أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-6-2016
8507
التاريخ: 2024-01-09
1395
التاريخ: 5-4-2017
3125
التاريخ: 8-6-2016
3391
|
السلطة التقديرية هي حق إعمال الإرادة وحرية الاختيار في ممارسة السلطة فعندما يترك القانون للإدارة حرية التصرف في شأن من الشؤون يُقال أن لها سلطة تقديرية في هذا الشأن(1) . والسلطة التقديرية للإدارة تُمتعها بقسط من حرية التصرف وهي تمارس مختلف اختصاصاتها القانونية – القرار الإداري في مجال بحثنا هذا – فلا يفرض المشرع عليها سلوكاً معيناً تلتزمه في تصرفاتها ولا تحيد عنه بمعنى أن يكون للإدارة قدراً من حرية التقدير(2) . وعلى ذلك فأن الإدارة في هذا المجال المتروك لها تكون حرة في اتخاذ قرار ومن الامتناع عن اتخاذه, أو في اختيار الوقت الذي تراه مناسباً للتصرف ويجب على الإدارة أن تتوخى في كل تصرفاتها تحقيق الصالح العام (3). وتلتقي السلطة التقديرية للإدارة العامة مع السلطة التقديرية للقاضي الإداري في أن لكليهما حرية تقدير نشاطه في كل حالة على حدة وفقاً لملابساتها الخاصة وأهداف وظيفته وذلك طبقاً للحدود المسموح بها قانوناً (4).
والسلطة التقديرية بتعبير أخر هي تلك الحرية التي تتمتع بها الإدارة في مواجهة كل من الأفراد والقضاء لتختار في حدود الصالح العام وقت تدخلها ووسيلـــة هذا التدخل وتقدير خطورة بعض الحالات(5) . ويرى بعض الفقهـاء أن جوهر السلطة التقديرية ينحصر في حق الإدارة في الاختيار بين عدة حلول كلها مشروعة (6).
أما البروفيسور (( دي سميث )) فيرى أن السلطة التقديرية تعني الاختيار بين بديلين أو أكثر أو بين سلسلة متعددة من الإجراءات المنظمة (7) . وبطبيعة الحال يكون للمرجع المختص بممارسة السلطة رأي في كيفية ممارستها وتقترن هذه الممارسة عادةً بالقيام بتنفيذ الواجبات المقررة قانوناً (8).
فالإدارة عندما يكون لها حرية تقدير الظروف التي تبرر تدخلها من عدمه أو حينما تملك حق اختيار التصرف الذي تراه ملائماً لمواجهة هذه الظروف إذا قررت التدخل وكذلك عندما يكون في مقدورها تحديد الوقت المناسب للتدخل قد تتمتع بكل هذه الحريات في التصرف وهذا ما لايحدث إلا نادراً في الواقع العملي , إذ أن الغالب من الأمر أن الإدارة تملك حرية التصرف في معظم جوانب العمل الإداري – القرار الإداري – أو في جانب واحد منه (9).
ومن الأمثلة التي يسوقها الفقه الفرنسي للسلطة التقديرية حالة منح الأوسمة والنياشين إذ تستقل السلطة التنفيذية وحدها بحرية تقدير عما إذا كان يستحق احد الأفراد تكريمه بمنحه احد النياشين المقررة (10).
ومن الأمثلة التي يسوقها الفقه المصري للسلطة التقديرية للإدارة حالة ترقية الموظفين بالاختيار على أساس الكفاءة حيث يكون إصدار قرار الترقية أمراً متروكاً لسلطة الإدارة التقديرية وكذلك حالة الترخيص للأجانب بالإقامة المؤقتة حيث تترخص الإدارة بسلطة مطلقة في تقدير مناسبتها في حدود المصلحة العامـة وفي خصوص هذه الحالة قضت المحكمة الإدارية العليا في مصر بأنه (( وان اختلفت الشروط والأوضاع ومدى الآثار القانونية في كل حالة من حالات الإقامة الثلاث ( الخاصة والعادية والمؤقتة) إلا انه يلتزم فيها جميعاً طبقاً للمادة 9 من المرسوم بقانون رقم 74 لسنة 1952 أن
يكون بترخيص من وزارة الداخلية. فإذا كانت الإقامة مؤقتة ترخصت في تقدير مناسباتها بسلطة مطلقة في حدود ما تراه متفقاً مع المصلحة العامة بأوسع معانيها إذ الإقامة العارضة لا تعدو أن تكون صلة وقتية عابرة لا تقوم إلا على مجرد التسامح الودي من جانب الدولة )) (11).
والمثل الذي نسوقه للسلطة التقديرية في الفقه العراقي هو توقيع الجزاءات التأديبية على الموظفين فالمشرع قد حدد عقوبات المخالفة التأديبية إلا انه لم يضع عقوبة خاصة لكل مخالفة بل ترك أمر تحديد العقوبة المناسبة للمخالفة التأديبية للإدارة (12) . وكذلك من أمثلة السلطة التقديرية حق الاختيار بين الفائزين في الامتحان للتعيين في وظيفة عامة دون التقيد بترتيب النجاح لأن الامتحان يولي الإدارة سلطة تقديرية في الاختيار (13) . وتتمتع الإدارة كذلك بسلطة التقدير في ميدان الضبط الإداري إذ تملك التدخل إذا ما قدرت وقوع إخلال بالنظام يهدد الأمن العام (14).
والسلطة التقديرية للإدارة ليست على درجة واحدة فقد تتسع دائرة السلطة التقديرية فتكون في حدها الأقصى كما في الترخيص للأجانب بالإقامة المؤقتة والفصل بغير الطريق التأديبي وإعداد التقارير الخاصة بالموظفين . أو قد تضيق هذه السلطة إلى حدها الأدنى مثل تعيين الناجحين في مسابقات ديوان الموظفين. وقد تكون في موقف وسط مثل قرارات البوليس الإداري المقيدة للحرية والترخيص للأجانب بالإقامة الخاصة أو العادية (15) . هذا وان الإدارة وهي تتمتع بسلطة تقديرية فأن ذلك ليس معناه أنها سلطة تحكميـة إذ لا تعدو أن تكون نوعاً من الحرية تتمكن معها من تقدير خطورة بعض الحالات الناشئة واختيار وقت تدخلها وتقدير انجح السبل لمواجهتها وهنا تكون الإدارة حرة ولكنها محاطة بسياج ينظم أعمالها ويشرف عليها وهو الصالح العام . وقد أصدرت محكمة العدل العليا في الأردن قرارات عديدة ذهبت فيها إلى أن سلطة مجلس الوزراء في هذا المجال – أي السلطة التقديرية – ليست سلطة تحكمية لاحدود لها ولا ضابط بل تجد حدها في حدود المشروعية و الصالح العام (16) وان السلطة التقديرية ليست رخصة للإدارة, بل هي التزام غايته تحقيق إدارة خبيرة وقادرة على إيجاد الحلول المثلى (17).
ومهما قيل لتبرير السلطة المقيدة للإدارة من أنها حماية لحقوق الأفراد وحرياتهم إلا أن الإسراف في تقييد الإدارة يؤدي إلى أوخم العواقب فهو يشل حركتها ويكبت نشاطها ويعدم روح الابتكار فيها ويبث الآلية البغيضة في أنحائها (18).
فتحقيق الصالح العام يقتضي عدم تقييد نشاط الإدارة بصورة مطلقة وفرض سلوك معين عليها بصدد كل عمل تقوم به وهذا يعني الاعتراف للإدارة بسلطة تقديريــة في بعض الحالات (19) . لأن الإدارة لا يمكن أن يقتصر دورها على أن تكون مجرد تابع للقانون ومجرد آلة صماء بل يتعين منحها القدرة على الاختيار والاعتراف لها بقدر من حرية التصرف حتى لا توصم بالجمود وحتى تنمو لديها ملكة الابتكار والتجديد مما يكفل بالنهاية حُسن سير المرافق العامة (20). وان خبرة الإدارة وتجاربها ووسائلها الخاصة التي تستقي منها معلوماتها والروح العملية التي تستمدها من إشرافها المستمر على إدارة المرافق العامة تبرر إعطاءها قـدراً معقولاً من حرية التصرف تحقيقاً للمصلحة العامة (21). ويضاف إلى ذلك أن المشرع لا يستطيع وهو يسِن القوانين التي تتضمن قواعد عامة مجردة أن يتصور- مهما حاول- جميع ملابسات وظروف الوظيفة الإدارية بحيث يضع لكل حالة حكمها ويقدم لكل مشكلة حلها ويُعد لكل احتمال الموقف المناسب لمواجهته ولذا كان من المتعين أن يترك للإدارة وهي تمارس وظيفتها حرية تقدير ملاءمة أعمالها بالنسبة لبعض اختصاصاتها (22) .
فالسلطة التقديرية إذاً تمثل الحرية التي تتمتع بها الإدارة في مواجهة القاضي والمشرع على السواء ذلك أن القاضي شأنه في ذلك شأن المشرع لا يستطيع أن يقدر جميع أوجه مناسبة العمل الإداري ومهما وضع أمامه من معلومات أو قام بأبحاث وتحريات حول موضوع النزاع فأنه يتحقق في شأنه واحد أو أكثر من الأمور الآتية :-
1- انه يكون بعيداً عن المكان الذي تتم فيه الوقائع التي تستلزم تدخل الإدارة.
2- وهو يصدر حكمه عادةً بعد مضي زمن قد يمتد سنين عديدة بعد وقوع تلك الحوادث مما يستحيل معه أن يكون صورة مماثلة تمام المماثلة للحالة وقت وقوعها.
3- وهو ينقصه الخبرة الكافية لمواجهة الحالات التي تعرض للإدارة كما انه لايحيط تمام الإحاطة بالوسائل التي تتخذها الإدارة لدرء هذه الحالات (23).
وتعتبر السلطة التقديرية للإدارة من الأفكار الأساسية التي يقوم عليها القانون العام الحديث و هي ظاهرة طبيعية تلازم أي نشاط إداري حيث لا يمكن أن تظهر إلا في نظام الدولة القانونية ومبدأ سيادة القانون وهي تُعد إجراءً ضرورياً ولازماً لحُسن سير عمل الإدارة لأن القاضي لا يستطيع أن يحدد جميع أوجه مناسبة القرار الإداري (24).
وإذا كان القرار الإداري يتميز بأنه عمل قانوني نهائي صادر بإرادة الإدارة المنفردة كسلطة إدارية وطنية وتترتب عليه آثار قانونية معينة فأنه توجد أركان محددة لابد من توافرها لكي يصدر القرار صحيحاً ومشروعاً. تتمثل هذه الأركان في الاختصاص والشكل والسبب والمحل والغاية ويتعين على الإدارة عند إصدارها لقراراتها مراعاة هذه الأركان واحترامها وإلا أصبحت قراراتها معيبة غير مشروعة وعند استعمال الإدارة لسلطتها التقديرية في هذا المجال فأننا نجد انه توجد حدود معينة تحد هذه السلطة في نطاق كل ركن من أركان القرار الإداري (25) .
وحيث أن ركن المحل يُّكون مع ركنّي السبب والغاية أركان القرار الإداري الداخلية وهي جوهر القرار ومضمونه وفي هذه الأركان تتجلى حقيقة ما إذا كانت الإدارة تتمتع بسلطة تقديرية أو لا (26) .
والمحل في القرار الإداري كونه عنصراً داخلياً في القرار فأنه يمكن أن يكون مجالاً لسلطة الإدارة التقديرية – وسلطتها المقيدة كذلك – ذلك لأن القواعد القانونية التي تتولى تنظيم هذا العنصر هي التي تبين ماينبغي لرجل الإدارة المختص أن يباشره سواءً في ذلك ما تعلق بالمصالح العامة والمرافق العامة , أو ما يتعلق بالمرافق والحقوق الخاصة والفردية كما أنها هي التي تبين أهمية هذه المصالح بالنسبة لبعضها البعض وما إذا كان بالإمكان تضحية البعض منها في سبيل الآخر (27) . وفي ركن المحل تتجسد ابرز معالم السلطة التقديرية (28) .
ويتمتع رجل الإدارة بسلطة تقديرية تتصل بمحل القرار الإداري الذي يختص بإصداره كلما كانت قاعدة القانون قد تركت له حرية الاختيار بين عدة حلول فيستطيع بذلك أن يحدد بحرية محل القرار الذي منحه القانون حق إصداره وكلمــا كانت هذه الحرية متسعة فيما يتعلق بتحديد ركن المحل كانت سلطة الإدارة التقديرية متسعة تبعاً لذلك (29).
وركن المحل هو الأثر القانوني المباشر الذي ينتجه القرار الإداري وتختار الإدارة - عند تدخلها - المحل بتحديد نوع الإجراء أو الوسيلة المناسبة للمحافظة على النظام العام حيث السلطة التقديرية هنا ليست سوى تقدير مناسبة الإجراء المتخذ للوقائع التي دفعت لاتخاذه وهو ما يسمى بتناسب ركن المحل مع ركن السبب (30).
وعند بيان أبعاد السلطة التقديرية بالنسبة لمحل القرار الإداري يتعين علينا أن لا نكتفي بالنظر نظرة مجردة إلى ركن المحل في القرار منفصلاً عن بقيـــة أركانـه وعلى الأخص فيما يتعلق بركن السبب فيه فمن المعروف انه لاتوجد أبداً سلطة مطلقة للإدارة وإنما كل سلطاتها مشروطة وهذا يؤدي بنا إلى الرجوع إلى فكرة السبب في القرار فكل القرارات الإدارية لها أسبابها – قانونية كانت أم واقعية – فالوقائع المتقدمة تؤدي إلى نتائجها التالية لها.
والسلطة التقديرية بالنسبة لمحل القرار تتمثل في تمتع رجل الإدارة – إذا ما توافر ظرف معين أو ظروف معينة – بحرية الاختيار بين إجراءين وأكثر وهذا يعني تمتعه بحرية إجراء التناسب بين السبب المعتمد ومحل القرار المتخذ (31).
فقد لا يحدد القانون سبب القرار الإداري ومحله أو يحددهما بصورة عامة تسمح بإعمال الإرادة وحرية الاختيار فيترك بذلك أمر تقديرهما للإدارة حسب ما يتراءى لها ومن أمثلة هذه الحالة القرار التأديبي حين يترك القانون للإدارة حرية تقدير السبب الذي يقوم عليه كما يترك لها أيضاً اختيار العقوبة التأديبية المناسبة من بين العقوبات التي حددها القانون وهنا تتمتع الإدارة بسلطة تقديرية واسعة تفوق ما تتمتع به في الفرضين التاليين :الأول قد يحدد القانون سبب القرار الإداري ويترك أمر تحديد محله وهو الإجراء المتخذ لمواجهة هذا السبب للإدارة. وذلك كما هو الحال بالنسبة للمظاهرات التي من شأنها الإخلال بالنظام العام فــإن القانون يعتبرها سبباً يبرر تدخل سلطة الضبط الإداري أما محل القرار فتختاره الإدارة عند تدخلها بتحديد نوع الإجراء أو الوسيلة المناسبة للمحافظة على النظام العام.
و الثاني: قد يحدد القانون محل القرار الإداري ولا يحدد السبب الذي يقوم عليه تاركاً للإدارة أمر تقديره كما هو الحال في ترقية الموظف بالاختيار حيث يكون للإدارة حرية تقدير السبب أو المبررات التي يقوم عليها قرار الترقية (32).
ويتمتع رجل الإدارة بسلطة واسعة في تقدير محل القرار الإداري إذا لم تقيده قاعدة قانونية كحرية الاختيار بين عدة حلول مثل حرية اختيار الإدارة للجزاء التأديبي من بين الجزاءات التأديبية التي حددها القانون . أو عندما تتخلى القاعدة القانونية عن تحديد المحل كما لو تخلت عن تحديد ما يمكن للإدارة أن ترتبه من آثار قانونية مكتفية بتحديد الغاية أو الهدف من القرار . فمثلاً إذا قرر القانون أن للإدارة سلطة اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية الآداب العامة إذا ما تعرضت لأي تهديد بالإخلال فهو بذلك قد ترك للإدارة سلطة تقديرية في ترتيب الآثار القانونية الكفيلة بحماية الآداب العامة من أي إخلال دون أن يشوب قرارات الإدارة عيب مخالفة القانون (33) .
وإذا ترك المشرع للإدارة حرية اختيار المركز القانوني الذي ينصب عليه قرارها فإنها إذاً تتمتع بسلطة تقديرية تستطيع بموجبها اختيار المحل المناسب بتخويل من القانون. كما يحدث أن يترك القانون للإدارة حرية إعمال إرادتها في اختيار سبب القرار ومحله كما في حالة تدخل سلطات الضبط الإداري لحفظ النظام مثلاً قد يترك المشرع لهذه السلطات حرية تقدير أهمية الوقائع التي تبرر تدخلها ويترك لها أيضاً حرية اختيار الوسائل الكفيلة بإعادة النظام إلى نصابه. ولا ريب أن الإدارة في هذه الحالة تتمتع بسلطة تقديرية واسعة (34) . وللإدارة سلطــة تقديرية بالنسبة لمحل القرار الإداري تتمثل في إنشاء أو الامتناع عن إنشاء المرافق العامة وللإدارة سلطة تقديرية في شأن الالتجاء إلى وسيلة نزع الملكية للمنفعة العامة من حيث وجه المصلحة العامة الذي تلجأ إلى نزع الملكية لتحقيقه ومن حيث المكان والمساحة التي يمكن أن تنزعها وللإدارة سلطة تقديرية أيضاً في شأن إعمال مبدأ المساواة بين الذكور والإناث في تولي الوظائف العامة (35) .
وبعد أن تتحقق الإدارة من قيام الحالة الواقعية التي تبرر تدخلها وبعد أن تكيفها التكييف القانوني الصحيح وتقدر الأخطار التي تنجم عنها تقرر اتخاذ قرار معين وهنا تتمتع الإدارة بسلطة تقديرية ( ونقول عادةً ) لأنه يحدث أحياناً أن يفرض المشرع على الإدارة في مواجهة حالة معينة , أن تتصرف تصرفاً معيناً , فتصبح سلطة الإدارة مقيدة, تنعدم حريتها تماماً حينما يستلزم القانون أن تتدخل فوراً , أي عقب قيام الحالة المباشرة. ومثال ذلك حالة التشريع الخاص بالمحال الخطرة والضارة فأن الاحتياطات الواجب فرضها على أصحابها قد فصلها القانون تفصيلاً دقيقاً وفقاً لكل حالة . وتتمتع الإدارة بحرية اختيار وقت تدخلها وفحوى القرار الذي تتخذه لمواجهة الحالة القائمة فالإدارة حرة في أن تتدخل أو تمتنع ما لم يوجد التزام قانوني يأمرها أو ينهاها , وهذا هو الاستثناء, فأن القاضي شأنه في ذلك شأن الأفراد , لا يستطيع أن يجبرها على أن تتصرف إذا ما هي آثرت السكوت , ولا أن يرغمها على التدخل في وقت معين إذا ما قررت أن تتدخل, بل يكون لها في ذلك الكلمة الأخيرة (36) .
وهذا الأمر يستوجب التفصيل الآتي :
أولاً- حرية الإدارة في أن تتدخل أو تمتنع : فإذا لم يحتم المشرع على الإدارة أن تتدخل إذا تحققت أسباب معينة, وان تقوم بتصرف معين , فأن مجرد تحقق أسباب تجيز تدخل الإدارة لا يلزمها بالتدخل وعلى هذا الأساس إذا ارتكب موظف خطأً تأديبياً , فأن الإدارة – لسبب أو لآخر – قد ترى صرف النظر عن هذا الخطأ, وعدم إصدار قرار إداري بتوقيع عقوبة على الموظف المخطئ ومجرد قيام اضطرابات أو قلاقل لا يحتم على الإدارة استخدام سلطات البوليس لقمعها, فقـد ترى الإدارة أن تدخلها قد يزيد الأمر اشتعالاً, وان تلك القلاقل ستنتهي من تلقاء نفسها . ولهذا السبب أيضاً فأن القاعدة المسلم بها أن الإدارة حرة في إنشاء المرافق العامة , وان مجرد شعور الأفراد بالحاجة إلى خدمة معينة لايلزم الإدارة بإنشاء المرفق الضروري لإشباع تلك الحاجة لأن ذلك مما تترخص فيه الإدارة . أما حيث يحتم المشرع على الإدارة القيام بإنشاء مرفق معين فأن سلطة الإدارة التقديرية تختفي ليحل محلها اختصاص مقيد.
وتطبيقاً لهذه القاعدة أعلنت محكمة القضاء الإداري المصرية في حكمها الصادر في 13 مايو سنة 1958 (( أن لوزارة التربية والتعليم كامل السلطة في إنشاء المدارس وإلغاءها حسبما يقتضيه الصالح العام, وان السلطة التنفيذية هي صاحبة الاختصاص في إنشاء الوظائف العامة وتحديد عددها ودرجاتها وكيفية توزيعها بين الوزارات والمصالح المختلفة وفي نقلها كذلك من وزارة إلى وزارة أو مصلحة أخرى )) (37) .
ثانياً- اختيار وقت التدخل : وهذا ابرز عناصر السلطة التقديرية للإدارة لأنه قد يُلازم السلطة المقيدة , فالمسلم به انه إذا لم يفرض المشرع على الإدارة أن تتدخل خلال فترة معينة فأنها حرة في اختيار وقت تدخلها حتى ولو كانت ملزمة أصلاً بإصدار القرار أو بإصداره على نحو معين , لأن الوقت المناسب لإصدار القرار لايمكن تحديده مقدماً في معظم الحالات ومن ثم فأن المشرع كثيراً ما يترك تحديده للإدارة لتترخص في اختياره على ضوء خبرتها وتجاربها السابقة ولقد سلم بهذا الأمر مجلس الدولة الفرنسي منذ أمد بعيد . وسلم به مجلس الدولة المصري أيضاً في أحكام كثيرة , منها حكمه الصادر في 10 مايو سنة 1950 والذي جاء فيه : (( أن الإدارة بما لها من سلطة تقدير مناسبات القرار الإداري تترخص في تعيين الوقت المــلائم لإصداره بلا معقب عليها في هذا الشأن من المحكمة , ما دام خلا قرارها من إساءة استعمــال السلطة , وبشــرط أن لايكون القانون قد عين لها ميعاداً يحتم إصدار القرار فيه , وإلا كان إصداره بعد الميعاد المعين لذلك مخالفاً للقانون )) (38) .
غير أن المشرع في تقييده لوقت التدخل قد يفرض على الإدارة أن تتدخل حالاً ومباشرةً , وحينئذ تنعدم حرية الإدارة بتاتاً في هذه الناحية . وقلما يحدث ذلك . والغالب أن يحدد المشرع فترة معينة للإدارة لكي تبرر موقفها ثم يضع قرينة سلبية أو ايجابية على مُضّي تلك المدة (39) . ومن ذلك أن الإدارة لها أن تترخص في قبول أو رفض استقالة الموظف وفقاً لمقتضيات الصالح العام . ولكن حمايةً لحقوق الموظف , نص المشرع على تقييد المدة التي يجوز للإدارة أن تتريث خلالها في إصدار قرارها في هذا الخصوص بالقبول أو الرفض بثلاثين يوماً من تاريخ تقديم الاستقالة (40) . وبمرور تلك المدة قضى باعتبار الاستقالة مقبولة. ومن هذا أيضاً أن للإدارة أن تتمهل في إصدار قراراتها في التظلمات المرفوعة إليها مدة ستين يوماً (41).
ويمكن إحراج الإدارة إذا تمادت في استعمال حريتها في اختيار الوقت المناسب عن طريق التظلم الإداري ثم الالتجاء إلى القضاء الإداري للحصول على حكم بإلغاء القرار الضمني بالرفض إذا تحققت أسبابه ودواعيه وحينئذ يتعين على الإدارة أن تتصرف وفقاً لمقتضيات هذا الحكم (42) .
يمكننا إذاً أن نقول أن الإدارة حرة في اختيار ميعاد اتخاذ قرارها , متى لم يوجد التزام بخلاف ذلك, على أنها تتحمل نتائج اختيار هذا الوقت فيما لو ترتب على ذلك ضرر (43) .
ثالثاً- اختيار فحوى القرار : إذا لم يملِ المشرع على الإدارة مقدماً نوع القرار الذي يجب اتخاذه, وفحواه فأن الإدارة تكون حرة في أن تُضمن قرارها الأثر الذي تريده بشرط أن يكون هذا الأثر(ممكناً وجائزاً قانوناً) فالمشرع في مثل هذه الحالة يكتفي برسم الخطوط العامة , ثم يترك للإدارة حرية التصرف , وفقاً لكل حالة على حدة , باختيار التنظيم الذي تريده , أو الوسيلة التي تباشر بها الموقف , دون معقب من القضاء .
ويميز مجلس الدولة الفرنسي بصدد حرية الإدارة في اختيار وقت تدخلها وفحوى القرار بين قضاء الإلغاء وقضاء التعويض ففي قضاء الإلغاء تنعدم رقابة القضاء في هذه الناحية ولا سلطان له في مناقشة الإدارة في أسباب اختيار وقت تدخلها أو اختيار فحوى قرارها. أما بالنسبة لقضاء التعويض فإن مجلس الدولة لم يلتزم هذا المبدأ على إطلاقه فقد حدث في بعض أحكامه أنه بينما رفض إلغاء القرار المطعون فيه لأن الإدارة لم تخرج عن حدود سلطاتها إذ به يقضي بالتعويض، عن نفس القرار، في ذات اليوم، لأنه لم يقتنع بكفاية الأسباب التي من أجلها اتخذت الإدارة قرارها (44) .
وعلى هذه القاعدة - قاعدة حرية الإدارة في اختيار وقت تدخلها وفحوى قرارها- يضع الأستاذ ( فالين ) القيد التالي : تختفي السلطة التقديرية إذا ما اختلطت مناسبة العمل الإداري بشرعيته فلا يكون العمل حينئذٍ قانونيـاً إلا إذا كان ملائماً. في مثـل هذه الحالة يرى الأستاذ ( فالين ) أن هناك نوعـاً من تنـازع القوانيـن , وهو يضرب لذلك المثل الآتــي: حالـة سيـر موكب في الطريـق العـام , وفقـاً لحـرية الأفــراد في إقامة الشعائر الدينية وحريتهم في السير ذهاباً وإياباً كما يشاؤون , لا يمكن منع هذه المواكب, وهذه مسألة قانونية. ولكن إذا كان من شأن هذه المواكب أن تحدث إخلالاً بالنظام , واضطراباً في حالة الأمن , فيجب منعها وهذه مسألة موضوعية . وبمعنى أخر مسألة تقديرية . ولما كانت شرعية تدخل الإدارة , تتوقف على حُسن تقديرها للأمور, كان مجلس الدولة – وهو صاحب الاختصاص الطبيعي بالنسبة للأمر الأول ( مشروعية التدخل )- مختصاً بالنسبة للأمر الأخر ( حُسن تقدير الإدارة ) ولأجل هذا نجد المجلس في هذا الخصوص يستعمل هذا التعبير كثيراً (( وحيث أن منع هذا الموكب لم يكن ضرورياً لحفظ النظام العام ....)) وهذا الاستثناء الذي أشار إليه الأستاذ فالين , تبرره غيرة الفقهاء الفرنسيين , ومعهم في ذلك مجلس الدولة الفرنسي , على حفظ الحريات الفردية ومنع المساس بها على قدر الإمكان . ولذلك يجب قصر هذا الاستثناء على ما يمس الحرية الفردية لأن الإدارة هنا تخضع في الحقيقة لرقابة المجلس خضوعاً تاماً فهي إذا منعت مرور موكب في الطريق العام , أو حالت دون اجتماع ما , فيجب أن يقتنع المجلس بأن تقديرها كان سليماً. ومعنى ذلك انه سيضع نفسـه مكانها , ليقدر العناصر التي بنت عليها حكمها , ومبلغها من الصحة. ولذلك يصوغ الأستاذ فالين هذا المبدأ كما يلي : (( كلما حد إجراء من إجراءات البوليس حرية عامة , فهو لايكون قانونياً إلا إذا كان لازماً وبمعنى أخر ملائماً . والسلطة القضائية , حامية الحريات العامة وفقاً لمبدأ قانونية العمل الإداري , يجب عليها , إذا ما عرض عليها الأمر , أن تبحث هذه الضرورة , وهذه الملاءمة, وهذا بدوره سيؤدي إلى إلغاء سلطة الإدارة التقديرية في هذا الصدد ))
ويبدو أن هذا المبدأ الذي أشار إليه الأستاذ فالين منذ أمد طويل أصبح من المسلم به في الفقه الفرنسي فأن الأستاذ(رولان) يرى بدوره أن مجلس الدولة لايختص بتقدير ملاءمة القرار الإداري إلا إذا كانت هذه الملاءمة مرتبطة ارتباطــاً تاماً بمســألة قانونيــة العمـــل , وفي الحدود اللازمة لبحث هذه المسألة. وقد أيد الأستاذ سليمان محمد الطماوي هذا المسلك وقد اقره مجلس الدولة المصري وأكدته المحكمة الإدارية العليا في مصر (45) .
____________
1- د. ماجد راغب الحلو / القضاء الإداري /الطبعة الاولى / دار المطبوعات العالمية/ الإسكندرية / 1994 / ص 445
2- د. سعيد عبد المنعم الحكيم / الرقابة على أعمال الإدارة في الشريعة الإسلامية و النظم الوضعية / الطبعة الثانية / دار الفكر العربي / القاهرة / 1987 / ص 25
3- القاضي خالد عبد الغني عزوز/ دور القضاء الإداري العراقي في الرقابة على أعمال الإدارة / بحث مقدم إلى المعهد القضائي كجزء من متطلبات الترقية إلى الصنف الأول / 1991 / ص51
4- د. وجدي راغب فهمي / النظرية العامة للعمل القضائي في قانون المرافعات / منشأة المعارف / 1974 / ص 351
5- د. سليمان محمد الطماوي / سليمان محمد الطماوي/ القضاء الإداري ورقابته لأعمال الإدارة / الطبعة الثالثة/ 1961 / ص 29 .
6- د. سليمان محمد الطماوي/نظرية التعسف في استعمال السلطة/ الطبعة الثانية / دار الفكر العربي / القاهرة/1966 / ص 48
7- De Smith: Judicial Review of administration action ( London: Stevens and Sons Ltd, 1980 ) P.278
8- De Smith: ib id, P.283
9- د. عبد الغني بسيوني عبد الله / القضاء الإداري / الطبعة الثالثة/ دار المعارف للطباعة والنشر /الإسكندرية/ 2006 / ص 39
10- L.Michoud: Etude sur le pouvoir discre'tionnaire de administration P.10
نقلاً عن د. محسن خليل / القضاء الإداري ورقابته لأعمال الإدارة ( مبدأ المشروعية , تنظيم الرقابة القضائية ,قضاء الإلغاء)/ الجزء الأول /منشأة المعارف /الإسكندرية/ 1961-1962 / ص54
11- حكم المحكمة الإدارية العليا المصرية الصادر في 4/8/1956 ذكره د. إبراهيم عبد العزيز شيحا / أصول القانون ألإداري (أموال الإدارة العامة وامتيازاتها) / منشأة المعارف / الإسكندرية / ص178
12- القاضي خالد عبد الغني عزوز/ دور القضاء الإداري العراقي في الرقابة على أعمال الإدارة / بحث مقدم إلى المعهد القضائي كجزء من متطلبات الترقية إلى الصنف الأول / 1991ص 51
13- د. محمد كامل ليلة/ الرقابة على أعمال الإدارة (الرقابة القضائية) / 1964-1965 / ص74
14- د. عبد الغني بسيوني عبد الله / المصدر السابق / ص 39
15- د. مصطفى أبو زيد فهمي / القضاء الإداري و مجلس الدولة / الطبعة الثالثة / مطبعة المعارف /1966 / ص125 وما بعدها
16- د. فهد عبد الكريم أبو العثم/ القضاء الإداري بين النظرية والتطبيق/ دار الثقافة للنشر والتوزيع/ عمان/ 2005 / ص 90
17- د. محمد مصطفى حسن / الرقابة القضائية على حدود السلطة التقديرية للإدارة / مجلة العلوم الإدارية / العدد 1 / السنة 22 / 1980 / ص 127
18- د. سليمان محمد الطماوي/ النظرية العامة للقرارات الإدارية/ الطبعة الخامسة/ دار الفكر العربي / القاهرة /1984 / ص35
19- د. عمر محمد الشوبكي / القضاء الإداري / الطبعة الاولى / المطبعة العربية للعلوم الإدارية / عمان / 2001 / ص 69
20- د. محمود محمد حافظ / القضاء الإداري / الطبعة السابعة / دار النهضة العربية/ القاهرة /1979 / ص49
21- د. عمر محمد الشوبكي / المصدر السابق / ص 71
22- د. سعيد عبد المنعم الحكيم / الرقابة على أعمال الإدارة في الشريعة الإسلامية و النظم الوضعية / الطبعة الثانية / دار الفكر العربي / القاهرة / 1987 / ص 39
23- د. سليمان محمد الطماوي / كتابه في نظرية التعسف في استعمال السلطة وقد سبقت الإشارة إليه / ص 51
24- د. ثروت بدوي / الدولة القانونية / مجلة إدارة قضايا الحكومة / العدد 3 / السنة 3 / 1959 / ص28
25- د. عبد الغني بسيوني عبد الله / المصدر السابق / ص 41
26- د. فاروق احمد خماس / محكمة القضاء الإداري في ضوء القانون رقم 106 لسنة 1989 /مجلة العلوم القانونية / العددان 1 و2/ المجلد 9/ 1990 / ص 41
27- د. عصام عبد الوهاب البر زنجي /السلطة التقديرية للإدارة و الرقابة القضائية/ دار النهضة العربية / القاهرة / 1971 / ص 226
28- د. سليمان محمد الطماوي / كتابه في النظرية العامة للقرارات الإدارية وقد سبقت الإشارة إليه / ص52 و د. إبراهيم عبد العزيز شيحا / أصول القانون ألإداري (أموال الإدارة العامة وامتيازاتها) / منشأة المعارف / الإسكندرية / ص186
29- د. عصام عبد الوهاب البرزنجي / المصدر السابق / ص 463
30- المستشار حمدي ياسين عكاشة / القرار الإداري في قضاء مجلس الدولة المصري / منشأة المعارف /الإسكندرية / 1987/ ص 445
31- د. عصام عبد الوهاب البرزنجي / المصدر السابق / ص 463 و 464
32- د. ماجد راغب الحلو / المصدر السابق / ص 448
33- د. رمضان محمد بطيخ/ الاتجاهات المتطورة في قضاء مجلس الدولة الفرنسي للحد من سلطة الإدارة التقديرية وموقف مجلس الدولة المصري منها / دار النهضة العربية / 1996 / ص 63
34- د. فاروق احمد خماس / الرقابة على أعمال الإدارة / دار الكتب / الموصل / 1988 / ص 42
35- د. إبراهيم عبد العزيز شيحا / المصدر السابق / ص 187
36- د. سليمان محمد الطماوي / المصدر السابق / ص 66
37- مجموعة أحكام مجلس الدولة المصري / السنتان 12و13 / ص 130 ذكره د. سليمان محمد الطماوي / المصدر السابق / ص 60و61
38- مجموعة أحكام مجلس الدولة المصري /السنة4/ص735 ذكره د. سليمان محمد الطماوي / المصدر السابق / ص 62
39- د. سليمان محمد الطماوي / المصدر السابق / ص 63
40- انظر المادة (35) من قانون الخدمة المدنية رقم24 لسنة 1960 المعدل
41- انظر المادة 7/ثانياً/ ز . من قانون مجلس شورى الدولة رقم 65 لسنة 1979 المعدل
42- د. سليمان محمد الطماوي / المصدر السابق / ص 63
43- د. سليمان محمد الطماوي / المصدر السابق / ص 64
44- د. سليمان محمد الطماوي / المصدر السابق / ص 68
45- د. سليمان محمد الطماوي / المصدر السابق / ص 69 وما بعدها
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|