أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-01-2015
1839
التاريخ: 11-10-2014
1809
التاريخ: 2024-08-30
369
التاريخ: 2023-08-13
1534
|
ليس الكلام عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل الكلام عن غيره من عظماء الرجال الذين كان لهم فضل على الانسانية بتوجيهها وجهة الخير والحق والكمال.
والانسان مهما اوتي من فصاحة الكلام ، وقوة التعبير ، وسعة الخيال ، ودقة التصوير ، فما هو ببالغ الوفاء في ناحية من النواحي التي برّز فيها ، فضلا عن الاحاطة بكل النواحي التي فاق فيها غيره من سائر البشر.
إذا كانت النفس الانسانية في ذاتها معضلة العلم ، ومشكلة الفلسفة ، وعقدة الحكمة من القدم إلى اليوم ، وإذا كانت المعارف الانسانية بأجمعها ، وقوانين علوم النفس برمتها ، لم تزل قاصرة عن تتبع سير النفس في حركتها وسكناتها ، والاشراف على سر تطوراتها في صلاحها وفسادها ، وعاجزة عن الالمام بصفة عروجها في عالمها على أجنحة الفضائل ، أو هبوطها بدوافع شهوتها إلى حضيض النقص والرذائل ، فكيف يطمع باحث أن يقف على حقيقة روح نزلت من حظائر الملأ الأعلى ، وانفصلت من سرادقات العالم الأسمى ، واتصلت بأبدع وأكمل صورة من صور المادة ، لتأخذ في الأرض بيد أرواح غرقى ، وتنجي من الغم نفوسا هلكى ، وتتم من مكارم الأخلاق خداجا ونقصا ، وتعد النفوس لكمال طالما حنت إليه حنينا وبكت عليه الضمائر شوقا.
درس هذه الروح يستلزم معارف جلى ، وعلما جما ، ويستدعي من الباحث بعلم النفس إحاطة كبرى ، وبضمائر المساتر معرفة عظمى.
من ينكر علينا أنّ هذه الروح المحمدية الطاهرة الكريمة ، نشأت بين قوم كانوا من الدين في وثنية ، ومن الأخلاق في همجية ، ومن العادات في وحشية ، ومن الاجتماع في انقسامات قبلية ، وتحزبات عصبية ، ومن المدارك في جهالة ، ومن الأفكار في ضلالة ، ومن الوجود في عماية ، ومن العقائد في غواية ، ومن الأنظمة في فاقة ، ومن القوانين في حاجة؛ حروب متواصلة ، وأحقاد متوارثة ، ودماء مهدرة ، ومهج مهراقة ، وعادات نشبت فيهم نشوبا ، وغرست فيهم عيوبا ، وجرت عليهم خطوبا ، وطباع خلعتهم عن مقتضى الفطرة ، ونبت بهم عن مطالب الخلقة ، واصطلاحات بعدت بهم عن قوانين الطبيعة ، وألقت بهم إلى مطارح الرذيلة ، وأشربت نفوسهم سموم القطيعة ، صناديد لا يفكرون في غير الغارات ، ولا يفاخرون إلّا بطعن الردينيات وضرب المشرفيات ، شعراء ولكن في الدعوة إلى القتال ، وتيتيم الأطفال ، وإفناء الأهل والمال ، أقوياء ولكن في نسف المعالم ، واكتساح المغانم ، نجداء ولكن ضد بعضهم ، شجعان ولكن على أنفسهم.
ومن ينكر علينا ، أنّ هذه الروح المحمدية الشريفة ، قامت في مبدأ الأمر وحدها بدون نصير ، ولاقت مما يحيط بها من الأرواح مقاومات عنيفة ، ومخاصمات شديدة ، وفتنا مظلمة ، وإحنا حالكة وصدورا وغرة ، وأعداء فجرة؟
وأنها صبرت تجالد هذه الأرواح سنين متوالية ، تأخذها بالنصيحة مرة ، وبالترغيب اخرى ، وبالترهيب حينا ، وبالجدال أحيانا ، فكانت بذلك وحدها أمام امة بأسرها ، ترمقها عن بكرة أبيها شزرا وتتوعدها شرا ، وتهددها سرا وجهرا ، وتنصب لها الحبائل ، وترصد لها المخاتل ، وتغري بها اللئام والرعاع ، وتثير عليها الاحن والأحقاد؟
وكيف فازت في النهاية على جميع مجاوراتها ، وأخضعت لسلطانها جميع عدواتها ، وسائر حواسدها ، وأتمت كل وظائفها ، ثم صعدت إلى حيث أتت ، قريرة العين مرتاحة البال ، لم ينلها من تألب أعدائها شيئا ، ولم يلحقها في أداء وظيفتها فتور ولا ونى ، ولم تصعد حتى نقشت اسمها في صفحات الوجود نقشا لا يمحى ، وأبقت فيه أثرا لا يبلى ، واستخلفت فيه روحا لا تزهق ، وحياة لا تضمحل أفاعيلها في تابعها إلى يومنا هذا.
ومن يرد أن ينكر كل هذه الحوادث فلينكر ، الشمس طالعة والنجوم ساطعة ، ونفسه الجاحدة.
إنّ شخصية رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أوضح شخصيات الانسانية التي سجلتها صحف التاريخ الموثقة بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة ، التي إن أنكر الناس الشمس ودورتها في الفلك ، كان لهم أن ينكروا «محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) » وظهوره في هذه الفترة من التاريخ وفي هذا المكان من العالم. وللّه تعالى في هذا حكمة وتدبير.
نعم لقد كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أكبر معلم عرفته البشرية منذ نشأتها حتى اليوم ، بشهادة القرآن ومن فسّره ، واعتراف كبار المفكرين والحكماء والفلاسفة من مسلمين وغيرهم.
فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) حكيما لم ينجب التاريخ قديما وحديثا مثله.
وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) طبيبا نفسيا لا يرقى إليه أحد مهما مرت الأيام والسنين.
هذا الطبيب النفساني الأوحد اسمه (محمد بن عبد اللّه- صلى الله عليه واله وسلم -) خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين الممدوح في القرآن الكريم بقوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم : 4].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب : 45 ، 46] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء : 107]
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب : 21]
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر : 7]
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة : 128]
والجانب الخلقي في الشريعة الإسلامية ، هو الجانب الايجابي منها ، وهو غاية أحكامها ، ومرمى تعاليمها ، التي تدور حول تهذيب النفوس ، وتقويمها ، وتوجيه الناس بها إلى مقاصد الخير ، ومسالك النفع.
بهذا كانت دعوة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكانت أوامر الشريعة ونواهيها ، وهذا ما يتحقق به قوله تعالى في نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) : {وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ..} فإنه لا شك أن أهم مظاهر الرحمة الالهية ، وأبرز آثارها في الانسان ، هو أن يحمد خلقه ، وتحسن سيرته ، ويستقيم مع الناس على طريق الحق والعدل ، والاحسان خطوة ، وهذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى : إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
والمحسنون حقا هم الذين فتح اللّه قلوبهم للخير ، وسلك بهم مسالك الهدى ، فحسن قولهم ، وصلح عملهم ، وطاب في الناس ذكرهم.
تلك هي غاية الرسالة الاسلامية ، خلق الانسان الصالح ، في المجتمع الصالح ، ولن يكون الانسان صالحا إلّا إذا توازنت قواه المادية والمعنوية جميعا ، وتلاقى
مع بعض على دواعي الخير ، وغايات الإحسان. ولن يكون الإنسان إنسانا صالحا ، إلّا إذا كانت له شخصيته ومكنته وآثاره المحمودة في المجتمع الذي يعيش فيه ، وذلك لا يتحقق إلّا بخلق كريم ، وسيرة محمودة ، وعمل نافع ، وآثار بارزة في ماديات الحياة ومعنوياتها جميعا ..
والعادات ، والمعاملات ، والآداب والأخلاق ، التي رسمتها الشريعة الاسلامية ، إنما غايتها تخريج نماذج طيبة للانسانية ، في صورة المسلم الذي تظهر عليه آثار الاسلام ، فتكسوه رواء يبهر العيون جمالا ، ويملأ القلوب جلالا ، ويثير عواطف الحب والاكبار التي يجدها الانسان في نفسه حين يلتقي بمثل هذا النموذج الكريم من الناس ..
وفي ذلك يقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» «1». ومن تمام مكارم الأخلاق في الانسان أن يشف ويصفو ، وأن ترتفع إنسانيته الى المدى الذي تنتهي إليه الانسانية في أسمى مدارجها ، وفي أعلى مواطن كما لها .. هناك تجد ذلك الانسان الذي تهفو إليه مشاعر الإنسانية ، وتتمثله في الانسان الكامل.
فقد وهب اللّه تعالى لرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) العناصر الأساسية لمكوّنات الشّخصية الانسانية النبيلة.
أ- تواضع لا يعرف الغرور ، ولا التعاظم ، فهو بين رجاله كواحد منهم. فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) : «يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله ، ويرقع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العاري ، ويردف خلفه» «2».
وكان «يجيب دعوة الحرّ والعبد ولو على ذراع أو كراع ، ويقبل الهديّة ولو أنها جرعة لبن ويأكلها ولا يأكل الصّدقة. لا يثبت بصره في وجه أحد» «3» «كان إذا دخل منزلا قعد في أدنى المجلس حين يدخل» «4».
فحياته ومعاشرته (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت عادية تماما وبدون تجمّلات ، بحيث أنّ الغريب كان إذا أقبل على مجلسه (صلى الله عليه وآله وسلم) يضطر أن يسأل : أيكم محمّد؟
ب- وعدل بلغ بصاحبه حدّ الميزان الدقيق الحساس ، دقّة ، إلى درجة أنّه ساوى بين نفسه وبين النّاس في العطاء. ولم يكن يقبل بأدنى تجاوز لحدود اللّه ... فعند ما اخبر أنّ فاطمة المخزوميّة سرقت لم يتقبل وساطة اسامة بن زيد وقال : «إنما هلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد ، وأيم اللّه لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطع محمّد يدها» «5».
ج- وزهد لا يعرفه إلّا النسّاك المتبتّلون للّه المنقطعون للعبادة ، فلبس خشن ، ومأكل جشب ، لئلّا ينسى الفقراء ، ويظلّ ذاكرا فقراء رعيّته ، مارّا بالتجربة النفسية التي يمرّون بها يوميّا.
د- وحلم وصفح صغّر كلّ ما عرف عن حلماء العرب. «فرغم كل الذي لاقاه من قريش في بدء الدعوة ، فإنّه عند انتصاره عليهم في فتح مكة عفا عنهم .. عفا عن (وحشيّ) قاتل عمّه حمزة ، وكذلك فعل مع أبي سفيان وهند» «6».
ه- وشجاعة أدبية لا تعرف المواربة ، ولا تفهم المراوغة والمداجاة.
و- شجاعة أزرت ببطولة كل بطل.
ز- وصفاء ذهن يوحي بأحكام عبقريّة يقف عندها كل عبقري ذاهلا.
ح- وجود شهد له به أعداءه قبل محبيه ، أ ليس هو القائل (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إنّ من موجبات المغفرة بذل الطعام ، وإفشاء السلام ، وحسن الكلام».
و يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) : «خلقان يحبهما اللّه تعالى : حسن الخلق والسخاء. وخلقان يبغضهما اللّه تعالى : سوء الخلق والبخل. وإذا أراد اللّه بعبد خيرا استعمله في قضاء حوائج الناس».
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «يا عجبا لرجل مسلم يجيئه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا. فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لقد كان ينبغي له أن يسارع إلى مكارم الأخلاق. فإنها مما تدل على سبيل النجاة.
فقال له رجل : أسمعته من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
فقال : نعم ، وما هو خير منه ذلك لما اتي بسبايا طيء ، وقفت جارية في السبي فقالت : يا محمد : إن رأيت أن تخلّي عني ، ولا شمت بي أحياء العرب ، فإني بنت سيّد قومي. وإنّ أبي كان يحمي الذّمار ، ويفك العاني ، ويشبع الجائع ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ، ولم يرد طالب حاجة قط ، أنا بنت حاتم الطائي.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : «يا جارية ، هذه صفة المؤمنين حقا ، ولو كان أبوك مؤمنا لترحّمنا عليه. خلّوا عنها فإنّ أباها كان يحب مكارم الأخلاق ، والذي نفسي بيده. لا يدخل الجنة إلّا حسن الأخلاق».
ط- وثقة باللّه لا يعرف لها مثيل ، فأعتق عبيدا من يده ، ولم يقل لسائل : لا ، قط. تلك هي إنسانيته (صلى الله عليه وآله وسلم) التي لا تجارى.
أجل. ما كاد الوحي ينزل عليه حتى أشرق قلبه بالايمان فصار يرى اللّه في كل شيء : يرى مظاهر جماله وجلاله ، ودلائل قدرته وعظمته ، وآثار حكمته ورحمته.
يرى ذلك كله في نفسه ، وفي الطبيعة من حوله ، في الأرض ، وفي السماء ، في الحياة ، وفي الموت ، فتنفعل نفسه بهذا كله فيهتف من أعماق قلبه :
«اللّهم لك الحمد ، أنت قيّم السموات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد ، أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد ، أنت الحق ، ولقاؤك حق ، وقولك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق ، والساعة حق.
اللّهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت.
أنت المقدم ، وأنت المؤخر. لا إله إلّا أنت. ولا حول ولا قوة إلّا باللّه».
وتبقى هذه الحقيقة ماثلة في ضميره ، وشاخصة بين عينيه ، فلا تفارقه في ليله أو نهاره. ولا تزايله في نومه أو انتباهه. ولا تزيد على الأيام إلّا تألقا.
وإنها تتجلى في زهده. وورعه. وعزوفه عن متاع الدنيا وزهرتها كما تبدو في صلاته الخاشعة ، وذكره الدائم ودعائه الحار ، وصيامه المتواصل ، ولجئه إلى اللّه في كل شيء ، حتى لتكون آخر كلمة يلفظها : «إلى الرفيق الأعلى ، إلى الرفيق الأعلى».
وكما أضاء الوحي جوانب نفسه فعرف الحقيقة الكبرى ، فقد حرك كوامن الخير وعواطف النبل فيه كذلك ، فأصبح إنسانا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان ، أصبح يحمل بين جنبيه صدرا رحيبا. وقلبا رحيما ..
فممّا حفظ من صفاته أنه متواضع يخفض جناحه لغيره ، ويجالس الفقراء ، ويؤاكل المساكين ، ويقبل عذر من إعتذر إليه. ولا يغلظ على أحد. ولا يواجهه بما يكرهه. يبدأ من لقيه بالسلام والمصافحة. ومن قادمه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف. وهو خضيب الوجه ، بسط الكف ، يكرم كل من دخل عليه حتى ربما بسط له ثوبه يجلسه عليه. يبذل من ذات نفسه لا يستأثر بشيء. ولا يبيت عنده درهم ولا دينار. يكرم أهل الفضل ، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم. وهو أبعد الناس غضبا ، وأسرعهم رضا ، وأرحم الناس بالناس وأنفع الناس للناس.
وصفه أمير المؤمنين الأمام علي (عليه السلام) فقال : «كان أجود الناس كفّا ، وأوسع الناس صدرا ، وأصدق الناس لهجة ، وأوفاهم ذمة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة ، من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفة أحبه. يقول ناعته : «لم أر قبله ولا بعده مثله». وما سئل عن شيء قط إلّا أعطاه ... وكان أزهد الأنبياء ، ما رفعت له مائدة قط وعليها طعام ، وما أكل خبز بر قط ، ولا شبع من خبز شعير ثلاث ليال متواليات قط. توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بأربعة دراهم وما ترك صفراء ولا بيضاء».
وقال عنه سبطه الأمام الحسن بن علي (عليه السلام) عن خاله هند ابن أبي هالة التميمي قال : «كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ليست له راحة ولا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ، ويتكلم بجوامع الكلم فصلا ، لا فصول فيه ولا تقصير ، دمث ليس بالجافي ولا بالمهين يعظم وإن دقت ولا يذم منها شيئا ، ولا يذم ذواقا ، ولا يمدحه ، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها ... جل ضحكه التبسم ... ويتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس ، فيحسن الحسن ويقويه ويقبح القبيح ويوهنه ... لا يقصر عن الحق ولا يجوزه ، الذي يلونه من الناس خيارهم. أفضلهم عنده أعمهم نصيحة ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
لا يجلس ولا يقوم إلّا على ذكر اللّه .. يعطي كلا من جلسائه نصيبه ، حتى لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه ، من جالسه أو قادمه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، ومن سأله عن حاجة لم يرده إلّا بها أو بميسور من القول.
قد وسع الناس منه بسطه وخلقه ، فكان لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء. فمجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، ولا يوهن فيه الحرم. يوقرون فيه الكبير ، ويرحمون فيه الصغير ، ويؤثرون ذا الحاجة ، ويحفظون الغريب ، وكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا صخاب ، ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مداح» «7».
وقال فيه حفيده الأمام الصادق (عليه السلام) : «كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم لحظاته بين أصحابه ، فينظر الى ذا وينظر الى ذا بالسوية ، ولم يبسط رسول اللّه رجليه بين أصحابه قط».
ولا يزال قوله المأثور عند ما فتح مكة ، معقل الشرك ورحى المؤامرات التي كانت تحاك ضده : «اذهبوا فأنتم الطلقاء ، لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين».
أ رأيت غير محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع كل هذه الصفات التي تم التأليف بينها ، وأحكم أمرها ، وظهرت آثارها لتكون مثلا أعلى ، ونورا يضيء للناس ، ويبصرهم جوانب الخير ، ونواحي الفضيلة إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها؟
و إذا كان فراره إلى اللّه تعالى وتبتله إليه تبتيلا لم يسبقه فيه سابق ولم يلحقه فيه لاحق. وإذا كانت إنسانيته العليا قد ألقت عليه محبة من كل من عاشره. فإنّ هذا لا يقاس بجانب ما قدمه للانسانية من دعوة هادية ردت إليها الحياة ، وأنارت لها الطريق.
كانت هناك النصرانية واليهودية والوثنية ، وما كانت هذه كلها بمستطيعة أن تنقذ العالم من الهوّة التي كان قد أشرف عليها. إنها ديانات قد أفسدتها الأوهام والخرافات ، واستحالت إلى طقوس لا تهذب نفسا ، ولا ترفع رأسا ، ولا تفيد في دنيا ، ولا تنفع في دين.
واجه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الدنيا ، وهي على ما هي عليه من الشقاء والفساد ، فكان كالفجر المشرق في أعقاب ليل مظلم ، وكان ذلك إيذانا بميلاد جديد للبشرية ، وإعلاما بأنّ روحا اخرى سرت في أوصال العالم المنهار ليعيد إليه القوة والصحة والكمال.
ليس على الذين أرعبتهم مفازات الحياة ووعوثتها ، وهالتهم عقباتها ومعاطبها ، إلّا أن يتّبعوا ذلك الطبيب النفساني الأول في العالم والمثال الكامل في سيره ويقتدوا بهديه في جميع أمره ، فإنه جاء ليعلّم الأنسان كيف يسلك بنفسه الحياة بدون أن يدنسها ، وكيف يطير بروحه إلى الغايات بدون أن يتعبها ، وكيف يجري في باحات المطالب المختلفة بدون أن يلامسه الجور بذلة ، ويركض في ساحات المجد غير خاش أن يصدمه الغلو في صدره.
فهل يصح ، أن يعد المسلمون هذه السيرة من ضمن السير ، ويجعلوها مجرد فكاهة في السهر ، ورقائق يوشون بها أطراف السمر أم يجب أن يدرسوها من جهة فلسفية حيوية ، ليتخذوها دستورا للعمل ، ونبراسا يجلون به عن حياتهم ظلمات الخطل ، ويحتمون به التدهور في الزلل ، وعلما يعشون إلى ضوئه في كل أمر جلل؟
كيف لا يجعل المسلمون هذه السيرة المثلى لهذه الروح العظمى كحلا لأعينهم ، وشغافا لقلوبهم ، ودخيلا تحت ضلوعهم ، وشعارا على جسومهم ، ودثارا فوق لباسهم؟ وكيف لا يجعلونها مرجعا لفخارهم ، وأصلا لمجدهم وسؤددهم ، ودواء لأدوائهم ، و مرهما شافيا لجراحهم ، ومنشطا لفتورهم ، وسلما لأوليائهم ، وحربا لأعدائهم ، وحجة على صحة دينهم ، ودليلا على وضوح طريقهم.
_________________________
(1) كنز العمال ج 3 ص 16 حديث 5217.
(2) نهج البلاغة (صبحي الصالح) ص 228.
(3) البحار ج 16 ص 226- 228.
(4) البحار ج 16 ص 240.
(5) ارشاد الساري : ج 9 ص 456.
(6) الكامل : ج 2 ص 252 ط 1385 ه.
(7) مكارم الأخلاق : 14.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|