أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-05-2015
976
التاريخ: 11-08-2015
971
التاريخ: 26-05-2015
2181
التاريخ: 26-05-2015
3216
|
كانت المعتزلة تعتمد على العقل في المسائل الكلامية ، ويؤوّلون النصوص القرآنية عندما يجدونها مخالفة لآرائهم ـ بزعمهم ـ ولا يكادون يعتمدون على السنة ، ولأجل ذلك نرى أنّهم أوّلوا الآيات الكثيرة الواردة حول الشفاعة ـ الدالّة على غفران الذنوب بشفاعة الشافعين ـ بأنّ المراد رفع درجات الصالحين بشفاعة الشفعاء ، لا غفران ذنوب الفاسقين.
وكان المحدّثون يرون الكتاب والسنّة مصدراً للعقائد ، وينكرون العقل ورسالته في مجالها ، ولم يعدّوه من أدوات المعرفة في الأُصول ، فكيف في الفروع ، ولا شكّ أنّ هذا خسارة كبيرة لا تجبر.
وقد جاء الإمام الأشعري بمنهج معتدل بين المنهجين ، وقد أعلن أنّ المصدر الرئيسي للعقائد هو الكتاب والسنّة ، وفي الوقت نفسه خالف أهل الحديث بذكاء خاص عن طريق استغلال البراهين العقلية والكلامية على ما جاء في الكتاب والسنة.
كان أهل الحديث يحرّمون الخوض في الكلام ، وإقامة الدلائل العقلية على العقائد الإسلامية ، ويكتفون بظواهر النصوص والأحاديث ، ولكن الأشعري بعد براءته من الاعتزال وجنوحه إلى منهج أهل الحديث ، كتب رسالة خاصة في استحسان الخوض في الكلام (1). وبذلك جعل نفسه هدفاً لعتاب الحنابلة المتزمّتين الذين كانوا يرون الخوض في هذه المباحث نوعاً من الزيغ والضلال.
ولأجل ذلك تفترق كتب الشيخ الأشعري وتلاميذ منهج هـ ممن أتوا بعده كالقاضي أبي بكر الباقلاني ، وعبد القاهر البغدادي ، وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني ـ عن كتب الحنابلة المتعبّدين بظواهر النصوص. وقد عزلوا العقل عن الرسالة المودعة له ، حتى في الكتاب والسنّة. ولوجود هذا التفاوت ظل المذهب الأشعري غير مقبول عند الحنابلة في فترات من الزمن.
ولأجل ذلك ترى أنّ الأشعري بحث عن كثير من العقليات و الحسيات التي لا صلة لها بالعقيدة والديانة ، لمّا وجد أنّ المعتزلة والفلاسفة بحثوا عنها بلسان ذلق وذكاء بارز ، وترى أنّ الجزء الثاني من كتاب « مقالات الإسلاميين » يبحث عن الجسم والجواهر ، والجوهر الفرد ، والطفرة والحركة والسكون ، إلى غير ذلك من المباحث التي يبحث عنها في الفلسفة فى الأُمور العامة ، وفي قسم الطبيعيات.
ومع أنّ الإمام الأشعري أعطى للعقل مجالاً خاصاً في باب العقائد أخذ ينكر التحسين والتقبيح العقليّين ولا يعترف بهما.
وبذلك افترق عن منهج الاعتزال والعدلية بكثير ، واقترب من منهج أهل الحديث ، وقد سمعت أنّه رقي كرسياً في جامع البصرة ونادى بأعلى صوته أنّه كان يقول بالعدل وقد انخلع منه.
والخسارة التي توجهت إلى المذهب الكلامي الأشعري من تلك الناحية لا تجبر أبداً ، كما سيوافيك بيانه عند عرض آرائه.
ربما يتخيل القارئ من إنابة الأشعري إلى مذهب أهل الحديث أنّه لجأ إلى عقيدة المحدّثين ( وفيهم أهل التنزيه والتقديس ، وفيهم أهل التشبيه والتجسيم ) وقبل ذلك المنهج بلا تغيير ولا تصرف ، ويقوى ذلك التخيّل إذا اطّلع على ما ذكره في مقدمة كتاب « الإبانة » ، حيث إنّه يصرح فيها بأنّه على
مذهب أئمّة الحديث ، وفي مقدمتهم إمام الحنابلة ، ويقول : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها ، التمسك بكتاب ربّنا عزّ وجلّ وبسنّة نبيّنا (صلى الله عليه واله وسلم) وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمّة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ـ نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبت هـ قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون ، لأنّه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحقّ ، ودفع به الضلال ، وأفصح به المنهاج ، وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين ، وشكّ الشاكّين ، فرحمة الله عليه من إمام مقدّم ، وجليل معظم ، وكبير مفخم ، وعلى جميع أئمّة المسلمين. (2)
ويقرب من ذلك ما ذكره في مقالات الإسلاميين ، حيث إنّه بعد ما سرد عقائد أهل الحديث قال : وبكلّ ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب. (3)
إلاّ أنّ السابر في كتبه يقف على أنّ هذه التصاريح ليست على إطلاقها ، وإنّما اتّخذها واجهة لإيجاد المنهج الوسط بين المنهجين.
فإذا كان بعض أهل الحديث يصرون على إثبات الصفات الخبرية لله تعالى ، كالوجه واليد والرجل والاستواء على العرش ، حتى اشتهروا بالصفاتية ، كما اشتهرت المعتزلة بنفاة الصفات ومؤوّليها. فجاء إمام الأشاعرة بمنهج وسط ، وزعم أنّه قد أقنع به كلا الطرفين ، فاعترف بهذه الصفات كما ورد في الكتاب والسنّة بلا تأويل وتصرف ، ولما كان إثباتها على الله سبحانه بظواهرها يلازم التشبيه والتجسيم ـ وهما يخالفان العقل ، ولا يرضى بهما أهل التنزيه من العدلية ـ أضاف كلمة خاصة أخرجته عن مغبّة التشبيه ومزلقة التجسيم ، وهي أنّ لله سبحانه هذه الصفات لكن بلا تشبيه وتكييف.
وهذا هو المميز الثاني لمنهج الأشعري ، فقد تصرف في الجمع بين المنهجين في كلّ مورد بوجه خاص ...
وقد تفطّن إلى ما ذكرناه بعض من جاء بعده ، منهم :
ابن عساكر في ترجمته عن الأشعري فقال : إنّه نظر في كتب المعتزلة ، والجهمية والرافضة ، فسلك طريقة بينها. قال جهم بن صفوان : العبد لا يقدر على إحداث شيء ولا على كسب شيء ، وقالت المعتزلة : هو قادر على الإحداث والكسب معاً. فسلك طريقة بينهما ، فقال : العبد لا يقدر على الإحداث ، ويقدر على الكسب. فنفى قدرة الإحداث وأثبت قدرة الكسب ، وكذلك قالت الحشوية المشبهة : إنّ الله سبحانه يُرى مكيّفاً محدوداً كسائر المرئيات ، وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية : إنّه سبحانه لا يرى بحال من الأحوال ، فسلك طريقة بينهما فقال : يرى من غير حلول ، ولا حدود ، ولا تكييف ، فكما يرانا هو سبحانه وتعالى وهو غير محدود ولا مكيّف ، كذلك نراه وهو غير محدود ولا مكيّف.
وكذلك قالت النجارية : إنّ الباري سبحانه بكلّ مكان من غير حلول ولا جهة وقالت الحشوية والمجسّمة : إنّه سبحانه حال في العرش وإنّ العرش مكان له ، وهو جالس عليه. فسلك طريقة بينهما فقال : كان ولا مكان فخلق العرش والكرسي ولم يحتج إلى مكان ، وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه ، وقالت المعتزلة : يده يد قدرة ونعمة ، وجهه وجه وجود ؛ وقالت الحشوية : يده يد جارحة ، ووجهه وجه صورة. فسلك طريقة بينهما فقال : يده يد صفة ، ووجهه وجه صفة ، كالسمع والبصر.
وكذلك قالت المعتزلة : النزول : نزول بعض آياته وملائكته ، والاستواء بمعنى الاستيلاء. وقالت المشبهة والحشوية : النزول : نزول ذاته بحركة ، وانتقال من مكان ، إلى مكان ، والاستواء : جلوس على العرش وحلول فيه. فسلك طريقة بينهما فقال : النزول صفة من صفاته ، والاستواء صفة من صفاته وفعل من أفعاله في العرش يسمّى الاستواء (4).
إلى غير ذلك من الموارد التي تصرّف فيها في المذاهب والمناهج وكوّن منها مذهباً.
وقال « زهدي حسن جار الله » المصري :
« لقد كان المستقبل ، بعد الحركة الرجعية ، يلوح سيّئاً قاتماً ، وكان يبدو أنّ العناصر الرجعية ، ستدوس كلّ ماعداها ، وأنّ كلّ حركة ترمي إلى التقدم العلمي ، والتحرر الفكري ، ستخمد أنفاسها... لولا أن قام « أبو الحسن الأشعري » ( المتوفّى330 هـ ) ، فأنقذ ما أمكن إنقاذه من الموقف... كان الأشعري معتزلياً صميماً ، ولكنّه أدرك ببصره النافذ وعقله الراجح ، حقيقة الوضع. رأى الهوة بين أهل السنّة وبين أهل الاعتزال في اتّساع وازدياد ، ووجد الحركة الرجعية تقوى وتشتد ، فعلم أنّ الاعتزال صائر لا محالة إلى زوال.
فأزعجته هذه الحقيقة المروعة وأقضّت مضجعه ، ولذلك تقدم إلى العمل... فتنكّر للمعتزلة ، وأعلن انفصاله عنهم ورجوعه إلى حظيرة السنّة (5) غير أنّه لم يرجع إليها فعلاً كما أعلن للملأ ، بل اتخذ طريقاً وسطاً بينها وبين مذهب المعتزلة (6) ، وقد صادف هذا العمل قبولاً لدى الناس ، ما عدا الحنابلة ، ولاقى استحساناً ، ولا عجب فإنّ الجمود على التقليد ، ما كان ليروق للكثيرين بسبب تقدم الأُمّة في الحضارة واقتباسها العلوم العقلية ، واطّلاعها على فلسفة الأقدمين ، وفي الوقت نفسه أصبح الناس لا يرتاحون إلى المعتزلة بعد أن تطرّفوا في عقائدهم ، وأساءوا التصرف مع غيرهم. فكانت الحاجة تدعو إلى من يؤلّف بين وجهتي نظر السنّة والاعتزال ، وهذا هو ما بدأه الأشعري ، وأكمله من بعده أتباعه الكثيرون الذين اعتنقوا مذهبه ، وساروا على طريقه ، وهم صفوة علماء الإسلام في وقتهم ، وخيرة رجاله ، كالقاضي أبي بكر الباقلاني (7) ( المتوفّى403 هـ ) ، وابن فورك ( المت (8) وفّى 406 هـ ) ، وأبي إسحاق الإسفرائيني ( المتوفّى 418 هـ ) (9) ، وعبد القاهر البغدادي ( المتوفّى 429 هـ ) (10) والقاضي أبي الطيب الطبري ( المتوفّى 450 هـ ) (11) ، وأبي بكر البيهقي ( المتوفّى 458 هـ ) (12) ، وأبي القاسم القشيري ( المتوفّى 465 هـ ) (13) ، وأبي إسحاق الشيرازي ( المتوفّى 476 هـ ) رئيس المدرسة النظامية ببغداد (14) ، وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني (المتوفّى 478 هـ).(15)
والإمام الغزالي ( لمتوفّى 505 هـ ) (16) ، الذي أصبحت الأشعرية بجهوده كلاماً مقبولاً في الإسلام ، وابن تومرت ( لمتوفّى 524 هـ ) المغربي ، تلميذ الغزالي الذي نشر الأشعرية في بلاد المغرب (17) ، والشهرستاني ( لمتوفّى 548 هـ ) (18) ، وغيرهم كثير ، شرحوا عقائد الأشعري ونظموها وزادوا عليها ودافعوا عنها بالأدلّة والبراهين العقليّة ، فكان لهم أكبر الفضل وأعظم الأثر في نجاح المذهب الأشعري وانتشاره.
وممّا يدلّ دلالة واضحة على أنّ هذه الحركة التي قام بها الأشعري كانت ضرورية ، ويظهر لنا بجلاء أنّ الناس كانوا يشعرون بوجوب وضع حدّ لذلك النزاع المستحكم بين أهل السنّة وبين المعتزلة باتّباع طريق وسط بين قوليهما ، أنّ اثنين من كبار علماء المسلمين المعاصرين للأشعري قاما ـ على بعدهما عن هـ بنفس المحاولة التي قام الأشعري بها في البصرة ، وهما أبو جعفر الطحاوي ( لمتوفّى 331 هـ ) (19) ، الحنفي في مصر ، وأبو منصور الماتريدي ( المتوفّى 333 هـ ) الحنفي في سمرقند.
يلاحظ عليه : بالرغم ممّا ذكره هذا الكاتب المصري ، فإنّ الأشعري لم يتخذ موقفاً محايداً ، بل استعمل سلاح العقل ضد المعتزلة ، فهو بدل أن يستعمله في نصرة الدين ، استعمله في هدم الاعتزال ، ولأجل ذلك خدم الرجعية خدمة عظيمة وأنقذها من الهلاك والدمار ؛ ترى أنّه دعا إلى رؤية الله سبحانه يوم القيامة الذي لا ينفك عن القول بالتجسيم والتشبيه ، وإن أضاف إليه بأنّ الرؤية بلا إثبات جهة وكيف ؛ وإلى القول بالخلق والقدر الذي يجعل الإنسان كالريشة في مهب الرياح ، وإن أضاف إليه بأنّ العبد كاسب والله خالق ـ ولم يُفهم معنى الكسب إلى يومنا هذا ، بل صار شيئاً معقّداً فسره كلّ حسب ذوقه ـ والى إنكار التحسين والتقبيح العقلييّن اللّذين يبتنى عليهما لزوم تصديق الأنبياء عند التحدي بالمعاجز ، إلى غير ذلك من الأُصول التي كانت عليها عقيدة أهل الحديث.
والله سبحانه هو العالم بالضمائر والمقاصد ، وإنّ الشيخ الأشعري لماذا استخدم سلاح المنطق ضدّ دعاة الحرية والاختيار ، وهل كان هذا مجاراة للرأي العام وطمعاً في كسب عواطف الحنابلة ، أو كان هناك غاية أُخرى لا نعرفها ، ولكن الله من وراء القصد.
وقد وقف الكاتب على سوء قضائه ، فاستدركه في موضع آخر من كلامه ، وقال:
استمرت الحركة الرجعية في الدولة الإسلامية بعد ظهور الأشعرية قوية ، وقد قلت : إنّ الأشعرية نفسها بالنسبة إلى الاعتزال ، السابق لها ، كانت حركة رجعية ، وكانت رجعية أيضاً بمعنى آخر ، وذلك أنّها استخدمت سلاح العقل والمنطق الذي أخذته عن المعتزلة ، لا في نصرة الدين فحسب ، بل في مقاومة الاعتزال وهدمه ، وقد يكون الأشاعرة فعلوا ذلك مجاراة للرأي العام ، وطمعاً في كسب عطفه وتأييده ، ومهما يكن فجدير بنا أن نلاحظ أنّ الأشاعرة خضعوا للقوى الرجعية إلى حدّ كبير ، فإنّهم وصلوا في تقدمهم الفكري إلى درجة لم يقدروا أن يتجاوزوها كما تجاوزها المعتزلة ، ولذلك فقد استولى عليهم الجمود ، وصاروا إلى ركود ، ومن أدلة سيطرة الرجعية على الموقف ما يذكره « مسكويه » : أنّ عضد الدولة البويهي أفرد في داره موضعاً خاصاً للحكماء والفلاسفة يجتمعون فيه للمفاوضة ، آمنين من السفهاء ورعاع العامة. (20)
ولهذا فإنّ الحركات الفكرية التي ظهرت بعد نكبة المعتزلة ، كإخوان الصفا ، لم تجسر أن تعلن عن نفسها خشية طغيان العامة عليها ، فاضطرت إلى أن تعمل في الخفاء ، فكان من أسوأ النتائج التي ترتّبت على ذلك ، شيوع عادة تأليف الفرق والجمعيات السرية كالقرامطة والحشّاشين الذين كان لهم أثر كبير في إضعاف الإسلام وتأخيره ، أمّا الذين وجدوا في أنفسهم الجرأة ليتابعوا دروسهم وأبحاثهم على رؤوس الأشهاد ، وهم جماعة الفلاسفة كالفارابي ، وابن سينا ، وابن رشد ، فقد كانوا مكروهين ، وظلوا طوال الوقت يحيون في جوّ ناء منفصل عن الجو الذي تعيش فيه سائر الأُمّة. (21)
ثمّ إنّ الظاهر ممن ترجموه هو أنّ المذهب الأشعري انتشر من فوره ، يقول الكوثري : وفّقه الله لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم ، وقمع المعاندين وكسر تطرّفهم ، وتواردت عليه المسائل من أقطار العالم فأجاب عنها ، فطبق ذكره الآفاق ، وملأ العالم بكتبه وكتب أصحابه في السنّة ، والرد على أصناف المبتدعة والملاحدة وأهل الكتاب.
وتفرق أصحابه في بلاد العراق وخراسان والشام وبلاد المغرب ، ومضى لسبيله ، وبعد وفاته بيسير استعاد المعتزلة بعض قوتهم في عهد بني بويه ، لكن الإمام ناصر السنة أبا بكر بن الباقلاني قام في وجههم ، وقمعهم بحججه ، ودان للسنّة على الطريقة الأشعرية أهل البسيطة إلى أقصى بلاد أفريقية. (22)
وقد جعله ابن عساكر أحد من يقيّضه الله سبحانه في رأس كلّ مائة سنة ، يعلّم الناس دينهم ، فيعدّ في المائة الأُولى عمر بن عبد العزيز ، وفي المائة الثانية الشافعي ، وفي المائة الثالثة أبا الحسن الأشعري ، وعلى رأس المائة الرابعة ابن الباقلاني. (23)
أقول : مضافاً إلى أنّ أصل الحديث غير ثابت ، وأنّ جعل هؤلاء من مجدّدي المذهب ـ خصوصاً عمر بن عبد العزيز ، مع كونه معاصراً للإمام الباقر (عليه السلام) الذي لا يشكّ في إمامته في العلوم من له إلمام بالتاريخ ـ من الغرائب ، إنّ ما ذكره ابن عساكر هنا يضادُّ ما ذكره في موضع آخر من أنّ عامة المسلمين وجمهورهم كانوا لا يأتمون بمذهبه في عصر ابن عساكر ، حيث قال :
إن قيل : إنّ الجم الغفير في سائر الأزمان ، وأكثر العامة في جميع البلدان ، لا يقتدون بالأشعري ولا يقلّدونه ولا يرون مذهبه ولا يعتقدونه ، وهم السواد الأعظم ، وسبيلهم السبيل الأقوم.
قيل : لا عبرة بكثرة العوام ولا الالتفات إلى الجهّال ، وإنّما الاعتبار بأرباب العلم ، والاقتداء بأصحاب البصيرة والفهم ، وأُولئك في أصحابه أكثر ممن سواهم ، ولهم الفضل والتقدّم على من عداهم ، على أنّ الله عزّوجلّ قال : {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود : 40] (24).
على أنّ ابن النديم لا يذكر من أصحابه إلاّ شخصين : الدمياني وحمويه من أهل سيراف قال : وكان الأشعري يستعين بهما على المهاترة والمشاغبة ، وقد كان فيهما علم بمذهبه ، ولا كتاب لهما يعرف. (25)
ولأجل عدم انتشار مذهبه في عصره بل بعد مدّة من وفاته ، نجد الحنابلة لا يترجمونه في طبقاتهم ، ولا يعدونه منهم ، وتمقته الحشوية منهم فوق مقت المعتزلة ، مع أنّه صرح في بعض كلماته بأنّه على مذهب أحمد. (26)
نعم ، لا شكّ في انتشار مذهبه بعد القرن السادس إلى أن صار مذهباً رسمياً للسنّة في جميع الأقطار ، وقلّ من يتخلّف عنه ، وهو مستمر إلى العصر الحاضر.
يقول تقي الدين أبو العباس المقريزي ( المتوفى عام 845 هـ ) بعد سرد عقائده إجمالاً : فهذه جملة في أُصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية ، والتي من جهر بخلافها أُريق دمه. (27)
ولأجل هذه الشهرة نرى أصحاب المذاهب يتجاذبونه إلى مذاهبهم. فالشافعية تقول : إنّه كان شافعياً ، والمالكية تقول : إنّه كان مالكياً. وبما أنّه نشأ في العراق فالظاهر أنّه نشأ على مذهب أبي حنيفة ، وإنّما هو رجع عن الاعتزال الذي هو مذهب كلامي ، ولم يرجع عن مذهب فقهي. ولكن الظاهر من مقدمة كتاب هـ الإبانة ـ أنّه كان على مذهب إمام الحنابلة. وقال الكوثري : إنّ الغاية من هذه المظاهرة هو النفوذ في الحشوية ليتدرج بهم إلى معتقد أهل السنّة.
وعلى كلّ تقدير فلم يعلم مذهبه الفقهي على وجه التحقيق.
هذا والخدمة التي قام بها الأشعري في مقابلة المجسّمة والمشبّهة وأصحاب البدع واليهودية والمسيحيّة خدمة نسبية لا تنكر ، غير أنّ الذي يؤسف المسلم الغيور هو : أن نرى متزمتة الوهابية وبعض رجال الإصلاح في هذا العصر داعين إلى مذهب الحشوية باسم السلفية مقلّدين في كلّ ما يذكره شيخهم ابن تيمية الذي يقول عند الكلام في الاستواء : ولو شاء الله لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته فكيف على عرش عظيم (28) وتلميذه المعروف بابن القيم الذي يفسر المقام المحمود في قوله تعالى : {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء : 79]. بإقعاد الرسول على العرش (29) .
______________________
1 ـ طبعت الرسالة لأوّل مرّة مع اللمع في بيروت عام 1953م ، ومستقلة في حيدر آباد الدكن في الهند عام 1344 هـ ، وسيوافيك نصها.
2 ـ الإبانة : 17.
3 ـ مقالات الإسلاميين : 315.
4 ـ التبيين : 149 ـ 150.
5 ـ الإبانة ، 8 ؛ والوفيات : 1/464.
6 ـ مقدّمة ابن خلدون : 406 ؛ الخطط : 4/184.
7 ـ الوفيات : 1/686.
8 ـ طبقات الشافعية : 3/52 ـ 54.
9 ـ طبقات الشافعية : 3/111 ـ 114.
10 ـ طبقات الشافعية : 3/238.
11 ـ طبقات الشافعية : 3/176.
12 ـ طبقات الشافعية : 3/4.
13 ـ الوفيات : 1/425.
14 ـ طبقات الشافعية : 3/89 ـ 99.
15 ـ طبقات الشافعية : 3/250.
16 ـ الوفيات : 1/661 ؛ طبقات الشافعية : 4/103.
17 ـ طبقات الشافعية : 4/71 ـ 74.
18 ـ الوفيات : 1/688 ؛ طبقات الشافعية : 4/79.
19 ـ بل توفّي عام 321 هـ.
20 ـ تجارب الأُمم : 6/408.
21ـ المعتزلة : 264.
22 ـ مقدّمة التبيين : 15.
23 ـ التبيين : 52.
24ـ التبيين : 331.
25 ـ فهرست ابن النديم : 271.
26 ـ مقدّمة التبيين بقلم الكوثري : 16.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|