحدود في الأماكن العامة
20/10/2022
اطياف رامان
8-11-2020
دوبلر، كريستيان
22-8-2016
Binet Forms
24-10-2020


الذكر والحذف  
  
28801   04:30 مساءاً   التاريخ: 26-03-2015
المؤلف : عبد الرحمن الميداني
الكتاب أو المصدر : البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها
الجزء والصفحة : ص239-271
القسم : الأدب الــعربــي / البلاغة / المعاني /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-03-2015 3998
التاريخ: 26-09-2015 3486
التاريخ: 26-03-2015 9683
التاريخ: 26-03-2015 15412

كل ما يُرادُ الإِعلامُ به من عناصر الجملة في اللّسان العربيّ، فالأصل السّاذَجُ بالنِّسْبَةِ إليه أنْ يُذْكر ولاَ يُحْذَفَ، لأنَّ ذِكْره دليلٌ على إرادة الإِعْلامِ به، أمّا حَذْفُه فهو دليلٌ على عدم الإِعْلامِ به.

* هذا هو الأصلُ في الآليَّة المادّيّة لبناء الكلام الدّالِّ على المعاني الّتي يرادُ الإِعلامُ بها، إذا عَزَلْنا قُوى الإِدْراكِ اللَّمْحِيّ والإِشاريّ، وقُوى الاستدلالِ بقرائِن الأحوال وقرائن الأقوال، لدَى مُتَلقِّي الخطاب، ولا سيما أهلُ الفطانة والذّكاء وأهل الخبرة في حِيَلِ المعبِّرين عمّا في نفوسهم بأساليبِ وطرائق الكلام المختلفة، فهؤُلاءِ يكفيهم الرّمز وتُقْنِعُهم الإِشارة عن صريح العبارة.

وقديماً قال العرب في أمثالهم: "تُقْرَعُ العصا لذي الْحِلْمِ" أي: يُدْرك ذو العقل الراجح والفطانة اللَّماحة الْمُرَادَ من قرع العصا على الأرض، فيستخرج منها رُمُوزاً ودلالات يقصِدُها قارعُها، كما ورد في قصّة مَضْرِب هذا المثل.

ورَمزَ وفْدُ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة في غزوة الخندق، بقولهم له: "عضَل والقارة" أي: غَدَرَ بَنُو قريظة كما غدرت من قبلُ "عَضَلٌ والقارة".

وحين دخل داهية العرب أَمِيرُ جيش المسلمين عمرو بن العاص، على الداهية العجمي "أرطبون" حاكم القدس، مُدَّعِياً أنه رسول أمير جيش المسلمين إليه.

وفَطِن "أرطبون" أنّ مثل هذا الرسول لا بدّ أن يكون هو أمير جيش المسلمين، فأمَرَ خاصَّتَهُ بأن يقتلوه قبل أن يخرج من المدينة، ووصل الخبر إلى عَرَبيٍّ في القدس يَعْرِف عمرو بن العاص، فقال له بعد أن خرج من قصر "أربطون" يَا عَمْرو أحسنْتَ الدُّخول فأحْسِنِ الخروج.

ففطن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنّ أَرْطَبون شكّ في أمْرِه فأمَرَ سِرّاً بقتله، فعاد إلى "أرطبون" وزعم له أنّه واحدٌ من عشرةِ هم أهْلُ مشورة أمير جيش المسلمين، فإنْ رأيْتَ أن آتيكَ بهم ليسمعوا منك الذي سَمِعْتُه أنا منك، فتكون موافقتهم أوثق للأمر الذي تفاوضنا فيه، فطمع "أرطبون" بقتل العشرة فأَمَر سرّاً بعدم قتله، حتّى يأتيه ببقيّة أهل مشورة الأمير كُلِّهم فيقتلهم، ونجا عمرو بن العاص بهذه الحيلة الذكيّة.

* ونلاحظ أنّ في كثيرٍ من الجمل العربيّة محاذيفَ واجبَة الحذف أو جائزَته، قد لوحظ فيها أن المحذوف هو من الأكوان العامّة الّتي تُفْهَمُ بالْفِطْنَة دون أن تُذكَر، أو من الضمائر التي يُوجَدُ في الملفوظ من الكلام ما يَدُلُّ عليها، أو ممّا يسْهُلُ إدْراكُه ولو لم يُوجدْ في الكلام لفظ خاصٌّ يَدُلُّ عليه.

وقد اعتاد أهل اللّسان العربيّ على حَذْفِها دواماً، أو أحياناً، لأنّ اللٍّسان العربيَّ مَبْنِيٌّ في مُعْظَم تعبيراته على الإِيجاز، وحذْفِ ما يُعْلَم ولَو لَمْ يُذكر، وهذا من مزايا اللّغة العربيّة.

* وحينما يكون المتكلّم العربيّ الْبَلِيغُ أمام احتمالَيْنِ جائزيْنِ في اللّسان العربي كالذِّكْر والحذف، ويَرَى أنَّ كُلاًّ منهما يُحَقِّق توصيل ما يُريدُه من المعاني، إلاَّ أنّ أحدهما أكْثَرُ تأثيراً في المخاطب بحسب حاله، أو أكثر جمالاً لدى ذوّاقي الجمال في الكلام، أو يراه يُحَقِّق له غرضاً بلاغيّاً لا يحقِّقُه له الاحتمال الآخر، فإنّ عليه أن يكون دقيق الملاحظة في خصائص الاحتمالات وفُروقِ دلالاتها، ويُحَدِّد منها ما يدعوه إلى ما يختار من ذكر العنصر من عناصر الجملة التي يُنْشِئُها أو حذفه.

فإذا ذَكَرَ العنصُرَ وكان بالإِمكان إدْراكُ المخاطب معناه لو لم يَذْكُرْه، فينبغي أن يكونَ ذكره له مستنداً إلى داعٍ بلاغيٍّ رجَّحَ لَدَيْه ذكْره.

وإذا حذَفَ الْعُنْصُرَ الذي يُمْكن إدْراكُ المخاطب معناه لو لم يذكُرْهُ، فينبغي أن يكون حذفُه له مستنداً إلى داعٍ بلاغيٍّ رجّح لَدْيه حَذْفه، وأدنَى ذلك الرغبةُ في الإِيجاز والاقتصادِ في القول، والبُعْدِ عن الإِسراف فيه، وإيثار جِسْمٍ للعبارة مُكْتَنِزٍ مُضمِّرٍ، على جِسْمٍ مُتَرَهِّلٍ مُنتَفخٍ لا رصانة فيه ولا قُوّة ولا جزالة.

فلكلِّ من الذكر والحذف مقامٌ ينَاسِبُه، وحالٌ تقتضيه.

* وقد نَبَّه البلاغيُّونَ على طائفةٍ من دواعي الذكر، وطائفةٍ أخرى من دواعي الحذف، وأشاروا إلى أنّ ما ذكروه من ذلك لا يُمَثِّل إحصاءً شاملاً لكلِّ الدواعي، وإنّما يُقَدِّم صُوراً ونماذج يمكن أن يهتدي بهديها الباحثون، ويَحْذوا حذوها، وأن تكون لديهم منطلقاتٍ للبحث الذكيِّ الفطن اللّماح في هذا المجال.

***

(2) دواعي ذكر العنصر مع إمكان إدراك معناه لدى حذفه

ذكر البلاغيّون طائفةً من دواعي ذكر العنصر الذي يُراد الإِعلام به من عناصر بناء الجملة، مع إمكان فهم معناه العامّ لدى حذفه، وهذه الدواعي تُحَقّق أغراضاً بلاغيّة يَهْدِفُ إليها المتكلمّ البليغ.

وقد ظهرت لي بعض دواعي أخرى لم يُصَرِّحوا بها، وهي تحقّق أغراضاً بلاغيّة وهذه الدواعي الَّتي ظهرت لي تُقاس على ما ذكروا وهي ممّا يقع في نفوس المتكلمين البلغاء، وله تأثيرٌ ما في المخاطبين.

وأُ أكّد أنّه يَعْسُر إحصاءُ كلّ الدواعي الّتي تقوم في نفوس المتكلمين البلغاء لذكر ما يمكن حذفه، لذلك رأيتُ أن أعرض للدارسين ما ذكره البلاغيون، وأضيفَ إليه ما ظهر لي، وهي بمجموعها الدواعي السّتةَ عشر التالية:

الداعي الأول: الاحتياط بذكر العنصر، لضعف التعويل على القرينة فيما لو حُذِف، إذْ تكون القرينة غير كافية للدلالة عليه، ويخشى المتكلّم أن يَلْتَبِسَ المرادُ على المتلَقِّي إذا حذفه تعويلاً على القرينة التي يمكن أن تدُلَّ عليه.

الداعي الثاني: الإِشعار بغباوة المخاطب، وأنّه ليس من الّذين يُدْرِكون المراد بالقرائن، بل لا بدَّ من إعلامه باللّفظ الخاصّ الصريح الدّال على العنصر.

الداعي الثالث: إرادة زيادة الإِيضاح والتقرير، وذلك حين يكون الموضوع يقتضي ذلك، كأمور العقائد، وأحكام الحلال والحرام، والصِّيغ القانونيّة التي قد يتلاعبُ بمعانيها أصحاب الأهواء، ولا تكفي القرائن لإِلزامهم بالمعاني المرادة.

ويَحْسُنُ هذا الإِيضاح والتقرير في مجال تعليم مسائل العلوم، وفي الوعظ والإِرشاد، وفي مقام إثارة الحماسة وسائر العواطف، وفي البيانات والبلاغات العامّة للجماهير.

الداعي الرابع: إرادة التعظيم والتفخيم، ويظهر هذا في نحو الأسماء والألقاب التي يُشْعِر ذكْرُها بعظمة أصحابها وفخامتهم، وفيما يُثِير ذكرُه في النفوس المهابة أو الإِجلال.

الداعي الخامس: إرادة الإِهانة والتحقير، ويظهر هذا في نحو الأسماء والألقاب، التي يُشْعِرُ ذكرها بمهانة أصحابها وحقارتهم، وفيما يُثيرُ ذكْرُهُ في النفوس الاحتقار والاستهانة.

الداعي السادس: إرادة التهويل، ويظهر هذا فيما يُثيرُ ذكرُه في النفوس مشاعر الخوف والرهبّة.

الداعي السابع: إرادة استثارة ما في نفوس المتلقّين من كوامن المشاعر، كإثارة شوق المخاطب بذكر اسم محبوبه، وإثارة الشوق إلى الوطن، بذكر اسمه لدى المسافر البعيد عنه، المشوق إلى العودة إليه.

الداعي الثامن: إرادة التلَذُّذ، ويظهر هذا الداعي في الألفاظ الّتي يُحبُّ المتكلّم أن يُرَدِّدَها على لسانه، لأنّه يحبُّ مسمَّيَاتها، كاسم المعشوقة عند العاشق، واسم الذهب عند عشاقه.

ويقول الناس: من أحبّ شيئاً أكثر من ذكره.

الداعي التاسع: إرادة التبرُّك، أو العبادة ويظهر هذا في الأدعية، والأوراد، والأذكار.

الداعي العاشر: إرادة ترسيخ ما يدُلُّ عليه اللّفظ في نفوس المتلقِّين، كألفاظ الأذان التي تعاد وتكرّر.

وكما يفعل مُرَدِّدو الشعارات، بغية ترسيخها في نفوس الجماهير، حتى تكون معانيها جزءاً من مفاهيمهم الثابتة، ففي خطبة واحدة يُرَدِّدُ زعيم اشتراكيٌّ مثلاً لفظ "الاشتراكية" مئة مرّة، ولا يكتفي بأن يدُلَّ عليها بالضمائر.

الداعي الحاي عشر: إرادة بسط الكلام في المقام الذي يحسُنُ فيه بسط الكلام، كمقام الافتخار، أو المدح، أو الذمّ والتشنيع والتوبيخ، وكمقام التعليم، أو الترويج لفكرةٍ ما، أو الترغيب فيها، أو الترهيب منها.

ويُراد بسْطُ الكلام لإِطالة وقت المحادثة والمحاورة، بغية التشرُّف، أو التبرّك، أو الاستئناس، أو الاستمتاع والتلذّذ.

وقد يُراد بسط الكلام بغية استدراج المخاطب للإِفاضة عمّا في نفسه، إذْ يُفْصِحُ في حالة الإِفاضة عن أشياء يَحْرِصُ في العادة على كِتْمانِها وعدم الإِعلام بها.

الداعي الثاني عشر: إرادة التسجيل على المخاطب حتَّى لا يتأَتى له الإِنكار.

الداعي الثالث عشر: إرادة تأكيد الرّدّ على المخاطب إذا كان يُنْكِرُ صحة ما يقال له، مثل قوله الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول):

{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)}.

لقد كان يمكن فهم المراد دون ذكر [يُحْيِيها] لكن اقتضَى الردُّ على سؤالِ منكر البعث بإحياء العظام وهي رميم، بأنْ يُقالَ له: يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة.

الداعي الرابع عشر: كونُ المختار للذكر نوعاً من الكلام يُفِيدُ معنىً خاصّاً مراداً لا يُسْتفاد هذا المعنى عند حذفه، ولو كان أصل المعنى قد يُفْهَم، ولكن بوجه عامّ، أو على وجه الإِجمال، فَيُقْصَدُ التعيين بالذكر.

ويظهر هذا في نحو دلالة الفعل المضارع على التجدّد، ودلالة الاسم على مطلق الثبوت، والدلالات الخاصّة لأسماء الموصول، وأسماء الإِشارة، وغير ذلك.

الداعي الخامس عشر: إرادةُ تكوين جُمَلٍ مستقلّة في الكلام، حتَّى يتَهَيّأَ إمكان سَوْقٍ كلٍّ منها منفردةً في المقام الملائم لها عند الحاجة.

ويكثُرُ هذا في الْجُمَلِ القرآنيَّةِ التي يصلُح الاستشهاد بها في المواضع الملائمة لها، فإذا حُذِفَ منها ما يمكن فهمه مع حذفه ضمن جُمَلِ الآية وهي مجتمعة، لم يتيسَّر الاستشهاد بالواحدة منها بصورة منفردة عند المناسبة الداعية إلى الاستشهاد بها، مثل قول الله عزّ وجل في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول):

{وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً (126)}.

فلو حذف لفظ الجلالة الذي بعد [وكان] لما نقص من المعنى شيء، ولكن لا يَحْسُنُ عندئذٍ اقتطاعُ جملةٍ: "وكانَ بكلّ شيء محيطاً" والاستشهاد بها منفصلةً عن الجملة السابقة لها.

الداعي السادس عشر: إرادة إظهار التعجّب والاستغراب، كأن يقول قائل بشأن شخص حذّاء اسمه "مسرور" لم يُعرَف عنه أنّه خطب بين الناس خُطبةً ما: لقد خطب اليوم مسرورٌ الحذاء خطبةً عصماء أَسَرَتِ الجماهير، وأثَّرَتْ فِي عَواطفهم تأثيراً عظيماً، فيقول المخاطَبُ مُتَعَجِّباً: أمسرورٌ الحذاء هو الذي خطب هذه الخطبة العصماء؟!

وقد كان يكفي أن يقول: أحقّاً خطب هذه الخطبة، ولكنَّه أعاد ذكر اسمه متعجّباً، ومستعيداً تذكّر صفاته التي لم يكُنْ يَتَخَيَّلُ معها أن يكونَ خطيباً، فضلاً عن أن يخطب خُطْبَةً عصماءَ.

***

أمثلة وتطبيقات

المثال الأول:

قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن المتقين:

{أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}.

في تكرير المسند إليه وهو اسم الإِشارة في الجملة الثانية مع فهم المراد دون ذكره غرض بلاغيّ وهو زيادة الكشف والإيضاح بالتنبيه على أنّهم كما تحقّق منهم أنّهم متمكّنُونَ من تحقيق الْهُدَى الذي جاءهم من عند ربّهم بأعمالهم الصالحة، فقد ثبت لهم أنّهم هم المفلحون عند ربهم يوم الدّين، أي: هم الظافرون بما يريدون والفائزون بجنّات النّعيم.

وفي هذه الإِعادة أيضاً فائدة جعل كلّ جملة من الجملتين وحدةً مستقلة، ولو انفردت كُلُّ جملةٍ منها لكانت كافية للدّلالة على الأخرى منهما عن طريق اللّزوم الفكري، لأنّ من كان على هدى من ربّه لا بُدّ أن يكون مُفْلِحاً، ومن كان من المفلحين فلا بدّ أنه قد كان على هُدىً من رَبِّه، ففي استقلاليّةِ كُلٍّ من هاتين الجملتين تأكيد لمعنى كلّ منهما عن طريق دلالة ما في الأخرى من اللُّزوم الفكري.

ونظيره قول الله عزّ وجلّ بشأن الّذِين كفروا في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول):

{أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5)}.

ويكثر في القرآن ذكر المسند إليه أو المسند مع إمكانية حذفه أو حذفهما لتكون الجمل مستقلّة، قابلةً لأن يُسْتَشْهد بها منفردة في المناسبات الداعيات إلى الاستشهاد بها، ومن ذلك قول الله عزّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول):

{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}.

لقد كان من الممكن الاستغناء بالضمير في "من الله - رضوان اللهِ - واللهُ ذو" لكن إعادة ذكر اسم الجلالة في هذه الجمل يجعل كلاًّ منها جملةً مستقلّة، مع ما في ذكر لفظ الجلالة من تربية الإِجلال والإِعظام في القلوب، وإمكان الاستشهاد ببعضها منفردةً عن سائرها.

ومن ذكر المسند والمسند إليه مع إمكان حذفهما قول الله عزّ وجلّ في سورة (لقمان/ 31 مصحف/ 57 نزول):

{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [الآية 34].

فقد كان من الممكن أن يقال: ولا بأيّ أرض تموت.

المثال الثاني:

ما جاء في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) بشأن تكليم الله موسَى عليه السلام:

{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يا مُوسَى (19)}.

في هذا النَّصّ نلاحظ ذِكْرَ كلماتٍ كان من الممكن حَذْفُها دونَ أن يُؤَثِّرَ عَلى المعنى شيئاً.

لقد كان يكفي أن يقول موسى عليه السلام في جواب سؤال ربّه: "عَصَايَ" دون أن يقول: {هِيَ عَصَايَ}.

وكان من الممكن أن يقتصر على بيان أنها عصاه، دون أن يشرح أعماله فيها بقوله: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)}.

وكان من الممكن أن يقول الله عزّ وجلّ له: {أَلْقِهَا} دون أن يناديَهُ {يا مُوسَى}.

لكن دعَا إلى بسط الكلام وإطالةِ الحديث رغبةٌ الإِيناسِ مِنَ الرَّبّ عزّ وجلّ، ورغبةُ التشرّف والاستئناس والتلذّذ بطول المحادثة من موسى عليه السلام.

***

المثال الثالث:

في قصّة إبراهيم عليه السّلام وتحطيمه أصنام القوم التي كانت على أشكال الناس، إلاَّ كبيراً لهم، وذلك حين خرج القوم من بلدتهم لعيدٍ لهم ولم يخرج معهم إبراهيم عليه السلام، جاء فيها بيانُ سؤال قومه له عمّن حطّم أصنامهم، فأجابهم عليه السلام جواباً فيه تعريض بغباوتهم، إذْ ذَكَرَ في كلامه ما يُمْكن فَهْمُه لو حذفه، فقال الله عزّ وجلّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول):

{قَالُواْ مَن فَعَلَ هَاذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُواْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَاذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَاذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ (63)}.

لَقَدْ كَان يكفي أن يقول لهم: "بل فعله كبيرهم" أو يقول لهم: "بل فعله هذا" لكنّه شعر أنّهم أغبياء إذْ يُدَافِعونَ عن آلهتهم من الأصنام التي حُطِّمَتْ ولم تستطعْ أن تُدَافع عن أَنْفُسِها، ولم يُقْنِعهم تحطيمها بأنّها لو كانت تملك لأنفسها أو لغيرها نفعاً أو ضرّاً لحمت أنفسها من التحطيم، ولمنَعتْ مُحَطِّمَها من أن يجعلَهَا جُذاذا.

ومن كان يمثل هذا الغباء فإنّه يُناسبُه أن لا يُحْذَفَ له من الكلام ما يُمْكن أن يفهمه أقَلُّ النَاس ذكاءً وإدراكاً لدلالات القول.

***

المثال الرابع:

جاء في المأثور من الأقوال، ويُرْوى عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:

"اعمل لدُنيْاك كأنّكَ تعيشُ أبداً، واعْمَلْ لآخِرَتِكَ كأنَكَ تَمُوتُ غداً".

نلاحظ في هذا القول تكرير عبارة "اعمل" في الجملة الثانية، مع إمكان فهمها لو حُذفت، والغرض إرادة زيادة التقرير والإِيضاح، مع جعل كلّ جملة وحدةً مستقلّة.

***

المثال الخامس:

قول الشاعر الجاهلي "عمرو بن كلثوم" في معلقته يفاخر بقومه فيكرّر المسند إليه فيقول "وأنّا" مع كلّ منقبة يَصِفُ بها قومه:

*وَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مِنْ مَعَدٍّ * إِذَا قُبَبٌ بأَبْطَحِهَا بُنِينَا*

*بِأَنَّا الْمُطْعِمُونَ إِذَا قَدَرْنَا * وَأَنَّا الْمُهْلِكُونَ إِذَا ابْتُلِينَا*

*وأنَّا الْمَانِعُونَ إِذَا أَرَدْنَا * وأَنَّا النَّازِلُونَ بِحَيْثُ شِينَا*

*وأنَّا التَّارِكُونَ إِذَا سَخِطْنَا * وأنَّا الآخِذُونَ إِذَا رَضِينَا*

وأنَّا الْعَاصِمُونَ إِذَا أُطِعْنَا * وأنَّا الْعَازِمُونَ إِذَا عُصِنَا*

وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا الْمَاءَ صَفْواً * وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وطِينَا*

قُبَب: جمع قُبَّة، وهي بناءٌ معروف، وقد تكون من بيوت العَرَبَ الرُّحّل من الأقْمشَةِ والجلود.

بأبْطَحِها: الأبْطَحُ: الأرض الخلاء الواسعة.

إِذَا ابْتُلِينَا: أي: إذا امتحنَّا بالقتال.

ويصف قومه بأنهم أعِزَّاء يَمْنَعُون ما يريدون مَنْعَه فلا أحَدَ من الناس يُكْرِهُهُمْ على بذل شيءٍ لا يريدون بذله، ولا أحد من العرب يستطيع منعهم من أن ينزلوا بأيّ أرضٍ يريدون النزول فيها.

ويصف قومه بأنّهم إذا سخطوا على إنسان مهما علت مكانته فإنهم يرفضون عطاياه ويتركونها، وإذا رَضُوا عنه فإنّهم يقبلون هداياه.

ويصف قومه بأنَّهم يَعْصِمُون بالحماية والحفظ من يطيعهم، وأنّهم أهل عَزْمٍ وجِدٍّ وقُوّةٍ في تأديب من يعصيهم.

ألا تُلاحظُ أنّه كرّر عبارة "وأنَّا" مع كلّ منقبة ذكرها لقومه مفاخراً، وغرضُه إلصاق المنقبة في قومه بذكرهم عند ذكرها، وإبرازُها في جملة مستقلّة، وكان بإمكانه أن يعطف المناقب دون تكرير المسند إليه.

ومن هذا القبيل قول الرسول صلى الله عليه وسلم مفاخراً في إحدى الغزوات: أنا النبيُّ لا كذِب، أنا ابْنُ عَبْدِالمطلّب.

***

المثال السادس:

ما جاء في شعر الشاعرة الخنساء، تُمَاضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد، من بني سُلَيم، مُضَرِّية من أهل نجد، أشعر شواعر العرب، أدركت الجاهلية والإِسلام، ووفدت مسلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومها بني سليم، ومن شعرها قولُها في رثاء أخيها صخر:

*أَعَيْنَيَّ جُودَا وَلاَ تَجْمُدا * أَلاَ تَبْكيَانِ لِصَخْرِ النَّدَى*

*ألاَ تَبْكِيَانِ الْجَوَادَ الْجَمِيلَ * أَلاَ تَبْكِيَانِ الْفَتَى السَّيّدا*

قالت هذا وهي في موقف الحزن، فَحَسُنَ في حِسِّها الملتهب بالمشاعر، وهي من أشعر الشواعر، أن تكرّر قولَها تخاطب عينيها: "أَلاَ تبكيان" مع أن العبارة الأولى كانت كافيةً للدلالة على المقصود، حتى العبارةُ الأولى كان بالإِمكان فهمُ أصل المراد منها من قولها في الشطر الأول: "أَعينيَّ جودا ولا تجمدا" لكن في عبارة الاستفهام من أغراضٍ بلاغية ما ليس في عبارتي الأمر والنهي، وفي فعل "تَبْكِيان" من دلالة على تجدِيد البكاء المتتابع ما ليس في "جُودا ولا تجمُدا" فقصدت إلى تعيين نوع البكاء، وأنّه ينبغي أن يكون بكاءً متجدّداً، فاستعملت الفعل المضارع الدالّ على هذا المعنى.

وبكت أخاها صخراً في شعرها، فجعلتها شاعريَّتُها تكرّر في مقام رثائها لأخيها وفجيعَتِها به عبارةً "وابكي أخاك" تخاطب نفسها على طريقة التجريد:

*وَابْكِي أَخَاكِ وَلاَ تَنْسَيْ شَمَائِلَهُ * وابْكِي أَخَاكِ شُجَاعاً غَيْرَ خَوَّارِ*

*وابْكِي أخَاكِ لأَيْتَامٍ وأرْمَلَةٍ * وابْكِي أَخَاكِ لحَقِّ الضَّيْفِ والْجَارِ*

لقد كان من الممكن أن تُعَدِّدَ ما تُرِيدُ من شمائل أخيها، دون أن تكرّر عبارة "وابْكي أخاكِ" لكنّها في مقام التوجّع والتفجُّعِ والرّثاء والنحيب، وفي هذا المقام الملتهب بمشاعر الحزن الحارّ، يحلو في أنْفُسِ ذواتِ الحزن التكرار، كما يَشْفِي تكرار تدفُّق الدموع.

المثال السابع:

هجا جرير قبيلة "سدوس" وذمَّهَا فكرّر في هجائه ذكر اسمها مع كلّ صفة ذمّ ذكرها لها، إمعاناً منه بإلصاق المثالب التي ذكرها بها إلصاقاً يُصاحِبُهُ التشهير، والإِذاعةُ بالتكرير، مع أنّه كان يكفي العطفُ في ذكر الصفات، دون إعادة ذكر اسم القبيلة التي يذُمُّها، فقال في هجائه:

*أَخِلاَّئِي الْكِرَامُ سِوَى سَدُوسٍ * وَمَالِي فِي سَدُوسٍ مِنْ خَلِيلِ*

*إِذَا أَنْزَلْتَ رَحْلَكَ فِي سَدُوسٍ * فَقَدْ أُنْزِلْتَ مَنْزِلَةَ الذَّلِيلِ*

*وَقَدْ عَلِمَتْ سَدُوسٌ أَنَّ فِيهَا * مَنَارَ اللُّؤْمِ واضِحَةَ السَّبِيلِ*

*فَمَا أعْطَتْ سَدُوسٌ مِنْ كَثِيرٍ * وَلاَ حَامَتْ سَدُوسٌ عَنْ قَلِيلٍ*

ففي البيت الأوّل يذكر جرير أنّه اتّخذ أخلاءه الكرام من غير سدوس، وأنّه لم يتخذ منها خليلاً واحداً، مشيراً إلى انعدام الكرام فيها.

وفي البيت الثاني يخاطب نفسه وكلّ مسافر بأنّه إذا أنزل رحله في أرض سدوس لم يجد لديهم مقاماً كريماً، بل يجد نفسه قد أُنْزِل منزلة الذليل، لأنّ سدوساً أذلاء لا عزّة لهم وَلا مَنَعة عندهم.

وفي البيت الثالث يذكر أنّ سدوساً تَعْلَم من أنفسها أنّها منار اللُّؤْم بين القبائل.

وفي البيت الرابع يصفُ سدوساً بأنّها غاية في البخل، وغاية في الضعف والجبن، فهي لا تعطي شيئاً حينما يكون لديها الكثير لبُخْلِها، وهي لا تحمي الشيء القليل الذي لديها، لضعفها وجُبْنِهَا إذا لم يكن عندها إلاَّ القليل، وهي مضطرة إليه.

***

المثال الثامن:

يحرّك الله عزّ وجلّ في أهل القرى "وهي كلُّ مجمّع سكني ولو كان من المدن الكبرى" الذين كذّبوا رُسل رَبّهم المخاوف من مفاجأة نقمة الله وعذابه ليلاً أو نهاراً، فيقدّم لهم التنبيهات المتتابعات، مع تكرير ما يمكن أن يُفْهَم لو حذف، لأنّ تكرار الذكر يساعد على عدم شرود الذهن عن إدراك ما جاء في عبارات الترهيب، بخلاف الحذف فإنّه يساعد على شرود المقصودين بالخطاب، نظراً إلى أنّهم كافرون قد انصرفت أذهانهم عن سماع عبارات الإِنذار والترهيب، بسبب كفرهم، فهي تحتاج إلى دقّاتٍ متواليات كدقَات الناقوس، أو أصوات البوق المتواليات المنذرات بالخطر.

فقال الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)}.

المقامُ مقامُ تهديدٍ ووعيدٍ واستثارة لمخاوف أهل القرى، فاقتضى هذا المقام إعادةَ ألفاظٍ كان يمكن فهم معناها بِدون إعادتها، لأنّ هذه الإعادة هي بمثابة الدَّقَات المتواليات التي تثير الانتباه بسبب مخالفتها لما يقتضيه المألوفُ في الأسماع.

***

المثال التاسع:

رثت ابنة النعمان بن بشير الأنصاري الصاحبي زَوْجَها مالكاً، فعبّرت في رثائها عن فاجعتها بزوجها، فكرَّرتَ عبارة من الممكن فهمها بداهة ولو لم تكرّرها، لكِنَّ التفجُّع في الحُزْنِ الحارّ يَحْسُنُ معَهُ التكرار، فقالت:

*وحَدّثَنِي أَصْحَابُهُ أَنَّ مَالِكاً * أَقَامَ ونَادَى صَحْبُهُ بَرِحِيلِ*

*وحَدَّثَنِي أصْحَابُهُ أَنَّ مَالِكاً * ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ غَيْرُ نَكُولِ*

*وحَدَّثَنِي أَصْحابُهُ أَنَّ مَالِكاً * صَرُومٌ كَمَاضِي الشَّفْرَتَيْنِ صَقِيلِ*

ضَروبٌ: أي: كثير الضرب.

غَيْرُ نكُولٍ: أي: غيرُ ضعيفٍ ولا جبانٍ.

صَرُوم: حادٌّ شديد المُضَاء قاطع.

كماضِي الشفرتين: أي: كسيفٍ ذي حَدَّيْنِ وَهو فيهما ماضٍ حادٌّ قاطع.

صَقِيل: أي: مجلوّ يتلامع من شدّة جلائه.

المثال العاشر:

مدحت الشاعر "ليلى الأخيلية" من بني عامر بن صعصعة، الحجّاجَ، فقد وفدت عليه مرّات، فكان يُكرمُها ويُقَرِّبُها، فكرَّرتْ بعض العبارات في مدحها له بفنّية جمالية بارعة، لتبني على ما تكرّره تفصيلات يحْسُن لدى ذكرها تكرير العبارة التي تريد أن تبني عليها تفصيلاتها، فقالت:

*إِذا هَبَطَ الحجَّاجُ أَرْضاً مَرِيضَةً * تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا*

*شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الّذي بها * غُلاَمٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا*

*سَقَاهَا فَرَوَّاهَا بِشُرْبٍ سِجَالُهُ * دِمَاءَ رِجَالٍ حَيْثُ مَالَ حَشَاهَا*

*إِذَا سَمِعَ الْحَجَّاجُ رَزَّ كَتِيبَةٍ * أَعَدَّ لَهَا قَبْلَ النُّزُولِ قِرَاهَا*

*أَعَدَّ لَهَا مَسْمُومَة فَارِسِيَّةً * بِأَيْدِي رِجَالٍ يَحْلِبُونَ صَراهَا*

أرضاً مَرِيضَةً: تريد أرضاً فيها خارجون على مُلْك بني إميّة، فبخروجهم صارت أرضاً مَرِيضةً "على سبيل الاستعارة".

الدّاء الْعُضَال: هو الداء الشديد الذي لا طِبَّ له.

سِجَالُه: السجال جمع "السَّجْل" وهي الدلو العظيمة.

حشاها: ما في بطونها من أحشاء.

رَزّ كتيبة: أي: صوت كتيبة مقاتلة.

صَرَاهَا: أي: ما جمعتْ في ضرْعها.

يلاحظ أن معظم عباراتها اعتمدت على الاستعارة، فقد استعارت الشفاء لقتال الخارجين على سُلْطة بني أميّة واستئصالهم، واستعارت "السقيا" لاصطباغ الرماح بدماء الخارجين، إذ شبَّهتْها بالظامئ، لكنها ظامئة لدماء أهل الْحِرابة، وشبَّهت عمل جنود الحجّاج بمن يحلب الضروع المصرّاة حين يمسحون الدماء عن نصالها.

المثال الحادي عشر:

وقف الجاهليّ امرؤ القيس على أطلال صاحبته "سلْمَى" وحيّاهُ تحيّة الجاهليّة، ثم توارَدَتْ عليه الذكريات، وأيْأسَهُ ما رأى من واقع عفاء الدّيار، وخلوّها من ساكنيها فقال مكرّراً عبارة: "وتحسبُ سَلْمَى لا تزال" استئناساً بإعادة الاسم، عند فقد المسمَّى:

*وتَحْسَبُ: سَلْمَى لاَ تَزَالُ تَرَى طَلاَ * منَ الْوَحْشِ أَوْ بِيضاً بِمَيْثَاءَ مِحْلالِ*

*وتَحْسَبُ: سَلْمَى لاَ تَزَالُ كَعَهْدِنا * بِوَادِي الْخُزَامَى أَوْ عَلَى رَأْسِ أَوْ عَال*

تَرى طلاً: الطَّلا: الصغير من كلّ شيءٍ، وولد الظبيّةِ، والصغير من الوحش منذ ولادته حتى يشتَدَّ.

أو بِيضاً: البيض جَمْعُ أبْيضَ، ولعلّهُ يقْصِدُ ولداناً بيضاً، لأنّ الذكريات عن العهود الغوابر يبرزُ منها ما فيها من صُوَرٍ جماليّة، و أجملُ ما يثبتُ في الذكريات الصغارُ من النَّعَمِ والوحش، والولدان البيض في ملاعبهم.

بِمَيْثَاءَ: الميثَاءُ الرَّمْلَةُ السهلة، والرابية الطيِّبَة، والتَّلْعَةُ العظيمة.

مِحْلاَل: يقال لغةً: مكانٌ مِحْلاَلٌ إِذا كَانَ كثير الرُّوَّاد، ولاَ يكون كذلك إلاَّ لما فيه من صفاتٍ تُرَغَّبُ فيه.

بِوَادِي الْخُزَامَى: أي بالوادي الذي يكثر فيه نبات "الخُزَامَى" في دِيارِ سَلْمَى التي صارت أطلال خالية من ساكنيها الغابِرينَ.

أو على رأس أَوْ عَالٍ: أي: أو على رأْسِ صُخُورٍ مُشْرِفَةٍ فوق القِمَم، شُبِّهَتْ هذه الصُّخور بالأوعال جمع "وَعِل" وهو تَيْسُ الجبل، لأنّ الأوعال تَصْعَدُ رؤوس التلال والجبال، وتُشْرِف برؤوسها، وتوجد في المرتفعات صخور تُشْبِهُها، يَصْعَدُ إليها المتنزّهون، ويجلسون عليها، مستمتعين بالارتفاع والمشهد والحديث، وكان لامرىء القيس مجالس هنا لك مع صاحبته سلْمَى.

هذه طائفة من الأمثلة اكتشفنا فيها بعض أغْراض ذكر العنصر الذي يمكن فهمه بوجه عامّ فيما لو حُذِف من الكلام، لكنَّ الداعيَ البلاغِيّ رجَّحَ في ذَوْقِ الأَديب البليغِ ذكره على حذفه، لإِفادة المعنى البلاغيّ الذي قصده.

والدواعي التي لم أورد أمثلة لها من أقوال البلغاء والفصحاء، ليس من الصّعْب وضْعَ أمثلة لها، أو اكتشاف أمثلة لها لدى الاطلاع على النصوص البليغة من النثر والشعر.

فعلى مُحَلل النصوص الأدبيّة البليغة أن يكون على بصيرة بمختلف الأعراض البلاغيّة، وحتى يكون شرحُهُ الأدبيُّ البلاغيُّ للنصوص كاشفاً بِدِقَّةٍ أغراضَ البلغاء.

***

(3) دواعي الحذف في الكلام

مقدم:

قد يرى المتكلّم البليغ الذّوّاقُ للأدب الرفيع أن يحذف من كلامِه الذي يُريدُ توصيلَ معناه لمَنْ يتلَقَّى كلامه، مَا يمكِنُ أن يفهمه المتلَقّي بقرائن الحال، أو قرائن المقال،، أو باللّوازم الفكرية الجليّة، أو باللّوازم الفكرية الخفية وبالإِشاراتِ الّتي تُدْرَكُ بالذكاء اللّمَّاح، ومن المعلوم أنّ الأذكياء يكفيهم الإِلْماح، لأنهم يدركون المقاصدَ باللّمح.

وقد اهتمّ علماءُ البلاغة، والباحثون في إعجاز القرآن بدراسة ما في كتاب الله من محذوفات، وبدراسة أقوال كِبَارِ البلغاء والفصحاء، وما فيها من عناصر محذوفة مع أرادة توصيلِ معانيها للمخاطبين بها، فاكتشفوا أنّ الحذف من صريح البيان، والاكتفاء بدلائل قرائن الأحوال أو قرائن الأقوال، أو دلائل اللّوازم الفكرية، وما في الأقوال المذكورة من إشارات، قد يكون أبلَغ وأبدَعَ وأكْثَرَ جَمالاً، إذَا كان المتلَقِّي ممَّنْ تقتضي حالُه أنْ يُخَاطَبَ بمثل ذلك، اعتماداً على ذكائه وفطنته، أو كان في المتلقّين من هم كذلك، وهؤلاء يكشفون لسائر المخاطبين ما فهموه من الكلام الموجّه للنّاس بوجهٍ عامٍّ، فَيُغْنِي إفهام أهل البحث والعلم والفطنة بكلام يُلاَئمُ مقتضى حالِهم، إذْ هم مُكَلَّفُونَ إِفْهَامَ الآخرين وتعليمَهُم، ولا حاجة في كلّ الكلام أَنْ يلائم أحوال متوسطي الذكاء فمن دونهم، إذا كان الكلام موجّهاً للناس بوجه عامّ.

ولذلك نجدُ في كتاب الله الموجّه للناس أجمعين ما يمكنُ أَنْ يفهمه بسهولة كلُّ المخاطبين، ونجد فيه ما يحتاج فهمه إلى ذكاءٍ متوسّطٍ أو فوق المتوسط، ونجد فيه ما يحتاج فهمه إلى ذكاءٍ فائقٍ وفطنةٍ رفيعة عالية، ليشرح هؤلاء ما فهموه من كتاب الله، ويقدّموه لسائر الناس بما يفهمون من بيان.

وَإِذْا أحسَّ أستاذُ علوم البلاغة "عبد القاهر الجرجاني" أَنَّ حذفَ ما يُمْكن أن يُدركَهُ أهل الذكاء والفطنة بالقرائن أو الإِشارات، ممّا يرفع مستوى الكلام إلى مراتب عاليةٍ في البلاغة والإِبداع والجمال البياني، قال كما جاء كتابه "دلائل الإعجاز" بشأن الحذف:

"هذا بابٌ دقيقٌ الْمَسْلَكِ، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأَمْر، شبيهٌ بالسِّحْر، فإِنَّكَ ترى به تركَ الذّكر أفْصَح من الذكْر، والصَّمْتَ عن الإِفادة أزيد للإِفادة، وتجِدُكَ أنْطَقَ ما تكونُ إِذَا لَمْ تَنْطِقْ، وأتمَّ ما تكون بياناً إذا لمْ تُبَيّنْ، وهذه جُمْلَةٌ قدْ تُنْكِرُها حتَّى تَخْبُر، وتَدفَعُهَا حتَّى تَنْظُر".

وممّا سبق ندرك أنّ من شرط حَذْفِ ما يُرادُ الدلالة على معناه، أن يمكن القول، إدراكُهُ بقرائن الحال أو قرائن المقال، أو اللّوازم الفكرية، أو إشارات المذكور من القول وإلاَّ كان تَعْمِيَةً لا تليق بذي بيان بليغ.

ومن علامات الحذف البليغ الذي يرفع قيمة الكلام، أنَّه إذا أُظْهِرَ المحذُوف زالَ ما في الكلام من بهجة وطلاوة وجمالٍ فنّي وإبداع.

***

أقسام الحذف:

لدى استقرار صوف الحذف في الكلام العربي البليغ يظهر لنا أنّه يدور حول حذف جُزْءٍ من الكلمة أو ما يُنَزَّلُ مَنْزِلَة جزئها، كأداة النداء وياء المتكلّم. وحذف جُزْءٍ من الجملة كحذف المسند أ وحذف المسند إليه أو حذفهما، أو حذفِ شيءٍ من متعلّقاتِ الفعل أو ما يَعْمَلُ عمله. وحذف جملة كاملة. وحذف أكثر من جملة.

فالحذف إذَنْ يقع في أربعة أقسام:

القسم الأول: حذفُ جُزْءٍ مِن الكلمة أو ما يُنَزَّلُ منزلة جُزْءِ الكلمة، ولم يوجّه البلاغيون عناية لهذا القسم، لكن تنبَّهَ إلى بَعْضِهِ "الأخفش" من علماء العربيّة، وحاول تعليله وفق مناهج النحاة والصرفيين، لا وفق مفاهيم البلاغييّن والأدباء، وذلك في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفجر/ 89 مصحف/ 10 نزول):

{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)}.

بحذف "الياء" من "يَسْرِي" مراعاة لرؤوس الآيات، دون أن يُوجَدَ مقتضٍ نحويٌّ لهذا الحذف.

وتنبَّهَ إلى هذا القسم وأضافه اقتراحاً إلى أقسام الحذف البلاغي من المعاصرين "د. محمد أبو موسى" في كتابه "خصائص التراكيب" وقد أحسن صُنْعاً.

وأقول في شرح هذا القسم: إنّ العربيّ قد اعتاد أن يختصر من الكلمة إيجازاً في نُطْقِه وتخفُّفاً، وذلك في بعض كلامه ممّا يكثر تداوله، فيحذف بعض حروف الكلمة، وأن يختصر أيضاً فيحذف بعض ما يُنَزّلُ مَنْزِلَة جُزْءِ الكَلمة، كالجزء الثاني من المركب تركيباً مَزْجِيَّاً، وكالمضاف إليه، وكياء المتكلم، وأداة النداء.

ويظهر لنا هذا في بعض أنواعٍ من الكلام العربي، ومنه ما نجده في الأبواب التالية:

فمنه ما يُسمَّى الترخيم في باب النداء، فقد يحذف العربيُّ في النداء آخر حرف في الكلمة، أو الحرفين الأخيرَيْن منها، وقَدْ يَحْذِفُ الجزءَ الثانِيَ من جزئي الكلمة المركّبة تركيباً مزجيّاً، وقد يحذف في الترخيم المضاف إليه.

ومن دواعيه إلى ذلك الإِيجاز، والتحبُّبُ لِلْمُنَادى أحياناً، ومراعاة جمال فنّيٍّ في نَسَقِ الكلام، وإيثار اللفظ الأخف على اللّسان، إلى غير ذلك.

الأمثلة:

(1) قول امرىء القيس:

*أفَاطِمُ مَهْللاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ * وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجمِلِي*

أي: أفاطمةُ، وفي هذا الترخيم يظهر معنى التحبُّب مع إرادة سلامة الوزن الشعريّ.

(2) قول الْعَجَّاج يخاطِبُ امرأته "جارية" وهو يُعِدُّ رحل ناقته للسَّفر، فقالت له: "ما هذا الذي تَرُمُّ" أيْ: تُعِدُّهُ من أمْرٍ رغبةً في الارتحال: فقال لها:

*جَارِيُ لاَ تَسْتَنْكِرِي عَذِيرِي * سَعْيِي وإشْفَاقِي عَلَى بَعِيري*

فحذَفَ حرفَ النداء ورَخَّمَ، وأصلُ الكلام: "يَا جاريَةُ" ومعنَى "عَذِيري": حالي، وما أحاول من سَفر، فعذيرُ الرَّجل ما يرومُ وما يُحَاول مما يُعْذَرُ عليه إذا فعله.

(3) قول الفرزدق، يخاطب مروان بن عبدالملك:

*يَا مَرْوَ إِنَّ مطيّتِي مَحْبُوسَةٌ * تَرْجُو الحِبَاءَ وَرَبُّهَا لَمْ يَيْأَسِ*

أي: يا مروان، فحذف الحرفين الأَخيرين من "مروان".

(4) قول لبيد:

*يَا أَسْمَ صَبْراً عَلَى مَا كَانَ مِنْ حَدَثٍ * إِنَّ الْحَوَادِثَ مَلْقِيٌّ وَمُنْتَظَرُ*

أي: يَا أسماء، فحذف بالترخيم الحرفين الأخيرين من "أسماء".

(5) وقالوا مُرَخّمين في نداء نحو "حضر موت" وفي نداء نحو "مَعْدِ يكرب": يا حَضْرَ - يَا مَعْدِ.

(6) وكثيراً ما يحذف العرب أداة النداء، وياء المتكلم التي يضاف إليها المنادى، مثل: "يَارَبّ - يَا أبَتِ - يا ابْنَ أمَّ - يَا عبادِ - يَا غلامِ".

* ومنه حذف ياء المتكلّم.

الأمثلة:

(1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (سبأ/ 34 مصحف/ 58 نزول):

{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)}؟.

أي: فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي، فحذف من "نكير"، ياء المتكلم، والداعي النَّسَقُ الجمالي في رؤوس الآيات في السورة.

ونظيره في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول):

{فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)}.

أي: فكيف كان عقابي.

وكذلك في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) في عدة مواضع منها:

{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)}.

أي: فكيف كان عذابي ونُذُرِي، والداعي في كلّ ذلك مراعاة النسق الجماليّ في رؤوس الآيات.

* ونظير حذف ياء المتكلم حذف حرف العلة في آخر الفعل دون مقتضٍ إعرابي، رعايةً للنسق الجمالي، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفجر/ 89 مصحف/ 10 نزول):

{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)}.

الأصل: "واللَّيْلِ إذا يَسْرِي" فحذفت الياء من "يسري" رعاية للنسق الجمالي في رؤوس الآيات ولو لم يُوجَدْ جازم يَقتضي حذفها إعرابيّاً.

القسم الثاني: حذف جزءٍ من الجملة، ويكونُ بحذف المسند إليه، أو حذف المسند، أو حذفهما والاكتفاء بمتعلّقَاتِ الفعل أو ما في معنى الفعل كالمصدر واسم الفاعل، أو حذف غير ذلك من عناصر الجملة، استغناء بما يدلُّ على المحذوف.

وقد ذكر ابن هشام في كتابه "مغني اللّبيب عن كتب الأعاريب" زيادةً على ثلاثين نوعاً من أنواع الحذف في اللّسان العربي، واستشهد على كثير منها بأمثلة قرآنية، ومعظم هذه الأنواع يرجع إلى حذف جزء من الجملة، وتجد تفصيلاً لأنواعِ الحذف مع أمثلتها في القاعدة (14) من كتابي "قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عزَّ وجلَّ".

ومن أنواع حذف جزء الجملة ما يلي:

(1) حذف الاسم المضاف.

(2) حذف المضاف إليه.

(3) حذف اسمين مضافين.

(4) حذف الموصول الاسمي.

(5) حذف الموصوف.

(6) حذف الصفة.

(7) حذف المعطوف.

(8) حذف المعطوف عليه.

(9) حذف المبدَل منه.

(10) حذف المبتدأ.

(11) حذف الخبر.

(12) حذف الفعل.

(13) حذف المفعول.

(14) حذف الحال.

(15) حذف التمييز.

(16) حذف "لا" النافية وغيرها.

(17) حذف لام التوطئة.

(18) حذف الجار، ويطّردُ مع "أنَّ و "أَنْ".

(19) حذف لام الطلب.

***

القسم الثالث: حذف جملة كاملة استغناءً بما يدلُّ عليها، أو اعتماداً على إمكان فهمها ولو لم تُذْكر.

* فمنه حذف جملة القسم، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) في حكاية قصّة سليمان:

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ (20) لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21)}.

أي: أُقْسِمُ باللهِ لأَذْبَحَنَّهُ.

* ومنه حذف جواب القسم، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزول):

{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (5)}.

أي: لَنَبْعَثَنَّهُمْ ولَنُحَاسِبَنَّهُمْ.

* ومنه حذف جملة جواب الشرط، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):

{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ...} [الآية 35].

أي: فإن استطعْتَ ذَلِكَ فَافْعَل.

وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول):

{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى...} [الآية 31].

أي: لكان هذا القرآن المنزّلُ على محمد.

* ومنه حذف جملة الشرط، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (العنكبوت/ 29 مصحف/ 85 نزول):

{يا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)}.

أي: فإنْ لم يتأَتَّ لكُمْ إخلاصُ العبادة لي في هذه الأرضِ فإيَاي فاعْبُدُني في غيرها.

***

القسم الرابع: حذف أكثر من جملة استغناءً بما يدلُّ على المحذوف، ومن أمثلته الكثيرة قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}.

أي: فقلنا اضربوا القتيل ببعض البقرة المذبوحة، فضربوه ببعضها، فصار القتيل حيّاً فَأخْبَرَ عنْ اقتِلِهِ...

***

دواعي الحذف البلاغية:

ذكر البلاغيون طائفة من دواعي الحذف مُوزَّعةً في بحوث حذف المسند إليه، وحذف المسند، وحذف بعض متعلقات الفعل، وقد انتقيت منها وأضفت إليها، فاجتمعت لديّ الدواعي التالية، و أُأكد أنّه يَعْسُر إحصاءُ كلّ الدواعي التي تقوم في نفوس البلغاء للحذف، وما ذكرته منها يرشد إلى ما فاتني أن أذكره.

الداعي الأول: الاحتراز عن العَبثِ بناءً على الظاهر، إذا كان ما يُحْذَفُ يُمْكِن أنْ يُدْرِكه ويَفْهَمه المتلقِّي، دون أ ن يُذْكَر في اللفظ، لدلالة قرينة الحال، أو قرينة المقال، أو اللّوازم الفكرية المنطقيّة، والمخاطب من الذين تكفيهم دلالات القرائن واللّوازم الفكريّة.

الداعي الثاني: تَخْيِيلُ الْعُدُولِ إلى أَقْوى الدّليلين من العقل أو اللفظ، باعتبار أنّ التوصُّلَ إلى فكرةٍ ما عن طريق الاستدلال العقلي أقْوى لدى الإِنسان من أَنْ تُبَيَّنَ له عن طريق دلالة اللفظ، يُضافُ إلى ذلك أنّ فَهْمَ الإِنسانِ للأَمْرِ باسْتِنْبَاطِه الفكريّ آنَسُ لَهُ وأَسَرّ، وأكثَرُ إشعاراً له بذاتيّته المستقلّة، من أَنْ يَشْعُرَ بأَنَّه عالةٌ من الْفَهْم على من يُعَرِّفُه به بصريح اللّفظ. لمَا يتضمَّنُ البيان بصريح اللّفظ من إلماح ضمنيّ إلى أنَّ المخاطَبَ ليْسَ مِن أهل فهم المعاني بقرائن الأحوال، أو قرائن الأقوال، أو لوازم الأفكار، ففي الحذف إثارةٌ للفكر وترضية لدوافع النفس التي يُسْعِدها الاستقلال والاعتماد على الذات.

الداعي الثالث: اختبارُ تَنَبُّهِ المتَلّقي أو مقدارِ تَنَبُّهِ، عند إمكان الاستِغْناءِ عن دلالةِ صريح اللفظ على المراد.

الداعي الرابع: الإِشعار بتمجيد المسمَّى عن طريق الإِيهام بصون اسمه عن أن يُبْتَذَلَ بالذكر لجلالة قدره، على معنى قول الشاعر يخاطبُ ممدوحه:

*لَسْنَا نُسَمِّكَ إجْلاَلاَ وتَكْرِمَةً * فَوَصْفُكَ الْمُجتِلي عَنْ ذَاكَ يُغْنِينَا*

الداعي الخامس: الإِشعار باحتقارِ المسمَّى وازدارئه وتَنْزِيهِ اللّسان عن ذكر اسْمِهِ، عن طريق الإيهام بأنّه يَنْبَغِي صَوْنُ اللّسانِ عنه، كما يُصانُ عن ذكْرِ ألفاظِ الفحش، وأسماء العورات.

الداعي السادس: صونُ اللّسان حقيقةً عن ذكر المحذوف والاكتفاء بدلالة القرائن، لأنّه ممّا ينبغي سَتْرُ ما يَدُلُّ اللّفظ الصريحُ عليه، ويَسْتَهْجِنُ ذوّاقوا الأدب الرفيع ذكره.

الداعي السابع: التمكُّن من إنكار المحذوف، عند الحاجة إلى هذا الإِنكار، وادّعاء قَصْد غيره.

الداعي الثامن: كَوْنُ ما يُحْذَفُ مُتَعَيِّناً حقيقةً أو ادّعاءً، فلا داعي إلى ذكره، إذْ يكونُ ذِكْرُهُ عندئذٍ من الإِسراف في القول، وهو أمْرٌ لا يَسْتَسِيغُه الْبُلَغاء.

الداعي التاسع: اتّباع الاستعمال الوارد على ترك ذكره، كالأمثال وما يجري مجراها، نحو: "رَمْيَةٌ من غَيْرِ رَامٍ" أي: رَمْيَةٌ مُصِيبةٌ مِن غير رام ماهرٍ يُحْسِنُ الرّماية، ونحو "شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخزَمِ" ونحو: "قضِيةٌ ولاَ أبَا حَسَنٍ لَهَا".

الداعي العاشر: تركُ نظائره في استعمالات العرب، كما في الرفع على المدح، أو الذمّ، أو الترحُّم، فإنَّهُمْ لاَ يكادون يذكرون فيه المبتدأ، وكَقطْع الصفة ونَصْبِها على تقدير فعل أمدح، أو أذُمُّ، أو نحو ذلك، وكما في "أهلاً وسهلاً".

أي: لقيت أهلاً ووطئت سهلاً، وكما في المفعول المطلق لفعل محذوف، مثل: "سَقْياً وَرَعْياً" أصله: سقاك الله سقياً، ورعاكَ الله رَعْياً، ومثل "حَمْداً وشُكْراً" أصله: أحمد الله حمداً، وأشكر اللهَ شكراً.

الداعي الحادي عشر: ضيق المقام عن إطالة الكلام بسبب التوجُّعِ أو التضجُّر، كأن تقول لمريض: كيف حالك؟ فيقول: مريض.

وكأن تقول لفاقد عزيز عليه: كيف حالك؟ فيقول: حزين.

الداعي الثاني عشر: إرادة اخفاء الأمر عن غير المخاطب الذي يسألك عن أمْرٍ بحضور آخرين لا تريد إعلامهم به فتكفي بذكر بعض الجملة، أو بنحو حرف نفي، أو حرف إيجاب.

الداعي الثالث عشر: خوف فوات فرصة سانحة، كأن تقول للصيّاد المترقب الراصِدِ "وَعِل - غزال - أرنب - هذا - ذاك -".

الداعي الرابع عشر: رعايةُ السَّجْعِ، أو القافية، أو أواخر الآيات، محافظةً على الجمال الفنّي في اللّفظ ونَسَقِ الْجُمَلَ.

الداعي الخامس عشر: تربية الفائدة بتكثير المعاني، إذْ يتأتَّى من احتمالات المعاني بالحذف، ما لا يتأتَّى بالذكر.

الداعي السادس عشر: قَصْدُ التعميم من الاختصار في اللفظ، وهذا كثير في النصوص البليغة الرفيعة، كقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول):

{وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25)}.

أي: يدعو كلّ ممتَحَنٍ مُكَلَّفٍ إلى دار السلام عن طريق الإِيمان والإِسلام، ودار السّلام هي الجنة.

الداعي السابع عشر: قصْدُ الإِيجاز فقط، ولو لم ينضمُ إليه داعٍ آخر، فالإِيجاز دون إخلالٍ بالمعنى المراد من الدواعي التي يَهْتَمُّ الْبُلَغَاءُ بمراعاتها، لأنّه يصون الجملة في ذوق الناطق العربي من الثقل والترَهُّل.

الداعي الثامن عشر: المبادرة إلى دفع ما يمكن أن يتوهّمه الْمُتَلقِّي ممّا هو غير مراد، لو لم يحصل الحذف، كأن يقول المخبر بعزوِ الأعداء المدينة: دخلَ الغزاةُ إلى الْقَصْر السلطاني.

فَحَذَف عن عبارته لفظ "المدينة" لأنّه بادر إلى دفع توهم أنَّهمْ لم يصلوا بَعْدُ إلى القصر السلطاني، وأنّهم ما زالوا في الطريق إليه.

الداعي التاسع عشر: قصد التشويق بالإيهام، ليأتي البيان بعده شافياً حركة الشوق إلى المعرفة.

إلى غير ذلك من دواعي تتفتَّقُ عنها قرائح البلغاء الفطناء.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.