أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-8-2020
4537
التاريخ: 22-8-2020
3291
التاريخ: 24-8-2020
16934
التاريخ: 18-8-2020
19356
|
قال تعالى: {ونُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُو شِفَاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ولَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ ونَأَى بِجَانِبِهِ وإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُو أَهْدَى سَبِيلًا (84) ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ومَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا } [الإسراء: 82 - 85]
________________
أخبر سبحانه عن القرآن فقال:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ووجه الشفاء فيه من وجوه منها : ما فيه من البيان الذي يزيل عمى الجهل وحيرة الشك ومنها : ما فيه من النظم والتأليف والفصاحة البالغة حد الإعجاز الذي يدل على صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فهو من هذه الجهة شفاء من الجهل والشك والعمى في الدين ويكون شفاء للقلوب ومنها: أنه يتبرك به وبقراءته ويستعان به على دفع العلل والأسقام ويدفع الله به كثيرا من المكاره والمضار على ما تقتضيه الحكمة ومنها : ما فيه من أدلة التوحيد والعدل وبيان الشرائع والأمثال والحكم وما في التعبد بتلاوته من الصلاح الذي يدعوإلى أمثاله بالمشاركة التي بينه وبينه فهو شفاء للناس في دنياهم وآخرتهم ورحمة للمؤمنين أي نعمة لهم وخصهم بذلك لأنهم المنتفعون به.
{ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} ومعناه: أنهم لا يزدادون عنده إلا خسارا يخسرون الثواب ويستحقون العقاب لكفرهم به وتركهم التدبر له والتفكر فيه وهذا كقوله فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ويحتمل أن يريد أن القرآن يظهر خبث سرائرهم وما يأتمرون به من الكيد والمكر بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيفتضحون بذلك { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ} عن ذكرنا أي ولى كأنه لم يقبل علينا بالدعاء والابتهال { ونأى بجانبه } أي: بعد بنفسه عن القيام بحقوق أنعامنا فلا يشكره كما أعرض عن النعمة بالقرآن وقال مجاهد معناه تباعد منا وعلى هذا فيكون معناه تجبر وتكبر وأعجب بنفسه لأن المعجب نافر عن الناس متباعد عنهم.
{ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} معناه: وإذا أصابه المحنة والشدة والفقر لم يصبر وكان قنوطا من رجاء الفرج من الله تعالى بخلاف المؤمن الذي يرجو الفرج والروح فيكون المراد بالآية خاصا وإن كان اللفظ عاما وسمي الأمراض والبلايا شرا لكونها شرا عند الكافر من حيث لا يرجو ثوابا ولا عوضا ولأن الطباع تنفر عنها وتكرهها وإلا فهي في الحقيقة صلاح وحكمة وصواب { قل } يا محمد لهم { كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} أي: كل واحد من المؤمن والكافر يعمل على طبيعته وخليقته التي تخلق بها عن ابن عباس وقيل: على طريقته وسنته التي اعتادها عن الفراء والزجاج وقيل: على ما هو أشكل بالصواب وأولى بالحق عنده عن الجبائي قال ولهذا قال { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } أي أنه يعلم أي الفريقين على الهدى وأيهما على الضلالة وقيل معناه أنه أعلم بمن هو أصوب دينا وأحسن طريقا وقال بعض أرباب اللسان هذه الآية أرجى آية في كتاب الله لأن الأليق بكرمه سبحانه وجوده العفوعن عباده فهو يعمل به .
ثم قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) { ويسئلونك } يا محمد { عن الروح } اختلف في الروح المسئول عنه على أقوال ( أحدها ) أنهم سألوه عن الروح الذي هو في بدن الإنسان ما هو ولم يجبهم وسأله عن ذلك قوم من اليهود عن ابن مسعود وابن عباس وجماعة واختاره الجبائي وعلى هذا فإنما عدل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن جوابهم لعلمه بأن ذلك أدعى لهم إلى الصلاح في الدين ولأنهم كانوا بسؤالهم متعنتين لا مستفيدين فلوصدر الجواب لازدادوا عنادا وقد قيل إن اليهود قالت لكفار قريش سلوا محمدا عن الروح فإن أجابكم فليس بنبي وإن لم يجبكم فهونبي فإنا نجد في كتبنا ذلك فأمر الله سبحانه بالعدول عن جوابهم وإن يكلهم في معرفة الروح إلى ما في عقولهم ليكون ذلك علما على صدقه ودلالة لنبوته وثانيها : أنهم سألوا عن الروح أ هي مخلوقة محدثة أم ليست كذلك فقال سبحانه { قل الروح من أمر ربي } أي: من فعله وخلقه وكان هذا جوابا لهم عما سألوه عنه بعينه وعلى هذا فيجوز أن يكون الروح الذي سألوا عنه هو الذي به قوام الجسد على قول ابن عباس وغيره أم جبرائيل (عليه السلام) على قول الحسن وقتادة أم ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله بجميع ذلك على ما روي عن علي (عليه السلام) أم عيسى (عليه السلام) فإنه قد سمي بالروح وثالثها : أن المشركين سألوه عن الروح الذي هو القرآن كيف يلقاك به الملك أوكيف صار معجزا وكيف صار نظمه وترتيبه مخالفا لأنواع كلامنا من الخطب والأشعار وقد سمى الله تعالى القرآن روحا في قوله وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا فقال سبحانه قل يا محمد إن الروح الذي هوالقرآن من أمر ربي أنزله دلالة علي دلالة نبوتي وليس من فعل المخلوقين ولا مما يدخل في إمكانهم وعلى هذا فقد وقع الجواب أيضا موقعه وأما على القول الأول فيكون معنى قوله { الروح من أمر ربي } هو من الأمر الذي يعلمه ربي ولم يطلع عليه أحد.
واختلف العلماء في ماهية الروح فقيل إنه جسم رقيق هوائي متردد في مخارق الحيوان وهومذهب أكثر المتكلمين واختاره الأجل المرتضى علم الهدى قدس الله روحه وقيل جسم هوائي على بينة حيوانية في كل جزء منه حياة عن علي بن عيسى قال فلكل حيوان روح وبدن إلا أن منه من الأغلب عليه الروح ومنه من الأغلب عليه البدن وقيل إن الروح عرض ثم اختلف فيه فقيل: هوالحياة التي يتهيأ به المحل لوجود القدرة والعلم والاختيار وهو مذهب الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان ( ره ) والبلخي وجماعة من المعتزلة البغداديين وقيل: هو معنى في القلب عن الأسواري وقيل: إن الروح الإنسان وهوالحي المكلف عن ابن الإخشيد والنظام وقال بعض العلماء: إن الله تعالى خلق الروح من ستة أشياء من جوهر النور والطيب والبقاء والحياة والعلم والعلوأ لا ترى أنه ما دام في الجسد كان الجسد نورانيا يبصر بالعينين ويسمع بالأذنين ويكون طيبا فإذا خرج من الجسد نتن الجسد ويكون باقيا فإذا فارقه الروح بلي وفنى ويكون حيا وبخروجه يصير ميتا ويكون عالما فإذا خرج منه الروح لم يعلم شيئا ويكون علويا لطيفا توجد به الحياة بدلالة قوله تعالى في صفة الشهداء بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين وأجسامهم قد بليت في التراب.
وقوله { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } قيل: هو خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وغيره إذا لم يبين له الروح ومعناه: وما أوتيتم من العلم المنصوص عليه إلا قليلا أي شيئا يسيرا لأن غير المنصوص عليه أكثر فإن معلومات الله تعالى لا نهاية لها وقيل خطاب لليهود الذين سألوه فقالت له اليهود عند ذلك كيف وقد أعطانا الله التوراة ؟ فقال التوراة في علم الله قليل.
_____________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص286-289.
{ ونُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } . القرآن رحمة لمن طلب الرحمة ، وأرادها لنفسه ، وشفاء من الكفر والإلحاد ، ومن الجهل والفساد ، ومن كل رذيلة لمن أخلص للَّه والحق . قال الإمام علي ( عليه السلام ) في وصف القرآن : « انه الحبل المتين ، والنور المبين ، والشفاء النافع ، والري الناقع ، والعصمة للمتمسك ، والنجاة للمتعلق . ومن خالف حكما من احكام القرآن فما هو منه في شيء بل هو من الظالمين الخاسرين { ولا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً } . القرآن رحمة للمؤمنين ، ونقمة على الظالمين والمفسدين لأنهم كلما عصوا حكما من أحكامه ازدادوا إثما وعذابا .
{ وإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الإِنْسانِ أَعْرَضَ ونَأى بِجانِبِهِ وإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً } .
ويتلخص معنى هذه الآية بقول الإمام علي ( عليه السلام ) في وصف الإنسان : « ان استغنى بطر وفتن ، وان افتقر قنط ووهن » . وتقدم نظيره في سورة يونس الآية 12 ج 4 ص 139 والآية 9 من هود ج 4 ص 212 .
{ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً } . قال المفسرون : « الشاكلة الطريقة والمذهب ، ومعنى الآية أن كلا من المؤمن والكافر يعمل على طريقته وخليقته » . أما نحن فنشرح الآية - كما فهمناها - بما يلي :
1 - ان كلمة كل تدل على استغراق الأفراد ، فأية قضية تعلق الحكم فيها بكلمة « كل » فإنها تنحل إلى قضايا بعدد ما شملت من الأفراد - مثلا - إذا قلت : كل انسان يفهم هذا فكأنك قلت : زيد يفهمه وبكر وهند الخ . أما إذا قلت : جميع الناس يفهمونه فالقضية واحدة ، والحكم واحد تعلق بالمجموع ، لا بكل فرد فرد ، وعليه يكون المعنى أن لكل فرد من افراد الإنسان شاكلة تخصه وحده تماما كبصمة إبهامه .
2 - روي عن جعفر الصادق ( عليه السلام ) انه فسر الشاكلة بالنية ، ويدل على صحة هذا التفسير قوله تعالى بلا فاصل : « فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً » أي ان اللَّه اعلم بمن يبتغي الهداية ، ويسلك سبيلها مجردا عن كل قصد إلا وجهه الكريم . وعليه يكون المعنى ان كل انسان يعمل على نيته ، وان اللَّه سبحانه يعامله بحسبها ان خيرا فخيرا ، وان شرا فشرا ، فمن تظاهر بالخير ليخدع الناس ، ويبتغي بعمله مآرب شريرة فهو عند اللَّه من المجرمين الأشرار ، ومن سرق رغيفا ليقيم به الأود بعد ان انسدت عليه المسالك والمذاهب فهو عند اللَّه بريء لا يستحق العذاب والعقاب .
الروح من أمر ربي
{ ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } للروح معان ، والمراد بها هنا الحياة ، وقد سئل النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) عن حقيقتها ، فأمره اللَّه ان يقول للسائلين : ان الروح من الأشياء التي يوجدها اللَّه بأمره ، وهو قوله للشيء { كن فيكون } وبتعبير أوضح ان الأشياء على نوعين :
النوع الأول يوجده اللَّه عن طريق أسبابه الطبيعية كجسم الإنسان وغيره من الماديات . النوع الثاني يوجده اللَّه بمجرد الأمر ، وهو كلمة { كن } والروح من هذا النوع ، والآية صريحة في ذلك ، لان كلمة الأمر في قوله تعالى : « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » إشارة إلى الأمر الذي في قوله : { إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } - 82 يس .
وقد أثبتت التجارب هذه الحقيقة ، وآمن بها الذين تخصصوا وتفرغوا السنوات الطوال للبحث عن أصل الحياة ، آمنوا بهذه الحقيقة بعد ان تبين لهم ان السبب المباشر للحياة لا يمت إلى المادة بصلة ، ولو كان من نوع المادة لاستطاعوا ان يصنعوا الحياة في مصانعهم ومختبراتهم وقد حاولوا فاخفقوا . ( وما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) أي مهما أخرجت مصانعكم من عجائب المخترعات فإنها ليست بشيء إذا نسبت إلى خلية من خلايا الذبابة فضلا عن الذبابة نفسها « يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ والْمَطْلُوبُ » - 72 الحج . وتكلمنا عن ذلك عند تفسير الآية 95 من الانعام ج 3 ص 232 .
اللَّه وعلم الخلايا
وتشاء الصدف ان اقرأ - وانا أفسر هذه الآية - مقالا في مجلة روز اليوسف المصرية ( 2 ) عدد 7 نيسان « ابريل » 1969 جاء فيه :
« يتألف جسم الإنسان من ملايين الخلايا ، ولا ترى الخلية لشدة صغرها الا بالميكرسكوب ، ومنذ أعوام قليلة كان محالا ان ينشأ علم الخلايا لان العلماء لا يستطيعون ان يفتحوا الخلية ، أو يحقنوها بمادة معينة ، لأن هذه العملية تحتاج إلى جراح ، له إصبع تبلغ من الدقة بمقدار جزء من ألف من المليمتر ، وأيضا تحتاج حقنة هذه الخلية إلى إبرة تبلغ من الدقة بمقدار جزء من مليون من المليمتر . .
وأخيرا اهتدى العلماء إلى فتح الخلية عن طريق الضوء تماما كما نفعل عندما نشعل سيجارة من ضوء الشمس بواسطة زجاجة تجمع الأشعة في نقطة صغيرة تحرق طرف السيجارة ، وبهذه الطريقة وحدها أمكن فتح الخلية ، وتبين للعلماء انها مجتمع مشحون بعشرات من المخلوقات المختلفة لكل مخلوق منها سمات خاصة وأدوار يقوم بها وعلاقات تربطه بغيرها من سكان الخلية ، ويحتاج فهم هذه الأدوار والعلاقات إلى سنوات من البحث ، وربما إلى أجيال . . وهكذا نشأ علم الخلايا ، وأصبحنا الآن نعرف ان الخلية لها أعضاء وجسيمات واغشية وخيوط وغير ذلك مما يحير العقول » « وقد ظهر من خلال الأبحاث أن كرات الدم مجتمع من الخلايا السابحة يبلغ عددها عشرة أضعاف عدد البشر ، وهي تؤلف أجيالا تتجدد كل أربعة أشهر ، ومع ذلك تحافظ الأجيال على العدد ذاته ، بحيث يكون عدد الجيل الآتي بمقدار عدد الجيل الذاهب لا يزيد ولا ينقص ، ولا يعاني مجتمع الخلايا ما تعانيه المجتمعات الانسانية من انفجار السكان . . وهنا العجب ، ولا عجب أن يتولد من خلايا النخاع العظمي أنواع من كرات الدم مختلفة متفاوتة شكلا ونوعا ووظيفة . . حمراء وبيضاء . . مقاتلة ومسالمة . . فكيف تنشأ أجناس متعددة من جنس واحد ؟ . كيف يمكن أن تنجب الزرافة جيلا بعضه ثعالب ، وبعضه أفيال ، وبعضه تماسيح ؟ . وباختصار شديد أصبحت الخلية الآن نجم البحث العلمي وطريقه الجديد ، وربما الوحيد لفهم اسرار الحياة » .
أرأيت إلى هذا الاعجاز ؟ . . مخلوق بلغ من الصغر إلى حد لا يرى إلا بمكبر يضاعف الحجم الف مرة أو أكثر ، ويستحيل فتحه وشقه إلا بمشرط ضوئي أي بأشعة الضوء لأن نسبة الشعرة إليه كنسبة الفيل إلى الذرة ، ومع ذلك لهذا المخلوق الذي لا تراه العين أعضاء وعروق وأغشية وغيرها تماما كما للإنسان . .
ثم تؤلف افراد هذا المخلوق العجيب مجتمعا يستوطن جسم الإنسان ، وهي تعد بالبلايين ، وتعيش بمجموعها أربعة أشهر ، ثم يأتي بعدها مجتمع عدد افراده بمقدار عدد السابق ، لا تزيد واحدا ، ولا تنقص واحدا ، ثم غيره وغيره وهكذا دواليك . . فهل هذا صدفة ؟ . . وهل تتكرر الصدفة ملايين المرات ؟ . .
وهل جاءت الأعضاء والخيوط والأغشية منظمة منسقة صدفة ؟ . . وهل عدم زيادة العدد ونقصانه صدفة ؟ . . وهل تولدت الأشياء المتباينة من شيء واحد صدفة ؟ . . كل هذه الأسئلة وغيرها كثير تطلب أجوبتها .
أبدا ، لا جواب . . لا تفسير إلا بوجود عليم قدير خلق الكون والحياة بكلمة « كن فيكون » . . وبعد ، فكلما خطا العلم خطوة إلى الأمام تتابعت الدلائل ، وتضافرت الشواهد على وجود من له الخلق والأمر . . تبارك اللَّه رب العالمين الذي قال : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .
__________________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 77-81.
2- نظمت أوقاتي على هذا النحو : ساعة ونصف قبل الظهر لقراءة الصحف وشراء لوازم البيت ، وساعة نصف من الليل لقراءة الجديد من البحوث العلمية والاجتماعية ، وما عدا ذلك للتأليف .
رجوع بعد رجوع إلى حديث القرآن وكونه آية للنبوة وما يصحبه من الرحمة والبركة، وقد افتتح الكلام فيه بقوله فيما تقدم:{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} ثم رجع إليه بقوله:{ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا} إلخ و قوله{وإذا قرأت القرآن} إلخ و قوله:{و ما منعنا أن نرسل بالآيات} إلخ.
فبين في هذه الآيات أن القرآن شفاء ورحمة وبعبارة أخرى مصلح لمن صلحت نفسه و مخسر للظالمين و أنه آية معجزة للنبوة ثم ذكر ما كانوا يقترحونه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الآيات و الجواب عنه و ما يلحق بذلك من الكلام.
و في الآيات ذكر سؤالهم عن الروح و الجواب عنه.
قوله تعالى:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} من بيانية تبين الموصول أعني قوله:{ما هو شفاء} إلخ أي وننزل ما هو شفاء ورحمة وهو القرآن.
وعد القرآن شفاء والشفاء إنما يكون عن مرض دليل على أن للقلوب أحوالا نسبة القرآن إليها نسبة الدواء الشافي إلى المرض، وهو المستفاد من كلامه سبحانه حيث ذكر أن الدين الحق فطري للإنسان فكما أن للبنية الإنسانية التي سويت على الخلقة الأصلية قبل أن يلحق بها أحوال منافية وآثار مغايرة للتسوية الأولية استقامة طبيعية تجري عليها في أطوار الحياة كذلك لها بحسب الخلقة الأصلية عقائد حقة في المبدإ والمعاد وما يتفرع عليهما من أصول المعارف، وأخلاق فاضلة زاكية تلائمها ويترتب عليها من الأحوال والأعمال ما يناسبها.
فللإنسان صحة واستقامة روحية معنوية كما أن له صحة واستقامة جسمية صورية، وله أمراض وأدواء روحية باختلال أمر الصحة الروحية كما أن له أمراضا وأدواء جسمية باختلال أمر الصحة الجسمية ولكل داء دواء ولكل مرض شفاء.
وقد ذكر الله سبحانه في أناس من المؤمنين أن في قلوبهم مرضا وهو غير الكفر والنفاق الصريحين كما يدل عليه قوله:{ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ}: الأحزاب: 60 وقوله:{ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}: المدثر: 31.
وليس هذا المسمى مرضا إلا ما يختل به ثبات القلب واستقامة النفس من أنواع الشك والريب الموجبة لاضطراب الباطن وتزلزل السر والميل إلى الباطل واتباع الهوى مما يجامع إيمان عامة المؤمنين من أهل أدنى مراتب الإيمان ومما هو معدود نقصا وشركا بالإضافة إلى مراتب الإيمان العالية، وقد قال تعالى:{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}: يوسف: 106 وقال:{ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}: النساء: 65.
والقرآن الكريم يزيل بحججه القاطعة وبراهينه الساطعة أنواع الشكوك والشبهات المعترضة في طريق العقائد الحقة والمعارف الحقيقية ويدفع بمواعظه الشافية وما فيه من القصص والعبر والأمثال والوعد والوعيد والإنذار والتبشير والأحكام والشرائع عاهات الأفئدة وآفاتها فالقرآن شفاء للمؤمنين.
وأما كونه رحمة للمؤمنين - والرحمة إفاضة ما يتم به النقص ويرتفع به الحاجة - فلأن القرآن ينور القلوب بنور العلم واليقين بعد ما يزيل عنها ظلمات الجهل والعمى والشك والريب ويحليها بالملكات الفاضلة والحالات الشريفة الزاكية بعد ما يغسل عنها أوساخ الهيآت الردية والصفات الخسيسة.
فهو بما أنه شفاء يزيل عنها أنواع الأمراض والأدواء، وبما أنه رحمة يعيد إليها ما افتقدته من الصحة والاستقامة الأصلية الفطرية فهو بكونه شفاء يطهر المحل من الموانع المضادة للسعادة ويهيئها لقبولها، وبكونه رحمة يلبسه لباس السعادة وينعم عليه بنعمة الاستقامة.
فالقرآن شفاء ورحمة للقلوب المريضة كما أنه هدى ورحمة للنفوس غير الأمنة من الضلال، وبذلك يظهر النكتة في ترتب الرحمة على الشفاء في قوله:{ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} فهو كقوله:{ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: يوسف: 111 وقوله:{ومغفرة ورحمة}: النساء: 96.
فمعنى قوله:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وننزل إليك أمرا يشفي أمراض القلوب ويزيلها ويعيد إليها حالة الصحة والاستقامة فتتمتع من نعمة السعادة والكرامة.
وقوله:{ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} السياق دال على أن المراد به بيان ما للقرآن من الأثر في غير المؤمنين قبال ما له من الأثر الجميل في المؤمنين فالمراد بالظالمين غير المؤمنين وهم الكفار دون المشركين خاصة كما يظهر من بعض المفسرين وإنما علق الحكم بالوصف أعني الظلم ليشعر بالتعليل أي أن القرآن إنما يزيدهم خسارا لمكان ظلمهم بالكفر.
والخسار هو النقص في رأس المال فللكفار رأس مال بحسب الأصل وهو الدين الفطري تلهم به نفوسهم الساذجة ثم إنهم بكفرهم بالله وآياته خسروا فيه ونقصوا.
ثم إن كفرهم بالقرآن وإعراضهم عنه بظلمهم يزيدهم خسارا على خسار ونقصا على نقص إن كانت عندهم بقية من موهبة الفطرة، وإلى هذه النكتة يشير سياق النفي والاستثناء حيث قيل:{ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} ولم يقل: ويزيد الظالمين خسارا.
وبه يظهر أن محصل معنى الآية أن القرآن يزيد المؤمنين صحة واستقامة على صحتهم واستقامتهم بالإيمان وسعادة على سعادتهم وإن زاد الكافرين شيئا فإنما يزيدهم نقصا وخسارا.
وللمفسرين في معنى صدر الآية وذيلها وجوه أخر أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع مسفوراتهم.
ومما ذكروه فيها أن المراد بالشفاء في الآية أعم من شفاء الأمراض الروحية من الجهل والشبهة والريب والملكات النفسانية الرذيلة وشفاء الأمراض الجسمية بالتبرك بآياته الكريمة قراءة وكتابة هذا.
ولا بأس به لكن لو صح التعميم فليصح في الصدر والذيل جميعا فإنه كما يستعان به على دفع الأمراض والعاهات بقراءة أو كتابة كذلك يستعان به على دفع الأعداء ورفع ظلم الظالمين وإبطال كيد الكافرين فيزيد بذلك الظالمين خسارا كما يفيد المؤمنين شفاء هذا، ونسبة زيادة خسارهم إلى القرآن مع أنها مستندة بالحقيقة إلى سوء اختيارهم وشقاء أنفسهم إنما هي بنوع من المجاز.
قوله تعالى:{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} قال في المفردات،: العرض خلاف الطول وأصله أن يقال في الأجسام ثم يستعمل في غيرها - إلى أن قال - وأعرض أظهر عرضه أي ناحيته فإذا قيل: أعرض لي كذا أي بدا عرضه فأمكن تناوله، وإذا قيل: أعرض عني فمعناه ولى مبديا عرضه. انتهى موضع الحاجة.
والنأي البعد ونأى بجانبه أي اتخذ لنفسه جهة بعيدة منا، ومجموع قوله:{ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} يمثل حال الإنسان في تباعده وانقطاعه من ربه عند ما ينعم عليه.
كمن يحول وجهه عن صاحبه ويتخذ لنفسه موقفا بعيدا منه، وربما ذكر بعض المفسرين أن قوله. {نأى بجانبه} كناية عن الاستكبار والاستعلاء.
وقوله:{ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} أي وإذا أصابه الشر أصابة خفيفة كالمس كان آيسا منقطع الرجاء عن الخير وهو النعمة، ولم ينسب الشر إليه تعالى كما نسب النعمة تنزيها له تعالى من أن يسند إليه الشر، ولأن وجود الشر أمر نسبي لا نفسي فما يتحقق من الشر في العالم كالموت والمرض والفقر والنقص وغير ذلك إنما هو شر بالنسبة إلى مورده، وأما بالنسبة إلى غيره وخاصة النظام العام الجاري في الكون فهو من الخير الذي لا مناص عنه في التدبير الكلي فما كان من الخير فهو مما تعلقت به بعينه العناية الإلهية وهو مراد بالذات، وما كان من الشر فهو مما تعلقت به العناية لغيره وهو مقضي بالعرض.
فالمعنى أنا إذا أنعمنا على الإنسان هذا الموجود الواقع في مجرى الأسباب اشتغل بظواهر الأسباب وأخلد إليها فنسينا فلم يذكرنا ولم يشكرنا، وإذا ناله شيء يسير من الشر فسلب منه الخير وزالت عنه أسبابه ورأى ذلك كان شديد اليأس من الخير لكونه متعلقا بأسبابه وهو يرى بطلان أسبابه ولا يرى لربه في ذلك صنعا.
والآية تصف حال الإنسان العادي الواقع في المجتمع الحيوي الذي يحكم فيه العرف والعادة فهو إذا توالت عليه النعم الإلهية من المال والجاه والبنين وغيرها ووافقته على ذلك الأسباب الظاهرية اشتغل بها وتعلق قلبه بها فلم تدع له فراغا يشتغل فيه بذكر ربه وشكره بما أنعم عليه، وإذا مسه الشر وسلب عنه بعض النعم الموهوبة أيس من الخير ولم يتسل بالرجاء لأنه لا يرى للخير إلا الأسباب الظاهرية التي لا يجد وقتئذ شيئا منها في الوجود.
وهذه الحال غير حال الإنسان الفطري غير المشوب ذهنه بالرسوم والآداب ولا الحاكم فيه العرف والعادة إما بتأييد إلهي يلازمه ويسدده وإما بعروض اضطرار ينسيه الأسباب الظاهرية فيرجع إلى سذاجة فطرته ويدعو ربه ويسأله كشف ضره فللإنسان حالان حال فطرية تهديه إلى الرجوع إلى ربه عند مس الضر ونزول الشر وحال عادية تحول فيها الأسباب بينه وبين ربه فتشغله وتصرفه عن الرجوع إليه بالذكر والشكر، والآية تصف حاله الثانية دون الأولى.
ومن هنا يظهر أن لا منافاة بين هذه الآية والآيات الدالة على أن الإنسان إذا مسه الضر رجع إلى ربه كقوله تعالى فيما تقدم:{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ } الآية وقوله:{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} الآية: يونس: 12 إلى غير ذلك.
ويظهر أيضا وجه اتصال الآية بما قبلها وأنها متصلة بالآية السابقة من جهة ذيلها أعني قوله:{ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} والمحصل أن هذا الخسار غير بعيد منهم فإن من حال الإنسان أن يشغله الأسباب الظاهرية عند نزول النعم الإلهية فينصرف عن ربه ويعرض وينأى بجانبه، وييأس عند مس الشر.
قوله تعالى:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} الروح على ما يعرف في اللغة هو مبدأ الحياة الذي به يقوى الحيوان على الإحساس والحركة الإرادية ولفظه يذكر ويؤنث، وربما يتجوز فيطلق على الأمور التي يظهر بها آثار حسنة مطلوبة كما يعد العلم حياة للنفوس قال تعالى:{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}: الأنعام: 122 أي بالهداية إلى الإيمان وعلى هذا المعنى حمل جماعة مثل قوله:{ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ}: النحل: 2 أي بالوحي وقوله:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}: الشورى: 52 أي القرآن الذي هو وحي فذكروا أنه تعالى سمى الوحي أو القرآن روحا لأن به حياة النفوس الميتة كما أن الروح المعروف به حياة الأجساد الميتة.
وكيف كان فقد تكرر في كلامه تعالى ذكر الروح في آيات كثيرة مكية ومدنية، ولم يرد في جميعها المعنى الذي نجده في الحيوان وهو مبدأ الحياة الذي يتفرع عليه الإحساس والحركة الإرادية كما في قوله:{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا }: النبأ: 38، وقوله:{ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}: القدر: 4 ولا ريب أن المراد به في الآية غير الروح الحيواني وغير الملائكة وقد تقدم الحديث عن علي (عليه السلام) أنه احتج بقوله تعالى:{ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}: النحل: 2 على أن الروح غير الملائكة، وقد وصفه تارة بالقدس وتارة بالأمانة كما سيأتي لطهارته عن الخيانة وسائر القذارات المعنوية والعيوب والعاهات التي لا تخلو عنها الأرواح الإنسية.
وهو وإن كان غير الملائكة غير أنه يصاحبهم في الوحي والتبليغ كما يظهر من قوله:{ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} الآية فقد قال تعالى:{ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ}: البقرة: 97 فنسب تنزيل القرآن على قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جبريل ثم قال:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}: الشعراء: 195 وقال:{قل نزله روح القدس من ربك}: النحل: 102 فوضع الروح وهو غير الملائكة بوجه مكان جبريل وهو من الملائكة فجبريل ينزل بالروح والروح يحمل هذا القرآن المقر والمتلو.
وبذلك تنحل العقدة في قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}: الشورى: 52 ويظهر أن المراد من وحي الروح في الآية هو إنزال روح القدس إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنزاله إليه هو الوحي القرآن إليه لكونه يحمله على ما تبين فلا موجب لما ذكره بعضهم على ما نقلناه آنفا أن المراد بالروح في الآية هو القرآن.
وأما نسبة الوحي وهو الكلام الخفي إلى الروح بهذا المعنى وهو من الموجودات العينية والأعيان الخارجية فلا ضير فيه فإن هذه الموجودات الطاهرة كما أنها موجودات مقدسة من خلقه تعالى كذلك هي كلمات منه تعالى كما قال في عيسى بن مريم (عليهما السلام):{ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}: النساء: 171 فعد الروح كلمة دالة على المراد فمن الجائز أن يعد الروح وحيا كما عد كلمة وإنما سماه كلمة منه لأنه إنما كان عن كلمة الإيجاد من غير أن يتوسط فيه السبب العادي في كينونة الناس بدليل قوله:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: آل عمران: 59 وقد زاد سبحانه في إيضاح حقيقة الروح حيث قال:{قل الروح من أمر ربي} وظاهر{من} أنها لتبيين الجنس كما في نظائرها من الآيات{يلقي الروح من أمره}: المؤمن: 15{ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ}{أوحينا إليك روحا من أمرناتَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} فالروح من سنخ الأمر.
ثم عرف أمره في قوله:{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}: يس: 84 فبين أولا أن أمره هو قوله للشيء:{كن} وهو كلمة الإيجاد التي هي الإيجاد والإيجاد هو وجود الشيء لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى وقيامه به فقوله فعله.
ومن الدليل على أن وجود الأشياء قول له تعالى من جهة نسبته إليه مع إلغاء الأسباب الوجودية الأخر قوله تعالى:{ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}: القمر: 50 حيث شبه أمره بعد عده واحدة بلمح بالبصر وهذا النوع من التشبيه لنفي التدريج وبه يعلم أن في الأشياء المكونة تدريجا الحاصلة بتوسط الأسباب الكونية المنطبقة على الزمان والمكان جهة معراة عن التدريج خارجة عن حيطة الزمان والمكان هي من تلك الجهة أمره وقوله وكلمته، وأما الجهة التي هي بها تدريجية مرتبطة بالأسباب الكونية منطبقة على الزمان والمكان فهي بها من الخلق قال تعالى:{ألا له الخلق والأمر}: الأعراف: 54 فالأمر هو وجود الشيء من جهة استناده إليه تعالى وحده والخلق هو ذلك من جهة استناده إليه مع توسط الأسباب الكونية فيه.
ويستفاد ذلك أيضا من قوله:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} الآية حيث ذكر أولا خلق آدم وذكر تعلقه بالتراب وهو من الأسباب ثم ذكر وجوده ولم يعلقه بشيء إلا بقوله:{كن} فافهم ذلك ونظيره قوله:{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ إلى أن قال ثم أنشأناه خلقا آخر}: المؤمنون: 14 فعد إيجاده المنسوب إلى نفسه من غير تخلل الأسباب الكونية إنشاء خلق آخر.
فظهر بذلك كله أن الأمر هو كلمة الإيجاد السماوية وفعله تعالى المختص به الذي لا تتوسط فيه الأسباب، ولا يتقدر بزمان أو مكان وغير ذلك.
ثم بين ثانيا أن أمره في كل شيء هو ملكوت ذلك الشيء - و الملكوت أبلغ من الملك - فلكل شيء ملكوت كما أن له أمرا قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }: الأعراف: 185 وقال:{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: الأنعام: 75 وقال:{ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} الآية: القدر: 4.
فقد بان بما مر أن الأمر هو كلمة الإيجاد وهو فعله تعالى الخاص به الذي لا يتوسط فيه الأسباب الكونية بتأثيراتها التدريجية وهو الوجود الأرفع من نشأة المادة وظرف الزمان، وأن الروح بحسب وجوده من سنخ الأمر من الملكوت.
وقد وصف تعالى أمر الروح في كلامه وصفا مختلفا فأفرده بالذكر في مثل قوله:{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا}: النبأ: 38، وقوله:{ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} الآية: المعارج: 4.
ويظهر من كلامه أن منه ما هو مع الملائكة كقوله في الآيات المنقولة آنفا:{ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ}{نزل به الروح الأمين على قلبك} قل نزله روح القدس} وقوله:{ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}: مريم: 17.
ومنه ما هو منفوخ في الإنسان عامة قال تعالى:{ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ}: الم السجدة: 9 وقال:{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}: الحجر: 29 ص: 72.
ومنه ما هو مع المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى:{ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}: المجادلة: 22 ويشعر به بل يدل عليه أيضا قوله:{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}: الأنعام: 122 فإن المذكور في الآية حياة جديدة والحياة فرع الروح.
ومنه ما نزل إلى الأنبياء (عليهم السلام) كما يدل عليه قوله:{ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا} الآية: النحل: 2 وقوله:{ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}: البقرة: 87 وقوله:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}: الشورى: 52 إلى غير ذلك.
ومن الروح ما تشعر به الآيات التي تذكر أن في غير الإنسان من الحيوان حياة وأن في النبات حياة، والحياة متفرعة على الروح ظاهرا.
فقد تبين بما قدمناه على طوله معنى قوله تعالى:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وأن السؤال إنما هوعن حقيقة مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه، وأن الجواب مشتمل على بيان حقيقة الروح وأنه من سنخ الأمر بالمعنى الذي تقدم وأما قوله:{ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} أي ما عندكم من العلم بالروح الذي آتاكم الله ذلك قليل من كثير فإن له موقعا من الوجود وخواص وآثارا في الكون عجيبة بديعة أنتم عنها في حجاب.
وللمفسرين في المراد من الروح المسئول عنه والمجاب عنه أقوال: فقال بعضهم: إن المراد بالروح المسئول عنه هو الروح الذي يذكره الله في قوله:{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} وقوله:{تعرج الملائكة والروح إليه} الآية، ولا دليل لهم على ذلك.
وقال بعضهم: إن المراد به جبريل فإن الله سماه روحا في قوله:{نزل به الروح الأمين على قلبك} وفيه أن مجرد تسميته روحا في بعض كلامه لا يستلزم كونه هو المراد بعينه أينما ذكر على أن لهذه التسمية معنى خاصا أومأنا إليه في سابق الكلام، ولو لا ذلك لكان عيسى وجبريل واحدا لأن الله سمى كلا منهما روحا.
وقال بعضهم: إن المراد به القرآن لأن الله سماه روحا في قوله:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الآية فيكون محصل السؤال والجواب أنهم يسألونك عن القرآن أهو من الله أو من عندك؟ فأجبهم أنه من أمر ربي لا يقدر على الإتيان بمثله غيره فهو آية معجزة دالة على صحة رسالتي وما أوتيتم من العلم به إلا قليلا من غير أن تحيطوا به فتقدروا على الإتيان بمثله قالوا: والآية التالية:{ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يؤيد هذا المعنى.
وفيه أن تسميته في بعض كلامه روحا لا تستلزم كونه هو المراد كلما أطلق كما تقدم آنفا.
على أنك قد عرفت ما في دعوى هذه التسمية.
على أن الآية التالية لا تتعين تأييدا لهذا الوجه بل تلائم بعض الوجوه الآخر أيضا.
وقال بعضهم: إن المراد به الروح الإنساني فهو المتبادر من إطلاقه وقوله:{ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ترك للبيان ونهي عن التوغل في فهم حقيقة الروح فإنه من أمر الله الذي استأثر بعلمه ولم يطلع على حقيقته أحدا ثم اختلفوا في حقيقته بين قائل بأنه جسم هوائي متردد في مخارق البدن، وقائل بأنه جسم هوائي في هيئة البدن حال فيه وخروجه موته، وقائل بأنه أجزاء أصلية في القلب وقائل بأنه عرض في البدن، وقائل بأنه نفس البدن إلى غير ذلك.
وفيه أن التبادر في كلامه تعالى ممنوع، والتدبر في الآيات المتعرضة لأمر الروح كما قدمناه يدفع جميع ما ذكروه.
وقال بعضهم: إن المراد به مطلق الروح الواقع في كلامه والسؤال إنما هو عن كونه قديما أو محدثا فأجيب بأنه يحدث عن أمره وفعله تعالى، وفعله محدث لا قديم.
وفيه أن تعميم الروح لجميع ما وقع منه في كلامه تعالى وإن كان في محله لكن إرجاع السؤال إلى حدوث الروح وقدمه وتوجيه الجواب بما يناسبه دعوى لا دليل عليها من جهة اللفظ.
ثم إن لهم اختلافا في معنى قوله:{ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أهو جواب مثبت أو ترك للجواب وصرف عن السؤال على قولين، والوجوه المتقدمة في معنى الروح مختلفة في المناسبة مع هذين القولين فالمتعين في بعضها القول الأول وفي بعضها الثاني، وقد أشرنا إلى ذلك في ضمن الأقوال.
ثم إن لهم اختلافا آخر في المخاطبين بقوله:{ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} أهم اليهود أو قريش لو كانوا هم السائلين بتعليم من اليهود أو هم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغير النبي من الناس؟ والأنسب بالسياق أن يكون الخطاب متوجها إلى السائلين والكلام من تمام قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن السائلين هم اليهود لأنهم كانوا معروفين يومئذ بالعلم وفي الكلام إثبات علم ما لهم دون قريش وكفار العرب وقد عبر تعالى عنهم في بعض كلامه بالذين لا يعلمون.
_______________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ص147-162.
القرآن وصفة للشفاء
الآية التي نبحثها الآن تُشير إِلى التأثير الكبير للقرآن الكريم ودوره البنّاء في هذا المجال حيث تقول: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أمّا الظالمون فإِنّهم بدلا مِن أن يستفيدوا مِن هذا الكتاب العظيم، فإِنَّهمُ يتمسكون بما لا ينتج لهم سوى الذل والهوان { وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}.
كلٌ يتصرف وفق فطرته:
بعد أن تحدَّثت الآية السابقة عن شفاء القرآن، تشير الآية التي بين أيدينا إِلى أحدِ أكثر الأمراض تجذراً فتقول: { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}. ولكن عندما نسلب منه النعمة ويتضرر من ذلك ولو قليلا: {وإِذا مسهُ الشرّ كان يؤساً}.
(أعرض) مُشتقة مِن (إِعراض) وهي تعني عدم الإِلتفات، والمقصود مِنها هُنا هو عدم الإِلتفات للخالق عزَّوجلّ، وإِعراض الوجه عنهُ وعن الحق.
(نأى) مُشتقّة مِن (نأي) وهي على وزن (رأي) وهي بمعنى الإِبتعاد، وعند إِضافة كلمة (بجانبه) إِليها يكون المعنى التكبر والغرور والتزام المواقف المعادية. ويمكن الإِستفادة مِن مجموع هذه الجملة الأشخاص الدنيويين يصابون بالغرور عند مجيء النعم، بحيثُ أنّهم ينسون واهب ومعطي هذه النعم، ولا يقتصر الأمر على النسيان وحسب، بل ينتقل إِلى الإِعتراض التكبر وعدم الإِلتفات للخالق.
جملة (مسه الشر) تشير إِلى أدنى سوء يصيب الإِنسان. والمعنى أنَّ هؤلاء مِن الضعف وعدم التحمّل بحيث أنّهم ينسون أنفسهم ويغرقون في دوّامة اليأس بمجرّد أن تصيبهم أبسط مُشكلة.
الآية الثّانية تخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: {قل كلّ يعمل على شاكلته}. فالمؤمنون يطلبون الرحمة والشفاء مِن آيات القرآن الكريم، والظالمون لا يستفيدون مِن القرآن سوى مزيد مِن الخسران، أمّا الأفراد الضعفاء فيصابون بالغرور في حالِ النعمة. ويصابون باليأس في حالِ ظهور المشاكل ... هؤلاء جميعاً يتصرفون وفق أمزجتهم، هذه الأمزجة التي تتغيّر وفق التربية والتعليم والأعمال المتكررة للإِنسان نفسه.
وفي هذه الأحوال جميعاً فإِنَّ هناك علم الله الشاهد والمحيط بالجميع وخاصّة بالأشخاص المهتدين: { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا}.
ما هي الرّوح؟
تبدأ هذه الآية في الإِجابة على بعض الأسئلة المهمّة للمشركين ولأهل الكتاب، إِذ تقول: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.
مفسّرو الإِسلام الكبار ـ السابقون مِنهم واللاحقون ـ لهم كلامُ كثير عن الروح ومعناها، ونحن في البداية سنشير إِلى معنى كلمة (روح) في اللغة، ثمّ موارد استعمالها في القرآن، وأخيراً تفسير الآية والرّوايات الواردة في هذا المجال.
وفي هذا الصدد يمكن ملاحظة النقاط الآتية:
1 ـ (الرّوح) في الأصل اللغوي تعني (النفس) والبعض يرى بأنَّ (الروح) و(الرّيح) مُشتقّتان مِن معنىً واحد، وإِذ تمَّ تسمية روح الإِنسان ـ التي هي جوهرة مستقلة ـ بهذا الإِسم فذلك لأنّها تشبه النَفَسَ والريح مِن حيث الحركة والحياة، وكونها غير مرئية مثل النَفَسَ والريح.
2 ـ استخدمت كلمة (الرّوح) في القرآن الكريم في موارد ومعاني مُتعدِّدة، فهي في بعض الأحيان تعني الروح المقدَّسة التي تساعد الأنبياء على أداء رسالتهم كما في الآية (253) مِن سورة البقرة والتي تقول: { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}.
وفي بعض الأحيان تطلق على القوّة الإِلهية المعنوية التي تقوي المؤمنين وتدفعهم، كما في قوله تعالى في الآية (22) مِن سورة المجادلة: { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}.
وفي موارد أُخرى تأتي للدلالة على (الملك الخاص بالوحي) ويوصف بـ (الأمين)، كما في الآية (193) مِن سورة الشعراء: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}.
وفي مكان آخر وردت بمعنى (الملك الكبير) مِن ملائكة الله الخاصين، أو مخلوق أفضل مِن الملائكة كما في الآية (4) مِن سورة القدر: { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}. وفي الآية (38) مِن سورة النباء: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا}.
ووردت ـ أيضاً ـ بمعنى القرآن أو الوحي السماوي، كما في الآية (52) مِن سورة الشورى في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}.
وأخيراً وردت الروح في القرآن الكريم بمعنى الروح الإِنسانية، كما في آيات خلق آدم: { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ}( السجدة، 9). وكذلك قوله تعالى في الآية (29) مِن سورة الحجر: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}(2).
3 ـ والآن لنر مِن خلال هذه النقطة ما هو المقصود بالروح في الآية التي نبحثها؟
ما هي الرّوح التي سأل عنها جماعةُ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فأجابهم بقوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}؟
يُمكن أن نستفيد مِن مجموع القرائن الموجودة في الآية أنَّ المستفسرين سألوا عن حقيقة الروح الإِنسانية، هذه الروح العظيمة التي تُميِّز الإِنسان عن الحيوان، وقد شرفتنا بأفضل الشرف، حيث تنبع كل نشاطاتنا وفعالياتنا مِنها، وبمساعدتها نجول في الأرض ونتأمّل السماء، نكتشف أسرار العلوم، ونتوغل في أعماق الموجودات ... إِنّهم أرادوا معرفة حقيقة أعجوبة عالم الخلق!!
وَلأنَّ الروح لها بناء يختلف عن بناء المادة، ولها أُصول تحكمها تختلف عن الأُصول التي تحكم المادة في خواصها الفيزيائية والكيميائية، لذا فقد صدر الأمر إِلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهؤلاء في جملة قصيرة قاطعة: { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. ولكي لا يتعجب هؤلاء أو يندهشوا مِن هذا الجواب فقد أضافت الآية: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} حيثُ لا مجال للعجب بسبب عدم معرفتكم بأسرار الروح بالرغم مِن أنّها أقرب شيء إِليكم.
وفي تفسير العياشي نقل الإِمام الباقر والصّادق(عليهما السلام) أنّهما قالا في تفسير آية {يسألونك عن الروح} ما نصَّه: «إِنّما الروح خلق مِن خلقه، لهُ بصرٌ وقوّة وتأييد، يجعلهُ في قلوب الرسل والمؤمنين»(3).
وفي حديث آخر عن الإِمامين الباقر والصادق أنّهما(عليهما السلام) قالا: «هي مِن الملكوت، مِن القدرة»(4).
وفي الرّوايات المتعدِّدة التي بين أيدينا من طرق الشيعة وأهل السنّة نقرأ أنّ هذا السؤال عن الروح أخذهُ المشركون مِن علماء أهل الكتاب الذين يعيشون مع قريش، كي يختبروا به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِذ قالوا لهم: إِذا أعطاكم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)معلومات كثيرة عن الروح فهذا دليل على عدم صدقه، لذلك نراهم قد تعجبوا مِن إِجابة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) المليئة بالمعاني رغم قصرها وقلّة كلماتها.
ولكن نقرأ في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)، في تفسير هذه الآية، أنَّ الروح مخلوق أفضل مِن جبرائيل وميكائيل، وكان هذا المخلوق برفقة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبرفقة الأئمّة الصادقين(عليهم السلام) من أهل بيته مِن بعده، حيثُ كان يعصمهم مِن أي انحراف أو زلل خلال مسيرتهم(5).
إِنَّ هذه الرّوايات لا تعارض التّفسير الذي قلناه، بل هي مُتناسقة معهُ وداعمة له، لأنَّ الروح الإِنسانية لها مراتب ودرجات، فتلك المرتبة مِن الروح الموجودة عند الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، هي في مرتبة ودرجة عالية جدّاً، ومن آثارها العصمة من الخطأ والذنب وكذلك يترتب عليها العلم الخارق. وبالطبع فإِنَّ روحاً مِثل هذه هي أفضل مِن الملائكة بما في ذلك جبرئيل وميكائيل. (فتدبّر)
_______________
1- تفسير الامثل ،ناصر مكارم الشيرازي،ج7،ص375-387.
2 ـ قُلنا سابقاً: إِنَّ إِضافة (روح) إِلى الله هي إِضافة تشريفية، والهدف هو الروح الكبيرة التي وهبها الله تبارك وتعالى للآدميين.
3 ـ تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 216.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق،ص215.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|