المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17581 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

موارد وجوب القضاء مع الكفارة
31-10-2016
Temperate Forest
18-10-2015
تفسير الآية(74-76) من سورة هود
7-6-2020
مزايا الوساطة الجنائية بالنسبة للمجتمع
2023-09-16
كيفية قياس كتلة الثقب الأسود عند المركز المجري
2023-04-04
ما له يوم القيامة (صلى الله عليه واله)
13-12-2014


تفسير الآية (19-27) من سورة العنكبوت  
  
2398   11:28 صباحاً   التاريخ: 2-9-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف العين / سورة العنكبوت /

قال تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَو حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت : 19 - 27]

 

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قال تعالى : {أ ولم يروا كيف يبديء الله الخلق ثم يعيده} يعني كفار مكة الذين أنكروا البعث وأقروا بأن الله هو الخالق فقال أ ولم يتفكروا فيعلموا كيف أبدأ الله الخلق بعد العدم ثم يعيدهم ثانيا إذا أعدمهم بعد وجودهم قال ابن عباس يريد الخلق الأول والخلق الآخر .

{إن ذلك على الله يسير} غير متعذر لأن من قدر على الإنشاء والابتداء فهو على الإعادة أقدر ثم خاطب محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {قل} لهؤلاء الكفار {سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} وتفكروا في آثار من كان فيها قبلكم وإلى أي شيء صار أمرهم لتعتبروا بذلك ويؤديكم ذلك إلى العلم بربكم وقيل معناه انظروا وابحثوا هل تجدون خالقا غير الله فإذا علموا أنه لا خالق ابتداء إلا الله لزمتهم الحجة في الإعادة وهو قوله {ثم الله ينشىء النشأة الآخرة} أي ثم الله الذي خلقها وأنشأ خلقها ابتداء ينشئها نشأة ثانية ومعنى الإنشاء الإيجاد من غير سبب {إن الله} تعالى {على كل شيء قدير} أي إن الله على الإنشاء والإفناء والإعادة وعلى كل شيء يشاؤه قدير .

ثم ذكر سبحانه الوعد والوعيد فقال {يعذب من يشاء} معناه أنه المالك للثواب والعقاب وإن كان لا يشاء إلا الحكمة والعدل وما هو الأحسن من الأفعال فيعذب من يشاء ممن يستحق العقاب {ويرحم من يشاء} ممن هو مستحق للرحمة بأن يغفر له بالتوبة وغير التوبة {وإليه تقلبون} معاشر الخلق أي إليه ترجعون يوم القيامة والقلب هو الرجوع والرد فمعناه أنكم تردون إلى حال الحياة في الآخرة حيث لا يملك فيه النفع والضر إلا الله وهذا يتعلق بما قبله كان المنكرين للبعث قالوا إذا كان العذاب غير كائن في الدنيا فلا نبالي به فقال {وإليه تقلبون} وكأنهم قالوا إذا صرفنا إلى حكم الله فررنا فقال {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء} أي ولستم بفائتين عن الله في الدنيا ولا في الآخرة فاحذروا مخالفته .

ومتى قيل : كيف وصفهم بذلك وليسوا من أهل السماء فالجواب عنه من وجهين (أحدهما) إن المعنى لستم بمعجزين فرارا في الأرض ولا في السماء لوكنتم في السماء كقولك ما يفوتني فلان هاهنا ولا بالبصرة يعني ولا بالبصرة لو صار إليها عن قطرب وهو معنى قول مقاتل (والآخر) أن المعنى ولا من في السماء بمعجزين فحذف من لدلالة الكلام عليه كما قال حسان :

أ من يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء

 

 فكأنه قال ومن يمدحه وينصره سواء أم لا يتساوون عن الفراء وهذا ضعيف عند البصريين {وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} ينصركم ويدفع عذاب الله عنكم فلا تغتروا بأن الأصنام تشفع لكم وقيل إن الولي الذي يتولى المعونة بنفسه والنصير يتولى النصرة تارة بنفسه وتارة بأن يأمر غيره به {والذين كفروا بآيات الله} أي جحدوا بالقرآن وبأدلة الله {ولقائه} أي وجحدوا بالبعث بعد الموت {أولئك يئسوا من رحمتي} أخبر أنه سبحانه آيسهم من رحمته وجنته أو يكون معناه يجب أن ييأسوا من رحمتي {وأولئك لهم عذاب أليم} أي مؤلم وفي هذا دلالة على أن المؤمن بالله واليوم الآخر لا ييأس من رحمة الله .

ثم عاد سبحانه إلى قصة إبراهيم فقال : {فما كان جواب قومه} يعني حين دعاهم إلى الله تعالى ونهاهم عن عبادة الأصنام {إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه} وفي هذا تسفيه لهم إذ قالوا حين انقطعت حجتهم لا تحاجوه ولكن اقتلوه أو حرقوه ليتخلصوا منه {فأنجاه الله من النار} وهاهنا حذف تقديره ثم اتفقوا على إحراقه فأججوا نارا فألقوه فيها فأنجاه الله منها {إن في ذلك لآيات} أي علامات واضحات وحجج بينات {لقوم يؤمنون} بصحة ما أخبرناه به وبتوحيد الله وكمال قدرته {وقال} إبراهيم لقومه {إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم} أي لتتوادوا بها {في الحيوة الدنيا} وقد تقدم بيانه في الحجة {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} أي يتبرأ القادة من الأتباع {ويلعن بعضكم بعضا} أي ويلعن الأتباع القادة لأنهم زينوا لهم الكفر وقال قتادة كل خلة تنقلب يوم القيامة عداوة إلا خلة المتقين قال سبحانه الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين {ومأواكم النار} أي ومستقركم النار {وما لكم من ناصرين} يدفعون عنكم عذاب الله .

ثم عطف سبحانه على ما تقدم بأن قال {فآمن له لوط} أي فصدق بإبراهيم لوط وهو ابن أخته وكان إبراهيم خاله عن ابن عباس وابن زيد وجمهور المفسرين وهو أول من صدق بإبراهيم (عليه السلام) {وقال} إبراهيم {إني مهاجر إلى ربي} أي خارج من جملة الظالمين على جهة الهجر لهم لقبيح أعمالهم من حيث أمرني ربي وقيل معناه قال لوط إني مهاجر إلى ربي عن الجبائي وخرج إبراهيم {عليه السلام) ومعه لوط وامرأته سارة وكانت ابنة عمه من كوثي وهي قرية من سواد الكوفة إلى أرض الشام عن قتادة ومثل هذا هجرة المسلمين من مكة إلى أرض الحبشة أولا ثم إلى المدينة ثانيا لأنهم هجروا ديارهم وأوطانهم بسبب أذى المشركين لهم .

{إنه هو العزيز} الذي لا يذل من نصره {الحكيم} الذي لا يضيع من حفظه {ووهبنا له} أي لإبراهيم من بعد إسماعيل {إسحاق ويعقوب} من وراء إسحاق {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} وذلك أن الله سبحانه لم يبعث نبيا من بعد إبراهيم إلا من صلبه فالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان كلها أنزلت على أولاده {وآتيناه أجره في الدنيا} وهو الذكر الحسن والولد الصالح عن ابن عباس وقيل هو رضى أهل الأديان به فكلهم يحبونه ويتولونه عن قتادة وقيل هو أنه أري مكانه في الجنة عن السدي وقال بعض المتأخرين هو بقاء ضيافته عند قبره وليس ذلك لغيره من الأنبياء قال البلخي وفي هذا دلالة على أنه يجوز أن يثيب الله في دار التكليف ببعض الثواب .

{وأنه في الآخرة لمن الصالحين} يعني أن إبراهيم مع ما أعطي من الأجر والثواب في الدنيا يحشره الله في جملة الصالحين العظيمي الأقدار مثل آدم ونوح .

_____________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص16-21 .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{أَولَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ » أو لم يروا أو لم يعلموا ، ويتلخص معنى الآية بقول الإمام علي (عليه السلام) : « عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى ، وهو يرى النشأة الأولى » . ووجه الملازمة بين النشأتين اتحادهما في العلة ، وهي قدرة الموجد ، فإن من قدر على إيجاد الشيء من لا شيء يقدر على جميع أجزائه بعد تفرقها ، بل الجمع أهون وأيسر من الإيجاد . . نقول هذا مع العلم بأنه لا شيء على اللَّه أهون من شيء ، وأنه يوجد الخطير والحقير بكلمة {كن} . وكررنا ذلك بتكرار الآيات . انظر ج 1 ص 77 وج 2 ص 396 وج 4 ص 379 .

 

القرآن والفكر :

{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهً عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . نهى القرآن عن التقليد ، ونعى على المقلدين ، وأمر بالبحث والنظر ، وأثنى على العلماء والمجتهدين في العديد من آياته . . ولا شك ان البحث والنظر علامة من علامات الحياة ، وطريق إلى نموها وتقدمها وحلّ مشاكلها إذا كان مع البحث والنظر صبر وتصميم على بلوغ الهدف مهما كانت العقبات . . فبالصبر والايمان تقهر كل القوى ، فلقد صمم إنسان هذا العصر أن يصل إلى القمر ، فاجتهد وثابر حتى وطئ أرضه بأقدامه ، وغدا أو بعد غد يطأ المريخ وغيره من الكواكب . . إذن ، فليس هناك قوة لا يتغلب عليها الإنسان إلا قوة خالق الإنسان ، ومن هنا قيل : ما فوق الإنسان غير خالقه ، ولو سألني سائل : ما هو حد الإنسان ؟ لقلت له : حده ان لا حد لطاقاته واستعداده ، والجهل والتقليد هو الذي يحول بين الإنسان وقابليته ، ويفصله عن نفسه وواقعه ، ومن أجل هذا حرم القرآن التقليد ، وأمر بالنظر واتباع العقل في جميع أحكامه ، وأطلق عليه كلمة النور والهدى والبرهان .

وتسأل : صحيح ان القرآن نهى عن التقليد ، وأمر بالبحث والنظر ، وأثنى على العلماء ، ولكن السياق أو السبب الموجب لنزول الآيات الواردة في هذا الباب يدل على أن العلماء الذين أثنى عليهم هم أهل العلم باللَّه وحلاله وحرامه ، وانه أمر بالنظر والتفكر في خلق الكائنات لينتهي الإنسان من ذلك إلى الايمان باللَّه واليوم الآخر ، ويفوز بالجنة ونعيمها ، وينجو من النار وجحيمها : وأوضح مثال على ذلك قوله تعالى : {أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَو نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة - 65 ] أي تعجبون . وأي عاقل يقول :

ان هذه الآية تحث على علم الزراعة ؟ ومثلها بقية الآيات التي أمرت بالنظر والتفكر .

الجواب أولا : ان هناك آيات باركت وأثنت على كل ما ينفع الناس كقوله تعالى : {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد -17] . ولا شيء ينفع الناس كالعلم ، بل لا حياة بدونه في هذا العصر ، هذا بالإضافة إلى عشرات الآيات التي حثت على الأعمال الصالحة ، واعتبرت أهلها خير البرية ، قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة - 7] ، والعلم في طليعة الأعمال الصالحة .

ثانيا : صحيح ان السبب الموجب لنزول الآيات التي أمرت بالبحث والنظر أو أكثرها هو الرد على من كفر باللَّه واليوم الآخر ، ولكن سبب النزول لا يخصص عموم اللفظ .

ثالثا : ان العلم النافع حسن بذاته في نظر العقل ، وحكم العقل لا يقبل التخصص والاستثناء ، أجل للعلم منازل ومراتب تقاس بما يترتب عليه من فوائد ومنافع ، والعلم باللَّه وشريعته أنفع العلوم دنيا وآخرة ، أما دنيا فلأنه يتجه بكل شيء إلى خير الناس ومصالحهم ، وأما في الآخرة فلأنه سبيل النجاة من غضب اللَّه وعذابه ، ومن هنا أطلق المسلمون كلمة عالم بلا قيد على رجل العلم بالدين ، ومع القيد على غيره من أهل العلوم الدنيوية .

رابعا : اتفق فقهاء المسلمين قولا واحدا على أن كل علم لا يستغنى عنه في الحياة فهو فرض كفاية ، وفي الحديث : ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة . وفيه أيضا : اطلبوا العلم من مظانه أي من مصادره الدينية والدنيوية ، اطلبوا العلم ولوفي الصين .

وبداهة ان علم الدين يطلب من كتاب اللَّه وسنة نبيه ، وليس من الصين ، إلى غير ذلك من الأحاديث .

{يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} ممن يستحق العذاب {ويَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ} ممن يستحق الرحمة ، لأن اللَّه عادل وحكيم يجزي كل نفس بما كسبت {وإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} ترجعون يوم القيامة للحساب والجزاء {وما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ ولا فِي السَّماءِ} ، أي ولا من في السماء بمعجزين ، وفي نهج البلاغة : لا يعجزه من طلب ، ولا يفوته من هرب {وما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نَصِيرٍ} لا مرد لحكمه ، ولا ملجأ منه إلا إليه {والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ ولِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} . اليأس من رحمة اللَّه نتيجة حتمية للكفر به وباليوم الآخر ، وجزاء من يئس من رحمة اللَّه وثوابه كفرا وجحودا هو أن يذوق عذاب الحريق .

{فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَو حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} .

عاد الحديث إلى إبراهيم (عليه السلام) وسيرته مع قومه الذين حاولوا التخلص منه ومن دعوته بالقتل أو الإحراق . . وهذا هو منطق الجبابرة الطغاة في كل زمان ومكان . .

تدمغهم الحجة الواضحة ، فترتعد منها فرائصهم ، ويخافون على مناصبهم ، ولا يملكون إلا الظلم والطغيان ، فيصدرون الأوامر : اسجنوا . . عذبوا . . صادروا الأملاك . . اهدموا البيوت . . اشنقوا . . احرقوا . . وهنا تتدخل العناية الإلهية ، إما بنجاة المظلوم من أيدي الظالمين ، وإما بأخذهم أخذ عزيز مقتدر بيده أو بيد الأحرار من عبيده ، وتقدم مثله في الآية 68 من سورة الأنبياء {إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي ينتفعون بالنذر ، ويتعظون بالعبر ، ويبحثون عن الحق لوجه الحق ليؤمنوا به ويعملوا مخلصين .

{وقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} . قال إبراهيم لقومه : عبدتم هذه الأوثان ، وأنتم على يقين بأنها لا تنفع ولا تضر ، ولكن عظمتموها تقليدا لمن تودونهم وتحبونهم في هذه الحياة ، وستنقلب هذه المودة إلى عداوة وبغضاء {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} .

قال الإمام علي (عليه السلام) : يتبرأ التابع من المتبوع ، والقائد من المقود ، فيتزايلون بالبغضاء - أي يتفارقون - ويتلاعنون عند اللقاء {ومَأْواكُمُ النَّارُ وما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ} . هذه نهاية من كفر بالحق تابعا كان أو متبوعا .

{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . لوط هو ابن أخي إبراهيم ، وقال جماعة من المفسرين : لم يهتد أحد من قوم إبراهيم ويؤمن إلا لوط ، وليس هذا ببعيد ، لأن هذه الآية تومئ إلى ذلك بالإضافة إلى ما جاء في كثير من الكتب ان إبراهيم هاجر هو وزوجته وابن أخيه لوط فقط .

وفي الأصحاح التاسع عشر ان ابنتي لوط سقتا أباهما خمرا ، فاضطجع معهما ، وحملتا منه ، فولدت الكبرى ذكرا أسمته موآب ، وأيضا حملت الصغرى ذكرا أسمته بن عمي .

{ووَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ وجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ والْكِتابَ وآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} . ضمير له يعود إلى إبراهيم (عليه السلام) ، وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن اللَّه سبحانه لم يبعث نبيا بعده إلا من صلبه ، وإذا عطفنا على هذه الآية حديث (هذا الأمر في قريش . . الناس تبع لقريش . .

الأئمة من قريش . .) إذا فعلنا ذلك كانت النتيجة ان جميع الأنبياء والأئمة من سلالة إبراهيم (عليه السلام) لأن نسب قريش ينتهي إليه . وتقدم مثله في الآية 49 من سورة مريم و72 من سورة الأنبياء .

________________

1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص 101-104 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {أ ولم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير} هذه الآية إلى تمام خمس آيات من كلامه تعالى واقعة في خلال القصة تقيم الحجة على المعاد وترفع استبعادهم له متعلقه بما تقدم من حيث إن العمدة في تكذيبهم الرسل إنكارهم للمعاد كما يشير إليه قول إبراهيم : {إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم} .

فقوله : {أ ولم يروا} إلخ الضمير فيه للمكذبين من جميع الأمم من سابق ولاحق والمراد بالرؤية النظر العلمي دون الرؤية البصرية ، وقوله : {كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده} في موضع المفعول لقوله : {يروا} بعطف {يعيده} على موضع {يبدىء} خلافا لمن يرى عطفه على {أ ولم يروا} والاستفهام للتوبيخ .

والمعنى : أ ولم يعلموا كيفية الإبداء ثم الإعادة أي إنهما من سنخ واحد هو إنشاء ما لم يكن ، وقوله : {إن ذلك على الله يسير} الإشارة فيه إلى الإعادة بعد الإبداء وفيه رفع الاستبعاد لأنه إنشاء بعد إنشاء وإذ كانت القدرة المطلقة تتعلق بالإيجاد فهي جائزة التعلق بالإنشاء بعد الإنشاء وهي في الحقيقة نقل للخلق من دار إلى دار وإنزال للسائرين إليه في دار القرار .

وقول بعضهم : إن المراد بالإبداء ثم الإعادة إنشاء الخلق ثم إعادة أمثالهم بعد إفنائهم غير سديد لعدم ملائمة الاحتجاج على المعاد الذي هو إعادة عين ما فنى دون مثله .

قوله تعالى : {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير} الآية إلى تمام ثلاث آيات أمر للنبي {صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطبهم بما يتم به الحجة عليهم فيرشدهم إلى السير في الأرض لينظروا إلى كيفية بدء الخلق وإنشائهم على اختلاف طبائعهم وتفاوت ألوانهم وأشكالهم من غير مثال سابق وحصر أو تحديد في عدتهم وعدتهم ففيه دلالة على عدم التحديد في القدرة الإلهية فهو ينشىء النشأة الآخرة كما أنشأ النشأة الأولى فالآية في معنى قوله : {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة : 62] .

قوله تعالى : {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون} من مقول القول ، والظاهر أنه بيان لقوله : {ينشىء النشأة الآخرة} وقلب الشيء تحويله عن وجهه أوحاله كجعل أسفله أعلاه وجعل باطنه ظاهره وهذا المعنى الأخير يناسب قوله تعالى : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9] .

وفسروا القلب بالرد قال في المجمع : ، والقلب هو الرجوع والرد فمعناه أنكم تردون إلى حال الحياة في الآخرة حيث لا يملك فيه النفع والضر إلا الله .

انتهى وهذا معنى لطيف يفسر به معنى الرجوع إلى الله والرد إليه وهو وقوفهم موقفا تنقطع فيه عنهم الأسباب ولا يحكم فيه إلا الله سبحانه فالآية في معنى قوله : { وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس : 30] .

ومحصل المعنى : أن النشأة الآخرة هي نشأة يعذب الله فيها من يشاء وهم المجرمون ويرحم من يشاء وهم غيرهم وإليه تردون فلا يحكم فيكم غيره .

قوله تعالى : {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} من مقول القول وتوصيف لشأنهم يوم القيامة كما أن الآية السابقة توصيف لشأنه تعالى يومئذ .

فقوله : {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء أي أنكم لا تقدرون أن تعجزوه تعالى يومئذ بالفوت منه والخروج من حكمه وسلطانه بالفرار والخروج من ملكه والنفوذ من أقطار الأرض والسماء ، فالآية تجري مجرى قوله : {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا } [الرحمن : 33] .

وقيل : الكلام في معنى {من في السماء} فحذف من لدلالة الكلام عليه والتقدير وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا من في السماء بمعجزين في السماء .

وهو بعيد ودلالة الكلام عليه غير مسلمة ولو بني عليه لكفى فيه أن الخطاب للأعم من البشر بتغليب جانب البشر المخاطبين على غيرهم من الجن والملك والمعنى : وما أنتم معاشر الخلق بمعجزين في الأرض ولا في السماء .

وقوله : {وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} أي ليس لكم اليوم ولي من دون الله يتولى أمركم فيغنيكم من الله ولا نصير ينصركم فيقوي جانبكم ويتمم ناقص قوتكم فيظهركم عليه سبحانه .

فالآية - كما ترى - تنفي ظهورهم على الله وتعجيزهم له بالخروج والامتناع عن حكمه بأقسامه فلا هم يستقلون بذلك وهو قوله : {وما أنتم بمعجزين} إلخ ولا غيرهم يستقل بذلك وهو قوله : {وما لكم من دون الله من ولي} ولا المجموع منهم ومن غيرهم يعجزه تعالى وهو قوله : {ولا نصير} .

قوله تعالى : {والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم} خطاب مصروف إلى النبي {صلى الله عليه وآله وسلم) خارج من مقول القول السابق {قل سيروا في الأرض} إلخ والمطلوب فيه أن ينبئه {صلى الله عليه وآله وسلم) صريح الحق فيمن يشقى ويهلك يوم القيامة فإنه أبهم ذلك في قوله أولا : {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء} .

ومن الدليل عليه الخطاب في {أولئك} مرتين ولوكان من كلام النبي {صلى الله عليه وآله وسلم) لقيل : أولئكم} .

ويؤيد ذلك أيضا قوله : {من رحمتي} فإن الانتقال من مثل قولنا : أولئك يئسوا من رحمة الله أومن رحمته بسياق الغيبة على ما يقتضيه المقام إلى قوله : {أولئك يئسوا من رحمتي} يفيد التصديق والاعتراف مضافا إلى أصل الإخبار فيفيد صريح التعيين لأهل العذاب ، ويؤيد ذلك أيضا تكرار الإشارة وما في السياق من التأكيد .

وكان في تخصيص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الإخبار تقوية لنفسه الشريفة وعزلا لهم عن صلاحية السمع لمثله وهم لا يؤمنون .

والمراد بآيات الله - على ما يفيده إطلاق اللفظ - جميع الأدلة الدالة على الوحدانية والنبوة والمعاد من الآيات الكونية والمعجزات النبوية ومنها القرآن فالكفر بآيات الله يشمل بعمومه الكفر بالمعاد فذكر الكفر باللقاء وهو المعاد بعد الكفر بالآيات من ذكر الخاص بعد العام والوجه فيه الإشارة إلى أهمية الإيمان بالمعاد إذ مع إنكار المعاد يلغو أمر الدين الحق من أصله وهو ظاهر .

والمراد بالرحمة ما يقابل العذاب ويلازم الجنة وقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الرحمة عليها بالملازمة كقوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ } [الجاثية : 30] ، وقوله : {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان : 31] .

والمراد بإسناد اليأس إليهم إما تلبسهم به حقيقة فإنهم لجحدهم الحياة الآخرة آيسون من السعادة المؤبدة والجنة الخالدة وإما أنه كناية عن قضائه تعالى المحتوم أن الجنة لا يدخلها كافر .

والمعنى : والذين جحدوا آيات الله الدالة على الدين الحق وخاصة المعاد أولئك يئسوا من الرحمة والجنة وأولئك لهم عذاب أليم .

قوله تعالى : {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار} إلخ ، تفريع على قوله في صدر القصة : {وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه .

وظاهر قوله : {قالوا اقتلوه أو حرقوه} أن كلا من طرفي الترديد قول طائفة منهم والمراد بالقتل القتل بالسيف ونحوه فهو قولهم أول ما ائتمروا ليجازوه وإن اتفقوا بعد ذلك على إحراقه كما قال { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ } [الأنبياء : 68] ، ويمكن أن يكون الترديد من الجميع لترددهم في أمره أولا ثم اتفاقهم على إحراقه .

وقوله : {فأنجاه الله من النار} فيه حذف وإيجاز وتقديره ثم اتفقوا على إحراقه فأضرموا نارا فألقوه فيها فأنجاه الله منها ، وقد فصلت القصة في مواضع من كلامه تعالى .

قوله تعالى : {وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا} إلى آخر الآية إذ كان لا حجة عقلية لهم على اتخاذ الأوثان لم يبق لهم مما يستنون به إلا الاستنان بسنة من يعظمونه ويحترمون جانبه كالآباء للأبناء والرؤساء المعظمين لأتباعهم والأصدقاء لأصدقائهم وبالأخرة الأمة لأفرادها فهذا السبب الرابط هو عمدة ما يحفظ السنن القومية معمولا بها قائمة على ساقها .

فالاستنان بسنة الوثنية بالحقيقة من آثار الموت الاجتماعية يرى العامة ذلك بعضهم من بعض فتبعثه المودة القومية على تقليده والاستنان به مثله ثم هذا الاستنان نفسه يحفظ المودة القومية ويقيم الاتحاد والاتفاق على ساقه .

هذه حال العامة منهم وأما الخاصة فربما ركنوا في ذلك إلى ما يحسبونه حجة وما هو بحجة كقولهم إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أووهم أو عقل فلا يتعلق به توجهنا العبادي فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض من له به عناية كالملائكة والجن ليقربونا إليه زلفى ويشفعوا لنا عنده .

فقوله : {إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا} خطاب منه {عليه السلام) لعامة قومه في أمر اتخاذهم الأوثان للمودة القومية ليصلحوا به شأن حياتهم الدنيا الاجتماعية ، وقد أجابوه بذلك حيث سألهم عن شأنهم {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } [الأنبياء : 52 ، 53] ، {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } [الشعراء : 72 - 74] .

ومن هنا يظهر أن قوله : {مودة بينكم} صالح لأن يكون منصوبا بنزع الخافض بتقدير لام التعليل والمودة على هذا سبب مؤد إلى اتخاذ الأوثان ، وأن يكون مفعولا له ، والمودة غاية مقصودة من اتخاذ الأوثان ، لكن ذيل الآية إنما تلائم الوجه الثاني على ما سيظهر .

ثم عقب (عليه السلام) بقوله : {إنما اتخذتم} إلخ ، بقوله : {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا} يبين لهم عاقبة اتخاذهم الأوثان للمودة وهو باطن هذه المودة المقصودة الذي سيظهر يوم تبلى السرائر فإنهم توسلوا إلى هذا المتاع القليل بالشرك الذي هو أعظم الظلم وأكبر الكبائر الموبقة واجتمعوا عليه وتوافقوا لكنهم سيبدو لهم حقيقة عملهم ويلحق بهم وباله فيتبرأ بعضهم من بعض وينكره بعضهم على بعض .

والمراد بكفر بعضهم ببعض كفر آلهتهم بهم وتبريهم منهم ، كما قال تعالى : {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم : 82] ، وقال : {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر : 14] ، وفي معناه : تبري المتبوعين من تابعيهم ، كما قال تعالى : {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } [البقرة : 166] ، والمراد بلعن بعضهم بعضا لعن كل بعض صاحبه ، قال تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا } [الأعراف : 38] .

ثم عقب ذلك بقوله : {ومأواكم النار وما لكم من ناصرين} إشارة إلى لحوق الوبال ووقوع الجزاء وهو النار التي فيها الهلاك المؤبد ولا ناصر ينصرهم ويدفع عنهم العذاب فهم إنما توسلوا إلى المودة ليتناصروا ويتعاونوا ويتعاضدوا في الحياة لكنها عادت يوم القيامة معاداة ومضادة وأورثت تبريا وخذلانا .

قوله تعالى : {فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم} أي آمن به لوط والإيمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء والمعنى واحد .

وقوله : {وقال إني مهاجر إلى ربي} قيل الضمير راجع إلى لوط ، وقيل : راجع إلى إبراهيم ويؤيده قوله تعالى حكاية عن إبراهيم { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات : 99] .

وكأن المراد بالمهاجرة إلى الله هجره وطنه وخروجه من بين قومه المشركين إلى أرض لا يعترضه فيها المشركون ولا يمنعونه من عبادة ربه فعد المهاجرة مهاجرة إلى الله من المجاز العقلي .

وقوله : {إنه هو العزيز الحكيم} أي عزيز لا يذل من نصره حكيم لا يضيع من حفظه .

قوله تعالى : {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} معناه ظاهر .

قوله تعالى : {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} الأجر هو الجزاء الذي يقابل العمل ويعود إلى عامله والفرق بينه وبين الأجرة أن الأجرة تختص بالجزاء الدنيوي والأجر يعم الدنيا والآخرة ، والفرق بينه وبين الجزاء أن الأجر لا يقال إلا في الخير والنافع ، والجزاء يعم الخير والشر والنافع والضار .

والغالب في كلامه تعالى استعمال لفظ الأجر في جزاء العمل العبودي الذي أعده الله سبحانه لعباده المؤمنين في الآخرة من مقامات القرب ودرجات الولاية ومنها الجنة ، نعم وقع في قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام) : {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف : 90] ، وقوله : {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف : 56] إطلاق الأجر على الجزاء الدنيوي الحسن .

فقوله : {وآتيناه أجره في الدنيا} يمكن أن يكون المراد به إيتاء الأجر الدنيوي الحسن والأنسب على هذا أن يكون {في الدنيا} متعلقا بالأجر لا بالإيتاء وربما تأيد هذا المعنى بقوله تعالى فيه {عليه السلام) في موضع آخر : { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل : 122] ، فإن الظاهر أن المراد بالحسنة الحياة الحسنة أو العيشة الحسنة وإيتاؤها فعلية إعطائها دون تقديرها وكتابتها .

ويمكن أن يكون المراد به تقديم ما أعد لعامة المؤمنين في الآخرة من مقامات القرب في حقه (عليه السلام) وإيتاؤه ذلك في الدنيا وقد تقدم إحصاء ما يذكره القرآن الكريم من مقاماته (عليه السلام) في قصصه من تفسير سورة الأنعام .

وقوله : {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى : {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة : 130] في الجزء الأول من الكتاب .

 

_______________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص94-100 .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{أولم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثمّ يعيده} . والمراد بالرؤية هنا هي الرؤية «القلبية» والعلم ، أي كيف لا يعرف هؤلاء خلق الله؟ فالذي له القدرة على الإيجاد أولا قادر على إعادته أيضاً ، فالقدرة على شيء ما هي قدرة على أمثاله وأشباهه أيضاً .

كما يأتي هذا الإحتمال ، وهو أنّ الرؤية هنا هي الرؤية «البَصَيريّة» والمشاهدة بالعين . . . لأنّ الإنسان يرى بعينيه كيف تحيا الأرض وتنمو النباتات ، وتتولد الدجاجة من البيض ، والأطفال من النطف . . . فمن له القدرة على هذا الأمر قادر على أن يحيي الموتى من بعدُ أيضاً .

ويضيف في آخر الآية على سبيل التأكيد {إنّ ذلك على الله يسير} . لأنّ تجديد الحياة قبال الإيجاد الأوّل يُعدّ أمراً بسيطاً .

وطبيعي أنّ هذا التعبير يناسب منطق الناس وفهمهم ، وإلاّ فإن اليسير والعسير لا مفهوم لهما عند من قدرته غير محدودة والمطلقة . . . فهذه قدراتنا التي أوجدت مثل هذا «المفهوم» ، ومع الإلتفات إلى إنجازها . . . ظهرت لدينا أُمور يسيرة وأُخرى عسيرة .

 

وقوله تعالى : {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت : 20 - 23] .

 

الآيسون من رحمة الله :

هذه الآيات تواصل البحث في المعاد أيضاً ، على صُورة جُمَل معترضة في قصّة إبراهيم (عليه السلام) .

وليست هذه أوّل مرّة نواجه فيها مثل هذا الأسلوب . . . فهذه هي طريقة القرآن دائماً ، فعندما يبلغ مرحلة حساسة من ذكر قصّة ما ، يترك بقيّة القصّة مؤقتاً للإستنتاج أكثر ، ثمّ يعطي النتائج اللازمة .

وعلى كل حال ، فإنّ القرآن يدعو في الآية الأُولى من هذا المقطع الناس إلى «السير في الآفاق» في مسألة المعاد . . . في حين أن الآية السابقة كانت السمة فيها «السير في الأنفس» أكثر! يقول القرآن : {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} انظروا الى أنواع الموجودات الحية ، والاقوام والاُمم المتنوعة والمختلفة ، وكيف أنّ الله تعالى خلقها أولا ، ثمّ أن الله نفسه الذي أوجدها في البداية من العدم قادر ايضاً على ايجادها في الآخرة {ثمّ الله ينشىءُ النشأة الآخرة}

ولأنّه أثبت قدرته على كل شيء حين خلق الخلق أولا ، إذن فـ ـ{إنَّ الله على كل شيء قدير} .

فهذه الآية والآية التي قبلها ـ أيضاً ـ أثبتتا بواسطة قدرته الواسعة إمكان المعاد . . مع فرق أن الآية الأُولى تتحدث عن الإنسان نفسه وخلقه وما حوله! والآية الثّانية تأمر بمطالعة حالات الأُمم والموجودات الأخرى ، ليروا الحياة الأُولى في صور مختلفة وظروف متفاوتة تماماً ، وليطّلعوا على عموميّة قدرة الله ، وليستيقنوا قدرته على إعادة هذه الحياة! .

كما أن إثبات التوحيد يتمُّ ـ أحياناً ـ عن طريق مشاهدة «الآيات في الأنفس» وأحياناً عن طريق «الآيات في الآفاق» فكذلك يتمّ إثبات المعاد عن هذين الطريقين أيضاً .

وفي عصرنا هذا يمكن أن تبيّن هذه الآيات للعلماء معنىً أعمق وأدق ، وهو أن يمضوا ويلاحظوا الموجودات الحيّة الأُولى التي هي في أعماق البحار على شكل فسائل ونباتات وغيرها ، وفي قلب الجبال ، وبين طبقات الأرض ، ويطلعوا على جانب من أسرار بداية الحياة على وجه الأرض ، ويدركوا عظمة الله وقدرته ، وليعلموا أنّه قادر على إعادة الحياة أيضاً(2) .

هذا وإن كلمة «النشأة» في الأصل ، تعني إيجاد الشيء وتربيته ، وقد يعبر أحياناً عن الدنيا بالنشأة الأولى ، كما يعبر عن الأُخرى بالنشأة الآخرة ! .

وهذه اللطيفة جديرة بالملاحظة ، وهي أنّ في ذيل الآيات السابقة ورد التعبير «إن ذلك على الله يسير» وورد التعبير هنا {إن الله على كل شيء قدير} .

ولعل منشأ التفاوت والإختلاف هو أن الآية الأُولى تعالج مطالعة محدودة ، أمّا الثّانية فتعالج وتبيّن مطالعة وسيعة جدّاً .

ثمّ يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد ، وهي مسألة الرحمة والعذاب ، فيقول : {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون} .

ومع أنّ رحمة الله مقدمةٌ على غضبه ، إلاّ أن الآية هنا تبدأ أولا بذكر العذاب ثمّ الرحمة ، لأنّها في مقام التهديد ، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الأُسلوب! .

هنا ينقدح السؤال التالي :

كيف يتحدث القرآن أوّلا عن العذاب والرحمة ، ثمّ يتحدث عن معاد الناس إليه {واليه تقلبون} ؟ في حين أن القضية على العكس من ذلك ، ففي البداية يحضر الناس عند ساحته ، ثمّ يشملهم العذاب أو الرحمة . . وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتقد بعضهم أن العذاب والرحمة المذكورين هنا هما في هذه الدنيا .

ونقول جواباً على مثل هذا السؤال : إن العذاب والرحمة ـ بقرينة الآيات السابقة واللاحقة ـ هما عذاب القيامة ورحمتها ، وجملة {وإليه تقلبون} إشارة إلى الدليل على ذلك : أي : بما أنّ معادكم إليه وكتابكم وحسابكم لديه ، فالعذاب والرحمة ـ أيضاً ـ بإرادته وتحت أمره ! .

ولا يبعد أن يكون العذاب والرحمة في هذه الآية لهما معنى واسع ، بحيث يشمل العذاب والرحمة في الدارين .

كما يتّضح أنّ المراد بقول : {من يشاء} هو المشيئة الإلهية المقرونة بحكمته ، أي كل من كان جديراً ومستحقاً لذلك . . فإن مشيئة الله ليست عبثاً ، بل منسجمة مع الإستحقاق والجدارة ! .

وجملة «تنقلبون» من مادة «القلب» ومعناها في الأصل : تغيير الشيء من صورة إلى صورة أُخرى ، وحيث أن الإنسان في يوم القيامة يعود إلى هيئة الموجود الحي الكامل بعد أن كان تراباً لا روح فيه ، فقد ورد هذا التعبير في إيجاده ثانيةً أيضاً .

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة ـ أيضاً ـ وهي أن الإنسان يتبدل في الدار الأُخرى ويتغيّر تغيراً ينكشف باطنه به وتتجلى أسراره الخفية ، وبهذا فهي تنسجم مع الآية (9) من سورة الطارق { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [الطارق : 9] .

وإكمالا لهذا البحث الذي يبيّن أن الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه ، يضيف القرآن : إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولايمسّكم عذابه ، فأنتم في خطأ كبير . . . فليس الأمر كذلك! {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء} (3) .

وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك ، فهذا خطأ محضٌ أيضاً {وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} .

وفي الحقيقة ، فإنّ الفرار من قبضة الله وعذابه ، إمّا بأن تخرجوا من حكومته ، وإمّا بأن تعتمدوا مع بقائكم في حكومته على قدرة الآخرين لتدافعوا عن أنفسكم ، فلا الخروج ممكن ، لأنّ البلاد كلّها له وعالم الوجود كلّه ملكه الواسع ، ولا يوجد أحد يستطيع أن يقف أمام قدرته وينهض للدفاع عنكم .

يبقى هنا سؤالان : ـ

أوّلا : مع الإلتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أن مقصود الآية هو في الكفار والمشركين ، وهم سكنة الأرض ، فما معنى قوله تعالى : {ولا في السماء} وأي مفهوم له هنا ؟!

وينبغي أن يقال في الجواب ، أن هذا التعبير هو نوع من التأكيد والمبالغة ، أي إنكم لا تستطيعون أن تخرجوا من قدرة الله وسلطانه في هذه الأرض ، ولا في السماوات ، إذ حتى لو فرضنا أنّكم تستطيعون أن تصعدوا في السماء ، فمازلتم تحت قدرته وسلطانه .

أو إنّه : لا تستطيعون أن تعجزوا الله في مشيئته بواسطة من في الأرض ، ولا بواسطة من تعبدون في السماوات ، من أمثال الملائكة والجن (والتّفسير الأوّل أكثر مناسبة ـ طبعاً ـ)

ثانياً : ما الفرق بين الولي والنصير ؟!

يرى العلامة «الطبرسي» في «مجمع البيان» وقيل : إن الولي الذي يتولى المعونة بنفسه والنصير يتولى النصرة تارةً بنفسه بأن يأمره غيره به» (4) .

بل يمكن القول مع ملاحظة الكلمتين هاتين ، أن الولي إشارة إلى من يعيّن دون طلب

[من عليه الولاية] ، والنصير هو المستصرخ الذي يأتي لإعانة الإنسان بعد استصراخه .

وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين . .

لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع : {والذين كفروا بآيات الله ولقائه أُولئك يئسوا من رحمتي} ثمّ يضيف مؤكداً : {وأُولئك لهم عذاب أليم} .

هذا «العذاب الأليم» هو لزم اليأس من رحمة الله .

والمراد بـ «آيات الله» إمّا هي «الآيات التكوينية» أي آثار عظمة الله في نظام خلقه وإيجاده ، وفي هذه الصورة فهي إشارة إلى مسألة التوحيد ، في حين أن كلمة «لقائه» إشارة إلى مسألة المعاد ، أي إنّهم منكرون للمبدأ وللمعاد كليهما .

أو أنّ المراد من آيات الله هي «الآيات التشريعية» أي هي الآيات التي أنزلها الله على أنبيائه ، التي تتحدث عن المبدأ وعن النبوة وعن المعاد ، وفي هذه الحال يكون التعبير بـ «لقائه» من قبيل ذكر الخاص بعد العام .

كما يمكن أن يكون المقصود من آيات الله هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع .

وينبغي ذكر هذه المسألة ـ أيضاً ـ وهي أن «يئسوا» فعل ماض والهدف منه هو الاستقبال ـ أي في يوم القيامة ـ والعرب عادةً إذا تحدثوا عن أمر مستقبلي بصورة التأكيد عبروا عنه بصيغة الماضي ، للدلالة على تحققه قطعاً وحتماً .

 

وقوله تعالى : {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَو حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت : 24 - 27]

 

اسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم :

والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضّالون لإبراهيم(عليه السلام) ردّاً على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنّبوة والمعاد ؟!

إنّهم ـ قطعاً ـ لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسّلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمراً بقتله ، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول : {فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه !} .

ويستفاد من هذا التعبير أن جماعة كانوا يميلون إلى حرق إبراهيم بالنّار ، في حين كانت جماعة أُخرى تقترح أن يقتل بالسيف أو ما شاكله !

وأخيراً رُجح الرأىُ الأوّل ، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الاحراق بالنّار .

كما ويحتمل أيضاً أنّهم جميعاً كانوا يفكرون في قتله بالوسائل الطبيعية ، غير أنّهم اتفقوا أخيراً على إحراقه بالنّار ، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا الأمر .

وفي هذه الآية الكريمة لم يرد كلام عن كيفية إحراق إبراهيم(عليه السلام) بالنّار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة ، وهو{فأنجاه الله من النّار} .

غير أن تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء (الآيات 68 ـ 70) وقد بيّنا ذلك هناك ، فلا بأس بمراجعته !

ويضيف القرآن في الختام {إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} .

ولم تكن علامة وآية واحدة في هذا الصدد وفي هذه الحادثة ، بل علائم وآيات . . . فمن جانب فإنّ عدم تأثير النّار في جسد إبراهيم بنفسه معجزة واضحة ، وتبدل النّار إلى روضة و«سلام» على إبراهيم كما هو معروف معجزة أُخرى ، وعدم استطاعة هذه الجماعة القوية التغلب على شخص واحد ـ وهو أعزل من كل وسيلة بحسب الظاهر ـ كان معجزة ثالثة أيضاً .

كما أنّ عدم تأثير هذا الحادث العجيب الخارق للعادة في أُولئك المظلمة قلوبهم ، آية من آيات الله ، إذ يسلب التوفيق من أمثال هؤلاء الأفراد المعاندين الألدّاء ، بحيث لا تؤثر فيهم أعظم الآيات ! .

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه لما اُلقي بإبراهيم الخليل مكتوف اليدين والرجلين في النّار ، فإن الشيء الوحيد الذي احترق منه هو الحبل الذي كان مشدوداً وموثقاً به (5) .

أجل ، إنّ نار الجهل وجناية المنحرفين إنّما أحرقت وسائل الاسر ، فتحرر إبراهيم(عليه السلام) منها . . . وهذه بنفسها تعدُّ آية أُخرى .

وربّما كان ـ لهذه الأسباب ـ أن عبّر القرآن عن قصّة نوح وسفينته بقوله : {جعلناها آية} بصيغة الإفراد ، ولكنّه عبّر هنا بقوله : {لآيات} بصيغة الجمع ! .

وعلى كل حال فإنّ ابراهيم{عليه السلام) نجّي من النّار بصورة خارقة للعادة وبلطف الله سبحانه ، غير أنّه لم يترك أهدافه . . بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر .

ثمّ توجه إبراهيم إلى المشركين {وقال إنّما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودّة بينكم في الحياة الدنيا} ولكن هذه المودّة والمحبّة تتلاشى في الآخرة {ثمّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النّار ومالكم من ناصرين} .

كيف تكون الأوثان أساساً للمودّة بين عبدة الأوثان ؟!

هذا السؤال يمكن الإجابة عليه من عدّة طرق :

الأوّل : أن عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزاً للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة ، لأنّ كل جماعة اختارت لنفسها وثناً ، كما ذكروا في شأن أصنام الجاهلية ، إذ كان كل صنم يعود لقبيلة من القبائل العربية ، فصنم «العزّى» كان لقريش ، و«اللاّت» كان خاصاً بثقيف ، أمّا «منات» فكان خاصاً بالأوس والخزرج ! .

الثّاني : أن عبادة الأوثان تربط بينهم وبين اسلافهم وغالباً ما كانوا يعتذرون بمثل هذا العذر ويقولون : إنّ هذه الأوثان كان عليها السلف ونحن نتبع السلف ونمضي على دين آبائنا .

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ سراة (6) الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان ، وكان هذا الأمر بمثابة «حلقة الاتصال» بين السراة والأتباع . 

ولكن هذه العلائق والوشائج والإرتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة ، وكل فرد يلقي التبعة والذنب على رقبة الآخر ، ويلعنه ويتبرأ . منه ومن عمله ، حتى المعبودات التي كانوا يتصورون أنّها الوسيلة إلى الله ، وكانوا يقولون في شأنها {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر : 3] ـ تتبرأ منهم .

وكما يصوّر القرآن هذه الحالة في سورة مريم الآية 82 يقول : {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم : 82] .

فعلى هذا ، يكون المراد من قوله تعالى : {يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً} هو أنّهم يتبرأ بعضهم من بعض في ذلك اليوم ، وما كان أساساً لعلاقة المودة الكاذبة في الدنيا يكون مدعاة للعداوة والبغضاء في الآخرة . . كما يعبّر القرآن عن ذلك في الآية (67) من سورة الزخرف فيقول : {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتقين} .

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الحكم غير مختص بعبدة أوثان ، بل هو لجميع أُولئك الذين اختاروا «إماماً باطلا» لأنفسهم ، فاتبعوه وتعاهدوا معه على المودة ، ففي يوم القيامة يكونون أعداءً فيما بينهم ، ويتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً . (7) في حين أنّ علاقة المحبّة بين المؤمنين قائمة على أساس التوحيد وعبادة اللّه وإطاعة أمر الحق في هذه الدنيا وهذه العلاقة سيكتب لها الدوام ، وفي الآخرة تكون أكثر تماسكاً . . حين إنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض ويتشفع بعضهم لبعض في يوم القيامة . . في وقت يتبرأ فيه المشركون بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً (8) .

وفي الآية التي بعد تلك الآية إشارة إلى إيمان لوط وهجرة إبراهيم ، إذ تقول : {فآمن له لوط} .

«لوط» نفسه من الأنبياء العظام ، وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى «يقال إنّه كان ابن أخت ابراهيم{عليه السلام)» وحيث أن اتّباع شخص عظيم ـ لإبراهيم ـ بمنزلة أفراد اُمّة كاملة فقد تحدث سبحانه ـ خاصةً ـ عن إيمان «لوط» وشخصيته الكبرى المعاصرة لإبراهيم (عليه السلام) ، ليتّضح أنّه إذ لم يؤمن الآخرون ، فإنّ ذلك ليس مهمّاً .

ويبدوا أنّه كانت في أرض بابل قلوب مهيأة لقبول دعوة إبراهيم الخليل(عليه السلام) ، وقد التفوا حوله بعد مشاهدة تلك المعجزة العظيمة ، غير أنّه من المسلّم به أنّهم كانوا «أقليّة» .

ثمّ تضيف الآية عن هجرة إبراهيم(عليه السلام) فتقول : {وقال إنّي مهاجر إلى ربّي إنّه هو العزيز الحكيم} .

ومن الوضوح بمكان أنّه حين يؤدي القادة الإلهيون رسالتهم في محيط ما ، ويكون هذا المحيط ملوثّاً وتحت تأثير الجبابرة ، بحيث لا تتقدّم دعوتهم أكثر ، فينبغي أن يهاجروا إلى منطقة أُخرى لتتسع دعوة الله في الإرض ! .

فلذلك تحرك ابراهيم (عليه السلام) وزوجه سارة ـ بمعيّة لوط ـ من بابل إلى أرض الشام مهد الأنبياء والتوحيد ، ليستطيع أن يكتسب جماعة هناك ويوسع دعوة التوحيد ! .

من الطريف أنّ إبراهيم{عليه السلام) يقول في هذا الصدد : {إنّي مهاجر إلى ربي} لأنّ ذلك الطريق كان طريق الله ، طريق رضاه ، وطريق دينه ومنهاجه .

وبالطبع فإنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون الضمير في قوله تعالى : {وقال إنّي مهاجر} عائد على لوط (عليه السلام) ، أي إنّ لوطاً قال : إنّي مهاجر إلى ربّي ، وظاهر الجملة منسجم مع هذا المعنى أيضاً ، إلاّ أن الشواهد التاريخية تدلّ على أن الضمير يعود على إبراهيم (عليه السلام) ، وكانت هجرة لوط بمعية إبراهيم .

والشاهد على هذا الكلام قول إبراهيم (عليه السلام) في الآية (99) من سورة الصافات { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات : 99] . (9)

وفي آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها الله لإبراهيم(عليه السلام) بعد الهجرة العظيمة :

الموهبة الأولى : الأبناء الصالحون ، من أمثال إسحاق ويعقوب ، ليسرجوا مصباح الإيمان والنّبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه ، إذ يقول القرآن : {ووهبنا له إسحق ويعقوب} وهما نبيّان كبيران واصل كلّ منهما السير على منهاج إبراهيم (عليه السلام) محطم الأصنام .

الموهبة الثّانية : {وجعلنا في ذريّته النّبوة والكتاب} ولم تكن النّبوة في إسحاق بن إبراهيم ويعقوب حفيده فحسب ، بل استمر خط النّبوة في ذريّة إبراهيم(عليه السلام) واُسرته حتى نبوّة خاتم الأنبياء محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) متعاقبون من ذرية إبراهيم ، نوّروا العالم بضياء التوحيد .

الموهبة الثّالثة : {وآتيناه أجره في الدنيا} فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعله إشارة إلى أُمور مختلفة مثل الاسم الحسن ، ولسان الصدق والثناء بين جميع الأُمم ، لأنّ الأُمم كلها تحترم ابراهيم(عليه السلام) على أنّه نبي عظيم الشأن ، ويفتخرون بوجوده ويسمونه «شيخ الأنبياء» .

عمارة أرض مكّة كانت بدعائه ، وجذب قلوب الناس جميعاً نحوه ، لتتذكر ذكريات التجلي والإيمان كل سنة في مناسك الحج ، كل ذلك من هذا الأجر المشار اليه في القرآن .

الموهبة الرّابعة : هي {إنّه في الآخرة من الصالحين} وهكذا تشكّل هذه المواهب مجموعة كاملة من المفاخر .

______________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص31-42 .

2 ـ سبق أن تعرضنا إلى بحث حول «السير في الأرض» وآثاره ، غير أنّ البحث الفائت كانت فيه جوانب من دروس العبرة في مجال قصص الأمم الماضية وطغاتها . التّفسير الأمثل ذيل الآية (137) سورة آل عمران ، فلا بأس بمراجعتها .

3 ـ كلمة «معجزين» مشتقّة من مادة «عجز» ، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشيء ، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر ، «المعجزة» معناه الذي يجعل الآخر عاجزاً ، وحيث أن الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته ، يعجزونه عن ملاحقتهم ، لذلك استعملت كلمة «معجز» في هذا الصدد أيضاً . . .

4 ـ مجمع البيان ، ج ، ص 352 .

5 ـ تفسير روح المعاني ، ج 20 ، ص 130 .

6 ـ «السراة» جمع مفردها سريّ ـ كبير القوم . (المصحح)

7 ـ أصول الكافي ، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج 4 ، ص 154 .

8 ـ كتاب الصدوق ، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج4 ، ص154 .

9 ـ هناك بحث مفصل في هجرة إبراهيم (عليه السلام) من بابل إلى الشام في ذيل الآية (71) من سورة الأنبياء من التّفسير الأمثل ، فلا بأس بمراجعته .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .