أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-9-2020
3633
التاريخ: 3-9-2020
5608
التاريخ: 1-9-2020
3020
التاريخ: 2-9-2020
5858
|
قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت : 10 - 15] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
لما ذكر سبحانه خيار المؤمنين عقبه بذكر ضعفائهم وقيل بل عقبه بذكر المنافقين فقال {ومن الناس من يقول آمنا بالله} بلسانه {فإذا أوذي في الله} أي في دين الله أوفي ذات الله {جعل فتنة الناس كعذاب الله} والمعنى فإذا أوذي بسبب دين الله رجع عن الدين مخافة عذاب الناس كما ينبغي للكافر أن يترك دينه مخافة عذاب الله فيسوي بين عذاب فإن منقطع وبين عذاب دائم غير منقطع أبدا لقلة تمييزه وسمي أذية الناس فتنة لما في احتمالها من المشقة {ولئن جاء نصر من ربك} يا محمد أي ولئن جاء نصر من الله للمؤمنين ودولة لأولياء الله على الكافرين {ليقولن إنا كنا معكم} أي ليقولن هؤلاء المنافقون للمؤمنين إنا كنا معكم على عدوكم طمعا في الغنيمة ثم كذبهم الله فقال {أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين} من الإيمان والنفاق فلا يخفى عليه كذبهم فيما قالوا .
ثم أقسم سبحانه فقال {وليعلمن الله الذين آمنوا} بالله على الحقيقة ظاهرا وباطنا {وليعلمن المنافقين} فيجازيهم بحسب أعمالهم قال الجبائي معناه وليميزن الله المؤمن من المنافق فوضع العلم موضع التمييز توسعا وقد مر بيانه وفي هذه الآية تهديد للمنافقين بما هو معلوم من حالهم التي استهزءوا بها وتوهموا أنهم قد نجوا من ضررها بإخفائها فبين أنها ظاهرة عند من يملك الجزاء عليها وأنه يحل الفضيحة العظمى بها {وقال الذين كفروا} نعم الله وجحدوها {للذين آمنوا} أي صدقوا بتوحيده وصدق رسله {اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} أي ونحن نحمل آثامكم عنكم إن قلتم إن لكم في اتباع ديننا إثما ويعنون بذلك أنه لا إثم عليكم باتباع ديننا ولا يكون بعث ولا نشور فلا يلزمنا شيء مما ضمنا والمأمور في قوله {ولنحمل} هو المتكلم به نفسه في مخرج اللفظ والمراد به إلزام النفس هذا المعنى كما يلزم الشيء بالأمر وفيه معنى الجزاء وتقديره إن تتبعوا ديننا حملنا خطاياكم عنكم .
ثم قال سبحانه {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء} أي لا يمكنهم حمل ذنوبهم عنهم يوم القيامة فإن الله سبحانه عدل لا يعذب أحدا بذنب غيره فلا يصح إذا أن يتحمل أحد ذنب غيره وهذا مثل قوله ولا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ولا يجري هذا مجرى تحمل الدية عن الغير لأن الغرض في الدية أداء المال عن نفس المقتول فلا فرق بين أن يوديه زيد عنه وبين أن يؤديه عمرو فإنه بمنزلة قضاء الدين {إنهم لكاذبون} فيما ضمنوا من حمل خطاياهم {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} يعني أنهم يحملون خطاياهم وأوزارهم في أنفسهم التي لم يعملوها بغيرهم ويحملون الخطايا التي ظلموا بها غيرهم وقيل معناه يحملون عذاب ضلالهم وعذاب إضلالهم غيرهم ودعائهم لهم إلى الكفر وهذا كقوله ((من سن سنة سيئة)) الخبر وهذا كقوله {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} .
{وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} ومعناه أنهم يسئلون سؤال تعنيف وتوبيخ وتبكيت وتقريع لا سؤال استعلام واستخبار {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه} يدعوهم إلى توحيد الله عز وجل {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} فلم يجيبوه وكفروا به {فأخذهم الطوفان} جزاء على كفرهم فهلكوا {وهم ظالمون} لأنفسهم بما فعلوه من الشرك والعصيان {فأنجيناه وأصحاب السفينة} أي فأنجينا نوحا من ذلك الطوفان والذين ركبوا معه في السفينة من المؤمنين به {وجعلناها} أي وجعلنا السفينة {آية للعالمين} أي علامة للخلائق أجمعين يعتبرون بها إلى يوم القيامة لأنها فرقت بين المؤمنين والكافرين والأبرار والفجار وهي دلالة للخلق على صدق نوح وكفر قومه .
______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص11-14 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
ايمان أو سراب ؟
{ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ} .
هذه الآية صورة حقيقية لبعض الناس الذين نعرفهم ونعايشهم . . لقد زين الشيطان لهذا البعض انه من أهل التقى والايمان ، فانطلت عليه الحيلة وصدّق الشيطان في وساوسه وأحابيله ، وانه من المتقين ، وهو في حقيقته وواقعه لا يعتقد بشيء ولا يرى إلا منافعه ومصالحه الخاصة ، ولا شيء أدل على أن إيمانه وهم وسراب من تنكره للحق أو تجاهله إياه حين يخاف الناس على أدنى شيء من أشيائه . . يخافهم إذا ناصر الحق والعدل بفعل أو قول تماما كما يخاف الأولياء والأتقياء من اللَّه إذا لم يعملوا بأمره ونهيه ، وتقدمت الإشارة إلى هذا الفريق في الآية 77 من سورة النساء : {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَو أَشَدَّ خَشْيَةً} . وقلنا فيما تقدم : ما من أحد اتبع الحق الا ودفع ثمنه من نفسه وأشيائه ، وإلا لم يكن لأهل الحق وأنصاره أية فضيلة . أنظر تفسير الآية 155 من سورة البقرة ج 1 ص 242 ، فقرة (ثمن الجنة) . وفي الحديث : من خاف اللَّه خوّف اللَّه منه كل شيء ، ومن لم يخف اللَّه خوّفه من كل شيء .
{ولَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} . هم مع الدين إذا كان متجرا رابحا ، وهم أعداء الدين إذا سألهم البذل والتضحية ولو باليسير ، وأبلغ كلمة في هذا المعنى قول سيد الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) : (الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم ، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون) .
وتقدم مثله في الآية 141 من سورة النساء ج 2 ص 466 {أَولَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ} . هل تريدون ان تخدعوا اللَّه وتحتالوا عليه ، وهو العليم بما تخفون وما تعلنون ؟
{ولَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ولَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ} . تقدم مثله في الآية 3 من هذه السورة ، والآية 154 من سورة آل عمران ج 2 ص 182 . {وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ولْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ} . قال مشركو قريش للذين استجابوا لدعوة رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) : كيف تتبعون محمدا وتتحملون الكثير من أجله ؟
دعوه وعودوا إلى ديننا ، وإذا كنتم تخافون عذاب اللَّه بعد الموت كما خوّفكم محمد فنحن نتحمله عنكم . . قالوا هذا ، وهم يريدون به ان البعث حديث خرافة {وما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} لأن كل إنسان مجزي بأعماله ، لا يحمل وزر غيره ، أو يسأل عنه : {قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا ولا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ - 25] .
{ولَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} . كل من أضل غيره يحمل وزر نفسه ، ووزر من غرر به ، حيث تسبب في وجود الضلال وانتشاره ، أما من يتبع المضل فإنه يحمل وزر نفسه كاملا ، ولا ينقص منه شيء لأنه استجاب إلى دعوة الضلال بسوء اختياره ، وبكلمة للمضل عقوبتان : إحداهما على ضلاله ، والثانية على إضلاله ، وللتابع عقوبة واحدة على عمله بالضلال مختارا {ولَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ} بادعائهم الشريك للَّه ، وقولهم عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) : انه ساحر وقولهم للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ، وغير ذلك .
{ولَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وهُمْ ظالِمُونَ فَأَنْجَيْناهُ وأَصْحابَ السَّفِينَةِ وجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ} . يدل ظاهر الآية بوضوح ان نوحا عاش 950 عاما ، والعقل لا يأبى ذلك ، فوجب التصديق أما التعليل بأن عدد البشرية كان قليلا يومذاك ، والنسل كان محددا ، وانه كلما قل العدد والنسل طالت الأعمار ، كما قال بعض المفسرين الجدد ، أما هذا التعليل ونحوه فلا يصح الركون إليه في تفسير الوحي أو توجيهه . . وفي قاموس الكتاب المقدس ان نوحا اسم ساميّ ، ومعناه {راحة} وأبوه هو الذي سماه بذلك .
ويلاحظ ان السامية هي نسبة إلى سام بن نوح فكيف نسب الوالد إلى الولد ؟
وفي ص 448 من هذا القاموس ان ساما ولد لنوح وعمره 500 سنة . ولم يشر القاموس المذكور إلى تاريخ العهد الذي كان فيه نوح ، وربما لعدم المصادر .
وتقدم الكلام عن نوح في العديد من الآيات ، منها سورة الأعراف ج 3 ص 344 وما بعدها ، ومنها في سورة هود ج 4 ص 222 وما بعدها .
_______________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص 97-99 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} إلى آخر الآية ، لما كان إيمان هؤلاء مقيدا بالعافية والسلامة مغيى بالإيذاء والابتلاء لم يعده إيمانا بقول مطلق ولم يقل : ومن الناس من يؤمن بالله بل قال : {ومن الناس من يقول آمنا بالله} فالآية بوجه نظيرة قوله : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } [الحج : 11] .
وقوله : {فإذا أوذي في الله} أي أوذي لأجل الإيمان بالله بناء على أن في للسببية كما قيل وفيه عناية كلامية لطيفة بجعله تعالى - أي جعل الإيمان بالله - ظرفا للإيذاء ولمن يقع عليه الإيذاء ليفيد أن الإيذاء منتسب إليه تعالى انتساب المظروف إلى ظرفه وينطبق على معنى السببية والغرضية ونظيره قوله : {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } [الزمر : 56] ، وقوله : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت : 69] .
وقيل : معنى الإيذاء في الله هو الإيذاء في سبيل الله وكأنه مبني على تقدير مضاف محذوف .
وفيه أن العناية الكلامية مختلفة فالإيذاء في الله ما كان السبب فيه محض الإيمان بالله وهو قولهم : ربنا الله ، والإيذاء في سبيل الله ما كان سببه سلوك السبيل التي هي الدين قال تعالى : } فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} [آل عمران : 195] ومن الشاهد على تغاير الاعتبارين قوله في آخر السورة : {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} حيث جعل الجهاد في الله طريقا إلى الاهتداء إلى سبله ولوكانا بمعنى واحد لم يصح ذلك .
وقوله : {جعل فتنة الناس كعذاب الله} أي نزل العذاب والإيذاء الذي يصيبه من الناس في وجوب التحرز منه منزلة عذاب الله الذي يجب أن يتحرز منه فرجع عن الإيمان إلى الشرك خوفا وجزعا من فتنتهم مع أن عذابهم يسير منقطع الآخر بنجاة أو موت ولا يقاس ذلك بعذاب الله العظيم المؤبد الذي يستتبع الهلاك الدائم .
وقوله : {ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم} أي لئن أتاكم من قبله تعالى ما فيه فرج ويسر لكم من بعد ما أنتم فيه من الشدة والعسرة من قبل أعداء الله ليقولن هؤلاء إنا كنا معكم فلنا منه نصيب .
و{ليقولن} بضم اللام صيغة جمع ، والضمير راجع إلى {من} باعتبار المعنى كما أن ضمائر الإفراد الأخر راجعة إليها باعتبار اللفظ .
وقوله : {أ وليس الله بأعلم بما في صدور العالمين} استفهام إنكاري فيه رد دعواهم أنهم مؤمنون بأن الله أعلم بما في الصدور ولا تنطوي قلوب هؤلاء على إيمان .
والمراد بالعالمين الجماعات من الإنسان أو الجماعات المختلفة من أولي العقل إنسانا كان أو غيره كالجن والملك ، ولوكان المراد به جميع المخلوقات من ذوي الشعور وغيرهم كان المراد بالصدور البواطن وهو بعيد .
قوله تعالى : {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} من تتمة الكلام في الآية السابقة والمحصل أن الله مع ذلك يميز بين المؤمنين والمنافقين بالفتنة والامتحان .
وفي الآية إشارة إلى كون هؤلاء منافقين وذلك لكون إيمانهم مقيدا بعدم الفتنة وهم يظهرونه مطلقا غير مقيد والفتنة سنة إلهية جارية لا معدل عنها .
وقد استدل بالآيتين على أن السورة أو خصوص هذه الآيات مدنية وذلك أن الآية تحدث عن النفاق والنفاق إنما ظهر بالمدينة بعد الهجرة وأما مكة قبل الهجرة فلم يكن للإسلام فيها شوكة ولا للمسلمين فيها إلا الذلة والإهانة والشدة والفتنة ولا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المجتمع العربي يومئذ وخاصة عند قريش عزة ولا منزلة فلم يكن لأحد منهم داع يدعوه إلى أن يتظاهر بالإيمان وهو ينوي الكفر .
على أن قوله في الآية : {ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم} يخبر عن النصر وهو الفتح والغنيمة وقد كان ذلك بالمدينة دون مكة .
ونظير الآيتين قوله السابق : {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} ضرورة إن الجهاد والقتال إنما كان بالمدينة بعد الهجرة .
وهو سخيف : أما حديث النفاق فالذي جعل في الآية ملاكا للنفاق وهو قولهم : آمنا بالله حتى إذا أوذوا في الله راجعوا عن قولهم كان جائز التحقق في مكة كما في غيرها وهو ظاهر بل الذي ذكر من الإيذاء والفتنة إنما كان بمكة فلم تكن في المدينة بعد الهجرة فتنة .
وأما حديث النصر فالنصر غير منحصر في الفتح والغنيمة فله مصاديق أخر يفرج الله بها عن عباده .
على أن الآية لا تخبر عنه بما يدل على التحقق فقوله : {فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم} يدل على تحقق الإيذاء والفتنة حيث عبر بإذا الدالة على تحقق الوقوع بخلاف مجيء النصر حيث عبر عنه بأن الشرطية الدالة على إمكان الوقوع دون تحققه .
وأما قوله تعالى : {ومن جاهد} إلخ فقد اتضح مما تقدم أن المراد به جهاد النفس دون مقاتلة الكفار فالحق أن لا دلالة في شيء من الآيات على كون السورة أو بعضها مدنية .
قوله تعالى : {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون} المراد بالذين كفروا مشركو مكة الذين أبدوا الكفر أول مرة بالدعوة الحقة ، وبالذين آمنوا المؤمنون بها أول مرة وقولهم لهم : {اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} نوع استمالة لهم وتطييب لنفوسهم أن لو رجعوا إلى الشرك واتبعوا سبيلهم لم تكن عليهم تبعة على أي حال : إذ لولم تكن في ذلك خطيئة فهو ، وإن كانت فهم حاملون لها عنهم ، ولذلك لم يقولوا : ولنحمل خطاياكم لو كانت بل أطلقوا القول من غير تقييد .
فكأنهم قالوا : لنفرض أن اتباعكم لسبيلنا خطيئة فإنا نحملها عنكم ونحمل كل ما يتفرع عليه من الخطايا أو أنا نحمل عنكم خطاياكم عامة ومن جملتها هذه الخطيئة .
وقوله : {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء} رد لقولهم : {ولنحمل خطاياكم} وهو رد محفوف بحجة إذ لوكان اتباعهم لسبيلهم ورجوعهم عن الإيمان بالله خطيئة كان خطيئة عند الله لاحقة بالراجعين وانتقالها عن عهدتهم إلى غيرهم يحتاج إلى إذن من الله ورضى فهو الذي يؤاخذهم به ويجازيهم وهو سبحانه يصرح ويقول : {ما هم بحاملين من خطاياهم من شيء} وقد عمم النفي لكل شيء من خطاياهم .
وقوله : {إنهم لكاذبون} تكذيب لهم لما أن قولهم : {ولنحمل خطاياكم} يشتمل على دعوى ضمني أن خطاياهم تنتقل إليهم لو احتملوها وأن الله يجيز لهم ذلك .
قوله تعالى : {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} من تمام القول السابق في ردهم وهو في محل الاستدراك أي إنهم لا يحملون خطاياهم بعينها فهي لازمة لفاعليها لكنهم حاملون أثقالا وأحمالا من الأوزار مثل أوزار فاعليها من غير أن ينقص من فاعليها فيحملونها مضافا إلى أثقال أنفسهم وأحمالها لما أنهم ضالون مضلون .
فالآية في معنى قوله تعالى : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل : 25] .
وقوله : {وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} فشركهم افتراء على الله سبحانه وكذا دعواهم القدرة على إنجاز ما وعدوه وأن الله يجيز لهم ذلك .
وقوله تعالى : { ولَقَدْ أَرْسلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِث فِيهِمْ أَلْف سنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطوفَانُ وهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَهُ وأَصحَب السفِينَةِ وجَعَلْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَلَمِينَ}
لما ذكر سبحانه في صدر السورة أن الفتنة سنة إلهية لا معدل عنها وقد جرت في الأمم السابقة عقب ذلك بالإشارة إلى قصص سبعة من الأنبياء الماضين وأممهم وهم : نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وهود وصالح وموسى (عليه السلام) فتنهم الله وامتحنهم فنجا منهم من نجا وهلك ، منهم من هلك وقد ذكر سبحانه في الثلاثة الأول النجاة والهلاك معا وفي الأربعة الأخيرة الهلاك فحسب .
قوله تعالى : {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون{ ، في المجمع : ، الطوفان الماء الكثير الغامر لأنه يطوف بكثرته في نواحي الأرض ، انتهى .
وقيل : هو كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام والغالب استعماله في طوفان الماء .
والتعبير بألف سنة إلا خمسين عاما دون أن يقال : تسعمائة وخمسين سنة للتكثير والآية ظاهرة في أن الألف إلا خمسين مدة دعوة نوح (عليه السلام) ما بين بعثته إلى أخذ الطوفان فيغاير ما في التوراة الحاضرة أنها مدة عمره (عليه السلام) وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في قصصه (عليه السلام) في تفسير سورة هود ، والباقي ظاهر .
قوله تعالى : {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين} أي فأنجينا نوحا وأصحاب السفينة الراكبين معه فيها وهم أهله وعدة قليلة من المؤمنين به ولم يكونوا ظالمين .
وقوله : {وجعلناها آية للعالمين} الظاهر أن الضمير للواقعة أو للنجاة وأما رجوعه إلى السفينة فلا يخلو من بعد ، والعالمين الجماعات الكثيرة المختلفة من الأجيال اللاحقة بهم .
_______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص85-93 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
شركاء في الانتصار أمّا في الشدّة فلا !
حيث أنّ الآيات المتقدمة تحدثت عن المؤمنين الصالحين والمشركين بشكل صريح ، ففي الآيات الأُولى من هذا المقطع يقع الكلام على الفريق الثّالث ـ أي المنافقين ـ فيقول القرآن فيهم : {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} فلا يصبرون على الاذى والشدائد ، ويحسبون تعذيب المشركين لهم واذى الناس أنّه عذاب من الله {ولئن جاء نصر من ربّك ليقولن إنّا كنّا معكم} فنحن معكم في هذا الافتخار والفتح .
ترى هل يظنون أن الله خفيّ عليه ما في أعماق قلوبهم فلا يعرف نياتهم {أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين} .
ولعل التعبير بـ «آمنا» بصيغة الجمع ، مع أنّ الجملة التي تليه جاءت بصيغة المفرد ، هومن جهة أنّ هؤلاء المنافقين يريدون أن يقحموا أنفسهم في صف المؤمنين ، فلذلك يقولون «آمنا» أي آمنا كسائر الناس الذين آمنوا .
والتعبير بـ{أوذي في الله} معناه أوذي في سبيل الله ، أي إنّهم قد يتعرض لهم العدوـ احياناً ـ وهم في سبيل الله والإيمان فيؤذيهم .
الطريف هنا أنّ القرآن يعبر عن مُجازاة الله بـ «العذاب» وعن إيذاء الناس بـ «الفتنة» وهذا التعبير إشارة إلى أنّ إيذاء الناس ليس عذاباً ـ في حقيقة الأمر ـ بل هو امتحان وطريق إلى التكامل .
وبهذا فإنّ القرآن يعلمهم أن لا يقايسوا بين هذين النوعين «العذاب» و«الإيذاء» ولا ينبغي أن يتنصّلوا من «الإيمان» بحجّة أن المشركين والمخالفين يؤذيهم فإن هذ الإيذاء جزء من منهج الإمتحان الكلي في هذه الدنيا .
وهنا ينقدح سؤالٌ وهو : أي نصر جعله الله حليف المسلمين ونصيبهم ، ليدعي المنافقون أنّهم شركاء في هذا النصر مع المسلمين ؟!
ونقول في الجواب : إنّ الجملة الآنفة الذكر جاءت بصيغة «الشرط» ونعلم أنّ الجملة الشرطية لا دليل فيها على وجود الشرط ، بل مفهومها هو أنّه لو اتفق أن كان النصر حليفكم في المستقبل ، فإنّ هؤلاء المنافقين ـ ضعاف الإيمان ـ يرون أنفسهم شركاء في هذا النصر !
إضافة إلى كل ذلك فإنّ المسلمين في مكّة كانت لهم انتصارات على المشركين غير عسكرية بل انتصارات في التبليغ و«الإعلام» ونفوذ في الأفكار العامة وتوغّل الإسلام في طبقات المجتمع . . .
ثمّ بعد هذا كله فإنّ التعبير بالايذاء مناسب لمحيط مكّة . . . وإلاّ فقلّ أن اتفق مثل هذا الإيذاء في محيط المدينة .
وقد تنوّر واتضح ـ ضمناً ـ هذا الموضوع الدقيق ، وهو أن التعبير بالمنافق لا يختص بمن ليس في قلبه ايمان اطلاقاً ويدعي الإيمان ، بل حتى الافراد من ضعاف الإيمان الذين يتراجعون عن عقيداتهم نتيجة الضغوط والتأثير بفلان وفلان فهؤلاء أيضاً يُعدون من المنافقين . . والآية محل البحث ـ كما يظهر ـ تتحدث عن هذا النوع من المنافقين ، وتصرح بأنّ الله مطلع على نيّاتهم وعليم بسرائرهم .
وفي الآية التالية ـ لمزيد التأكيد ـ يضيف القرآن قائلا : {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} .
فلو تصوروا أنّهم إذا أخفوا الحقائق فإنّهم سيكونون في منأى عن علم الله فهم في خطأ كبير جدّاً .
ونكرر هنا ـ مرّة اُخرى أنّ التعبير بالمنافقين ليس دليلا على أنّ هذه الآيات نزلت في المدينة ، صحيح أنّ مسألة النفاق تقع عادة بعد انتصار جماعة والإستيلاء على الحكومة . . حيث يغير المخالفون أقنعتهم ويعملون في الخفاء حينئذ ، إلاّ أن للنفاق ـ كما قلنا ـ معنى واسع ، ويشمل حتى الأفراد ضعاف الإيمان الذين يبدّلون عقيدتهم لأدنى مكروه يصيبهم .
والآية الأُخرى بعدها تشير إلى منطق المشركين الخاوي والملتوي ، الذي لا يزال موجوداً في طبقات المجتمع الواسعة فتقول : {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} (2) .
واليوم نرى كثيراً من الخبثاء يقولون للآخرين عند دعوتهم إلى أمر : إن كان فيه ذنب فعلى رقابنا ! .
في حين أنّنا نعلم أنّه لا يمكن لأحد أن يتحمل وزر أحد ، وأساساً فإنّ هذا العمل ليس معقولا وليس منطقياً . . . . فالله عادل سبحانه ولا يؤاخذ أحداً بجرم الآخر .
ثمّ بعد كل ذلك فإنّ الإنسان لا تسقط عنه المسؤولية في العمل بمثل هذه الكلمات ، ولا يمكن له التنصّل منها . . . وخلافاً لما يتوهمه بعض الحمقى فإنّ مثل هذه التعبيرات لا تنقص من عقابهم حتى بمقدار رأس الإبرة .
ولذلك فلا يعتدّ بمثل هذا الكلام في أية محكمة كانت ولا يقبل من المذنب أن يقول : إن فلاناً تحمّل عنّي الوزر وجعله في رقبته ! .
صحيح أن ذلك الإنسان حثه على الإجرام ودفعه إلى اقترافه ، فهو شريكه ، إلاّ أن هذا الإشتراك في الجريمة لا يخفّف عنه المسؤولية !
لذلك فإنّ القرآن يقول بصراحة في الجملة التالية {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنّهم لكاذبون} .
هنا ينقدح السؤال التالي . . «إنّ الصدق والكذب هما في موارد الجمل الخبرية ، في حين أن هذه الجملة إنشائية «ولنحمل خطاياكم» وليس في الجملة الإنشائية صدق أو كذب ، فلم عبّر القرآن عنهم بأنّهم «كاذبون» ؟!
والجواب على هذا السؤال يتّضح من البيان الذي ذكرناه سابقاً ، وهو أن الجملة الأمرية هنا تتحول إلى جملة شرطية ، ومفهومها أنّه إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم وآثامكم ، ومثل هذه الجملة تقبل الصدق والكذب (3) .
وبعد ذلك ، ومن أجل أن لا يتصور أن هؤلاء الدعاة للكفر والشرك وعبادة الأصنام والظلم ، لا شيء عليهم من العقاب لهذا العمل ، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا : {وليحملن أثقالهم أثقالا مع ثقالهم} .
وثقل الذنب هذا . . . هو ثقل ذنب الإغراء والإغواء وحث الآخرين على الذنب ، وهو ثقل السنّة التي عبّر عنها النّبي(صلى الله عليه وآله) فقال : «من سنّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء !» (4) .
المهم أنّهم شركاء في آثام الآخرين ، وإن لم ينقص من وزر الآخرين وإثمهم مقدار من رأس الإبرة .
وتختتم الآية بالقول : {وليسئلنّ يوم القيامة عمّا كانوا يفترون} .
وينقدح هنا سؤال آخر وهو : ما المراد من هذا الإفتراء الذي يسألون عنه ؟!
ولعل ذلك إشارة إلى الإفتراءات التي نسبوها إلى الله ، وكانوا يقولون : «إن الله أمرنا أن نعبد الأصنام !» .
أو أنّه إشارة إلى كلامهم الذي كانوا يقولون : «ولنحمل خطاياكم» .
لأنّهم كانوا يدّعون أن مثل تلك الأعمال لا يترتب عليها إثم . . . وإن هذا الكلام كان افتراءً ، وينبغي أن يجيبوا على ما يسألون بصدده !
أو أنّه يقال لهم على نحو الحقيقة والواقع يوم القيامة : هلموا لتحملوا أثقال الآخرين ، فيمتنعون من ذلك ويظهر كذبهم وافتراءهم . . . . أو أنّ ظاهر كلامهم كان يعني أن كلّ إنسان يمكن أن يتحمل وزر الأخر ويكون مسؤولا عنه ، في حين أن هذا الكلام كذب وافتراء محض أيضاً ، وكل إنسان مسؤول عن عمله ! .
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَهُ وَأَصْحَبَ السَّفِيْنَةِ وَجَعَلْنَهَآ ءَايَةً لِّلْعَلَمِينَ}
إشارة لقصتي نوح وإبراهيم :
لما كان الكلام في البحوث السابقة عن الإمتحانات العامّة في الناس ، فإنّ الكلام هنا ـ وفي ما بعد ـ يقع على الإمتحانات الشديدة للأنبياء ، وكيف أنّهم كانوا تحت ضغط الأعداء وإيذائهم ، وكيف صبروا وكانت عاقبة صبرهم النصر! ليكون هذا الكلام تسلية لقلوب أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله) الذين كانوا تحت وطأة التعذيب الشديد من قبل الأعداء ـ من جانب ـ وتهديداً للأعداء لينتظروا عاقبتهم الوخيمة من جانب آخر .
تبدأ الآيات أوّلا بالكلام على أوّل نبي من أولي العزم وهو «نوح» (عليه السلام) ، وتتحدث عنه بعبارات موجزة ، لتُجملَ قسماً من حياته التي تناسب ـ كثيراً ـ الواقع الراهن للمسلمين ـ آنئذ ـ فتقول : {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً} .
كان نوح مشغولا ليلَ نهارَ بالتبليغ ودعوة قومه إلى توحيد الله ـ فرادى ومجتمعين ، مستفيداً من جميع الفرص في هذه المدة الطويلة {أي تسعمائة وخمسين عاماً) يدعوهم إلى الله . . ولم يشعر بالتعب والنصب من هذا السعي المتتابع ولم يظهر عليه الضعف والفتور .
ومع كل هذا الجهد الجهيد لم يؤمن به إلاّ جماعة قليلة في حدود الثمانين شخصاً كما تنقل التواريخ (أي بمعدّل نفر واحد لكل اثنتي عشرة سنة !) .
فعلى هذا لا تظهروا الضعف والتعب في سبيل الدعوة إلى الحق ومواجهة الإنحرافات ، لأنّ منهجكم أمام منهج «نوح» سهل للغاية .
لكن لاحظوا كيف كانت عاقبة قوم نوح الظالمين الألدّاء : {فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} .
وهكذا انطوى «طومار» حياتهم الذليلة ، وغرقت قصورهم وأجسادهم وآثارهم في الطوفان وأمواجه .
والتعبير بـ {ألف سنة إلاّ خمسين عاماً} مع إمكان القول «تسعمائة وخمسين سنة» من البداية ، هو إشارة إلى عظمة المدة وطول الزمان ، لأنّ عدد «الألف» وأيّ ألف ؟ ألف سنة ! يعدّ مهماً وعدداً كبيراً بالنسبة لمدّة التبليغ .
وظاهر الآية الآنفة أنّ هذا المقدار لم يكن هو عمر نوح (عليه السلام) بتمامه (وإن ذُكر ذلك في التوراة الحديثة ، في سفر التكوين الفصل التاسع) بل عاش بعد الطوفان فترة أُخرى ، وطبقاً لما قاله بعض المفسّرين فقد كانت الفترة هذه ثلاثمائة سنة !
طبعاً . . . هذا العمر الطويل بالقياس إلى أعمار زماننا كثير جداً ولا يعدّ طبيعيّاً أبداً ، ويمكن أن يكون ميزان العمر في ذلك العصر متفاوتاً مع عصرنا هذا . . . وبناءً على المصادر التي وصلت إلى أيدينا فإنّ قوم نوح كانوا معمرين ، وعمر نوح بينهم أيضاً كان أكثر من المعتاد ، ويشير هذا الأمر ضمناً إلى هيئة تركيب أجسامهم كانت تمكّنهم من أن يعمّروا طويلا .
إنّ دراسات العلماء في العصر الحاضر تدلّ على أن عمر الإنسان ليس له حد ثابت ، وما يقوله بعضهم بأنّه محدود بمائة وعشرين سنة ، وأكثر أو أقل ، فلا أساس له . . . بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الظروف .
واليوم وبواسطة التجارب استطاع العلماء أن يضاعفوا عمر قسم من النباتات أو الموجودات الحيّة ، إلى اثني عشر ضعفاً على العمر الطبيعي ، وحتى في بعض الموارد ـ ولا تتعجبوا ـ أوصلوا هذه الفترة للنباتات أو غيرها إلى تسعمائة مرّة ضعف عمرها الطبيعي . . . وإذا حالفهم التوفيق فيمكنهم أن يضاعفوا عمر الإنسان ، فيمكن أن يعمّر الإنسان عندئذ آلاف السنين . (5)
وينبغي الإلتفات ضمناً إلى أن كلمة «الطوفان» في الأصل معناها كل حادثة تحيط بالإنسان ، وهي مشتقّة من مادة «الطواف» ، ثمّ استعمل هذا التعبير للماء الغزير أو السيل الشديد الذي يستوعب مساحة كبيرة من الأرض ويغرقها ، كما يطلق على كل شيء كثير وشديد وفيه حالة الاستيعاب ، سواءً كان ريحاً أو ناراً أو ماءً ، فيسمى كلٌّ منها طوفاناً . . . كما قد يردُ بمعنى ظلمة الليل الشديدة أيضاً . (6)
الطريف أنّ القرآن يقول : {وهم ظالمون} أي إنّهم حين وقوع العذاب «الطوفان» كانوا لا يزالون في ظلمهم أيضاً .
وهذا إشارة إلى أنّهم لو تركوا تلك الأعمال ، وندموا على ما فعلوا ، وتوجّهوا إلى الله ، لما ابتلوا بمثل هذه العاقبة أبداً .
ويضيف القرآن الكريم في الآية الأُخرى {فانجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين} (7) .
____________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص21-29 .
2 ـ جملة «ولنحمل» فعل دالّ على الأمر ، وقد ولّد هذا التعبير إشكالا عند بعض المفسّرين ، وهو : هل يمكن أن يأمر الإنسان نفسه؟! ثمّ قالوا في رد هذا الإشكال . إنّ هذا الأمر في حكم القضية الشرطية أي «إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم» ـ كما في تفسير الرّازي ـ إلاّ أنّه في اعتقادنا لا يمنع أن يأمر الإنسان نفسه ، والآمر والمأمور شخص واحد ، إلاّ أنّه ذو اعتبارين . . . «فتأمل بدقّة» .
3 ـ لدينا طريق آخر على الجواب على هذا السؤال ، لأنّنا نعتقد وجود الصدق والكذب في الجملة الإنشائية أيضاً ، ويلاحظ هذا في التعبيرات العرفية أيضاً . . . لأنّ الشخص ـ مثلا ـ إذا أمر بشيء ما فهو دليل على تعلقه به ، وحين نقول : إنّه يكذب ، فمعناه أنّه لم يطلبه «فلاحظوا بدقّة» .
4 ـ التّفسير الكبير للرازي ، ج 25 ، ص 40 .
5 ـ لمزيد التوضيح في مسألة طول العمر ، بمناسبة الأبحاث المتعلقة بطول عمر المهدي(عليه السلام) ، يراجع كتاب «المهدي تحول كبير» .
6 ـ المفردات للراغب .
7 ـ القول في ما هو مرجع الضمير في «جعلناها» للمفسّرين احتمالات كثيرة ، فبعضهم قال : هو إشارة إلى مجموع هذه الواقعة والحادثة ، وقال بعضهم : هي نجاة نوح(عليه السلام) فحسب ـ مع أصحابه ـ وأشار بعضهم إلى أن المراد من «جعلناها» هي السفينة ، وظاهر العبارة المتقدمة ـ أيضاً ـ تؤيد هذا الإحتمال الأخير ، وحقاً كانت هذه السفينة آيةً من آيات الله في ذلك العصر ، وفي تلك الحادثة العظيمة .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|