أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-08-2015
826
التاريخ: 3-08-2015
1372
التاريخ: 29-12-2018
2318
التاريخ: 23-4-2018
912
|
ان «النبوة» ضرورة يقضي بها العقل المؤمن بالله و تفرضها حاجة البشرية الملحة، وان الله تعالى- بلطفه ورحمته- أرسل للناس الرسل والأنبياء والشرائع و الكتب في كل عصر وكل جيل، حتى انتهى بتلك السلسلة المقدسة الى نبينا محمد- صلى الله عليه واله- فكان سيد المرسلين وخاتم النبيين وكانت شريعته خاتمة الشرائع والباقية ما بقيت السماوات والارض.
ولعل أول
ميزة نستطيع تسجيلها لهذا النبي الخاتم ان الله تعالى قد فضله على سائر المرسلين
بكونه {رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وبكون رسالته
الكبرى عالمية الزمان والمكان، لا تختص بقوم دون قوم، ولا برقعة من الارض دون
اخرى، ولا بأمة دون سائر الامم، ولا بزمن معين دون غيره من الازمان. قال تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف: 158] {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ
نَذِيرٌ مُبِينٌ } [الحج: 49]، فقد نصت هذه الآيات الشريفة بما لا يقبل المناقشة
و التأويل على ان محمدا- صلى الله عليه واله - رسول الله الى الناس جميعا، من كان
منهم حين البعثة ومن سيكون بعدها، ومن كان منهم في جزيرة العرب ومن كان خارجها.
وتلك ميزة
كبرى لم يؤتها الأنبياء السابقون، و لم يكرم بمثلها الرسل الاولون، حيث كان كل
واحد منهم مرسلا الى مجموعة معينة من الناس وطائفة مخصوصة من البشر، ولمدة معينة من
الزمن، كما صرح القرآن الكريم بذلك. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى
قَوْمِهِ} [الأعراف: 59] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]
{أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [الزخرف: 46]
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ
اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف: 6].
وهكذا
يتضح ان نوحا مرسل الى «قومه»، وصالحا الى «ثمود»، وموسى الى «فرعون و ملائه»،
وعيسى الى «بني اسرائيل». و ينفرد محمد بكونه مرسلا الى «الناس» كافة.
واما
الدليل على أن الرسالات السماوية السابقة على الاسلام
كانت موقتة الوجود محدودة الزمن فيتجلى بنسخ كل شريعة منها للشريعة السابقة
عليها، حيث تزول الاحكام الاولى و تحل محلها التكاليف الجديدة، لعدم قدرة الانسان
المكلف على الجمع بين شريعتين تختلفان في كثير من الاحكام وتتعارضان في عدد من
مفردات التكاليف. وهذا ما يرشدنا إليه دليل العقل وانسياق الفطرة وحكم البداهة.
وحاول اليهود- للإبقاء على شرعية رسالتهم واستمرارها- أن ينفوا فكرة
النسخ ووقوعه (1) ، بزعم ان القول به مساوق للقول بجهل الله تعالى وعدم حكمته، و كان دليل
شبهتهم هذه: ان تشريع الحكم من الله عز و جل لا بد و أن يكون على طبق مصلحة
تقتضيه، لأن الحكم بلا مصلحة ضرب من ضروب العبث، و ذلك مما يتنافى مع حكمة الحكيم
المطلق. وعلى هذا يكون رفع الحكم الثابت ذي المصلحة منافيا للحكمة، لأن في رفعه
تفويتا لتلك المصلحة على العباد، الا أن يكون قد اتضح للمشرع بعد التشريع ان الحكم
بلا مصلحة، فيرفعه. و هذا معناه نسبة الجهل الى الله اذ شرع شيئا كان يعتقد فيه
المصلحة ثم ظهر خلافه. و لما كان نتيجة القول بالنسخ هو عدم حكمة الناسخ أو جهله
بوجه الحكمة- و كلاهما مستحيل في حقه تعالى- كان النسخ مستحيل الوقوع.
وخلاصة
الرد على هذه الشبهة: ان الاحكام الشرعية منوطة ومرتبطة بالمصالح، والمصالح كثيرا
ما تتغير بتغير العصور وتختلف باختلاف اجيال المكلفين، وربما كان في الحكم المعين
مصلحة لقوم في زمان ما فأمر به، ثم كان الحكم نفسه بلا مصلحة لقوم آخرين أو في زمن
ثان فنهى عنه.
هذا مضافا
الى ان العقل البشري في تطور مستمر، و الشرائع السماوية- كما نعلم- قد تدرجت في
مسايرة هذا العقل على حسب تدرجه في النمو والتطور، شأنها في ذلك شأن المعلومات
التي نزود الطفل بها على ضوء قابلياته الذهنية والعقلية، ثم نتدرج فيها شيئا فشيئا
حتى نصل بها عند تمام نضجه الذهني الى أعقد النظريات و الافكار.
وهكذا
الحال في الشرائع السماوية التي جاءت في كل زمن ولكل قوم بما يلائم مصالح الزمن و
القوم ويتمشى مع درجة النضج الفكري لذلك العصر واهله، حتى بلغت ذروتها في الشريعة
الاسلامية التي اختارها الله لتكون شريعة الانسان و هو في اوج تقدمه الحضاري ونموه
العقلي، وليس معنى ذلك هو الجهل بالمصلحة او انكشاف شيء لم يكن معلوما من قبل.
ثم ان
التوراة- بالذات- قد حملت شواهد كثيرة على وقوع النسخ، كذكرها إباحة الجمع بين
الاختين في شريعة آدم وتحريم ذلك في شريعة موسى، وكإباحة تأخير الختان الى وقت
الكبر في شرع نوح و تحريمه في شرع موسى، الى كثير من امثال ذلك.
واذن فلا
يصح القول باستحالة النسخ و ليس له أي دليل يركن إليه، و ان ما زعمه اليهود في ذلك
مردود بشهادة التوراة بعد شهادة العقل {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا
النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى
} [البقرة: 120] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ
مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
...أن
الدليل على صدق النبي- أي نبي- في ادعائه هو الاتيان بالمعجز الذي يعجز البشر عن
الاتيان بمثله.
ولقد كان
لرسولنا الاعظم- صلى الله عليه و آله و سلم- نوعان من المعجز:
الاول-
القرآن المجيد.
الثاني-
المعجزات التي شاهدها المسلمون الاولون- وهم عدد كبير جدا-، ثم تواتر النقل عنهم
بشأنها، وألفت فيها الكتب، واحتشدت بروايتها اسفار الحديث، وما تزال تروى حتى
اليوم وبعد اليوم بهذا الشكل من تواتر النقل، على تعاقب الاجيال وكر السنين.
و قد حاول بعض جهلة المؤلفين أن يشككوا في تلك المعجزات، بل ادعى بعضهم
ان في آيات القرآن ما يدل على نفي كل معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم غير
القرآن، وان القرآن هو المعجزة الوحيدة التي جاء بها رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) تصديقا لدعواه، و استدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59] حيث زعموا ان هذه الآية
ظاهرة في ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأت بآية غير القرآن، وان السبب
في عدم الارسال تكذيب الاولين من الامم بالآيات التي أرسلت إليهم.
وقد أفاض
استاذنا آية الله الامام الخوئي في دحض هذه الشبهة و تزييفها فقال ما خلاصته (2)
:
ان المراد
بالآيات التي نفتها الآية الكريمة والتي كذب بها الاولون من الامم هي الآيات
المقترحة من قبل الامم على انبيائها، فالآية الكريمة تدلنا على ان النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) لم يجب المشركين الى ما اقترحوه عليه من الآيات، ولا تنفي عنه
صدور المعجزة مطلقا، ولو كان تكذيب المكذبين يصلح ان يكون مانعا عن الارسال
بالآيات لكان مانعا عن الارسال بالقرآن أيضا، اذ لا وجه لتخصيص المنع بالآيات
الاخرى، خصوصا وان القرآن اعظم المعجزات التي جاء بها الأنبياء، وهذا يدلنا على
ان الآيات الممنوعة قسم خاص، وليست مطلق الآيات.
على أن
تكذيب الامم السابقة لو صلح أن يكون مانعا عن تأثير الحكمة الالهية في الارسال
بالآيات لصلح أن يكون مانعا عن ارسال الرسول، وهذا باطل بالضرورة وخلاف للمفروض
أيضا، فتعين أن يكون المقتضي للإرسال بالآيات هو اقتراح المقترحين.
وواضح ان
المقترحين انما يقترحون امورا زائدة على الآيات التي تتم بها الحجة، فان هذا
المقدار من الآيات لا يجب على الله أن يرسل به ابتداء، و لا يجب عليه أن يجيب إليه
اذا اقترحه المقترحون، و ان كان لا يستحيل عليه ذلك اذا اقتضت المصلحة.
وعلى هذا
فاقتراح المقترحين انما يكون بعد اتمام الحجة عليهم بما يلزم من الآيات و تكذيبهم
اياها، وانما كان تكذيب الامم السابقة مانعا عن الارسال بالآيات المقترحة لان
تكذيب الآيات المقترحة يوجب نزول العذاب على المكذبين، وقد ضمن الله رفع العذاب
الدنيوي عن هذه الامة اكراما لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد قال تعالى: {وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33].
أما ان
تكذيب الآيات المقترحة يوجب نزول العذاب على المكذبين فلأن الآية الالهية اذا
كانت مبتدأة كانت متمحضة في اثبات نبوة النبي ولا يترتب على تكذيبها الا ما يترتب
طبيعيا على تكذيب النبي من العقاب الأخروي . أما الآيات المقترحة فهي كاشفة عن
لجاج المقترح وعناده، اذ لو كان طالبا للحق لصدق بالآية الاولى، لأنها كافية في
اثبات المطلوب، ولان معنى اقتراحه هذا انه قد التزم على نفسه بتصديق النبي اذا
أجابه الى هذا الاقتراح، فاذا كذب بالآية المقترحة بعد صدورها كان مستهزئا بالنبي
و بالحق الذي دعا إليه.
وخلاصة القول: انه لا دلالة لشيء من آيات القرآن على نفي المعجزات
الاخرى غير القرآن، على الرغم من كونه المعجزة الخالدة الكبرى للنبي صلى الله عليه
وآله وسلم، وان تعدد ظهور المعجز على يديه.
وليس
التمييز الصائب بين المعجز الحقيقي وغيره امرا سهلا ميسورا لكل احد كما يبدو لأول
وهلة، بل لن يقدر عليه غير علماء الصنعة التي يكون ذلك المعجز على شاكلتها لانهم
أعرف بها وأدرى بخصوصياتها، وهم الذين يستطيعون التفريق بين ما يعجز البشر عن
الاتيان بمثله و بين ما يمكنهم، و لذلك كان العلماء أسرع تصديقا بالمعجز، و
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، لان غير
العالم لا يقوى على التمييز بين الصدق والكذب، فيبقى باب الشك مفتوحا لديه ما دام
جاهلا بمبادئ ذلك العلم وما دام يحتمل ان المدعي قد اعتمد على مبادي علمية ربما
تكون معلومة عند الخاصة من رجال تلك الصنعة فيتباطأ عن الاسراع في التصديق، ولهذا
السبب اقتضت الحكمة الالهية أن تكون معجزة كل نبي مشابهة للعلم الشائع في زمانه،
والذي يكثر الممارسون له والعالمون به من اهل عصره، ليكون ذلك سببا في سرعة
التصديق واحكام الحجة، ومن هنا نجد أن السحرة في عصر موسى كانوا أسرع من غيرهم الى
الاقرار ببرهان نبيهم، لانهم رأوا ان ما جاء به رسولهم خارج عن الحدود العلمية
المقررة للسحر.
ولما كان
العرب في عصر نزول القرآن قد بلغوا الغاية في الكلام البليغ والاهتمام بشئون الادب
وفنون الفصاحة كان لا بد بمقتضى الحكمة الالهية أن تتمشى معجزة نبي الاسلام مع هذه
الظاهرة البارزة، فجاء رسول الله صلى الله عليه و آله بمعجزة القرآن وبلاغة
اللسان، ليعلم كل عربي ان هذا الكلام إلهي محض خارج ببلاغته المتناهية عن طاقة
البشر وامكاناتهم الفكرية و الادبية.
وعلى
الرغم من وجود معجزات اخرى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم غير القرآن- و هي اكثر
من أن تستوعب بهذه العجالة-، فان القرآن اعظم هذه المعجزات شأنا و أقومها بالحجة،
لأن العربي الجاهل بعلوم الطبيعة و السنن الكونية قد يشك في تلك المعجزات وينسبها
الى اسباب علمية يجهلها و في طليعتها السحر الذي كان من أقرب الاسباب الى ذهنه
الساذج، و لكنه بما كان يتحلى به من معرفة بفنون البلاغة و اسرار الكلام الفصيح لا
يشك في اعجاز القرآن وعدم قدرة البشر على الاتيان بمثله على أن تلك المعجزات
الاخرى موقتة البقاء، اذ سرعان ما تصبح خبرا تتناقله الرواة، وحديثا تتداوله
الافواه، فينفتح فيها باب الشك وتغدو عرضة للتصديق والتكذيب , أما القرآن فهو باق
بقاء السماوات والارض، واعجازه ماثل امام كل جيل وواضح لكل ذي عينين على مر القرون
و تقادم الايام.
وقد علم
كل من بلغته الدعوة الاسلامية ان محمدا صلى الله عليه و آله قد دعا جميع الناس
وسائر الامم الى الاسلام، وأقام الحجة عليهم بالقرآن، وتحداهم بإعجازه، وطلب منهم
أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، ثم تنزل فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور
مثله مفتريات، ثم تحداهم بالإتيان بسورة واحدة ولو كان العرب- بكل من فيهم من
بلغاء وفصحاء- قادرين على ذلك لأجابوه على هذا التحدي و أسقطوا حجته بإتيانهم
بمثله، ولكنهم عند ما سمعوا القرآن أقروا بالأمر الواقع وأذعنوا لإعجازه، وعلموا
انهم لا يستطيعون المعارضة، فصدق قوم منهم وأعلنوا اسلامهم، وركب آخرون رءوسهم
فأصروا على العناد واختاروا طريق الحرب والقوة.
و يروي
المؤرخون ان الوليد بن المغيرة المخزومي مر يوما في المسجد الحرام فسمع النبي صلى
الله عليه و آله وسلم يتلو القرآن، فاصغى له من بعيد ثم ذهب الى مشركي قومه فكان
مما قاله لهم: «لقد سمعت من محمد كلاما آنفا، ما هو من كلام الانس ولا من كلام
الجن، وان له لحلاوة وان عليه لطلاوة، وان اعلاه لمثمر وان اسفله لمعذق، وانه يعلو
ولا يعلى»(3) .
ويروي
هشام بن الحكم انه اجتمع في بيت الله الحرام سنة من السنين أربعة من كبار الادباء
و المفكرين في عصرهم، هم «ابن ابي العوجاء وابو شاكر الديصاني وعبد الملك البصري
وابن المقفع»- وكانوا من الدهرية المنكرين لوجود الله عز وجل- فخاضوا في حديث الحج
ونبي الاسلام، ثم استقر الرأي لديهم على ضرورة قيامهم بمعارضة القرآن الذي هو اساس
هذا الدين، ليسقط اعجازه بمعارضتهم اياه و مباراتهم له، و تعهد كل واحد منهم أن
ينقض ربعا من القرآن، و جعلوا الموعد لإنجاز هذه المهمة موسم الحج القابل، وعند ما
اجتمعوا في الميقات المعين في بيت الله الحرام تذاكروا فيما فعلوا، فأخبرهم ابن
ابي العوجاء بأنه قضى العام كله متأملا في مجاراة قوله تعالى: {فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80] فلم يقدر على مثله، كما
أخبرهم عبد الملك بأنه قضى عامه مفكرا في مباراة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ
الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ
} [الحج: 73] فلم يستطع ذلك، كذلك كان امر ابي شاكر مع قوله تعالى: {لَوْ كَانَ
فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22] حيث عجز عن الاتيان
بما يشابهها، ولم يكن ابن المقفع بأحسن حظا من اصحابه فقد قضى عامه عاجزا عن
معارضة آية واحدة هي قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا
سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى
الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] ، يقول هشام
وبينما هم في ذلك اذ مر بهم جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فنظر إليهم وقال:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ
هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيرًا } [الإسراء: 88] (4) .
واستمر
اعداء الاسلام على اختلاف عقائدهم وافكارهم وفلسفاتهم ومناهجهم في حربهم لهذا
المعجز- القرآن الكريم- وفي التشكيك في اعجازه وصلاح احكامه، وبذل هؤلاء الاعداء-
على مر القرون- وما زالوا يبذلون من حملات الدس والتشكيك ومن الطاقات والجهود في
سبيل تحقيق هدفهم اللئيم ما لا يدركه حساب و لا يبلغه تقدير.
و كان في
طليعة ما أثاروا من شبه في هذا الصدد تكرارهم للقول بوجود تناقض بين آيات القرآن
ينفي اعجازه و يدل دلالة قاطعة- بزعمهم- على انه من صنع البشر و ليس من و حي
السماء، وضربوا لذلك مثلا قوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41] حيث يتناقض مع قوله تعالى في
مكان آخر من القرآن: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا
} [مريم: 10]، فان الآية الاولى حددت المدة بثلاثة ايام في حين نصت الآية الثانية
على تحديد المدة بثلاث ليال.
و يكفينا
في تفنيد هذه الشبهة أن نشير الى أن لفظ اليوم في اللغة العربية قد يطلق ويراد
منه بياض النهار فقط، كقوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ
وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ } [الحاقة: 7] ، وقد يطلق ويراد منه مجموع النهار والليل
كقوله تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]، كما ان
لفظ الليل قد يطلق و يراد به مدة مغيب الشمس كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا
يَغْشَى } [الليل: 1] وقوله تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ }
[الحاقة: 7] وقد يطلق و يراد منه سواد الليل و بياض النهار كقوله تعالى: {وَإِذْ
وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51].
واذا كان
استعمال لفظي الليل والنهار في هذين المعنيين جائزا وصحيحا في اللغة لم يكن في
الآيتين الكريمتين أي تناقض او اختلاف في المعنى، حيث استعمل لفظا الايام والليالي
بمعنى مجموع بياض النهار وسواد الليل. وليس فيهما ما يثير الشبهة لولا سوء الفهم
او سوء الغرض. {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ
غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء: 82].
وعلى الرغم من كون القرآن معجزة بإسلوبه البليغ
المتناهي في البلاغة، وبيانه الفصيح الذي لا يستطيع البشر الاتيان بمثله، وانسجامه
الرائع المنزه عن كل تضاد او تناقض او اختلاف. فان هناك جوانب اخرى لإعجازه لا
تقل عن هذا الجانب مطلقا، ولعل من ابرزها واكثرها الفاتا للنظر ودلالة على المطلوب
ما اودع الله تعالى فيه من انواع المعارف واسرار العلوم وخفايا الحقائق الكونية،
مما لا سبيل الى احتمال كونه صادرا من بشر عاش تلك الفترة من الزمن، ولم يكن امامه
من سبيل لإدراك مثل هذه الامور.
ومع اقرارنا
بأن القرآن الكريم كتاب دين وعقيدة وتشريع، وليس كتاب فلك او كيمياء او فيزياء،
فإننا نشاهد عرضا في غير واحدة من آياته اخبارا دقيقة عن كثير من سنن الكون ومسائل
الطبيعة مما لا يمكن العلم به في تلك العصور الا من طريق الوحي الالهي.
و قد أخذ
القرآن بإسلوب حكيم جدا في اخباره عن هذه الاسرار، فصرح ببعضها حيث يحسن التصريح،
واشار الى بعضها حيث تكون الاشارة أولى، لان بعض تلك الحقائق مما يستعصي فهمه على
عقول الناس يومئذ، فكان من الحكمة أن يشير إليها اشارة تتضح لأهل العصور المقبلة
حينما يتقدم العلم وتتجلى الحقائق، وذلك مثل قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ مَهْدًا} [طه: 53]، فان هذه الآية الشريفة تشير الى حركة الارض اشارة لم
تفهم الا بعد قرون، وقد استعارت كلمة «المهد» تعبيرا عن الاهتزاز و الحركة. و انما
أشار القرآن الى هذه الحقيقة اشارة غامضة و لم يصرح بها، لان الناس كانوا يرون في
سكون الارض امرا بديهيا لا يقبل المناقشة و الجدل، بل كان القول بالحركة في نظرهم
مساوقا للخرافة او الاستحالة.
واننا اذ نورد فيما يأتي نماذج من تلك الحقائق العلمية التي ذكرها
القرآن الكريم تصريحا تارة وتلميحا تارة اخرى، نحيل طالبي التفاصيل على الكتب
المعنية بهذا الموضوع- وهي كثيرة ومتوفرة-، وكل غرضنا- هنا- أن نعرض بعض الامثلة
والشواهد استطرادا في الحديث واتماما لسياق البحث:
فمن تلك
الاشارات العلمية ما جاء في قوله تعالى:
{يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [الأنعام: 125]
حيث ثبت بالتجربة وبعد أن طار الانسان وحلق على ارتفاعات مختلفة: ان الصعود في
الجو والتعرض لطبقاته العليا يصحبه حتما ضيق الصدر حتى تصل الحال الى درجة
الاختناق على ابعاد تقل فيها كمية الاكسجين (5) .
ومن تلك
الاشارات العلمية أيضا قوله تعالى:
{وَأَرْسَلْنَا
الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]، ويقول العلم الحديث: ان التلقيح نوعان: ذاتي
يلقح به النبات نفسه، و خلطي بواسطة انتقال حبوب اللقاح من نبتة الى بويضات نبتة
أخرى، ولا بد من وجود وسائل تقوم بنقل حبوب اللقاح، وربما كان ذلك لمسافات بعيدة
جدا، وأهم هذه الوسائل هي الرياح, بل ان هناك انواعا من تلك النباتات التي يحتم
تركيبها ان تلقح خلطيا لا يمكن تلقيحها بغير واسطة الرياح (6) .
ومن تلك
الاشارات ما يؤكده علماء الفلك من أن الشمس- كأي نجم آخر- لا بد أن يعتريها ازدياد
مفاجئ في حرارتها و حجمها و اشعاعها بدرجة لا تصدقها العقول، وعند ذلك يتمدد سطحها
الخارجي بما حوى من لهب ودخان حتى يصل القمر ويختل توازن المجموعة الشمسية كلها
وكل شمس في السماء لا بد ان تمر بمثل هذه الحالة قبل ان تحصل على اتزانها الدائم،
ولم تمر شمسنا بالذات بهذا الدور بعد، وبهذا يتضح لنا بجلاء معنى قوله تعالى في
تحديد يوم القيامة وفناء العالم: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ
* وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ
الْمَفَرُّ} [القيامة: 7 - 10] (7) .
ومن
الحقائق العلمية التي ذكرها القرآن الكريم قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى
النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا
يَعْرِشُونَ } [النحل: 68]. و قد حدثتنا المراجع العلمية المعنية بهذا الموضوع ان
النحل قد اتخذت أول ما اتخذت لها مسكنا من الجبال، وكانت تعيش في المغارات وتتوالد
فيها، ثم حدثت لها عدة تطورات من جهة البيئة والعوامل الجوية اضطرتها الى الانتقال
من سكنى الجبال الى سكنى الاشجار، فكانت تنتخب الشجرة التي فيها ثغرات وثقوب
لتتخذها بيتا ومسكنا.
و لما
أراد الانسان أن يتألفها- كما فعل مع كثير من الحيوانات- صنع لها ما يشبه المساكن
التي رآها تسكن فيها، و كانت تلك المساكن مصنوعة من الطين، ثم أدخلت عليها
التحسينات باستمرار فصنعت من القش ومن الخشب، ثم تطورت الى ما هي عليه اليوم. واذن
فانحدار النحل او تطورها في السكنى من الجبال الى الاشجار ثم قابليتها للسكن في أي
بيت يعرشه الانسان هو ما ينطق به القرآن (8) .
ومن تلك
الحقائق العلمية التي أنبأنا عنها القرآن الكريم ما يتعلق بالأرض، مما كان مجهولا
لم يعرفه العلماء الا في السنين القريبة الماضية، من أن الارض مهما اختلفت انواعها
لها مسام يتخللها الهواء، بل ان اختلاف حجم المسام وعددها هو السبب الرئيس في
اختلاف نوع الارض طينية او رملية و لم يعرف الا أخيرا ان هذه المسام بها هواء، وان
نزول الماء على الارض يدفع الهواء امامه و يحل محله، و بتقدم علوم الكيمياء و
الطبيعة عرف ان الطين يتمدد بالماء و ينكمش بالجفاف، وانه عند امتلاء مسام الارض
بالماء تتحرك جزئيات الطين بقوة دفع الماء في المسام، فكأن الارض اذا ما نزل عليها
الماء تحركت و زادت في الحجم، و قد أمكن قياس حركة الارض اذا أصابها الماء كما
أمكن معرفة الزيادة في حجمها. وهذه الحقائق الثابتة التي تعتبر وليدة التقدم
العلمي المعاصر كان القرآن قد أنبأنا بها بقوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ
هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] ، والاهتزاز هو الحركة، وربت
أي زادت في الحجم، وقد فسرت هذه الحقائق ما يشاهد في بعض المباني الحديثة البناء
من انهيارات او شروخ بعد سقوط الامطار او ابتلال البناء بالماء(9) .
ومن تلك
الحقائق أيضا ما ذهب إليه العلم الحديث من: ان افرازات الجسم على نوعين: نوع له
فائدة في الجسم مثل افرازات الهضم والتناسل وبعض الافرازات الداخلية التي تنظم اجهزة
الجسم وانسجته، وهذا النوع ضروري للحياة وليس فيه أي ضرر.
ونوع ليست
له فائدة مطلقا، بل هو بالعكس يجب افرازه من الجسم الى الخارج، لأنه مكون من مواد
سامة اذا بقيت في الجسم أضرت به، و ذلك مثل البول و البراز و العرق و الحيض.
وعند ما
يقول تعالى في كتابه المجيد: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فانه جل وعلا أراد ان
يعلمنا- قبل ان يصل العلم البشري الى مرحلة معرفة أي شيء عن الافرازات- ان المحيض
أذى وانه لا يفيد الجسم، ثم أمر البشر بالاعتزال عن مباشرة النساء خلال الحيض لأن
اعضاء المرأة التناسلية تكون في حالة احتقان، والاعصاب في حالة اضطراب، بسبب
افرازات الغدد الداخلية، ويكون الاختلاط الجنسي ضررا في هذه الحالة، بل ربما منع
نزول الحيض وأثار كثيرا من الاضطراب العصبي، وقد يكون سببا في التهاب الاعضاء
التناسلية (10) .
ومن تلك
الحقائق أيضا قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ
لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75، 76] ، ويحدثنا علماء الفلك بأن
المسافات بين النجوم تبلغ حد الخيال، وهي جديرة بأن يقسم الخالق بها، لأن مجموعات
النجوم التي تكون أقرب مجرات السماء إلينا تبعد عنا نحو 700 ألف سنة ضوئية، والسنة
الضوئية تعادل عشرة ملايين من الكيلومترات(11) .
وحقيقة
اخرى أشار إليها قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}
[الحجر: 19]، حيث دلت هذه الآية المباركة على أن كل النباتات لها وزن خاص، وقد ثبت
أخيرا ان كل نوع من انواع النبات مركب من اجزاء خاصة على وزن محدد مخصوص، بحيث لو
زيد في نسبة بعض اجزائه أو انقص لتغيرت حقيقته، و ان نسبة بعض هذه الاجزاء من
الدقة ما نحتاج في معرفتها الى أدق الموازين التي عرفها البشر(12) .
وهكذا يكون الجانب العلمي للقرآن دليلا متمما
للجانب البلاغي في اقامة البرهان الجلي القاطع على كونه كتاب الله الذي لا ريب فيه
و معجزة هذا الدين الباقية بقاء الدهر.
{إِنَّ
هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } [الإسراء: 9] {صُنْعَ
اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}
[النمل: 88].
__________________
(1) المنخول للغزالي: 288- 289.
(2)
يراجع البيان في تفسير القرآن: 1/ 76- 79.
(3)
المعجزة الخالدة: 21.
(4)
الاحتجاج: 205.
(5)
الله يتجلى في عصر العلم: 166.
(6)
القرآن الكريم و العلوم الحديثة: 81- 85.
(7) الله يتجلى في عصر العلم: 167.
(8) القرآن الكريم و العلوم الحديثة: 19- 21.
(9) القرآن و العلم الحديث: 82- 83.
(10) الاسلام و الطب و الحديث: 40.
(11) الله يتجلى في عصر العلم: 166.
(12) البيان: 1/ 54.
|
|
كل ما تود معرفته عن أهم فيتامين لسلامة الدماغ والأعصاب
|
|
|
|
|
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل تناقش تحضيراتها لإطلاق مؤتمرها العلمي الدولي السادس
|
|
|