أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-10-2015
3272
التاريخ: 25-3-2016
4200
التاريخ: 20-3-2016
3390
التاريخ: 17-3-2016
3594
|
تمهيد[1]:
من الموضوعات المتعلّقة بـفقه الشعائر الحسينيّة الذي شاع كثيراً في أدب الطفّ شعراً ونثراً، وأصبح مادّةً إلقائيّةً إنشاديّة، أو كتابيّةً هو: موضوع لسان الحال، فقد وُظّف في كثيرٍ من الموارد المتعلّقة بالشعائر الحسينيّة، كما في كلمات الخطباء، وشعر الشعراء، ونتاجات أقلام الكتَّاب والباحثين، فلعلّك لا تجد شاعراً أو خطيباً في قصيدته، أو مجلسه إلّا ويصوّر لك بلسان الحال ما حلّ برموز كربلاء ومَن يرتبط بهم, بل ولسان حال السيّدة الزهراء عليها السلام، وسائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام وغيرهم.
ولذلك، وقع الكلام في مشروعيّة هذا الأُسلوب الأدبيّ، وتصوير حال أشخاص الطفّ بصورةٍ عامّةٍ، وما يزيد الأمر تعقيداً هو ما يتمتّع به بعض شخوص الطفّ من سمة العصمة، وعلو المقام، ورفعة المنزلة، فلذا قد يصعب معرفة حالهم، وإدراك آفاق تفكيرهم، وما يتّخذونه من مواقف، أو ما يقولونه من كلمات تجاه الأحداث التي تجري عليهم، فمن ثَمَّ يصوّر الشاعر أو الناثر لسان حالهم، كتعبير عمّا كانوا سيقولونه بلسان المقال والكلام، أو ما سيفعلونه من تصرّفات ومواقف عمليّة تجاه الوقائع، والأحداث التي أحاطت بهم يوم عاشوراء، ومن أهمّها مصرع سيّد الشهداء عليه السلام. وفي الحقيقة هناك اتّجاهان في أصل جواز لسان الحال في أدب الطفّ، خصوصاً إذا كان لسان حال المعصومين ـ كالزهراء، والحسين، والسجَّاد صلوات الله عليهم ـ:
اتّجاه ذهب إلى المنع من تصوير لسان الحال، والاقتصار على لسان المقال.
واتّجاه آخر أصرّ على المشروعيّة والجواز، كرديف للسان المقال، بل وصف بعضهم لسان الحال بأنّه أصدق من لسان المقال.
ولكلا الاتّجاهين أصحابه وأنصاره، وأدلّته، وبياناته، وسنقف على ذلك مفصَّلاً إن شاء الله تعالى في طيّات الكلام.
بعد أنّ تبيّن لنا أنّ هذه المسألة محلّ ابتلاء، أصبح هناك سبب وجيه لبحثها وتنقيحها، والوقوف على حقيقتها. ويزيد الأمر أهميّة أنّها من المسائل غير المبحوثة على مستوى التنظير والتوجيه الفقهيّ، فهي أقرب إلى كونها من المسائل المستحدثة، وأغلب مَن ذكرها لم يُفصّل فيها، وإنّما أجاب عنها على شكل فتوى بالجواز أو عدمه، وبيّنها بالإشارات الإجماليّة بحيث لا يتمكّن القارئ من معرفتها، وتبقى التساؤلات والاستفسارات تجول في ذهنه، ولا يجد لها جواباً.
وفي هذا المقال نحاول الوقوف على أهمّ مفاصل هذه المسألة، لتكون باكورة عملٍ، وهيكلة بحثٍ، لمَن يريد دراستها وبلورتها تفصيلاً.
معنى لسان الحال
لا نجد في معاجم اللغة العربيّة أي إشارة إلى تركيب لسان الحال بهذا العنوان، وإنّما شاع وانتشر في التعابير العربيّة شعراً ونثراً، بوصفه أُسلوب بيان لما يقتضيه حال المتكلّم، من خلال الاطّلاع على مجمل أفعاله، أو حركاته، أو تقاسيم وجهه، أو أُفق تفكيره، أو غير ذلك ممّا هو غير لسان المقال والكلام.
فكلّ ما يصدر عن الإنسان من كلام مُصاغ بصياغات لفظيّة يسمّى ذلك: لسان مقال، وبتعبير آخر: هو لساننا الذي ننطق به، أو مجمل ما تنطق به الشفتان من كلام أمام النّاس، فيُؤخذ حينئذٍ بظهورات لفظ المتكلّم سواء كانت له أم عليه، ويُعرف من خلاله مراداته الاستعماليّة والجديّة إذا كان في مقام البيان.
وفي قبال ذلك يقع لسان الحال الذي يمكن أن نعرّفه بأنّه لسان تَصرُّفنا في واقع الأمر من حركاتٍ، وسكناتٍ، وإشاراتٍ، ومواقفَ ممّا نفعله في حياتنا وعلاقاتنا بالآخرين، كتصرّفاتنا الشخصيّة، ومعاشرتنا للنّاس، ومجمل كلماتنا الأُخريات خصوصاً في مواقف مشابهة للموقف المحكيّ، يقرأها المقابل ويصيغها بصياغاتٍ أدبيّةٍ، مجازيةٍ تحكي لسان مقالنا، أو تُقرِّب منه، بأُسلوبٍ أدبيّ فنيّ مجازيّ, بلا دعوى كونها لسان مقال.
ولعلّ أقدم النصوص التي عَرّفت لسان الحال هي ما ذكره الغزّالي، حيث قال: "هو نطق وراء نطق المقال، يُشبه قول القائل حكايةً لكلام الوتد والحائط، قال الجدار للوتد: لِمَ تشقّني؟ فقال: سل مَن يدقني"[2].
وعرّفه العلّامة الطباطبائيّ، فقال عنه: "انكشاف المعنى عن الشيء لدلالة صفةٍ من صفاته، وحالٍ من أحواله عليه سواء شعر به أم لا"[3].
أمّا كمصطلح، فقد وردت لفظة لسان الحال في بعض أبيات الشعر العربيّ، ومن تلك الأبيات قول الشاعر:
قِفْ بالدِّيَارِ وَسَلْهُمْ عَنْ أَهَالِيهَا عَسَى تَرُدُّ جَوَاباً إِذْ تُنَادِيهَا
وَاسْتَفْهِمَنْ مِنْ لِسَانِ الْحَالِ مَا فَعَلَتْ أَيْدِي الْخُطُوبِ وَمَاذَا أَبْرَمَتْ فِيهَا[4]
وقال آخر:
فَدُهِشْتُ بَيْنَ جَمَالِهِ وَجَلالِهِ وَغَدَا لِسَانُ الحَالِ عَنِّي مُخْبِرَا[5]
وما يَصوغه المقابل, كالشاعر، أو الكاتب, من ألفاظ إنّما تحكي لسان حال المتكلّم في واقعةٍ ما، فيما لو أراد الكلام في تلك الواقعة، فالمتصدّي للسان الحال هو غير المتكلّم بطبيعة الحال، ودوره إبراز كلمات يَدّعي أنّها تُعبّر أو تُطابق كلام المتكلّم في حال كلامه. وهذه التعابير نتاج ما يقتضيه حال المتكلّم، وتقاسيم وجهه، ومجموع كلماته الأُخريات، أو معرفة المتكلّم له، أو من خلال قراءة معرفيّة بشخص المتكلّم، ومواقفه الأُخر التي نطق بها، فمن مجموع ذلك يستنبط صياغات يدّعي تجوُّزاً أنّها كلمات المتكلّم فيما لو كان تكلَّم حال حصول الواقعة، ولا يدّعي أنّها كلماته حقيقة، كي يقال: إنّها كذب، بل يقول: هي تصوير مجازيّ، وأدبيّ لِما يقوله القائل لو أراد القول.
فيكون لسان الحال من باب التعبيرات الأدبيّة الفنيّة المجازيّة، والكنائيّة التي تحكي مُرادات وكلمات الشخص الذي لم يتكلّم في واقعةٍ ما، بأُسلوبٍ فنّي رائع وجميل، يَصوغه الشاعر أو الأديب.
وهو أُسلوب أدبيّ عريق، إذ لا نجد شعراً من الأشعار العربيّة في كلّ العصور الأدبيّة ابتداءً من عصر ما قَبل الإسلام المسمّى بالعصر الجاهليّ في كتب الأدب، ومروراً بالإسلاميّ، فالأُمويّ، فالعبّاسيّ، وانتهاءً بالشعر الحديث والمعاصر ـ إلّا وقد حوى روائع من لسان الحال.
ثُمّ إنّ لسان الحال قد ورد في كثير من الروايات التي نقلها بعض المحدّثين في كتبهم ومعاجمهم الروائيّة، كما سنبيّن لاحقاً.
كما أنّ بعض المفسّرين قديماً وحديثاً، وكذا بعض الباحثين والمهتمّين بالشأن القرآنيّ, قالوا بوجود لسان الحال في بعض الآيات القرآنيّة الكريمة، كتعبير عن لسان حال بعض الأفراد، وما كانوا ليقولوا لو نطقوا بلسان المقال، بل إنّ بعض الباحثين أدخل بعض القصص القرآنيّ، والمثل القرآنيّ في لسان الحال[6].
لسان الحال في النصوص الشرعيّة
هناك نماذج من النصوص الشرعيّة، كالآيات الكريمة، والروايات، والأشعار التي وردت عن آل البيت عليهم السلام، أو بحضورهم وتقريرهم، والتي استُعمل فيها لسان الحال، كأُسلوب بيانيّ أدبيّ، وهذا له فائدة في دعم أصل مشروعيّة لسان الحال، بوصفه أُسلوباً للبيان والتخاطب، وأنّه أُسلوب مشروع، وليس داخلاً في عنوان الكذب والخيال، ولذلك يُسوّغ من حيث الأصل استخدام هذا الأُسلوب في المحاورات بصورةٍ عامّةٍ، وفي الأدب الحسينيّ, شعراً أو نثراً, بصورةٍ خاصّةٍ. وإنّما يُبحث في موانع الاستعمال أو العناوين الطارئة التي قد تُحرِّمه, فيكون عَرض ذلك بعنوان مدخل لبيان الحكم في المسألة.
وعليه، فنتكلّم في محاور ثلاثة:
المحور الأوّل: لسان الحال في القرآن الكريم
ذهب بعض المفسّرين والباحثين إلى وجود أُسلوب لسان الحال في النصّ القرآنيّ الشريف، وذلك في آياتٍ عديدةٍ، إمّا بشكلٍ قطعيّ، أو بنحو أحد المحتملات، أو بنحو الأُطروحة. بل وسّع بعض الباحثين الأمر فذكر أنّ كثيراً من القصص والأمثال القرآنيّة قد وردت بهذا الأُسلوب البيانيّ، قال شيخنا الأُستاذ محمّد السند: "... وهذا باب استعمله القرآن، وهو وحيٌ وحيانيّ إلهيّ، فإنّ ضرب الأمثال في الكتاب العزيز لا حدّ له وفرةً وكثرةً مع أنّ المثل لا يراد الإخبار بمفاده المطابقيّ، بل المراد الجديّ منه المعنى المبطن والكنائيّ الذي يغاير المعنى المطابقيّ لسطح المثل، بل قد ضرب القرآن للنّاس من كلّ مثل.
نعم، ليس القرآن كلّه من قَبيل المثل والأمثال، كما تَوهّم بعضٌ، بل هو أحد الأبواب الثمانية لأُسلوب القرآن، والحكمة في هذا الأُسلوب والنمط من الاستعمال أُمور كثيرة:
منها: إنّ كثيراً من المعاني ليست حسيّة مرئيّة، بل هي من شؤون الرّوح وحالات النفس والخواطر القلبيّة، وغيرها من الأفعال التي ليست من عالم المادّة المحسوسة المرئيّة المسموعة الملموسة، بل هي من مشهد نفسانيّ، ومشهد روحيّ، ومشاهد عقليّة، ونفحات قلبيّة، وهي أوسع شأناً، وأكبر واقعيّةً من العالم المرئيّ المحسوس، ولا بدّ من الإخبار عنه وانعكاسه إلى الآخرين، ولا يتأتّى إلّا بأنماط أُخر، أحد نماذجها أُسلوب المثل والتمثيل، ولسان الحال يلتقي معه في ذلك"[7].
وهنا نَعرض بشكل مجمل بعض الآيات التي قيل بورودها بلسان الحال لا لسان المقال، مع استعراض آراء بعض المفسّرين في هذا المجال:
الآية الأُولى: قوله تعالى: ﴿كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾[8].
ذكر بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية أنّها جاءت: "حكاية لما قال لهم نبيّهم، أو لسان الحال، أو دلالة بأنّهم كانوا أحقّاء بأن يقال لهم ذلك"[9].
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾[10].
أشار المفسّرون إلى وجوه عديدة في الآية الكريمة، واحتمل بعضهم أنّها وردت بلسان الحال, وبذلك قال الشيخ مغنيّة: ﴿وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾، أي: مع النسوة والأطفال والعجزة.
ولم يبيّن سبحانه مَن الذي قال لهم هذا، هل هي أنفسهم الأمَّارة، أو لسان الحال، أو بعضهم لبعض؟ الله العالم"[11].
الآية الثالثة: قوله عزَّ وجلّ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾[12].
يعتقد بعض المفسّرين بوجود احتمال لسان الحال في الآية الكريمة، بل جزم به بعضهم، أو جعله الاحتمال الأقوى, وهو ما بيّنه السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ بقوله: "وعلى هذا، يكون قولهم: ﴿بَلَى شَهِدْنَا﴾ من قَبيل القول بلسان الحال، أو إسناد للازم القول إلى القائل بالملزوم، حيث اعترفوا بحاجاتهم، ولزمه الاعتراف بمَن يحتاجون إليه، والفرق بين لسان الحال، والقول بلازم القول:
أنّ الأوّل: انكشاف المعنى عن الشيء، لدلالة صفة من صفاته وحال من أحواله عليه، سواء شعر به أم لا. كما تُفصح آثار الديار الخَرِبة عن حال ساكنيها، وكيف لعب الدهر بهم، وعدت عادية الأيّام عليهم، فأسكنت أجراسهم، وأخمدت أنفاسهم. وكما يتكلّم سيماء البائس المسكين عن فقره ومسكنته وسوء حاله.
والثاني: انكشاف المعنى عن القائل لقوله بما يستلزمه أو تكلّمه بما يدلّ عليه بالالتزام.
فعلى أحد هذين النوعين من القول ـ أعني: القول بلسان الحال والقول بالاستلزام ـ يحمل اعترافهم المحكيّ بقوله تعالى: ﴿قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا﴾، والأوّل أقرب وأنسب، فإنّه لا يكتفي في مقام الشهادة إلّا بالصريح منها، المدلول عليه بالمطابقة دون الالتزام.
ومن المعلوم أنّ هذه الشهادة على أيّ نحو تحقّقت، فهي من سنخ الاستشهاد المذكور في قوله: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ﴾، فالظاهر أنّه قد استوفى الجواب بعين اللسان الذي سألهم به، ولذلك كان هناك نحو ثالث يمكن أن يحمل عليه هذه المسألة والمجاوبة، فإنّ الكلام الإلهيّ يُكشف به عن المقاصد الإلهيّة بالفعل، والإيجاد كلام حقيقيّ, وإن كان بنحو التحليل, كما تقدّم مراراً في مباحثنا السابقة, فليكن هنا قوله: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ﴾، وقولهم: ﴿بَلَى شَهِدْنَا﴾ من ذاك القبيل?"[13].
الآية الرابعة: قوله عزَّ مَن قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾[14].
يظهر من كلام بعض المفسّرين المعاصرين الجزم بأنّ الآية المباركة وردت بلسان الحال, ومنهم الشيخ مكارم الشيرازيّ في تفسيره الأمثل، قال: "...كما ورد في القرآن الكريم التعبير عن لسان الحال، كالآية 11 من سورة فصّلت، إذ جاء فيها: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾"[15].
وقال المحدّث الكاشانيّ في المحجّة البيضاء: "القسم الخامس: أن يُعبّر بلسان المقال عن لسان الحال، فالقاصر الفهم يقف على الظاهر ويعتقده نطقاً، والبصير بالحقائق يُدرك السرّ فيه، وهذا كقول القائل: قال الجدار للوتد: لِمَ تشقّني؟ قال: سل مَن يدقّني فلم يتركني ورائي، الحجر الَّذي ورائي. فهذا تعبير عن لسان الحال بلسان المقال، ومن هذا قوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، فالبليد يفتقر في فهمه إلى أن يقدّر لهما حياةً وعقلاً وفهماً للخطاب، وخطاباً هو صوت وحرف تسمعه الأرض، وتُجيب بصوت وحرف، وتقول: أتينا طائعين. والبصير يعلم أنّ ذلك لسان الحال، وأنّه نبأ عن كونها مسخّرة بالضرورة ومضطرّة إلى التسخّر"[16].
الآية الخامسة: قوله سبحانه:.. ﴿...وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا...﴾[17].
احتمل بعض المفسّرين بأنّ الشاهد في هذه الآية كان لسان الحال، ولكنّه ناقش هذا الاحتمال وضعّفه، وهذا ما جاء في تفسير الأمثل، حيث قال: "الاحتمال الثالث: إنّ الشاهد هو القدّ في الثوب الذي تكلّم بلسان الحال، ولكن مع ملاحظة كلمة من أهلها يضعّف هذا الاحتمال، بل ينفيه!"[18].
الآية السادسة: قوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[19].
ذكر بعض الفقهاء أنّ الآية جاءت بلسان الحال، ومنهم الشيخ جواد التبريزيّ، الذي قال في كتابه الأنوار الإلهيّة في المسائل العقائديّة: "وأمّا التعبير عن ذهابه بقوله سبحانه: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾، فهو من قَبيل بيان لسان الحال، وأنّ فعله، فعل مَن يظنّ ذلك"[20].
الآية السابعة: قوله عزَّ وجلّ: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾[21].
قال الشيخ المكارم في تفسيره الأمثل: "وينقدح سؤال آخر، وهو كيف تُخَاطَبُ النّار وهي موجود غير عاقل فتردّ وتُجيب على الخطاب؟!
ولهذا السؤال توجد إجابات ثلاث:
الأُولى: إنّ هذا التعبير نوع من التشبيه، وبيان لسان الحال! أي: إنّ الله يسأل بلسان التكوين جهنّم وهي تُجيب بلسان الحال، ونظير هذا التعبير كثير في اللغات المختلفة!
الثانية: إنّ الدّار الآخرة دار حياة واقعيّة، فحتّى الموجودات الماديّة كالجنّة والنّار يكون لها نوع من الإدراك والحياة والشعور، فالجنّة تشتاق إلى المؤمنين، وجهنّم تنتظر المجرمين.
وكما أنّ أعضاء جسم الإنسان تنطق في ذلك اليوم وتشهد على الإنسان، فلا عجب أن تكون الجنّة والنّار كذلك!
بل ـ وحسب اعتقاد بعض المفسّرين ـ إنّ ذرات هذا العالم جميعها لها إدراك وإحساس خاصّ، ولذلك فهي تُسبّح الله وتَحمَدُه، وقد أشارت إليه بعض آيات القرآن، كالآية44 من سورة الإسراء.
والثالثة: إنّ المخاطَبين هم خزنة النّار، وهم الذين يردّون على هذا السؤال.
وجميع هذه التفاسير يمكن قبولها، إلّا أنّ التفسير الأوّل أنسب كما يبدو!"[22].
هذه بعض الآيات التي احتُمل أنّ فيها لسان الحال، أو جُزِمَ بوجود لسان الحال فيها, وهناك آيات أُخريات احتُمل فيها لسان الحال، يجدها المتتبّع للتفاسير، لم نذكرها حذراً من الإطالة.
كما أنّ الآيات التي احتوت على القصص والأمثال، حملها بعض الباحثين على ورود بعضها بلسان الحال، ويمكن الاطّلاع على تفاصيل ذلك في كتب التفاسير وكتب القصص القرآنيّ والأمثال في القرآن.
وبذلك يكون أُسلوب لسان الحال أُسلوباً قرآنيّاً في الجملة، قد استُخدم للتعبير عن حقائق ببيانات بلاغيّة ومجازيّة.
المحور الثاني: لسان الحال في الروايات
الدليل الثاني على أصل مشروعيّة لسان الحال هو استعماله في الروايات الشريفة، وهناك نحوان لذلك الاستعمال:
أحدهما: ما ورد في الروايات من التعبير بـلسان الحال نصّاً.
والآخر: الأساليب البيانيّة في الروايات، المحمولة على لسان الحال، وإليك بيان كلا النحوين:
النحو الأوّل: الروايات المصرّحة بلسان الحال
لقد ورد تركيب لسان الحال نصّاً في بعض الروايات، كأُسلوب صادق للبيان، ووصف في بعض مضامينها بأنّه أصدق من لسان المقال، ولعلّ وجه أصدقيّته: أنّ في لسان المقال يمكن للمتكلّم أن يقول ما لا يريد فعلاً، فيكذب بكلامه, أمّا لسان الحال فهو تعبير قهريّ غالباً عن لسان الحقيقة التي يُخبِّئها الإنسان في قلبه ووجدانه، وقد عبّر عن هذا الأمر أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه"[23].
وهذا التعبير قد ورد في عدّة روايات:
منها: ما رواه الليثيّ في عيون الحكم والمواعظ، عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "لسان الحال أصدق من لسان المقال"[24].
ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً، قال: "أصدق المقال، ما نطق به لسان الحال"[25].
النحو الثاني: الروايات المحمولة على لسان الحال
هناك مجموعة من الروايات يدلّ مضمونها ـ بنحو الظهور، أو الاحتمال ـ على لسان الحال، وفي هذا النحو مئات الروايات المبثوثة في المجامع الروائيّة، ونحن ننقل بعضاً من تلك الروايات اختصاراً:
الرواية الأُولى: ما رواه الكلينيّ بسنده عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "كيف أجابوا وهم ذرّ؟ قال: جُعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه. يعني في الميثاق"[26].
وقد شرح العلّامة المجلسيّ الرواية، فقال: "بيان: أي تعلّقت الأرواح بتلك الذرّ، وجعل فيهم العقل، وآلة السمع، وآلة النطق، حتّى فهموا الخطاب وأجابوا وهم ذرّ"[27].
ولكن السيّد الطباطبائيّ ردّ على ذلك بقوله: "ظاهر الرواية لسان الحال، أو أنّهم كانوا على خلقةٍ لو نزلوا منزل الدنيا، ظهر ذلك منهم في صورة السؤال والجواب، وأمّا ما ذكره رحمه الله فبعيد عن سياق الخبر، ولو صحّ لكان هو الخلق الدنيويّ بعينه"[28].
الرواية الثانية: ما رواه الشيخ الصدوق في كتابَي التوحيد وعيون أخبار الرضا عليه السلام, بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إنّ لله عزَّ وجلّ عموداً من ياقوتة حمراء، رأسه تحت العرش، وأسفله على ظهر الحوت في الأرض السابعة السفلى. فإذا قال العبد: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له, اهتزّ العرش، وتحرّك العمود، وتحرّك الحوت، فيقول الله تبارك وتعالى: اسكُن يا عرشي. فيقول: كيف أسكُن وأنت لم تغفر لقائلها؟! فيقول الله تبارك وتعالى: اشهدوا سكّان سماواتي أنّي قد غفرت لقائلها"[29].
الرواية الثالثة: ما جاء من روايات في وداع شهر رمضان المبارك، التي حمل بعض العلماء معنى الوداع فيها على لسان الحال، قال السيّد ابن طاووس في الإقبال: "إنْ سأل سائل فقال: ما معنى الوداع لشهر رمضان وليس هو من الحيوان الذي يخاطب أو يعقل ما يقال له باللسان؟! فاعلم أنّ عادة ذوي العقول قبل الرسول، ومع الرسول، وبعد الرسول، يخاطبون الدّيار والأوطان، والشباب وأوقات الصفا والأمان والإحسان ببيان المقال، وهو محادثة لها بلسان الحال.
فلمّا جاء أدب الإسلام أمضى ما شهدت بجوازه من ذلك أحكام العقول والأفهام، ونطق به مقدّس القرآن المجيد، فقال جلّ جلاله: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾.
فأخبر أنّ جهنّم ردّ(ت) الجواب بالمقال، وهو إشارة إلى لسان الحال، وذُكر كثيراً في القرآن الشريف المجيد، وفي كلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، وكلام أهل التعريف، فلا يحتاج ذوو الألباب إلى الإطالة في الجواب.
فلمّا كان شهر رمضان قد صاحبه ذوو العناية به من أهل الإسلام والإيمان، أفضل لهم من صحبة الدّيار والمنازل، وأنفع من الأهل وأرفع من الأعيان والأمثال، اقتضت دواعي لسان الحال أن يودّع عند الفراق والانفصال"[30].
الرواية الرابعة: ما رواه الرازي في تفسيره من أنّ: "موسى عليه السلام كلّم البحر، قال له: انفلق لي لأعبر عليك. فقال البحر: لا يمرُّ عليّ رجل عاص".
ثمّ قال الرّازيّ: "وعند المعتزلة أنّ ذلك على لسان الحال، لا لسان المقال. والله العالم"[31].
وغير ذلك من الروايات الدَّالة على وجود مثل هذا الأُسلوب في البيان والتعبير، وهو دليل آخر على أصل مشروعيّة لسان الحال.
المحور الثالث: لسان الحال في الأشعار المنسوبة إلى آل البيت عليهم السلام
لا شكّ في شيوع لسان الحال في الأدب العربيّ شعراً ونثراً، باعتباره أُسلوب بيان استُخدم في مئات القصائد، وعشرات المقاطع النثريّة، والمتتبّع للأدب العربيّ يجد ذلك واضحاً، ونذكر على نحو الاختصار مثالاً للشعر، ومثالاً للنثر ممّا ورد بلسان الحال، فمن الشعر قول الشاعر ـ وهو يحكي لسان حال ثلاث أخوات لاقاهنّ في الطريق -:
قَالَتِ الْكُبْرَى أَتَعْرِفْنَ الْفَتَى قَالَتِ الْوُسْطَى نَعَمْ هَذَا عُمَرْ
قَالَتِ الْصُّغْرَى وَقَدْ تَيَّمْتُهَا قَدْ عَرِفْنَاهُ وَهَلْ يَخْفَى الْقَمَرْ[32]
ومن النثر قول القائل: "سَلِ الأرضَ، فقل: مَن أَجْرَى أنهارك، وَغَرَس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تُجبك حواراً أجابتك اعتباراً"[33].
وليس هدفنا استعراض لسان الحال في الأدب العربيّ، لأنّه خارج عن محلّ الكلام، وإنّما هدفنا هو ذكر الأشعار التي وردت بأُسلوب لسان الحال، إمّا بنحو الإلقاء من قِبَل أهل البيت عليهم السلام، أو التي أُلقيت في حضرتهم ولم يعترضوا عليها، وهذا النحو من الشعر له شواهد تناقلتها كتب الحديث والتأريخ والأدب، وهو كما يدلّ على أصل مشروعيّة هذا الأُسلوب البيانيّ، كذلك يدلّ على مشروعيّة استعمال أُسلوب لسان الحال في خصوص الأشعار التي يكتبها شعراء آل البيت عليهم السلام في أدب الطفّ، ومن هذه الموارد:
الأوّل: ما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مخاطباً الزهراء عليها السلام عندما كان يزور قبرها الطاهر:
مَالِي وَقَفْتُ عَلَى الْقُبُورِ مُسَلِّماً قَبْرَ الْحَبِيبِ فَلَمْ يُرَدَّ جَوَابِي
أَحَبِيبُ مَا لَكَ لَا تَرُدُّ جَوَابَنَا أَنَسِيتَ بَعْدِي خُلَّةَ الْأَحْبَابِ
قَالَ الْحَبِيبُ وَكَيْفَ لِي بِجَوَابِكُمْ وَأَنَا رَهِينُ جنَاَدِلٍ وَتُرَابِ
أَكَلَ التُّرَابُ مَحَاسِنِي فَنَسِيْتُكُمْ وَحُجِبْتُ عَنْ أَهْلِي وَعَنْ أَتْرَابِي
فَعَلَيكُمُ مِنِّي السَّلَامُ تَقَطَّعَتْ عَنّي وَعَنْكُمْ خُلَّةُ الْأَحْبَابِ[34]
الثاني: ما أنشده دعبل الخزاعيّ شاعر أهل البيت عليهم السلام عندما خاطبه الإمام الرضا عليه السلام قائلاً: "يا دعبل، ارثِ الحسين، فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيّاً، فلا تقصّر عن نصرنا ما استطعت. قال دعبل: فاستعبرت وسالت عبرتي، وأنشأت أقول:
أَفَاطِمُ لَوْ خِلْتِ الْحُسَيْنَ مُجَدَّلاً وَقَدْ مَاتَ عَطْشَانًا بِشَطِّ فُرَاتِ
إِذًا لَلَطَمْتِ الْخَدَّ فَاطِمُ عِنْدَهُ وَأَجْرَيْتِ دَمْعَ الْعَيْنِ فِي الوَجَنَاتِ
أَفَاطِمُ قُومِي يَا ابْنَةَ الْخَيْرِ وَاْندُبِي نُجُومَ سَمَاوَاتٍ بِأَرْضِ فَلَاةِ
قُبُورٌ بِكُوفَانٍ وَأُخْرَى بِطَيْبَةٍ وَأُخْرَى بِفَخٍّ نَالَهَا صَلَوَاتِي
قُبُورٌ بِبَطْنِ النَّهْرِ مِنْ جَنْبِ كَرْبَلَا مُعَرَّسُهُمْ فِيهَا بِشَطِّ فُرَاتِ"[35]
الثالث: ما أنشده الإمام الهادي عليه السلام من قصيدة أمام المتوكّل العبّاسيّ، وقد حوت لسان الحال:
وهي ما رواه المجلسيّ قائلاً: "قال المسعوديّ في مروج الذهب: سُعي إلى المتوكّل بعليّ بن محمّد الجواد عليهما السلام أنّ في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنّه عازم على الوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا داره ليلاً، فلم يجدوا فيها شيئاً ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصا وهو متوجّه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن. فحُمل على حاله تلك إلى المتوكّل، وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً، ووجدناه يقر(أ) القرآن مستقبل القبلة. وكان المتوكّل جالساً في مجلس الشرب، فدخل عليه والكأس في يد المتوكّل، فلمّا رآه هابه وعظّمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس التي كانت في يده، فقال: والله، ما يخامر لحمي ودمي قطّ، فاعفني.
فأعفاه، فقال: أنشدني شعراً. فقال عليه السلام: إنّي قليل الرواية للشعر. فقال: لا بدّ. فأنشده عليه السلام وهو جالس عنده:
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ غُلْبُ الرِّجَالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ القُلَلُ
وَاسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ مِنْ مَعَاقِلِهِمْ وَأُسْكِنُوا حُفَراً يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوا
نَادَاهُمُ صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ دَفْنِهِمُ أَيْنَ الْأَسَاوِرُ وَالتِّيْجَانُ وَالْحُلَلُ
أَيْنَ الْوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُنَعَّمَةً مِنْ دُونِها تُضْرَبُ الْأَسْتَارُ وَالْكِلَلُ
فَأَفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُمْ تِلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيْهَا الدُّودُ تَقْتَتِلُ
قَدْ طَالَ مَا أَكَلُوا دَهْراً وَقَدْ شَرِبُوا وَأَصْبَحُوا الْيَوْمَ بَعْدَ الْأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا
... فأشفق كلّ مَن حضر على عليّ، وظنّ أنّ بادرة تبدر منه إليه، قال: والله، لقد بكى المتوكّل بكاءً طويلاً حتّى بلّت دموعه لحيته، وبكى مَن حضره، ثُمّ أمر برفع الشراب، ثُمّ قال له: يا أبا الحسن، أعليك دَينٌ؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار. فأمر بدفعها إليه، وردّه إلى منزله من ساعته مكرّماً"[36].
إلى غير ذلك من الشواهد التي يجدها المتتبّع لكتب الحديث والتاريخ والأدب.
لسان الحال في الميزان الفقهيّ
من المسائل المستحدثة في فقه الشعائر الحسينيّة، مسألة استخدام لسان الحال في مصاديق الشعائر، سواء نثراً أو شعراً أو خطابةً، وقد شاع استخدام هذا الأُسلوب وانتشر بين شعراء الطفّ وخطبائه بصورة ملحوظة خصوصاً بين المعاصرين، وبذلك انفتح نقاش فقهيّ في المسألة من حيث المشروعيّة وعدمها.
وتخالفت بذلك آراء الفقهاء بين مجوّز ومانع، والمسألة باعتبارها مستحدَثة لم تُطرح إلى الآن على مستوى التنظير والاستدلال الفقهيّ الموسّع، وإنّما طُرحت على مستوى الفتوى، وطبيعة الفتوى لا تسلّط الضوء على الأدلّة، وإنّما يُعطي الفقيه من خلالها موقفاً عمليّاً بقالب قانونيّ مقتضب، لكي يطبّقه المكلّف أو السائل، ولا يتصدّى لبيان أدلّة الحكم، ومَن تصدّى لذلك، فإنّه لم يبيّنه إلّا بشكل مجمل.
أقوال الفقهاء في لسان الحال
تنقسم أقوال الفقهاء في مسألة لسان الحال إلى قسمين: قسم ذهب إلى المنع. وآخر جوّز مثل هذا الأُسلوب، ولكن بشروط معيّنة:
القول الأوّل: المنع
أبرز مَن ذهب إلى المنع هو الشهيد السيّد محمّد الصدر قدس سره، في كتابه أضواء على ثورة الإمام الحسين عليه السلام، حيث تبنَّى القول بعدم جوازه بعد أن أورد جملة من الإشكالات، وبما أنّ كتابه ليس كتاباً فتوائيّاً، بل كان بحثاً تأريخيّاً، فلا نستطيع أن نجزم بأنّ فتواه في ذلك هي المنع مطلقاً، ولم نجد فيما بحثنا فتوى له بذلك.
أدلّة المانعين
لقد طُرِحت في هذا المجال مجموعة من الشواهد والأدلّة، نشير فيما يلي إلى بعضها:
الدليل الأوّل: ما قد يظهر من كلمات بعض الأعلام، وهو أنّ لسان الحال نوع من الكذب والمبالغة، وهو غير جائز في الشريعة المقدّسة، خصوصاً إذا كان على الذوات المقدّسة، كالنبيّ الأعظم، أو أمير المؤمنين، أو السيّدة الزهراء، أو الأئمّة من أبنائها المعصومين عليهم السلام[37].
ويمكن أن يُلاحظ عليه:
1ـ أنّ لسان الحال ليس داخلاً في الكذب، فهو وإن لم يكن تعبيراً حقيقيّاً عن مقال الإنسان، إلّا أنّه تعبير مجازيّ، وليس أُسلوب المجاز أُسلوباً داخلاً في الكذب، كيف ذا وقد وردت آيات، وروايات بهذا الأُسلوب؟!
2ـ إنّ لسان الحال إنّما يقال: إنّه كذب. لو كان كاتبه يدّعي أنّه يُعبّر عن حال الآخرين بنحو المطابقة والحقيقة، ولكن القائل للسان الحال لا يدّعي الحقيقة، وإنّما يدّعي تصويراً مجازيّاً ادعائيّاً فنّيّاً لِما سيقوله الآخرون لو نطقوا به، فلا يقول المنشئ للسان الحال: إنّ هذا نصّ وحقيقة ما أراد قوله الآخر، وإنّما يقول: إنّي من خلال قرائن حاليّة ومقاليّة، أدّعي أنّه لو تكلّم لقال ما عبّرتُ به عن كلامه.
3ـ إنّ الشعر الذي صوّر فيه دعبل حال السيّدة الزهراء عليها السلام، فيما لو كانت حاضرة في واقعة الطفّ، كان فيه لسان الحال واضحاً، وكان هذا التصوير بمرأى ومسمع من الإمام الرضا عليه السلام، فلو كان فيه كذب على الزهراء لَما سكت عنه الإمام المعصوم عليه السلام.
الدليل الثاني: وهو ما قد يظهر أيضاً من بعض كلمات السيّد محمّد الصدر قدس سره: وهو أنّنا لا يمكن أن نعلم حال المعصومين، ولا أصحابهم، ولا نسائهم، لكي نصوّر لسان حالهم للآخرين، وذلك لعلوّ مكانتهم من جهة، واختلاف الزمكانيّة بيننا وبينهم من جهة أُخرى، ولذلك نحن جاهلون بلسان حالهم، وإنّما يجوز لسان الحال مع العلم بالمطابقة لواقع ما عبر عنه بلسان الحال[38].
ويُلاحَظُ عليه:
1ـ أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى، إذ إنّ تصوير لسان الحال قد يكون لأشخاص غير معصومين كانوا حاضرين في الطفّ، كلسان حال أصحاب الحسين عليه السلام، أو القاسم، أو رملة، أو الرباب، أو غيرهم من الأشخاص.
2ـ إنّ الذوات المعصومة ـ كالنبيّ الأعظم، وأمير المؤمنين، والزهراء، والأئمّة المعصومين عليهم السلام ـ وإن كانت منازلهم عالية ومقاماتهم سامية إلّا أنّ هذا لا يمنع من وجود معرفة بسيطة بهم، من خلال كلماتهم، ومواقفهم، وسيرتهم، تجعل الشاعر يعلم لسان حالهم في الجملة.
3ـ لو سلّمنا بعدم العلم بحالهم بصورة دقيقة، فلا أقلّ من كفاية الاطمئنان بأنّ لسان حالهم كان كذا، من خلال مجموع القرائن، ولا شكّ في أنّ الاطمئنان حجّة عقلائيّة معتمدة، فهو كافٍ في جواز تصوير حال المعصومين عليهم السلام.
فالشاعر أو الناثر يكفيه الوثوق والاطمئنان في تصوير لسان حال المعصومين، مع كون الاطمئنان ناشئاً من قرائن، وشواهد قوليّة وفعليّة وسلوكيّة، قد قاموا بها في مواطن أُخر.
4ـ إنّ دعبل الخزاعيّ قد صوّر حال الزهراء عليها السلام، ولم يعترض عليه الإمام الرضا عليه السلام، بأنّك لا تستطيع معرفة حالها عليها السلام.
5ـ إنّ طبيعة الأُسلوب البلاغيّ في لسان الحال تقتضي البيان بصورة تتضمّن نحواً من أنحاء التصوير المجازيّ، ولا يصحّ مقايسته بالأساليب الحقيقيّة للبيان، فقرينة كونه مجازاً يَفهم منها المتلقّي كون الشاعر في مقام نقل تصوّراته عن الحادثة، لا نقل واقع الحادثة حرفيّاً.
الدليل الثالث: ما ذكره أيضاً السيّد الصدر قدس سره، وهو أنّ لسان الحال إنّما يُعبّر به عن الأقوال، لا عن الأفعال، والحال أنّنا نرى أنّ الشعراء ينقلون الأعمّ من الأقوال والأفعال، ويصوّرونها بلسان الحال[39].
ويُلاحَظُ عليه:
1ـ أنّ المتتبّع لهذا الأُسلوب ـ خصوصاً بما قدّمناه من تعريف ـ يرى أنّ لسان الحال يُعبّر فيه عن كلّ ما ليس هو بلسان مقال، سواء كان فعلاً، أو حركةً، أو إشارةً، أو كلاماً، في غير موطن الواقعة.
2ـ أنّ الرواية الشريفة التي تفيد: "ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه"، تُبيّن أنّ إحدى طرائق معرفة ما أضمر الإنسان, من كلام ومواقف, يُقرأ ويُعرف من خلال صفحات الوجه، وما يكون في صفحات الوجه من تغيُّر اللون أو الهيئة، إنّما هو من سنخ الأفعال لا الأقوال.
3ـ لو لم نقبل الأمرين، فلا أقلَّ من وجوب إبراز ما يدلُّ على لا بدّيّة كون لسان الحال للأقوال، لا للأفعال، وليس هنا ما يحصر هذا الأُسلوب بذلك.
وبدفع هذه الإشكالات نبقى على أصل مشروعيّة أُسلوب لسان الحال.
القول الثاني: الجواز
ذهب إلى الجواز أكثر المعاصرين من علمائنا الأعلام، كالسيّد الخوئيّ وأكثر تلامذته، منهم: السيّد السيستانيّ، وأُستاذنا الشيخ الفيّاض، والشيخ جواد التبريزيّ، والشيخ الوحيد، كما ذهب إلى ذلك أيضاً أُستاذنا الشيخ محمّد السند.
والذاهبون إلى الجواز وإن اتّحدوا في النتيجة، لكنّهم اختلفوا في الشروط التي إذا ما اجتمعت جاز هذا الأُسلوب، كما سيتضح.
فتوى السيّد الخوئيّ
لعلّ أقدم فتوى ـ حسب تتبّعي في هذه المسألة، هو ما صدر عن السيّد أبي القاسم الخوئيّ قدس سره جواباً عن استفتاء رُفع إليه، ونصّه: "بعض القصائد التي تُذكر في مصيبة سيّد الشهداء عليه السلام تُنسَب للإمام الحسين عليه السلام، أو لزينب عليها السلام، أو للإمام السجّاد عليه السلام، دون الإشارة إلى أنّ هذه الأبيات عن لسان حالهم، نعم، بعض النّاس يَعرف كون ذلك عن لسان الحال، وبعضهم الآخر لا يعرف ذلك، فما هو الحكم"؟
فأجاب السيّد الخوئيّ قدس سره: "لا بأس، ما لم يقصد واقع النسبة إليهم"[40].
تحليل فتوى السيّد الخوئيّ
إنّ فتوى السيّد الخوئيّ قدس سره دَّالة على الجواز، بشرط عدم قصد المقرئ أو الملقي لذلك الشعر أو النثر واقع النسبة إلى من حُكي لسان حالهم كالإمام السجّاد، أو السيّدة زينب، أو غيرهما, أي: إنّه قصد التعبير عن لسان حالهم، ولم يقصد لسان مقالهم، أو أنّهم تكلّموا هكذا.
هذا فيما إذا كانت القصيدة, أو المادّة النثريّة, لا إشارة فيها إلى لسان الحال، لا لفظاً ولا مقاماً.
وأمّا لو تضمّنت الإشارة إلى لسان الحال، من خلال إخبار السامع بأنّ القصيدة, مثلاً, دالّة على لسان الحال، كما اعتاد الخطباء على القول: بأنّ لسان حال السيّدة الزهراء كذا وكذا، أو لسان حال الحسين كذا وكذا، وهكذا، أو احتوت القصيدة على دلائل لفظيّة، أو سياقيّة دالة على أنّها لسان حال، لا لسان مقال، كتصديرها بـليتني، أو لولا، أو لو، أو غيرها من القرائن اللفظيّة، أو المقاميّة، فلا إشكال بالجواز.
فالسيّد الخوئيّ قدس سره جَوّز لسان الحال، إذا كان المقابل المستمع يَعرف أنّ هذا لسان حال، لا لسان مقال، بل جوّزه حتّى إذا لم يعلم السامع بأنّ هذا لسان حال، بشرط أن لا يكون الملقي للشعر أو النثر قد قصد أن ما يلقيه لسان مقال، لأنّ قَصْدَ ذلك يُوقع الملقي بالكذب، إذ إنّهم لم يقولوا ذلك واقعاً، بل إنّ الملقي أو الشاعر صوّر حالهم بذلك التصوير المجازيّ.
فتوى السيّد السيستانيّ
توالت الأجوبة حول هذه المسألة من بعض الفقهاء الأعلام، من تلامذة السيّد الخوئيّ قدس سره، كالسيّد السيستانيّ الذي سُئل: أنّه "هل يجوز التكلّم بلسان المعصومين عليهم السلام بالقصائد الحسينيّة، بحيث يطلق الكاتب عِنان خياله في تصوير الأحداث، واختلاق الكلام والمواقف؟ وهل يجوز تداولها بين المؤمنين؟".
فأجاب سماحته قائلاً: "باسمه تعالى: إنّما يجوز التكلّم بلسان حال المعصومين، فيما يُعتبر تمثيلاً صادقاً لأحوالهم ـ وفق المعايير الأدبيّة المتعارفة في أمثال ذلك ـ من دون إساءة إلى مقامهم الشريف، ومن ثَمّ يجب على المتكلّم بلسان الحال الاطلاع على الحوادث التاريخيّة، واستنطاق أحوالهم من خلالها، لتجسيدها بصورة أدبيّة مناسبة، بعيداً عمّا يُعتبر من قَبيل المبالغة والاختلاق، والكذب بالمقياس الأوَّلي، كما أنّ جواز تداولها يخضع للمقاييس التي أشرنا إليها"[41].
تحليل فتوى السيّد السيستانيّ
ذهب السيّد السيستانيّ إلى جواز لسان الحال، ولكن جعل شروطاً لمشروعيّته، إذا لم تتوفّر تلك الشروط، فلا يجوز مثل هذا الأُسلوب إنشاء وتأليفاً، ولا إلقاءً وتداولاً.
وهذه الشروط يمكن تلخيصها بالنحو التالي:
الشرط الأوّل: أن يكون في لسان الحال تصوير صادق وحقيقيّ لأحوال المعصومين عليهم السلام، بعيداً عن الخيال والمبالغة والكذب، وإلّا كان ممنوعاً.
الشرط الثاني: أن يراعي الشاعر, أو الناثر, المعايير الأدبيّة المتعارفة عند الأدباء في كتابة لسان الحال.
الشرط الثالث: أن يكون القائل بلسان الحال مطّلعاً على الحوادث التاريخيّة والشخصيّة للواقعة، أو الشخص الذي ينطق بلسان حاله.
وعليه، فالسيّد السيستانيّ جعل معايير ثلاثة لمشروعيّة هذا الأُسلوب الأدبيّ، فيما إذا كُتِب بلسان حال المعصومين.
أدلّة المجوّزين
تبيّن ممّا مرّ أنّ أُسلوب لسان الحال أُسلوب بلاغيّ، استخدمه القرآن الكريم في بعض آياته الكريمة، كما نصّ على ذلك كثير من المفسّرين، كما أنّ الروايات جاءت بهذا الأُسلوب في كثير من مضامينها، ومن هذين المصدرين يتبيّن أصل مشروعيّة لسان الحال، وصحّة استعماله شرعاً.
وهذه الصحّة في الاستعمال اعتضدت بورود أشعار مشهورة النسبة لآل البيت عليهم السلام، أو قِيلت بحضرتهم، وكان لسان الحال واضحاً فيها.
ويعضد الجواز أيضاً أنّ الأشعار التي كانت متداولة في زمانهم، والتي حوت لسان الحال، لم يصدر ردع من قِبلهم عنها، وهذا يكشف عن وجود سيرة قائمة وممضاة على مشروعيّة استخدام لسان الحال.
بل يمكن القول: إنّ الارتكاز في الجواز بمكان من الإمكان، بحيث لم تُثَرْ مسألة المنع عن مثل هذا الأُسلوب البيانيّ.
نعم، يمكن أن يقال بوجود بعض المحاذير التي قد تجعل ممنوعيّة لسان الحال واضحة، أو تجعل قيوداً عديدة للحاكمين بالجواز.
الرأي المختار في المسألة
نقلنا فيما سبق فتاوى بعض الأعلام المجوّزين للسان الحال، وهم وإن اتفقوا على الجواز، إلّا أنّهم اختلفوا في عدد الشروط المجيزة للسان الحال، فذهب السيّد الخوئيّ إلى الجواز بشرط واحد، وذهب السيّد السيستانيّ إلى الجواز بثلاثة شروط كما ذكرنا آنفا، فما هو الصحيح في المقام؟
إنّ الذي نراه صحيحاً في المقام هو مشروعيّة لسان الحال بشروط أربعة، وهي كالآتي:
الشرط الأوّل: أن يأتي الشاعر أو الكاتب بدوالَّ لفظيّة أو مقاميّة، تجعل المستمع يعلم أو يطمئن أنّ هذا القول بلسان الحال، لا بلسان المقال، وهذا الشرط نابع من لزوم دفع الإيهام عن المستمع بأنّ ما يقال ليس لسان مقال، حتّى لا يدخل في إطار الكذب.
ومن هذه الدلائل اللفظيّة تضمين الكلام لفظة لو، أو لولا، أو غيرها من الدوالِّ اللفظيّة أو المقاميّة، أو قول الشاعر قبل القصيدة بأنّ لسان حال فلان كذا وكذا.
وهذا التعبير واضح في قصيدة دعبل الخزاعيّ حيث قال: "أَفَاطِمُ لَوْ خِلْتِ الْحُسَيْنَ..."، فقد أورد كلمة لو كدالّ لفظيّ على كون التصوير, افتراضيّاً, لسان حال, وليس حضوراً فعليّاً، وكلاماً مقاليّاً من قِبل الزهراء عليها السلام.
الشرط الثاني: أن تكون المضامين النثريّة أو الشعريّة مناسبة لحال أو شأن أو مقام المقول عن لسانه، فلو نَقل المتكلّم لسان حال المعصوم, مثلاً, فإنّه يجب عليه أن يبتعد عن كلّ ما يَمسُّ المعصوم، من جهة عقديّة أو فقهيّة أو أخلاقيّة، وذلك لحرمة إسناد ما ينافي هذه الأُمور إلى لإمام المعصوم، بل حتّى إلى غير المعصوم من الأشخاص الذين لهم منزلة دينيّة، أو قداسة.
الشرط الثالث: أن يكون الأديب مطّلعاً على تأريخ الحوادث والشخصيّات، وكذا على أقوالهم، بحيث يَحصل له وثوق أو اطمئنان بأنّ لسان حالهم هكذا، أمّا لو كان لا علم له بالأحداث أو الشخصيّات التي يريد تصويرها، فكيف يصوّر لسان حالها وهي مجهولة الحال والمقال بالنسبة إليه؟!
الشرط الرابع: أن يكون هناك أصلٌ تأريخيٌّ، أو فقهيٌّ، أو غير ذلك ـ كما أشرنا إلى ذلك في بحث منهج النقل في العدد السابق من هذه المجلّةـ يجعله الشاعر مادّةً أوليّةً ويَبني عليها لسان الحال، لا أن يكون لسان حاله مبنيّاً على شيء لا واقع له، فمثلاً: واقعة الطفّ ومقتل الحسين أمر واقع، فعندما صوّره دعبل الخزاعيّ بلسان الحال، كان تصويراً لأمر حاصل بصورة فنيّة.
فإذا توفّرت هذه الشروط، قلنا بمشروعيّة لسان الحال في الأشعار التي تصوّر لنا لسان حال أصحابها، الذين تكلّم الشعراء عن لسانهم في واقعة الطفّ وأشخاصها.
بل قد يُقال باستحباب هكذا إنشاء للشعر، لكونه مشمولاً لأدلّة استحباب إنشاء الشعر رثاءً ومدحاً في آل البيت ونصرتهم، أو لأنّه مادّة إلقائيّة لكثير من الشعائر، كالخطابة الحسينيّة ومجالس الرثاء والعزاء، فيدخل بعنوان قاعدة الشعائر الحسينيّة التي بُحثت في محلّها.
مثالان تطبيقيّان
سننقل فيما يلي مقطعين شعريّين، بوصفهما مثالين لِما تداوله الشعراء من الكلام بلسان الحال، وهما يحتويان على شروط الجواز, لهذا الأُسلوب البلاغيّ التصويريّ, التي ذكرناها.
المثال الأوّل
قول الشاعر مصِّوراً لسان حال الإمام الحسين عليه السلام مخاطباً أبا الفضل العبّاس:
عبّاس كَبْشَ كَتيبَتِي وكنَانَتي وسَرِيَّ قَوْمِي بَلْ أَعَزَّ حُصُونِي
يَا سَاعِدِي في كُلِّ مُعتَرَكٍ بهِ أسْطُو وَسَيْفُ حِمَايَتِي بِيَمِينِي
لِمَنِ الِّلوَا أُعْطِي وَمَنْ هُوَ جَامِعٌ شَمْلِي وَفِي ضَنَكِ الزِّحَامِ يَقيِنِي
أَمُنَازِلَ الأقْرَانِ حَامِلَ رايتِي ورُوَاقَ أَخْبِيَتِي وبَابَ شُؤُونِي
عبّاسُ تَسْمَعُ زَينبَاً تَدْعوُكَ مَن لِي يا حِمَايَ إِذَا الْعِدَى نَهَرُونِي
أَوَلَسْتَ تَسْمَعُ مَا تَقُولُ سُكَينَةٌ عَمَّاهُ يَوْمَ الْأَسْرِ مَنْ يَحْمِينِي[42]
المثال الثاني
قول الشاعر مصوّراً لسان حال السيّدة زينب عليها السلام مخاطبة الإمام الحسين عليه السلام:
فَـأَتَتْه زَيْـنَبُ بِـالْجَوَادِ تَقُودُهُ
وَتَـُقُولُ قَدْ قَطَّعْتَ قَلْبِيَ يَا أَخِي
فَلِمَنْ تُنَادِي وَالْحُمَاةُ عَلَى الثَّرَى
مَـا فِـي الْخِيَامِ وَقَدْ تَفَانَى أَهْلُهَا
أَرَأَيْـتَ أُخـتاً قَـدَّمَتْ لِشَقِيْقِهَا
فَـتَبَادَرْت مِـْنُه الدُّمُوعُ وَقَالَ يَا
فَبَكَتْ وَقَالَتْ يَا بْنَ أُمِي لِيْسَ لِي
يَا نُورَ عَيْنِي يَا حُشَاشَةَ مُهْجَتِي
وَرَنَـتْ إِلَـى نَحْوِ الْخِيَامِ بِعَوْلَةٍ
قُومُوا إِلَى التَّوْدِيعِ إِنّ أَخِي دَعاَ
أَللهُ مَـا حَـالُ العَلِيْلِ وَقَدْ رَأَى
فَـيَقُومُ طَـوْراً ثُـمَّ يَـكْبُو تَارَةً
فَـغَدَا يُـنَادِي وَالـدُّمُوعُ بَوَادِرٌ
وَالـدَّمْعُ مِـنْ ذِكْرِ الْفِرَاقِ يَسِيْلُ
حُـْزناً فَـيَا لَيْتَ الْجِبَالَ تَزُولُ
صَـرْعَى وَمِـنْهُمْ لَا يُبَلُّ غَلِيلُ
إلّا نِـسَـاءٌ وُلَّـهٌ وَعَـلِـيلُ
فَـرَسَ الْمَنُونِ وَلَا حِمًى وَكَفِيلُ
أُخْـتَاهُ صَـبْراً فَالْمُصَابُ جَلِيلُ
وَعَلَيْكَ مَا الصَّبْرُ الجَمِيلِ جَمِيلُ
مَـنْ لِـلْنِّسَاءِ الـضَّائِعَاتِ دَلِيلُ
عُظْمَى تَصُبُّ الدَّمْعَ وَهْيَ تَقُولُ
بِـجَـوَادِهِ إِنَّ الْـِفرَاقَ طَـِويلُ
تِـلْكَ الْـمَدَامِعَ لِـلْوَدَاعِ تَسِيلُ
وَعَـرَاهُ مِـنْ ذِكْرِ الوَدَاعِ نُحُولُ
هَلْ لِلْوُصُولِ إِلَى الْحُسَيْنِ سَبِيلُ [43]
[1] الشيخ مشتاق الساعديّ. (مجلة الإصلاح الحسيني, الصادرة عن مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية, التابعة للعتبة الحسينية).
[2] الغزاليّ، أبو حامد، إحياء علوم الدّين: ج1، ص178.
[3] الطباطبائيّ، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج8، ص308.
[4] البحرانيّ، يوسف، كشكول البحرانيّ: ج1، ص430.
[5] الآلوسيّ، محمود، روح المعاني: ج9، ص55.
[6] استفدنا ذلك من محضر درس سماحة الشيخ محمّد السند، في محاضرة خاصّة حول عاشوراء.
[7] استفدنا ذلك أيضاً من محضر درس سماحته، في محاضرات خاصّة حول عاشوراء.
[8] سبأ: آية15.
[9] البيضاويّ، عبد الله بن محمّد، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (تفسير البيضاويّ): ج4، ص396. واُنظر: الطبرسيّ، الشيخ الفضل بن الحسن تفسير جوامع الجامع: ج3، ص95.
[10] سورة التوبة, الآية:46.
[11] مغنية، محمّد جواد، تفسير الكاشف:ج4، ص50.
[12] سورة الأعراف, الآية:172.
[13] الطباطبائيّ، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج8، ص308.
[14] سورة فصّلت, الآية:11.
[15] الشيرازيّ، ناصر مكارم، تفسير الأمثل: ج5، ص289.
[16] الكاشانيّ، محسن، المحجّة البيضاء: ج1، ص274.
[17] سورة يوسف, الآية:26.
[18] الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج7، ص194.
[19] سورة الأنبياء, الآية:87.
[20] التبريزيّ، جواد، الأنوار الإلهيّة في المسائل العقائديّة: ص32.
[21] سورة ق, الآية:30.
[22] الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل: ج17، ص47.
[23] خطب الإمام عليّ عليه السلام، نهج البلاغة: ج4، ص7.
[24] الليثيّ، عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ: ص420.
[25] الريشهريّ، محمّد، ميزان الحكمة: ج2، ص1574.
[26] الكلينيّ، محمّد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص12.
[27] المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج5، ص257.
[28] المصدر السابق: هامش ص57.
[29] الصدوق، محمّد بن عليّ، عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج2، ص34.
[30] ابن طاووس، عليّ موسى، إقبال الأعمال: ج1، ص419ـ420.
[31] الرازيّ، فخر الدّين، تفسير الرازيّ: ج22، ص94.
[32] الأصفهانيّ، أبو الفرج، الأغاني: ج1، ص116.
[33] الجاحظ، البيان والتبيين: ص58.
[34] اُنظر: المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج43، ص217.
[35] المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص257.
[36] المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج50، ص213.
[37] الصدر، محمّد محمّد صادق، أضواء على ثورة الإمام الحسين عليه السلام: ص152.
[38] الصدر، محمّد محمّد صادق، أضواء على ثورة الإمام الحسين عليه السلام: ص152.
[39] الصدر، محمّد محمّد صادق، أضواء على ثورة الإمام الحسين عليه السلام: ص153.
[40] الخوئيّ، أبو القاسم، صراط النجاة: ج2، ص443.
[41] موقع السيّد السيستانيّ الرسميّ، أسئلة حول الشعائر.
[42] شبَّر، جواد، أدب الطفّ: ج7، ص113. والقصيدة للشيخ حسن قطفان النجفيّ.
[43] ابن نصّار، محمّد بن نصّار، النصاريّات الكبرى: ص58.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|