أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-10-28
314
التاريخ: 9-10-2014
2016
التاريخ: 22-04-2015
2162
التاريخ: 24-11-2015
2702
|
إنّ
قيمة أي قانون مرتبطة بميزان إجرائه، فأفضل القوانين إذا لم تطبق على الأرض لا
تعدو أن تكون مجرّد حبر على ورق، ولا تحلُّ أي مشكلة من مشاكل المجتمع، وبالعكس
فإن أضعف القوانين إذا طبقت بشكل جيد ودقيق فإنّه يمكنها أن تحلَّ كثيراً من
مشكلاته.
ولهذا،
وردت في الإسلام، والحكومة الإسلامية برامج موسعة وكثيرة لضمان إجراء القوانين
والحدّ من التّخلف عنها، وهذه البرامج تشتمل على الأمور التّالية :
1-
الجهاز القضائي.
2-
وظيفة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
3-
مسألة الحسبة.
[والان]
نبحث في مسألة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وموضوع الحسبة.
يعتبر
إجراء الحدود والحسبة في الواقع من فروع الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لإننا
نعلم بأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر له ثلاث مراحل، إثنتان منها وظيفة
عامة النّاس بنحو الواجب الكفائي، ومرحلة واحدة من وظائف الحكومة، والمراحل هي :
1-
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بالقلب (أي أنْ يتأذى القلب من المخالفات
والذنوب التي يرتكبها الآخرون، ويميل إلى الخير والصلاح، (وقال البعض أنّ المقصود
من هذه المرحلة هو أن يظهر انزجاره أو ميله القلبيين بوجهه أو عمله بصورة قطيعة
أو صلح للمرتكبين) وهذه وظيفة عامة الناس في قبال ترك الواجبات والإتيان
بالمحرمات.
2-
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باللسان، ويكون إبتداءً بالكلمات اللطيفة اللينة
الحبيبة والوعظ والحكمة، ثم بالكلمات الحادّة الخشنة (وهي وظيفة عامة النّاس
أيضاً).
3-
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باليد، وبتعبير آخر اتخاذ الأجراءات العملية
والقاسية أحياناً في قبال تاركي الواجبات ومرتكبي المحرمات سواءً عن طريق العقاب
البدني أو الحبس أو الأعمال المشابهة الاخرى.
وكما...في
الابحاث الفقهيّة فإنّ هذه المرحلة من وظائف الحكومة الإسلامية ولا يمكن أن يسمح
للناس بالقيام بها، لأنّ ذلك يؤدّي إلى وقوع الهرج والمرج وأنواع الفوضى الاخرى.
وهذا
الأمر هو بالضّبط ما جاء بعنوان وظيفة الحسبة في الفقه الإسلامي وكلمات الفقهاء
ومؤرخي الإسلام.
وبعد
هذه الإشارة نرجع إلى الآيات القرآنيّة في هذا المضمون :
1- {كُنْتُمْ خَيْرَ امَّةٍ اخْرِجَتْ لِلْنّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ}. (آل عمران/ 110)
2- {وَلْتَكُنْ مِّنْكُمْ امَّةٌ يَدْعُونَ الَى
الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. (آل عمران/ 104)
3- {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ اهْلِ الْكِتَابِ امَّةٌ
قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ*
يُؤْمِنُونَ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَاولَئِكَ مِنَ
الصَّالِحيِنَ}. (آل عمران/ 113- 114)
4- {وَالْمُؤمِنُونَ والْمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
اوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر
وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ
اولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ انَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة/ 71).
5- {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحامِدُونَ
السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
والنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ
الْمُؤمِنِينَ} (التوبة/ 112).
6- {الَّذِين انْ مَّكَّنّاهُمْ فِى الارْضِ
أَقامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَامَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ
الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الامُورِ}. (الحج/ 41)
7- {يَا بُنَىَّ اقِمِ الصَّلَاةَ وَأمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا اصَابَكَ انَّ ذلِكَ
مِنْ عَزْمِ الامُورِ} (لقمان/ 17).
خطوة
مهمة في طريق إجراء الأحكام :
ما
جاء في هذه الآيات هو أكثر ما جاء من آيات القرآن المجيد في خصوص فريضة الأمر
بالمعروف والنّهي عن المنكر المهمّة، والتي تبين أبعادها المختلفة.
فالآية
الأولى تصوّر الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بعنوان أمرٍ عام وتعتبره من خصائص
الأمة الإسلامية، لا بمعنى أنّه لم يوجد في الأمم السابقة أصلًا، بل بمعنى أنّه
يعدُّ أصلًا أصيلًا في الأمة الإسلاميّة وركناً ركينا فيها حيث يقول : {كُنْتُمْ خَيْرَ امَّةٍ اخْرِجَتْ لِلْنّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ}.
والملفت
للنظر أنّها من جهة تعتبر الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر خصوصيّة من الخصائص
التي أدّت إلى أفضلية الإسلام على سائر الأديان وأنّ الأمّة الإسلامية هي الأمّة
النموذجية المثلى ومن جهة أُخرى تقدم هذه الوظيفة على الإيمان باللَّه! وهذا يدل
على أنّه إذا لم تؤدّ هذه الوظيفة على المستوى العام بصورة أصلين أساسيّين
اجتماعيين، فلا ضمان لاستمرار إيمان الناس.
نعم،
فهو كذلك، فلو نُسِيتَ هاتان الوظيفتان، ضعف الإيمان في القلوب، وذبلت غصونه
وأوراقه، والنّتيجة هي اضمحلال الإيمان والإسلام.
ثُمّ
إنّه من هذا البيان يتضح جيداً أنّ المسلمين إنّما يكونون أُمّة متميزة وممتازة ما
داموا يدعون إلى الخير والصلاح ويجاهدون المنكر والفساد، فإذا ما نسوا ذلك لم
يعودوا خير أمة ولم يترشح منهم النفع للمجتمع البشري!
نعم
.. فالمسلمون إنّما يمكنهم أن يكونوا قادة الأمم في العالم وأن تستفيد البشريّة
جمعاء من وجودهم، فيما لو طبقوا هاتين الوظيفتين الكبيرتين.
وبتعبير
آخر : كل واحدٍ من أفراد الأمة الإسلاميّة، لابدّ أن يشعر بالمسؤولية، وخلافاً لما
نراه اليوم حيث توكل مسؤولية مكافحة الفساد إلى مجموعة معينة من المأمورين
الحكوميين ويبقى سائر أفراد المجتمع في حلٍّ من تحمل هذه المسؤولية الاجتماعيّة
المهمّة فيبقون متفرجين على الممارسات الاجتماعية السلبية بلا حراك.
فالآية
تؤكد على أنّ هذه المسؤولية مسؤولية عامة لابدّ أن يتحملها الصغير والكبير، الشّاب
والشّيخ والرّجل والمرأة والعالم والجاهل.
واستعمال
كلمة «المعروف» و «المنكر» في الآية لنكتة مهمة أُخرى، إذ هي من جهة،
تبيّن أنّ الواجبات والمحرمات امورٌ يدركها ويعرفها عقل الإنسان وروحه جيداً، فهو
يعشق الواجبات، في حين أنّ المنكرات أُمور بعيدة عن ذوقه فهو يجهلها وينفر منها.
ومن
جهة أخرى، فإنّ من البديهي إننا لو نسينا هاتين الوظيفتين واعتاد المحيط على
المنكرات والبعد عن الخير والمعروف، صار المنكر معروفاً والمعروف منكراً في نظر
الناس، وهذه أكبر خسارة يمكن أن يتحملها مجتمع من المجتمعات، وهذا البلاء هو الذي
عمَّ اليوم كثيراً من المجتمعات العالمية، حيث تبدل المعروف عندهم منكراً والمنكر معروفاً!
والآية
الثانية ناظرة إلى قسم آخر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي تختص بها
مجموعة من الامّة الإسلاميّة، وبتعبير آخر هي مختصة بالحكومة وموظفي الحكومة حيث
ورد فيها : {وَلْتَكُنْ مِّنْكُمْ امَّةٌ يَدْعُونَ الَى
الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وعندما
نضع هذه الآية في قبال الآية السّابقة نجد أنّ الآية السّابقة تتحدث عن مرحلة من
مراحل هاتين الوظيفتين المهمتين غير المرحلة التي تتحدث عنها هذه الآية، فتلك
مرحلة القلب واللسان وهذه مرحلة استخدام القوة والشدَّة، والملفت للنظر هو أنّ هذه
الآية تحصر الفلاح بأولئك الأشخاص الّذين يؤدون هاتين الوظيفتين العظيمتين
(إلتفتوا إلى أنّ جملة أولئك هم المفلحون
تدل على الحصر) (1).
والتعبير
بالأمَّة، قد يكون إشارة إلى أنّ هذه الوظيفة لابدّ أنْ تؤدّى بصورة «جماعية»، وأن تكون مقترنة «بمنهج تنظيم»، ونحن نعلم بأنّ الأمور الّتي تحتاج إلى
شدة والتي تؤدّى من قبل الحكومة لا تكون ممكنة بغير الشّرطين.
وذيل
الآية يبيّن بوضوح أنّ كل فلاح ونجاح في الدّنيا والآخرة وفي الفرد والمجتمع، لا
يتحقق إلّافي ظل هاتين الوظيفتين.
وفي
الآية الثّالثة، إشارة إلى نكتة ظريفة اخرى في مجال هاتين الوظيفتين العظيمتين،
تتضح لنا من خلال دراسة سبب النزول.
فقد
ورد في سبب نزول هذه الآية أنّ مجموعة من علماء وأخبار اليهود كانوا قد أسلموا
والتحقوا بصفوف المسلمين، ممّا أدّى إلى غضب زعماء اليهود جدّاً، فمن أجل إذلال
وتحقير هؤلاء المؤمنين ادّعى زعماء اليهود أنّ ثلّة من أشرارهم قد اعتنقوا الإسلام
وإنّهم لو كانوا صالحين ما تركوا دينهم!!
فالآية
المذكورة أعلاه تجيب هؤلاء وتقول : {لَيْسُوا
سَوَاءً مِّنْ اهْلِ الْكِتابِ امَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آناءَ
اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوف ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى
الْخَيْراتِ وَاولَئِكَ مِنَ الصَّالِحيِنَ}.
فالآية
تلخص خصائص الصّالحين من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام في ثلاثة أمور :
الإيمان بالمبدأ والمعاد، ثُمّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وفي النّهاية
المسارعة في الخيرات. وهذا يدل على أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يعدُّ من
أبرز مظاهر الصّالحين بعد الإيمان باللَّه ويوم القيامة، وأنّه أصل كل الخير.
وفي
الآية الرّابعة، يعتبر الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أول خصوصيّة من خصائص
المؤمنين، حتّى أنّ إقامة الصلاة وأداء الزّكاة وإطاعة اللَّه والنّبيّ صلى الله
عليه و آله جاءت بعدها، وهذا يدل على أنّ هاتين الوظيفتين العظيمتين إذا لم
تطبقاً، فإنّ أساس العبادة والطّاعة وعبوديّة اللَّه تتعرض للخطر.
يقول
اللَّه تعالى : {وَالْمُؤمِنُونَ والْمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
اوْلَياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ
اولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ انَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ}.
وقد
احْتُمِلَت عدّة أمور في تفسير جملة {بَعْضُهُمْ
اوْلِياءُ بَعْضٍ}، من جملتها أنّ هؤلاء منسجمون في الإيمان
باللَّه ومباني الإسلام- والآخر هو أنّ أحدهم ينصر الآخر في امور الدين والدنيا،
والثّالث هو أنّ هؤلاء بالتّعليم والتّربية يخرجون الآخرين صوب درجات الكمال
العالية.
ومن
الواضح أنّ هذه التفسيرات الثّلاثة لا منافاة فيما بينها، ويمكن أن تجتمع في مفهوم
الآية، لأنّ الولاية في الآية جاءت مطلقة فتشمل ارتباط المؤمنين ببعضهم في أبعادٍ
مختلفة.
وفي
الآية الخامسة وبعد ذكر التجارة المربحة التي يتّجر بها المؤمنون الحقيقيون مع
اللَّه، أي الجهاد في سبيله، حيث يشرون أنفسهم وأموالهم بالجنة الغالية، وبعد بيان
أنّ اللَّه عزّوجلّ يبارك لهم هذه المعاملة ويعدها فوزاً عظيماً، يلخّص أوصاف
هؤلاء في تسعة أمور ويقول : {التَّائِبُونَ
الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ
الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدودِ
اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤمِنِينَ}.
وفي
الواقع فإنّ الأوصاف السّتة المذكورة أوّلًا، إشارة إلى مراحل العبادة والطّاعة
والعبوديّة في هؤلاء، والأوصاف الثّلاثة الأخيرة (وهي الأمر بالمعروف والنّهي عن
المنكر وحفظ الحدود) إشارة إلى جهاد هؤلاء الاجتماعي في طريق إرساء مباني الحق
والعدالة وإجراء الأحكام الإلهيّة، وبعد هذه الأمور جاءت البشارة الإلهيّة لهم
بشكل مطلق.
وبتعبير
آخر، فإنّ الأوصاف الستة الاولى ناظرة إلى علاقة الخلق بالخالق، والثّلاثة الأخيرة
ناظرة إلى علاقة الخلق بأنفسهم وهذه البشارة الّتي ذكرت في آخر الأمر تشمل سعادة
الدّنيا وسعادة الآخرة معاً.
وفي
الآية السّادسة، إشارة إلى بُعدٍ آخر من هذه المسألة وهو البعد الحكومتي، وبتعبير
آخر تعتبر الآية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أحد وظائف الحكّام الإسلاميين
المهمّة، حيث يقول عزّوجلّ :
{الَّذِينَ انْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الارْضِ
أَقامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَامَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ
الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الامُورِ}.
وفي
الحقيقة فإنّ الوعد بنصر اللَّه، الوارد في الآية السّابقة لهذه الآية {ولَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} مختصة بمثل هؤلاء الأشخاص، الذين إذا ما
تسلموا زمام القدرة والحكم في الأرض فإنّهم مضافاً إلى أدائهم الصّلاة وحدهم،
يقيمونها أيضاً في كل مكان، ويؤتون الزكاة لمستحقيها، ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر.
هذا
على الرّغم من أنّ البعض يتصور أنّ مراد الآية، المهاجرون فقط، ولكن من الواضح أنّ
الآية الشّريفة لها مفهوم أوسع وتشمل الجميع حتى قيام القيامة.
والنكتة
التي لابدّ من الإلتفات إليها أيضاً هي أنّ القرآن الكريم غالباً ما يعبر بلفظ
«الإقامة» في خصوص الصّلاة إلّافي مورد المنافقين حيث عبر بالقيام بدل الإقامة،
حيث يقول واصفاً إيّاهم،
{وَإِذَا قَامُوا الَى الصَّلَاةِ
قَامُوا كُسَالى}. (النّساء/ 142)
وهذا
التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ المؤمنين الحقيقيين لا يؤدّون الصلاة بأنفسهم فحسب،
بل إنّهم يحاولون إقامة الصلاة في كل المجتمع، وقال البعض إنّ ذلك إشارة إلى أنّ
هؤلاء المؤمنين ليس فقط يأتون بظاهر الصّلاة وصورتها بل إنّهم يحاولون إقامة
الصلاة بكل محتواها الحقيقي وشرائط صحتها وكمالها (والجمع بين هذين التفسيرين ليس
مشكلًا).
وفي
الآية السّابعة والأخيرة نلاحظ نكتة اخرى حول الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر،
وهي أنّ هذين الأمرين المهمين ليسا من مختصات الشريعة الإسلامية فقط، بل إنّ هناك
تأكيد شديد عليهما في الأمم السّالفة أيضاً (وإن كانتا قد أخذتا شكلًا موسعاً
وأساسياً في الشّريعة الإسلاميّة).
فينقل
لنا القرآن الكريم عن لسان لقمان ذلك الرّجل الحكيم العالم :
{يَا بُنَىَّ اقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى ما اصَابَكَ انَّ ذلِكَ
مِنْ عَزْمِ الامُورِ}.
فهنا
اعتبرت الآية أنّ رمز انتصار الإنسان في أربعة أُمور :
إقامة
الصلاة، الأمر بالمعروف، النّهي عن المنكر، والصّبر.
وجملة «إِن ذَلِكَ مِنْ عَزمِ الأمُورِ» قد تكون إشارة إلى خصوص الصبر المذكور في
الذيل، وقد تكون شاملة للأصول الأربعة جميعاً.
ولابدّ
هنا من التدقيق في هذه النّكتة وهي أنّ اقتران الصّبر بمسألة الأمر بالمعروف
والنّهي عن المنكر إشارة إلى الارتباط الوثيق بين هذين الأمرين، إذ إنّ أداء هاتين
الوظيفتين الإلهيتين المهمتين يقترن أحياناً بالمشاكل والصعوبات، ولا يمكن تحقق
الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر إلّا بالصّبر والإستقامة. كما أنّ هذين الأمرين
على ارتباط وثيق أيضاً بالصلاة، لإننا نعلم جيداً بأن الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر، أو بتعبير آخر هي الأساس الأصلي للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر «إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الفَحشَاءِ والمُنكَرِ».
(العنكبوت/ 45)
______________________________
(1) ما قاله البعض من أنّ «من» التي وردت في
الآية زائدة أو أنّها للبيان، وأنّ مفهوم الآية شاملٌ لكل المؤمنين، مخالف لظاهر
الآية ، فالظاهر منها هو أنّ «من» تبعيضية، أي أنّه يجب على مجموعة منكم فقط القيام
بهذه الوظيفة.
وكذلك فإنّ
ما قاله البعض من أنّ «من» تبعيضية للواجب الكفائي، مخالف للظاهر أيضاً، لأنّ
الواجب الكفائي واجب على الجميع، غايته أنّ نوع الوجوب فيه يختلف عن نوع الواجب
العيني (وتوضيح ذلك موكول إلى علم الأصول).