أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-9-2020
3028
التاريخ: 2-9-2020
5883
التاريخ: 2-9-2020
2480
التاريخ: 3-9-2020
6573
|
قال تعالى : {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُومِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوآيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ } [العنكبوت : 46 - 49]
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
لما تقدم الأمر بالدعاء إلى الله سبحانه بين عقيبه كيف يدعونهم وكيف يجادلونهم فقال {ولا تجادلوا أهل الكتاب} وهم نصارى بني نجران وقيل اليهود والنصارى {إلا بالتي هي أحسن} أي بالطريق التي هي أحسن وإنما يكون أحسن إذا كانت المناظرة برفق ولين لإرادة الخير والنفع بها ومثله قوله فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى والأحسن الأعلى في الحسن من جهة قبول العقل له وقد يكون أيضا أعلى في الحسن من جهة قبول الطبع وقد يكون في الأمرين جميعا وفي هذا دلالة على وجوب الدعاء إلى الله تعالى على أحسن الوجوه وألطفها واستعمال القول الجميل في التنبيه على آيات الله وحججه .
{إلا الذين ظلموا منهم} أي إلا من أبى أن يقر بالجزية منهم ونصب الحرب فجادلوا هؤلاء بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن مجاهد وسعيد بن جبير وقيل إلا الذين ظلموا منهم بالعناد وكتمان صفة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعد العلم به عن أبي مسلم وقيل إلا الذين ظلموا منهم بالإقامة على الكفر بعد قيام الحجة عن ابن زيد والأولى أن يكون معناه إلا الذين ظلموك في جدالهم أوفي غيره مما يقتضي الإغلاظ لهم فيجوز أن يسلكوا معهم طريقة الغلظة وقيل إن الآية منسوخة ب آية السيف عن قتادة والصحيح أنها غير منسوخة لأن الجدال على الوجه الأحسن هو الواجب الذي لا يجوز غيره .
{وقولوا} لهم في المجادلة وفي الدعوة إلى الدين {آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} أي بالكتاب الذي أنزل إلينا وبالكتاب الذي أنزل إليكم {وإلهنا وإلهكم واحد} لا شريك له {ونحن له مسلمون} أي مخلصون طائعون {وكذلك} أي ومثل ما أنزلنا الكتاب على موسى وعيسى {أنزلنا إليك الكتاب} وهو القرآن {فالذين آتيناهم الكتاب} أي علم الكتاب فحذف المضاف {يؤمنون به} يعني مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام ونظرائه {ومن هؤلاء} يعني كفار مكة {من يؤمن به} يعني من أسلم منهم ويجوز أن تكون الهاء في ربه راجعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ويجوز أن تكون راجعة إلى القرآن ويحتمل أيضا أن يريد بقوله {الذين آتيناهم الكتاب} المسلمين والكتاب القرآن ومن هؤلاء يعني ومن اليهود والنصارى من يضمن به .
{وما يجحد ب آياتنا إلا الكافرون} أي وما ينكر دلالاتنا إلا الكافرون ولا يضرك جحودهم ثم خاطب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {وما كنت تتلومن قبله من كتاب} أي وما كنت يا محمد تقرأ قبل القرآن كتابا والمعنى أنك لم تكن تحسن القراءة قبل أن يوحى إليك بالقرآن {ولا تخطه بيمينك} معناه وما كنت أيضا تكتبه بيدك {إذا لارتاب المبطلون} أي ولو كنت تقرأ كتاب أو تكتبه لوجد المبطلون طريقا إلى اكتساب الشك في أمرك وإلقاء الريبة لضعفة الناس في نبوتك ولقالوا إنما تقرأ علينا ما جمعته من كتب الأولين فلما ساويتهم في المولد والمنشأ ثم أتيت بما عجزوا عنه وجب أن يعلموا أنه من عند الله تعالى وليس من عندك إذ لم تجر العادة أن ينشأ الإنسان بين قوم يشاهدون أحواله من عند صغره إلى كبره ويرونه في حضره وسفره لا يتعلم شيئا من غيره ثم يأتي من عنده بشيء يعجز الكل عنه وعن بعضه ويقرأ عليهم أقاصيص الأولين .
قال الشريف الأجل المرتضى علم الهدى قدس الله روحه هذه الآية تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما كان يحسن الكتابة قبل النبوة فأما بعد النبوة فالذي نعتقده في ذلك التجويز لكونه عالما بالكتابة والقراءة والتجويز لكونه غير عالم بهما من غير قطع على أحد الأمرين وظاهر الآية يقتضي أن النفي قد تعلق بما قبل النبوة دون ما بعدها ولأن التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوة لأن المبطلين إنما يرتابون في نبوته (صلى الله عليه وآله وسلّم) لوكان يحسن الكتابة قبل النبوة فأما بعد النبوة فلا تعلق له بالريبة والتهمة فيجوز أن يكون قد تعلمها من جبرائيل (عليه السلام) بعد النبوة .
ثم قال سبحانه {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} يعني أن القرآن دلالات واضحات في صدور العلماء وهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنون به لأنهم حفظوه و وعوه ورسخ معناه في قلوبهم عن الحسن وقيل هم الأئمة (عليهم السلام) من آل محمد عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) وقيل إن هو كناية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي أنه في كونه أميا لا يقرأ ولا يكتب آيات بينات في صدور العلماء من أهل الكتاب لأنه منعوت في كتبهم بهذه الصفة عن الضحاك وقال قتادة المراد به القرآن وأعطى هذه الأمة الحفظ ومن كان قبلها لا يقرءون الكتاب إلا نظرا فإذا طبقوه لم يحفظوا ما فيه إلا اليسير .
{وما يجحد ب آياتنا إلا الظالمون} الذين ظلموا أنفسهم بترك النظر فيها والعناد لها بعد حصول العلم لهم بها وقيل يريد بالظالمين كفار قريش واليهود .
______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص31-33 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
المنهج الجدلي في القرآن :
{ولا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى . والجدال بالحسنى أن يكون بالحجة والدليل في أسلوب مبشّر غير منفر ، وواضح لا تعقيد فيه ولا تكلف مع إنصاف المناظر في الاستماع إلى ما يريد ، والاعتراف له بما هو محق فيه ، سواء أكان من أهل الكتاب ، أم من غيرهم ، وأوضح مثال على ذلك قوله تعالى للمشركين الذين قالوا : {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قالَ أَولَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ} - 24 الزخرف . فهذا الرفق والتلطف في قوله : {أَولَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى} يدعم الحجة ويشفع لها عند من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . . وانما خص سبحانه أهل الكتاب بالذكر لأن المفروض فيهم أن يتقبلوا الحق أكثر من المشركين لإيمانهم باللَّه وملائكته ، وكتبه وأنبيائه {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} وهم الذين عاندوا الحق ، وأصروا على الضلال لا يرتدعون بحال ، فعليكم أن تدعوا هذا النوع من أهل الكتاب ، ولا تجادلوهم في الدين على الإطلاق .
ومن تتبع آي الذكر الحكيم التي جادلت المنكرين والمبطلين يرى أن المنهج الجدلي في القرآن يقوم على حرية العقل وإطلاقه في جميع الآفاق والميادين . . وتتجلى هذه الحرية حين يقدم القرآن الدليل القاطع على صحة دعوته ووجوب الايمان بها :
{سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت - 53] .
وأيضا تظهر هذه الحرية حين يطالب القرآن المنكرين ان يبرروا موقفهم بالدليل :
{قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [البقرة - 111] . {ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} - 4 الأحقاف . {ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان - 33] .
هذا هو الجدل القرآني في حقيقته وواقعه : إقامة الحجة على الدعوى بما تستدعيه طبيعتها في نظر العقل ، وطلب الحجة ممن جحد وعاند ، ورده بحجة أبلغ وأقوى ان كان لديه إثارة من شبهه أو دليل ، وقد ظهر هذا المنهج القرآني في أساليب شتى :
{منها} : الاكتفاء ببيان حقيقة الشيء وتحليل معناه ، وقد استعمل القرآن هذا الأسلوب للرد على عبدة الأصنام ونفي الربوبية عنها ، حيث أوضح انها عاجزة عن أتفه الأشياء : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ والْمَطْلُوبُ} [الحج - 73] . كيف يعبد الإنسان من قعد به الضعف والعجز حتى عن الذباب ! وأيضا استعمل القرآن هذا الأسلوب في الرد على من ألَّه السيد المسيح (عليه السلام) : {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة - 75] . ومن يأكل الطعام فهو مفتقر إليه ، والإله يفتقر إليه كل شيء ، ولا يفتقر هو إلى شيء . انظر ج 3 ص 105 .
و {منها} : الاستدلال بوجود حادث على وجود علته بحيث يستلزم العلم بوجوده العلم بوجودها ، وقد استعمل القرآن هذا الأسلوب للدلالة على وجود اللَّه في العديد من الآيات ، منها - على سبيل المثال - أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وزَيَّنَّاها} [ق - 5] . ومحال أن يكون هذا البناء المحكم وتزيينه بالكواكب من باب الصدفة ، فتعين وجود القدير الحكيم . وأيضا استعمل القرآن هذا الأسلوب للدلالة على الوحدانية : {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا} [الأنبياء - 22] لأن تعدد الآلهة يستدعي فساد الكون ، وحيث لا فساد فلا تعدد .
وبتعبير أهل المنطق أن نفي اللازم وهو فساد الكون يدل على نفي الملزوم وهو تعدد الآلهة .
و {منها} الاستدلال بالأولية ، وقد استعمل سبحانه هذا الأسلوب للدلالة على إمكان المعاد لأن العلم بوقوعه تابع للعلم بامكانه : {وهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم - 27] أي ان من قدر على إيجاد الشيء من لا شيء فبالأولى أن يقدر على جمع أجزائه بعد تفرقها .
وهذه الأمثلة برهان قاطع على أن الجدل القرآني يقوم على أساس العقل وحريته ، وان الهدف منه اظهار الحق للايمان والعمل به ، أو لإفحام من جحد وعاند بأسلوب يقنع من طلب الحق لوجه الحق .
{وقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وإِلهُنا وإِلهُكُمْ واحِدٌ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . الخطاب للمسلمين ، والمعنى : كما يجب عليكم أيها المسلمون ان تجادلوا من ترجون هدايته من أهل الكتاب فعليكم أن تدعوا جدال المعاندين منهم بالحسنى أيضا أي لا تظهروا لهم العداء ، بل خالطوهم وقولوا لهم : ان معبودنا ومعبودكم واحد ، ونحن مؤمنون به ، وبالتوراة التي أنزلت على موسى ، والإنجيل الذي أنزل على عيسى ، تماما كما نؤمن بالقرآن الذي نزل على محمد . وبكلمة ، كونوا للإسلام زينا ، ولا تكونوا عليه شينا .
{وكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ} . الخطاب لرسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) ، والمراد بالكتاب القرآن ، والمعنى كما أنزلنا التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى من قبلك أنزلنا عليك القرآن {فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} هذا إشارة إلى الذين أسلموا من اليهود والنصارى {ومِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} إشارة إلى الذين أسلموا من مشركي العرب آنذاك .
{وما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ} . وتسأل : الجحود هو الكفر ، وعليه يكون المعنى لا يكفر إلا الكافرون ، تماما مثل لا يقعد إلا القاعدون ، والقرآن منزه عن هذا ؟
الجواب : المراد ان دلائل الصدق على القرآن قد بلغت من الوضوح مبلغا لا ينكره إلا من اتخذ الباطل دينا ، والكفر عقيدة لا يحيد عنها حتى ولو ظهر بطلانها ظهور الشمس في رائعة النهار ، كما هو شأن اليهود الذين قال بعضهم لبعض : {ولا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران - 73] .
{وما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ} .
اتفق المؤرخون على أن محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) لم يختلف إلى معلم صغيرا ولا كبيرا ، ومع هذا جاء بالقرآن معجزة المعجزات في عقيدته وشريعته وجميع مبادئه وتعاليمه وفي إخباره عن الأنبياء السابقين وغير ذلك ، وهذا دليل كاف واف على أنه وحي من اللَّه ، لا من صنع البشر ، ولو كان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) يحسن القراءة والكتابة ، أو اختلف إلى معلم لقال المفترون : القرآن من صنع محمد ، لا من وحي اللَّه . .
وقال من قال : أخذ محمد القرآن من راهب نصراني بالشام ، ولا نعرف مصدرا لهذا الزعم . . اللهم إلا قول القرآن : {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهً ثالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة - 73] وقوله : {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهً إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة - 31] . انظر ج 2 ص 500 فقرة : القرآن والمبشرون بالتثليث .
{ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ} .
كلا ، ليس القرآن من صنع محمد (صلى الله عليه واله وسلم) بل هو وحي من اللَّه يؤمن به ويركن إليه الذين يطلبون العلم للإيمان بالحق وبه يعملون ، أما الذين يتخذون العلم متجرا وحانوتا فيكفرون به ، لأنه حرب على النفاق والاستغلال .
__________________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص 115-119 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} لما أمر في قوله : {اتل ما أوحي إليك} إلخ ، بالتبليغ والدعوة من طريق تلاوة الكتاب عقبه ببيان كيفية الدعوة فنهى عن مجادلة أهل الكتاب وهم على ما يقتضيه الإطلاق اليهود والنصارى ويلحق بهم المجوس والصابئون - إلا بالمجادلة - التي هي أحسن المجادلة .
والمجادلة إنما تحسن إذا لم تتضمن إغلاظا وطعنا وإهانة ، فمن حسنها أن تقارن رفقا ولينا في القول لا يتأذى به الخصم وأن يقترب المجادل من خصمه ويدنو منه حتى يتفقا ويتعاضدا لإظهار الحق من غير لجاج وعناد فإذا اجتمع فيها لين الكلام والاقتراب بوجه زادت حسنا على حسن فكانت أحسن .
ولهذا لما نهى عن مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن استثنى منه الذين ظلموا منهم ، فإن المراد بالظلم بقرينة السياق كون الخصم بحيث لا ينفعه الرفق واللين والاقتراب في المطلوب بل يتلقى حسن الجدال نوع مذلة وهوان للمجادل ويعتبره تمويها واحتيالا لصرفه عن معتقده فهؤلاء الظالمون لا ينجح معهم المجادلة بالأحسن .
ولهذا أيضا عقب الكلام ببيان كيفية الاقتراب معهم وبناء المجادلة على كلمة يجتمع فيها الخصمان فيتقاربان معه ويتعاضدان على ظهور الحق فقال : {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} والمعنى ظاهر .
قوله تعالى : {وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون} أي على تلك الصفة وهي الإسلام لله وتصديق كتبه ورسله أنزلنا إليك القرآن .
وقيل : المعنى : مثل ما أنزلنا إلى موسى وعيسى الكتاب أنزلنا إليك الكتاب وهو القرآن .
فقوله : {فالذين آتيناهم الكتاب} إلخ ، تفريع على نحو نزول الكتاب أي لما كان القرآن نازلا في الإسلام لله وتصديق كتبه ورسله فأهل الكتاب يؤمنون به بحسب الطبع لما عندهم من الإيمان بالله وتصديق كتبه ورسله ، ومن هؤلاء وهم المشركون من عبدة الأوثان من يؤمن به وما يجحد بآياتنا ولا ينكرها من أهل الكتاب وهؤلاء المشركين إلا الكافرون وهم الساترون للحق بالباطل .
وقد احتمل أن يكون المراد بالذين آتيناهم الكتاب المسلمين والمشار إليه بهؤلاء أهل الكتاب وهو بعيد ، ومثله في البعد إرجاع الضمير في {يؤمن به} إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وفي قوله : {ومن هؤلاء من يؤمن به} نوع استقلال لمن آمن به من المشركين .
قوله تعالى : {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} التلاوة هي القراءة سواء كانت عن حفظ أوعن كتاب مخطوط والمراد به في الآية الثاني بقرينة المقام ، والخط الكتابة ، والمبطلون جمع مبطل وهو الذي يأتي بالباطل من القول ، ويقال أيضا للذي يبطل الحق أي يدعي بطلانه ، والأنسب في الآية المعنى الثاني وإن جاز أن يراد المعنى الأول .
وظاهر التعبير في قوله : {وما كنت تتلوا} إلخ ، نفي العادة أي لم يكن من عادتك أن تتلو وتخط كما يدل عليه قوله في موضع آخر : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} [يونس : 16] .
وقيل المراد به نفي القدرة أي ما كنت تقدر أن تتلو وتخط من قبله والوجه الأول أنسب بالنسبة إلى سياق الحجة وقد أقامها لتثبيت حقية القرآن ونزوله من عنده .
وتقييد قوله : {ولا تخطه} بقوله : {بيمينك} نوع من التمثيل يفيد التأكيد كقول القائل : رأيته بعيني وسمعته بأذني .
والمعنى : وما كان من عادتك قبل نزول القرآن أن تقرأ كتابا ولا كان من عادتك أن تخط كتابا وتكتبه - أي ما كنت تحسن القراءة والكتابة لكونك أميا - ولوكان كذلك لارتاب هؤلاء المبطلون الذين يبطلون الحق بدعوى أنه باطل لكن لما لم تحسن القراءة والكتابة واستمرت على ذلك وعرفوك على هذه الحال لمخالطتك لهم ومعاشرتك معهم لم يبق محل ريب لهم في أمر القرآن النازل إليك أنه كلام الله تعالى وليس تلفيقا لفقته من كتب السابقين ونقلته من أقاصيصهم وغيرهم حتى يرتاب المبطلون ويعتذروا به .
قوله تعالى : {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} إضراب عن مقدر يستفاد من الآية السابقة كأنه لما نفى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) التلاوة والخط معا تحصل من ذلك أن القرآن ليس بكتاب مؤلف مخطوط فأضرب عن هذا المقدر بقوله : {بل هو- أي القرآن - آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} .
وقوله : {وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} المراد بالظلم بقرينة المقام الظلم لآيات الله بتكذيبها والاستكبار عن قبولها عنادا وتعنتا .
______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص112-113 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
اتّبعوا أحسن الأساليب في البحث والجدال :
كان أكثر الكلام في الآيات المتقدمة في كيفية التعامل مع المشركين المعاندين وكان مقتضى الحال أن يكون الكلام شديد اللهجة حادّاً ، وأن يعدَّ ما يعبدون من دون الله أوهى من بيت العنكبوت ، أمّا في هذه الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام في شأن مجادلة أهل الكتاب الذين ينبغي أن يكون الكلام معهم لطيفاً ، إذ أنّهم ـ على الأقل ـ قد سمعوا قسماً ممّا جاء به الأنبياء والكتب السماوية ، ولديهم استعداد أكثر للتعامل المنطقي ، إذ ينبغي أن يكلم كل شخص بمقدار علمه وعقله وأخلاقه .
فيقول القرآن في هذا الصدد : {لا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن} (2) .
«تجادلوا» مشتق من «جدال» ومعناه في الأصل فتل الحبل وإحكامه ، كما تستعمل هذه المفردة في البناء المحكم وما أشبهه ، وحين يتناقش اثنان في بحث معين فكل واحد منهما ـ في الحقيقة ـ يريد أن يلوي صاحبه عن عقيدته وفكرته . . لذا فقد سمّي هذا النقاش جدالا . كما يرد هذا التعبير في النزاع أيضاً ، وعلى كل حال فإنّه المراد من قوله (ولا تجادلوا} المناقشات المنطقية .
والتعبير بـ{ التي هي أحسن} تعبير جامع يشمل الأساليب والطرق الصحيحة والمناسبة للتباحث أجمع ، سواءً كان ذلك في الألفاظ أو المحتوى ، وسواء كان في طريقة الكلام ، أو الحركات والإشارات المصاحبة له .
فعلى هذا يكون مفهوم الجملة المتقدمة : إنّ ألفاظكم ينبغي أن تكون بطريقة مؤدبة ، والكلام ذا مودّة ، والمحتوى مستدلا ، وصوتكم هادئاً غير خشن ، ولا متجاوزاً لحدود الأخلاق أولهتك الحرمة ، وكذلك بالنسبة لحركات الأيدي والعيون والحواجب التي تكمل البيان ، ينبغي أن تكون هذه الحركات ضمن هذه الطريقة المؤدبة . . . وكم هو جميل هذا التعبير القرآني ، إذ أوجز عالماً من المعاني الدقيقة في جملة قصيرة .
كل هذه الأُمور لأجل أن الهدف من وراء النقاش والبحث ليس هو طلب التفوق ودحر الطرف الآخر ، بل الهدف أن يكون الكلام حتى ينفذ في القلب وفي أعماق الطرف الآخر . . . وخير السبل للوصول إلى هذا الهدف هو هذا الأسلوب القرآني .
وكثيراً ما يتفق أنّه لو استطاع الإنسان أن يبيّن قول الحق بصورة يراه الطرف الآخر متطابقاً لفكره ورأيه ، فسرعان ما ينعطف إليه وينسجم معه ، لأنّ الإنسان ذو علاقة بفكره كعلاقته بأبنائه .
وهكذا فإنّ القرآن الكريم يثير الكثير من المسائل على صورة «السؤال والإستفهام» لينتزع جوابه من داخل فكر المخاطب فيراه منه !
وبالطبع فإنّ لكل قانون استثناءً ، ومنها هذا القانون أو الأصل الكلي في البحث والمجادلة الإسلامية ، فقد يُعدّ في بعض الموارد ضعفاً ، أو يكون الطرف الآخر مغروراً الى درجة أن هذا التعامل الإنساني يزيده جرأة وعدواناً وتكبراً ، لذلك فإنّ القرآن يضيف مستثنياً : {إلاّ الذين ظلموا منهم} .
وهم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين ، وكتموا كثيراً من الآيات ، لئلا يطلع الناس على أوصاف النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله) .
الظالمون الذين جعلوا أوامر الله التي لا تنسجم مع منافعهم الشخصية تحت أقدامهم .
الظالمون الذين آمنوا بالخرافات فكانوا كالمشركين في عقيدتهم إذ قالوا : إن المسيح ابن الله ، أو العزير ابن الله .
وأخيراً فهم أُولئك الذين ظلموا وتذرعوا بالسيف والقوّة بدلا من البحث المنطقي ، وتوسّلوا بالشيطنة والتآمر على النّبي(صلى الله عليه وآله) وعلى الإسلام .
ويختتم الآية بمصداق بارز من «المجادلة بالتي هي أحسن» ويمكنه أن يكون قدوة لأي بحث; فيقول القرآن الكريم : {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} .
كم هو جميل هذا التعبير ! وكم هو رائع هذا النغم واللهجة! لهجة الوحدة والإيمان بكل ما أنزل الله الواحد ، وحذف جميع العصبيّات ، ونحن وأنتم جميعاً موحدون لله مسلمون له .
وهذا مثل واحد من المجادلة بالتي هي أحسن التي ينجذب إليها كل من يسمعها ، ويدلّ على أن الإنسان يجب أن يكون بعيداً عن التحزب أو طلب التفرقة ، فنداء الإسلام هو نداء الوحدة والتسليم لكل كلام حق .
وأمثلة هذا البحث كثيرة في القرآن ، ومن ضمنها ماأشار إليه الإمام الصادق(عليه السلام) إذ قال : «أمّا الجدال بالتي هي أحسن فهوما أمر الله تعالى نبيّه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له ، فقال الله حاكياً عنه : قل [يا محمّد]» { يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } [يس : 79 ، 80] (3) .
والآية الأُخرى تؤكّد على الأصول الأربعة التي سبق ذكرها في الآية المتقدمة ، فتقول : {وكذلك أنزلنا إليك الكتاب} أي القرآن .
أجل . . . نزل هذا القرآن على أساس توحيد المعبود ، وتوحيد دعوة جميع الأنبياء إلى الحق ، والتسليم دون قيد أو شرط لأمر الله; والمجادلة بالتي هي أحسن ! .
قال بعض المفسّرين : إنّ المراد من جملة {وكذلك أنزلنا إليك الكتاب} هو تشبيه نزول القرآن على النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله) أيّ كما أنزلنا كتباً من السماء على الأنبياء الماضين ، فكذلك أنزلنا إليك الكتاب! .
إلاّ أنّ التّفسير السابق يبدو أكثر دقّة ، وإن كان الجمع بين التّفسيرين ممكناً أيضاً .
ثمّ يضيف القرآن الكريم : {والذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به} ويعتقدون بصدقه . . إذ أنّهم وجدوا علائمه في كتبهم ، كما أن محتواه من حيث الأصول العامّة والكلية منسجم مع كتبهم ! .
ومن المعلوم أن جميع أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لم يؤمنوا بنبوّة محمّد(صلى الله عليه وآله) «نبي الإسلام» فتكون هذه الجملة في خصوص تلك الجماعة المؤمنة منهم ، والتي تبتغي الحق دون تعصب ، فتكون جديرة أن يطلق عليها «أهل الكتاب» .
ويضيف القرآن بعدئذ : {ومن هؤلاء من يؤمن به} (4) أي أهل مكّة والمشركون العرب .
ثمّ يقول القرآن في كفر الطائفتين من اليهود والنصارى {وما يجحد بآياتنا إلاّ الكافرون} .
ومع الإلتفات إلى أنّ مفهوم الجحود ، هو أن يعتقد الإنسان بشيء بقلبه وينكره بلسانه ، فإنّ مفهوم الجملة المتقدمة أن الكفار يعترفون في قلوبهم بعظمة هذه الآيات ، ويرون علامات الصدق عليها ، ومنهج النّبي وطريقته وحياته النقية ، وأن أتباعه هم المخلصون ، ويعدّون كل ذلك دليلا على أصالته ، إلاّ أنّهم ينكرون ذلك عناداً وتعصباً ، وتقليداً أعمى لأسلافهم ولآبائهم ، ولحفظ منافعهم الشخصية .
وعلى هذا فإنّ القرآن يحدد مواقف الأُمم المختلفة إزاء هذا الكتاب ويصنفهم إلى قسمين :
فقسمٌ هم أهل الإيمان ، سواءً من علماء اليهود والنصارى ، أو المؤمنين بصدق ، أو المشركين العطاشى إلى الحقّ الذين عرفوا الحق فتعلقت قلوبهم به .
وقسم آخر هم المنكرون المعاندون ، الذين رأوا الحق إلاّ أنّهم أنكروه وأخفوا أنفسهم عنه كالخفاش ، لأنّ ظلمة الكفر كانت جزءاً من نسيج وجودهم ، فهم يستوحشون من نور الإيمان .
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ هذا القسم ـ أو هذا الطائفة ـ كانوا كفرةً من قبل ، ولكن التأكيد على كفرهم ممكن أيضاً ، وذلك لأنّهم لم تتمّ الحجّة عليهم من قبل ، ولكنّهم بعد أن تمّت عليهم الحجّة ، فقد أصبحوا كافرين كفراً حقيقتاً ، وحادوا بعلمهم واطلاعهم عن الصراط المستقيم ، وخطوا في دروب الضلال ! .
ثمّ يضيف القرآن مشيراً إلى علامة أُخرى من علائم حقانية دعوة النّبي (صلى الله عليه وآله) الجلية والواضحة ، وهي تأكيدٌ على محتوى الآية السابقة ، فيقول : {وما كنت تتلومن قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} وقالوا إنّ ما جاءنا به هذا النّبي هو حصيلة مطالعاته لكتب الماضين .
ومعنى هذه الآية أنّك لم تذهب إلى مدرسة قط ، ولم تكتب من قبل كتاباً قط ، لكّنك باشارة من وحي السماء أصبحت تعرف المسائل أفضل من مئة مدرس ! .
كيف يمكن أن يُصدق أن شخصاً لم يقرأ كتاباً ولم ير أستاذاً ولا مدرسةً ، أن يأتي بكتاب يتحدى به جميع البشر أن يأتوا بمثله ، فيعجز جميعهم عن الإتيان بما طلب .
أليس هذا دليلا على أن قوّتك تستمدّ من قوة الخالق غير المحدودة ، وأن كتابك وحي السماء ألقاه الله إليك ؟!
وينبغي الإشارة إلى أنّه لو سأل سائل : من أين نعرف أن النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يذهب إلى مدرسة قط ؟! .
فنجيب أنّه (صلى الله عليه وآله) قد عاش في بيئة المثقفون والمتعلمون فيها معدودون ومحدودون . . . حتى قيل أن ليس في مكّة أكثر من سبعة عشر رجلا يجيدون القراءة والكتابة ، ففي مثل هذا المحيط وهذه البيئة ، لو قدّر لأحد أن يمضي إلى المدرسة فيتعلم القراءة والكتابة ، فمن المستحيل أن يكون مجهولا ، بل يكون معروفاً في كل مكان . كما يعرف الناس أستاذه ودرسه أيضاً .
فكيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يدعي أنّه نبيّ صادق ومع ذلك يكذب هذه الكذبة المفضوحة والمكشوفة؟ خاصة أن هذه الآيات نزلت في مكّة ، مهد نشأة النّبي (صلى الله عليه وآله) وكذلك في قبال الأعداء الألدّاء الذين لا تخفى عليهم أقل نقطة ضعف !! .
وفي الآية التالية علامة أُخرى أيضاً على حقانية القرآن ، إذ تقول : {بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم} .
والتعبير بـ«الآيات البينات» كاشف عن هذه الحقيقة وهي أن دلائل حقانية القرآن تتجلى بنفسها عياناً ، وتشرق في أرجائه ، فدليلها معها .
وفي الحقيقة ، إنّها مثل الآيات التكوينية التي تجعل الإنسان يذعن بحقيقتها عند مطالعتها دون حاجة إلى شيء آخر ، هذه الآيات التشريعية ـ أيضاً ـ من حيث ظاهرها ومحتواها كذلك ، إذ هي دليل على صدقها .
ثمّ بعد هذا كلّه ، فإنّ أتباع هذه الآيات وطلابها المشدودة قلوبهم إليها هم أولوا العلم والإطلاع ، بالرغم من أن أيديهم خالية وأرجلهم حافية ! .
وبتعبير أوضح : إنّ واحداً من طرق معرفة أصالة مذهب ما دراسة حال المؤمنين به ، فإذا كان الجهال المحتالون قد التفوا حول الشخص ، فهو أيضاً من نسيجهم ، ولكن إذا كان من التفّ حول الشخص هم الذين امتلأت صدورهم بأسرار العلوم وهم أوفياء له ، فيكون هذا الأمر دليلا على حقانية ذلك الشخص ، ونحن نرى أن جماعة من علماء أهل الكتاب ، ورجالا متقين أمثال أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار بن ياسر ، وشخصية كبيرة كعلي بن أبي طالب(عليه السلام) ، هم حماة هذا المبدأ .
وفي روايات كثيرة منقولة عن أهل البيت(عليهم السلام) ، إنّ المراد بالذين أوتوا العلم هم الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) وطبعاً . . . فليس هذا المعنى منحصراً فيهم ، بل هم المصداق الجلي لهذه الآية (5) .
وإذا ما لاحظنا أن بعض الرّوايات تصرّح أنّ المراد من هذه العبارة المتقدمة هم الأئمّة (عليهم السلام) ، فإنّ ذلك في الحقيقة إشارة إلى المرحلة الكاملة لعلم القرآن الذي عندهم ، ولا يمنع أن يكون للعلماء . . . بل لعامّة الناس الذين لهم نصيب من الفهم ، أن يحظوا بقسط من علوم القرآن أيضاً .
كما أنّ هذه الآية تدلّ ضمناً على أن العلم ليس منحصراً بالكتاب ، أو بما يلقيه الأستاذ على تلاميذه . . . لأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) ـ طبقاً لصريح الآيات المتقدمة ـ لم يدرس في مدرسة ولم يكتب من قبل كتاباً . . . إلاّ أنّه كان خير مصداق للذين «أوتوا العلم» .
فإذاً فما وراء العلم «الرسمي» الذي نعهده ، علم أوسع وأعظم ، وهو علم يأتي من قبل الله تعالى على شكل نور يقذف في قلب الإنسان ، كما ورد في الحديث «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء» . وهذا هو جوهر العلم ، أمّا ما سواه فهو الصدف والقشر !
وتُختتم الآية بقوله تعالى : {وما يجحد بآياتنا إلاّ الظالمون} . . . لأنّ دليلها واضح ، فالنّبي الأميّ الذي لم يقرأ ولم يكتب ، هو الذي جاء بها . . . والعلماء المطلعون هم المؤمنون بها .
ثمّ بعد هذا كلّه ، فإنّ الآيات نفسها مجموعة من الآيات البينات «كلمات ذوات محتوى جلي مشرق» .
وقد وردت علائمها في الكتب المتقدمة .
ومع كل هذا ترى هل ينكر هذه الآيات إلاّ الذين ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم «ونكرر أن التعبير بـ «بالجحد» يكون في مورد ما لو أن الإنسان يعتقد بالشيء وينكره على خلاف ما يعلمه» ! .
______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص74-80 .
2 ـ «التي» هنا صفة لموصوف محذوف تقديره الطريقة أو ما شاكلها . . .
3 ـ تفسير نور الثقلين ، ج 4 ، ص 163 .
4 ـ قال بعض المفسّرين : إنّ جملة «الذين آتيناهم الكتاب» إشارة إلى المسلمين ، وجملة «من هؤلاء من يؤمن به» إشارة إلى أهل الكتاب ، إلاّ أنّ هذا التّفسير بعيد ـ كما يبدوـ جدّاً لأنّ التعبير بـ {الذين آتيناهم الكتاب} وما شابهه لم يأت في القرآن ـ بحسب الظاهر ـ إلاّ في خصوص اليهود والنصارى .
5 ـ هذه الرّوايات وردت في تفسير البرهان الجزء الثالث ، ص 254 فما بعد بشكل مفصل .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|