أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-03-2015
3479
التاريخ: 7-03-2015
3804
التاريخ: 12-6-2022
2057
التاريخ: 7-4-2016
3376
|
خيانة قائد الجيش :
وصل عبيد اللّه بن العباس إلى « مسكن »[1] فعسكر فيها ، وقابل العدوّ وجها لوجه ، وعندها بدأت تظهر بوادر الفتنة بوضوح ، وانطلقت دسائس معاوية تشقّ طريقها إلى المعسكر حيث تجد المجال الخصب بوجود المنافقين ومن يؤثرون العافية ، وكانت الشائعة الكاذبة « أنّ الحسن يكاتب معاوية على الصلح فلم تقتلون أنفسكم ؟ »[2].
وارتبك الموقف أمام قائد الجيش وسرت همهمة في الجيش عن صدق الشائعة أو كذبها ، فبين مصدّق لها وبين مكذّب ، وبين من يحاول إثباتها على أيّ حال ، ولم يحاول القائد عبيد اللّه أن يتأكّد من كذب هذه الشائعة وبعدها عن الواقع ، لأنّ الإمام الحسن ( عليه السّلام ) كان مشغولا في تلك الأثناء ببعث الرسل إلى الأطراف وتهيئة الكتائب اللاحقة بالطلائع ومكاتبة معاوية بالحرب وبعث الحماس بخطبه اللاهبة المحرضة على القتال ، ولم يكتب في صلح ولم يكن من رأيه آنذاك أبدا .
فسرت الحيرة في نفس قائد الجيش ممّا دفعه للانطواء ، فأخذ يفكّر في مصيره ، وكان قد بلغه تخاذل الكوفيين عن التحرّك نحو المعركة وتباطؤهم عن تلبية نداء الجهاد ، فبدت في نفسه بعض التصورات من أنّه في موقف لا يغبط عليه ، وأنّ هذه الطلائع من جيش الكوفة والتي تقف في مواجهة جيش الشام المكتظ لا يمكن أن تقاوم تلك الجموع الحاشدة أو تلتحم معها في معركة مع فقدان توازن القوى بينها .
وبينا هو يعيش هذه الحيرة وتلك الأوهام وصلته رسائل معاوية وهي تحمل في طيّاتها عوامل الإغراء التي تمسّ الوتر الحسّاس في نفس ابن عباس من حبّه للتعاظم وتطلّعه للسبق ، وكان معاوية قد خبر نقاط الضعف التي يحملها عبيد اللّه هذا .
وكانت رسالة معاوية تحمل : « أنّ الحسن قد راسلني في الصلح ، وهو مسلّم الأمر إليّ ، فإن دخلت في طاعتي كنت متبوعا ، وإلّا دخلت وأنت تابع » وجعل له فيها ألف ألف درهم[3].
وكان أسلوب معاوية في حربه مع أعدائه هو استغلال نقاط الضعف في خصومه ، واستغلال كلّ ما من شأنه أن يوهن العزيمة ويشلّ القوى فيهم .
وهكذا انكفأ عبيد اللّه بن عباس على نفسه واستجاب لداعي الخيانة ، ملتمسا لعدوّه الذي وتره بابنيه ، مخلّفا وراءه لعنة التاريخ ، وقد شاء لنفسه أن ينحدر إلى هذا المستوى الساقط فيدخل حمى معاوية ليلا دخول المهزوم المخذول ، الذي يأباه كلّ حرّ ينبض عنده الضمير .
وينبلج الصبح عن افتقاد المعسكر قائده ، فترقص قلوب المنافقين والمسالمين ، وتدمى عيون المخلصين ، هذا والحسن ( عليه السّلام ) لا يزال في موقفه الصلب بضرورة مقاتلة معاوية .
ويكاد الأمر ينتقض على الإمام ( عليه السّلام ) في مسكن ، ولكنّ القائد الشرعي - وهو الرجل المؤمن الصامد قيس بن سعد بن عبادة الذي جعله الإمام ( عليه السّلام ) خلفا لعبيد اللّه بن العباس إذا غاب عن القيادة - حاول جادا في أن يحافظ على البقية الباقية من معنويات الجيش المنهارة بانهزام القائد وإقرار التماسك بين فرقه وأفراده ، فقام فيهم خطيبا وقال :
« أيّها الناس ! لا يهولنّكم ولا يعظمنّ عليكم ما صنع هذا الرجل المولّه ، إنّ هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قطّ ، إنّ أباه عمّ رسول اللّه خرج يقاتله ببدر ، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري ، فأتى به رسول اللّه فأخذ فداءه فقسّمه بين المسلمين ، وإنّ أخاه ولّاه على البصرة فسرق ماله ومال المسلمين ، فاشترى به الجواري وزعم أنّ ذلك له حلال ، وإنّ هذا ولّاه على اليمن فهرب من بسر بن أرطاة ، وترك ولده حتى قتلوا ، وصنع الآن هذا الذي صنع »[4].
وهكذا اندفع قيس الصامد في موقفه ، المؤمن بهدفه ، يودّع سلفه بهذه الكلمات الساخرة اللاذعة التي تكشف عن الماضي الهزيل له ، وعن نفسيته الساقطة التي دفعته للتردّي في هذا المنحدر السحيق .
وقد فعل قيس في نفوس سامعيه ما أراد ، فانطلقت الحناجر بحماس وتوثّب تنادي : « الحمد للّه الذي أخرجه من بيننا »[5] فصنع قيس حالة من الشدّ والعزيمة في ذلك الموقف الذي كان للانهيار المؤلم الوشيك عرضة ، وعاد النظام يسيطر على عناصر الجيش ، واطمأنّ الناس لقائدهم الجديد .
توالي الخيانات في جيش الإمام ( عليه السّلام ) :
وصلت أنباء استسلام عبيد اللّه لعدوّه إلى المدائن ، وشاع جوّ من المحنة في النفوس ، وشعر الإمام ( عليه السّلام ) بالطعنة في الصميم تأتيه من أقرب الناس اليه وأخصّهم به ، وتسرّبت اليه أنباء عن مكاتبة بعض رؤساء الأجناد والقوّاد لمعاوية وطلبهم الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، ومكاتبة معاوية لبعضهم بالأمان والمواعيد[6]. وممّا يذكر : « أنّ معاوية دسّ إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيسا أفرد كلّ واحد منهم بعين من عيونه : أنّك إذا قتلت الحسن فلك مائة ألف درهم ، وجند من أجناد الشام ، وبنت من بناتي » .
فبلغ الحسن ( عليه السّلام ) ذلك فاستلأم ولبس درعا وسترها ، وكان يحترز ولا يتقدّم للصلاة إلّا كذلك ، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة[7].
وهكذا توالت الخيانات في جيش الإمام ، ومن ذلك : « أنّ الحسن بعث إلى معاوية قائدا من كندة في أربعة آلاف ، فلمّا نزل الأنبار بعث اليه معاوية بخمسمائة ألف درهم ، ووعده بولاية بعض كور الشام والجزيرة ، فصار اليه في مائتين من خاصّته ، ثم بعث رجلا من مراد ففعل كالأول بعد ما حلف الأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنّه لا يفعل ، وأخبرهم الحسن أنّه سيفعل كصاحبه »[8].
ويقف الإمام الحسن ( عليه السّلام ) أمام هذه النكبات والمحن المتتالية ، متطامنا على نفسه ناظرا في أمره ، وإلى أين ستنتهي به هذه المسيرة .
والذي يظهر لنا من بعض النصوص أنّ ابن عباس لم يفرّ وحده ، بل خرج معه عدد وفير من الزعماء والقوّاد والجند ، وهو أمر يمكن أن يساعد عليه الجوّ المشحون بالتشاؤم واليأس من توقّع انتصار الإمام ( عليه السّلام ) على عدوّه .
وهكذا أخذت الأنباء تتوارد على الإمام في المدائن بفرار الخاصة من القواد والزعماء ، وقد تبع انهزام هؤلاء فرار كثير من الجند ، حيث كان انهزامهم سببا لحدوث تمرّد وفوضى شاملة في الجيش .
وقد ارتفعت أرقام الفارّين إلى معاوية بعد فرار عبيد اللّه وخاصّته إلى ثمانية آلاف ، كما يذكر اليعقوبي في تاريخه فيقول : « إنّه - يعني معاوية - أرسل إلى عبيد اللّه بن عباس ، وجعل له ألف ألف درهم ، فصار اليه في ثمانية آلاف من أصحابه ، وأقام قيس بن سعد على محاربته »[9].
وإذا أخذنا في اعتبارنا أنّ الجيش الذي كان في « مسكن » إثنا عشر ألفا فستكون نسبة الفارّين منه إلى معاوية وهي ثلثا الجيش نسبة كبيرة ، في حين كان الجيش الذي يقوده معاوية لمواجهة الحسن ( عليه السّلام ) ستين ألفا تضاف اليه آلاف الفارّين من جيش الحسن ( عليه السّلام ) .
وحقّا أنّها لصدمة رهيبة ومحنة حادّة تتداعى أمامها القوى ، وتنفرج بها أنياب الكارثة عن مأساة مرعبة يتحمّل جزء كبيرا من مسؤوليّتها عبيد اللّه بن العباس أمام اللّه والتاريخ .
والشيء الذي يمكن فهمه من هذا الفرار الجماعي هو وجود تآمر على الخيانة في أوساط جملة من الزعماء والوجوه ، وإلّا فبأيّ قاعدة منطقية يمكن تفسير فرار ثمانية آلاف مقاتل من جيش يستعد للقتال في فترة قصيرة ، وهل يكون ذلك إلّا عن سابق تفكير وإحكام لخطة خائنة ؟ ! .
ويقف الإمام ( عليه السّلام ) باحثا عن المخرج من هذا المأزق الذي تداعت به معنويات جيشه في « مسكن » وتزلزلت منه قوى جيشه في المدائن ، خاصة إذا نظر بعين الموازنة بين جيشه وجيش عدوه من حيث العدد .
فكان جيشه يتألف من عشرين ألفا فقط كما أجمعت عليه المصادر التاريخية[10] « 1 » بينما يتألف جيش عدّوه من ستين ألفا ، وبعد لحاظ الآلاف الثمانية التي التحقت بمعاوية في « مسكن » بعد خيانة عبيد اللّه يصبح جيش الحسن ( عليه السّلام ) خمس جيش عدوه ، وهذا انهيار كبير حسب الموازين والحسابات العسكرية ، هذا فضلا عمّا تقوله بعض المصادر بخصوص فرار بعض أفراد الجيش في المدائن ممّن استهوتهم المطامع بالاستيلاء على المغانم وجاؤوا رغبة فيها إذا قدّر الانتصار لجيش الإمام الحسن ( عليه السّلام ) ، فواكبوا مسيرة الجيش ، ثم فرّوا بعد أن أحسّوا تفوّق الطرف الآخر عسكريا في العدّة والعدد .
وممّا زاد في انهيار الموقف حرب الإشاعات الكاذبة التي شنّها معاوية للقضاء على البقية الباقية من معنويات الجيش في مسكن والمدائن ، ونذكر هنا بعض هذه الشائعات ومدى تأثيرها على المعنويات العامة في جيش الإمام الحسن ( عليه السّلام ) بكلا شقّيه في المدائن ومسكن .
وقد عمل معاوية بكلّ ما أمكنه من خبث ومكر من أجل الوقيعة بالجيش الكوفي وتفتيت قواه ، وكان اختياره للأكاذيب ينمّ عن خبرة دقيقة في حبكها وانتقائها ، فأرسل من يدسّ في معسكر المدائن : « . . . بأنّ قيس ابن سعد وهو قائد مسكن بعد فرار ابن عباس قد صالح معاوية وصار معه . . . »[11].
« ويوجّه إلى عسكر قيس في مسكن من يتحدّث أنّ الحسن قد صالح معاوية وأجابه . . . »[12].
ثم ينشر في المدائن إشاعة هي : « . . ألا إنّ قيس بن سعد قد قتل فانفروا ، فنفروا بسرادق الحسن فنهبوا متاعه فنازعوه بساطا تحته ، فازداد لهم بغضا ومنهم ذعرا ، ودخل المقصورة البيضاء في المدائن . . »[13].
وهكذا طوّقت موجة الشائعات المتدفّقة بمكر معاوية وخبثة جناحي الجيش في المدائن ومسكن ، وفصمت ما تبقّى فيه من تماسك ، وكانت سببا في زلزلة فئات كثيرة من غوغاء الناس المتأرجحين بين الطاعة والعصيان ومحبّي الفتن والاضطرابات .
وما الذي ينتظر أن تفعله الشائعات في جيش كجيش المدائن الذي سبق وأنّه علم بخيانة قائد « مسكن » الذي لم يكن قيس بمنزلته في نظره ، فلم لا يصدق خيانة قائدها الثاني أو خبر قتله ؟ وليس جيش مسكن بأقلّ حظّا من تأثّره بهذه الشائعات ، وقد سبق وأنّه أصيب بخيانة قائده من قبل .
وفي غمرة هذه الأحداث جاء وفد يمثّل أهل الشام مؤلّف من المغيرة ابن شعبة وعبد اللّه بن كريز وعبد الرحمن بن الحكم وهو يحمل كتب أهل العراق ليطلع الإمام الحسن ( عليه السّلام ) عليها وما تكنّه ضمائر بعض أصحابه من السوء ، وأنّهم تطوّعوا في صفوف جيشه لإذكاء نار الفتنة عندما يحين موعدها المرتقب ، وتنشر الكتب بين يدي الإمام ( عليه السّلام ) ولم تكن لتزيده يقينا على ما يعرف من أصحابها من دخيلة السوء وحبّ الفتنة ، وكانت خطوطهم وتواقيعهم واضحة لديه وصريحة .
وعرض الصلح على الإمام بالشروط التي يراها مناسبة ، ولكنّ الإمام لم يشأ أن يعطيهم من نفسه ما يرضي به طموح معاوية ، وكان دقيقا في جوابه ، بحيث لم يشعرهم فيه بقبول الصلح أو ما يشير إلى ذلك ، بل اندفع يعظهم ويدعوهم إلى اللّه عز وجل وما فيه نصح لهم وللامّة ويذكّرهم بما هم مسؤولون به أمام اللّه ورسوله في حقّه .
وحين رأى المغيرة ورفاقه أنّ الدور الأول من الرواية التي حاولها مكر معاوية قد فشلت في إقناع الإمام ( عليه السّلام ) بالصلح بل بقي موقفه صامدا أمام هذه المؤثرات القوية انتقلوا لتنفيذ حلقة ثانية من سلسلة المحاولات المعدّة من قبل معاوية وإن آتت اكلها لاحقا ، فلا أقل من أنّها ستترك أثرا سيّئا يزيد موقف الإمام حراجة وإن لم يتحقّق منها إقناع الإمام بالصلح . غادر الوفد مقصورة الإمام مستعرضا مضارب الجيش الذي كان يترقّب نتائج المفاوضات ، فرفع أحد أفراد الوفد صوته ليسمعه الناس : « إنّ اللّه قد حقن بابن رسول اللّه الدماء وسكّن الفتنة وأجاب إلى الصلح . . »[14].
وهكذا مثّلوا دورهم أروع تمثيل ، وخلقوا جوّا لاهبا من المأساة تدهور على أثرها الموقف ، وتفجّرت كوامن الفتنة واضطرب تماسك الجيش ولاحت في الأفق بوادر المحنة ، فأيّ غائلة هذه التي ألهب نارها المغيرة ورفاقه ؟ .
[1] موضع قريب من « أوانا » على نهر الدجيل ، وبها كانت الواقعة بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير سنة / 72 ه .
[2] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16 / 42
[3] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16 / 42 .
[4] مقاتل الطالبيين : 35 .
[5] مقاتل الطالبيين : 35 .
[6] أعيان الشيعة : 4 / 22 .
[7] أعيان الشيعة : 4 / 22 .
[8] المصدر السابق .
[9] صلح الإمام الحسن ( عليه السّلام ) : 80 .
[10] صلح الإمام الحسن ( عليه السّلام ) : 81 .
[11] تأريخ اليعقوبي : 2 / 191 .
[12] تأريخ اليعقوبي : 2 / 191 .
[13] تأريخ ابن الأثير : 3 / 203 .
[14] تأريخ اليعقوبي : 2 / 191 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|