المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية
آخر المواضيع المضافة
فوائد واستعمالات التمر هندي هيكل أسعار الفائدة (العائد الإسلامي) ودوره في تسعير المنتجات والخدمات المصرفية (تعدد الأسواق النقدية والمالية في إطار التضخم النقدي) هيكل أسعار الفائدة (العائد الإسلامي) ودوره في تسعير المنتجات والخدمات المصرفية (تعدد الأسواق النقدية والمالية في إطار التضخم النقدي) انـحـراف المـوازنـة وانـحـراف الحجـم فـي إطـار الموازنـة المـصرفـية شجرة التمر هندي تحميل التكلفة غير المباشرة في نظام التكلفة المعيارية وانحرافات التكلفة الثابتة غير المباشرة (النموذج العام Fixed Overhead .Variances) المـوازنـة المـرنـة ومـعدلات تحـميـل التكـلفـة غيـر المـباشـرة التـكلفـة الثـابـتـة والمـوازنـة المـرنـة فـي إطـار الموازنـة المـصرفـية الوصف العام لشجرة التمر هندي وصايا النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الزوج / أمر الزوجة بالصلاة والزكاة مهام والتزامات رشحات من الوصايا والآداب للعروسين ليلة زفافهما الدنيا والاخرة مضمون مبدأ حظر توجيه الأوامر من قاضي الإلغاء للإدارة قيود إجرائية امام القضاء الإداري

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16309 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير الاية (26-39) من سورة الأسراء  
  
18102   06:20 مساءً   التاريخ: 18-8-2020
المؤلف : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الألف / سورة الإسراء /

 

قال تعالى: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 26 - 39].

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

حث سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) على إيتاء الحقوق لمن يستحقها على كيفية الإنفاق فقال: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} معناه: وأعط القرابات حقوقهم التي أوجبها الله لهم في أموالكم عن ابن عباس والحسن وقيل: إن المراد قرابة الرسول عن السدي قال: إن علي بن الحسين (عليهماالسلام) قال لرجل من أهل الشام حين بعث به (عليه السلام) عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية أ قرأت القرآن قال نعم قال أ ما قرأت: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} قال: وإنكم ذوالقربى الذي أمر الله أن يؤتى حقه؟ قال: نعم وهو الذي رواه أصحابنا عن الصادقين (عليهماالسلام) وأخبرنا السيد أبوالحمد مهدي بن نزار الحسيني قراءة قال: حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني قال: حدثنا الحاكم الواحد أبومحمد قال: حدثنا  [عبد الله](2)  عمر بن أحمد بن عثمان ببغداد شفاها قال: أخبرني عمر بن الحسن بن علي بن مالك قال: حدثنا جعفر بن محمد الأحمسي قال: حدثنا حسن بن حسين قال حدثنا أبو معمر سعيد بن خثيم وعلي بن القاسم الكندي ويحيى بن يعلى وعلي بن مسهر عن فضل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال:

 لما نزل قوله { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فاطمة فدكا قال عبد الرحمن بن صالح كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى يسأله عن قصة فدك فكتب إليه عبد الله بهذا الحديث رواه الفضيل بن مرزوق عن عطية فرد المأمون فدكا إلى ولد فاطمة (عليهاالسلام).

 { وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} معناه: وآت المسكين حقه الذي جعله الله له من الزكاة وغيرها وآت المجتاز المنقطع عن بلاده حقه أيضا { وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} قيل: إن المبذر الذي ينفق المال في غير حقه عن ابن عباس وابن مسعود وقال مجاهد: لوأنفق مداً في باطل كان مبذرا ولو أنفق جميع ماله في الحق لم يكن مبذراً. وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لعناية: كن زاملة للمؤمنين وإن خير المطايا أمثلها وأسلمها ظهرا ولا تكن من المبذرين.

 { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} معناه إن المسرفين أتباع الشياطين سالكون طريقهم وهذا كما يقال لمن لازم السفر هو أخو السفر وقيل معناه: أنهم قرناء الشياطين في النار { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} أي: كان الشيطان في قديم مذهبه كثير الكفر مرة بعد أخرى { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} أي: وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك بإيتاء حقوقهم عند مسألتهم إياك لأنك لا تجد ذلك حياء منهم { ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} أي: لتبتغي الفضل من الله والسعة التي يمكنك معها البذل بأمل تلك السعة وذلك الفضل { فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} أي: عدهم عدة حسنة وقل لهم قولا سهلا لينا يتيسر عليك.

 وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان لما نزلت هذه الآية إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي قال: يرزقنا الله وإياكم من فضله { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} أي: لا تكن ممن لا يعطي شيئا ولا يهب فتكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء والبذل وهذا مبالغة في النهي عن الشح والإمساك { وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} أي: ولا تعط أيضا جميع ما عندك فتكون بمنزلة من بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء وهذا كناية عن الإسراف { فتقعد ملوما } تلوم نفسك وتلام { محسورا} منقطعا به وليس عندك شيء عن السدي وابن عباس وقيل: عاجزا نادما عن قتادة وقيل: محسورا من الثياب والمحسور العريان عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقيل: معناه إن أمسكت قعدت ملوما مذموما وإن أسرفت بقيت متحسرا مغموما عن الجبائي وقال الكلبي: لا تعط ما عندك جميعا فيجيء الآخرون يسألونك فلا تجد ما تعطيهم فيلومونك.

 وروي أن امرأة بعثت ابنها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقالت: قل له إن أمي تستكسيك درعا فإن قال: حتى يأتينا شيء فقل له: إنها تستكسيك قميصك فأتاه فقال ما قالت له فنزع قميصه فدفعه إليه فنزلت الآية ويقال: إنه (عليه السلام) بقي في البيت إذ لم يجد شيئا يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفار وقالوا إن محمدا اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي: يوسع مرة ويضيق مرة بحسب المصلحة مع سعة خزائنه { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي: عالما بأحوالهم بصيرا بمصالحهم فيبسط على واحد ويضيق على آخر يدبرهم على ما يراه من الصلاح .

ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال: { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} أي: بناتكم { خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} أي: خوف فقر وعجز عن النفقة عليهن ويحتمل أن يكون قوله { ولا تقتلوا } منصوبا عطفا على قوله { ألا تعبدوا } ويجوز أن يكون على النهي فيكون مجزوما وإنما نهاهم الله عن ذلك لأنهم كانوا يئدون البنات فيدفنونهن أحياء { نحن نرزقهم وإياكم } أخبر سبحانه أنه متكفل برزق أولادهم ورزقهم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} يعني أن قتلهم في الجاهلية كان إثما عظيما عند الله وهو اليوم كذلك { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} وهو وطء المرأة حراما بلا عقد ولا شبهة عقد { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أي: معصية كبيرة عظيمة والمراد أنه كان عندهم في الجاهلية فاحشة وهو الآن كذلك ومثل هذا في القرآن كثير { وَسَاءَ سَبِيلًا} أي: وبئس الطريق الزنا وفيه إشارة إلى أن العقل يقبح الزنى من حيث إنه لا يكون للولد نسب إذ ليس بعض الزناة أولى به من بعض فيؤدي إلى قطع الأنساب وإبطال المواريث وإبطال صلة الرحم وحقوق الآباء على الأولاد وذلك مستنكر في العقول.

 وأخبرني المفيد عبد الجبار بن عبد الله بن علي قال حدثنا الشيخ أبوجعفر الطوسي قال حدثنا أبوعبد الله الحسن بن أحمد بن حبيب الفارسي عن أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد الجرجرائي قال سمعت أبا عمروعثمان بن الخطاب المعروف بأبي الدنيا يقول سمعت علي بن أبي طالب يقول سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول في الزنا ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة فأما اللواتي في الدنيا فيذهب بنور الوجه ويقطع الرزق ويسرع الفناء وأما اللواتي في الآخرة فغضب الرب وسوء الحساب والدخول في النار أوالخلود في النار.

 { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} وهو أن يجب عليه القتل إما لكفره أوردته أولأنه قتل نفسا بغير حق أو زنى وهو محصن { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} بغير حق { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} أي: قد أثبتنا لوليه سلطان القود على القاتل أو الدية أو العفو عن ابن عباس والضحاك وقيل: سلطان القود عن قتادة { فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} مر تفسيره قبل { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فسرناه في سورة الأنعام { وأوفوا بالعهد } في الوصية بمال اليتيم وغيرها وقيل: إن كل ما أمر الله به ونهى عنه فهومن العهد وقد يجب الشيء أيضا بالنذر والعهد به وأن لم يجب ابتداء وإنما يجب عند العقد { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} عنه للجزاء عليه فحذف عنه لأنه مفهوم وقيل: إن معناه إن العهد يسأل فيقال له بما نقضت كما تسأل الموءودة بأي ذنب قتلت { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} أي: أتموه ولا تبخسوا منه ومعناه: وأوفوا الناس حقوقهم إذا كلتم عليهم { وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ} وهو الميزان صغر أم كبر عن الزجاج وقيل: هو القبان عن الحسن وقيل: هو العدل بالرومية عن مجاهد فيكون محمولا على موافقة اللغتين و{ المستقيم } الذي لا بخس فيه ولا غبن { ذلك خير } أي: خير ثوابا عن قتادة وقيل: أقرب إلى الله عن عطا وقيل: معناه أن إيفاء الكيل والوزن خير لكم في دنياكم فإنه يكسب اسم الأمانة في الدنيا { وأحسن تأويلا } أي: وأحسن عاقبة في الآخرة ومرجعا من آل يؤول إذا رجع حث الله سبحانه بهذه الآية على إتمام الوزن والكيل في المعاملات والبياعات وإيفاء حقوق العباد .

ثم قال سبحانه { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ} ومعناه: لا تقل سمعت ولم تسمع ولا رأيت ولم تر ولا علمت ولم تعلم عن ابن عباس وقتادة وقيل: معناه لا تقل في قفا غيرك كلاما أي إذا مر بك فلا تغتبه عن الحسن وقيل: هو شهادة الزور عن محمد بن الحنفية والأصل أنه عام في كل قول وفعل أوعزم يكون على غير علم فكأنه سبحانه قال: لا تقل إلا ما تعلم أنه مما يجوز أن يعتقد وقد استدل جماعة من أصحابنا بهذا على أن العمل بالقياس وبخبر الواحد غير جائز لأنهما لا يوجبان العلم وقد نهى الله سبحانه عن اتباع ما هو غير معلوم { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} معناه: أن السمع يسأل عما سمع والبصر عما رأى والقلب عما عزم عليه ذكر سبحانه السمع والبصر والفؤاد والمراد أن أصحابها هم المسئولون ولذلك قال { كل أولئك } وقيل: بل المعنى كل أولئك الجوارح يسأل عما فعل بها قال الوالبي عن ابن عباس يسأل الله العباد فيما استعملوها.

 وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا يزول قدم عبد يوم القيامة بين يدي الله عز وجل حتى يسأله عن أربع خصال عمرك فيما أفنيته وجسدك فيما أبليته ومالك من أين كسبته وأين وضعته وعن حبنا أهل البيت { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} معناه: لا تمش على وجه الأشر والبطر والخيلاء والتكبر قال الزجاج معناه لا تمش في الأرض مختالا فخورا وقيل: المرح شدة الفرح بالباطل.

 { إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} هذا مثل ضربه الله تعالى قال إنك أيها الإنسان لن تشق الأرض من تحت قدمك بكبرك ولن تبلغ الجبال بتطاولك والمعنى أنك لن تبلغ مما تريد كثير مبلغ كما لا يمكنك أن تبلغ هذا فما وجه المنابزة على ما هذا سبيله مع أن الحكمة زاجرة عنه وإنما قال ذلك لأن من الناس من يمشي في الأرض بطرا يدق قدميه عليها ليري بذلك قدرته وقوته ويرفع رأسه وعنقه فبين سبحانه أنه ضعيف مهين لا يقدر أن يخرق الأرض بدق قدميه عليها حتى ينتهي إلى آخرها وإن طوله لا يبلغ طول الجبال وإن كان طويلا علم الله سبحانه عباده التواضع والمروءة والوقار.

 { كل ذلك } إشارة إلى جميع ما تقدم ذكره مما نهى الله سبحانه عنه في هذه الآيات { كان سيئه } أي: معصيته { عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} له سبحانه يكرهها ولا يريدها ولا يرضاها وعلى القراءة الثانية فيكون ذلك إشارة إلى جميع ما أمر به من المحسنات ونهى عنه من المقبحات أي: كان سيء ما سبق من هذه الأشياء مكروها عند ربك وفي هذا دلالة واضحة على بطلان قول المجبرة فإنه سبحانه صرح بأنه يكره المعاصي والسيئات وإذا كرهها فكيف يريدها فإن من المحال أن يكون الشيء الواحد مرادا مكروها عنده { ذلك } الذي تقدم ذكره من الأوامر والنواهي { مما أوحى إليك ربك } يا محمد { من الحكمة } المؤدية إلى المعرفة بالحسن والقبح والفرق بينهما { وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} في إقرارك وقولك والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمراد به غيره ليكون أبلغ في الزجر كقوله {لئن أشركت ليحبطن عملك}.

 { فتلقى } أي: فتطرح بمعنى أنك إذا فعلت ذلك ألقيت وطرحت { فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا} يلومك الناس { مدحورا } أي: مطرودا مبعدا عن رحمة الله تعالى.

________________

1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص243-252.

2- مابين المعقفتين ليس في المخطوبة.

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

1 - { وآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } . نقل الطبرسي في مجمع البيان عن السدي ، وهو من كبار المفسرين ان المراد بذي القربى قرابة الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، ونقل أبوحيان الأندلسي عن الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) أنه قال : هم قرابة رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) أمر اللَّه بإعطائهم حقوقهم من بيت المال . وقال أبو بكر المعافري المالكي في أحكام القرآن : « ويدخل في ذي القربى قرابة الرسول دخولا متقدما وبطريق أولى من جهة ان الآية للقرابة الأدنين بالرجل ، فأما قرابة رسول اللَّه فقد أبان اللَّه على الاختصاص حقهم ، وأخبر ان محبتهم هي أجرة النبي على هداه لنا » .

وقيل : المراد بذي القربى القريب الذي له حق النفقة والميراث . والمسكين المحتاج ، وابن السبيل المنقطع في السفر ، ولا يملك نفقة العودة إلى بلاده ، ولهذين الحق في الزكاة لقوله تعالى : « إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والْمَساكِينِ والْعامِلِينَ عَلَيْها والْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفِي الرِّقابِ والْغارِمِينَ وفِي سَبِيلِ اللَّهِ وابْنِ السَّبِيلِ » - 60 التوبة .

{ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ، وكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } . عبّر سبحانه عن المبذرين بإخوان الشياطين لأن التبذير مكروه عند اللَّه ، وكل ما هو مكروه عند اللَّه فهومحبوب عند الشيطان . . ولا يختلف اثنان في أن التبذير هو انفاق المال في غير وجهه ، ووضعه في غير موضعه قليلا كان أوكثيرا ، وبتعبير أهل المنطق ان التبذير من مقولة الكيف ، لا من مقولة الكم .

وتسأل : ان قولك : في غير وجهه ، وغير موضعه ، أشبه بالكلام المبهم الذي يحتاج إلى التحديد والتوضيح ، فما هو وجهه وموضعه ؟ .

الجواب : ان كل من أنفق شيئا من ماله فيما يعود عليه بالضرر ، أولا يعود عليه بأية منفعة فهو مسرف وسفيه عرفا وشرعا - وعلى الهامش الا المال الذي يبذل ثمنا للتدخين - وأشرنا إلى السفيه والتحجير عليه في التصرفات المالية عند تفسير الآية 5 من سورة النساء ج 2 ص 253 و256 .

أين العدول ؟ :

سؤال ثان : رجل أنفق من ماله على شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، وما إلى ذلك من المحرمات التي تعود عليه بالنفع العاجل والضرر الآجل ، فإن . كثيرا من الناس لا يرون هذا مبذرا وسفيها ، فهل توجب الشريعة الاسلامية التحجير عليه في التصرفات المالية لأنه سفيه مسرف ؟ .

الجواب : ان للإنسان العاقل أن يتصرف في أمواله دون معارض ، مؤمنا كان أوكافرا ، فاسقا أوعادلا ، قال تعالى : « فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ » - 5 النساء ، ولم يقل : فإن آنستم منهم دينا أوعدلا ، وتواتر عن الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله وسلم ) أنه قال : « الناس مسلطون على أموالهم » ولم يقل :

المؤمنون أوالعادلون ، فالشرط الوحيد لصحة هذا التصرف هو الرشد في المال ، لا في الدين ، ولوكانت العدالة والرشد شرطا لصحة تصرف الإنسان في ماله لاختل النظام ، وتعطلت الحياة : لأن أهل الأرض كما نعلم وتعلمون ، فمن أين نأتي بأهل الدين والعدالة .

وعلى رأينا هذا الحنفية والمالكية والحنابلة ، أما الشافعية فقد ذهبوا إلى أن الرشد هو الصلاح في الدين والمال ( المغني لابن قدامة ) .

{ وإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً } .

ضمير عنهم يعود إلى ذي القربى والمسكين وابن السبيل ، والقول الميسور هو القول السهل اللين ، والمعنى إذا سألك واحد من هؤلاء الثلاثة شيئا من المال ، ولم تجد ما تعطيه ، ودعوت اللَّه ان يغنيه ويغنيك من فضله ورحمته ، إذا كان كذلك فقل له قولا سهلا لينا ، وذلك بأن تعده عدة حسنة تبعث في نفسه الأمل والرجاء . . وفي الحديث : ان لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم . ويقول الشاعر : فليسعد النطق ان لم يسعد الحال .

الإسلام ونظرية الأخلاق :

2 - { ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً } . التوازن والتعادل أساس كل شيء في الإسلام ، عقيدة وشريعة وأخلاقا . .

لا الحاد ، ولا تعدد آلهة . . لا الغاء ملكية ، ولا ملكية طاغية . . لا دكتاتورية للفئات والأفراد ، ولا حكم لكل من شاء وأراد . . لا رهبانية ، ولا اندفاع مع الشهوات . « وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ » - 8 الرعد . وقوله : وكل شيء يشمل الخلق والإيجاد ، ويشمل التحليل والتحريم ، وقوله : بمقدار أي بتقدير ونظام موافق للحكمة والمصلحة ، ليس فيه افراط ولا تفريط ، ولا جزاف ولا خلل . . كل شيء له حدود عند اللَّه ، وعلى الإنسان ان يقف عندها ولا يتعداها .

- وعلى سبيل المثال - حدود الحكم والسلطان العدالة والكفاءة ، وحدود الملكية عدم الإضرار بالأفراد والجماعة ، وحدود الإنفاق عدم التقتير والإسراف ، وهكذا سائر الأفعال والانفعال أيضا .

وعبر سبحانه عن التقتير بغل اليد لأن المقتر يقبض يده عن الإنفاق ، والغل أيضا يمنعها عن التصرف ، وقوله : ولا تبسطها كل البسط أراد به اليد التي لا تمسك شيئا في قبال التي تمسك كل شيء . . ونهاية هذه وتلك واحدة ، وهي الحسرة والملامة ، فالمسرف يعض يد الحسرة والندامة ملوما عند اللَّه والناس ، وعند نفسه أيضا حين يصبح صفر اليدين ، والبخيل مذموم على كل لسان ، وحسرته غدا أشد وأعظم من حسرة المسرف ، وخير الأمور الوسط .

وتسأل : هل معنى هذا ان الإسلام يقر مذهب سقراط في الأخلاق ، ونظريته القائلة : كل فضيلة وسط بين رذيلتين ، فالشجاعة وسط بين التهور والجبن ، والكرم وسط بين الإسراف والتقتير ، والتواضع وسط بين الخجل وعدم الحياء ، وهلم جرا ؟ .

الجواب : كلا ، فإن الإسلام يحدد الفضيلة ويشرع الأحكام على أساس مصلحة الفرد والجماعة ، فكل عمل به تقوم الحياة ، وتنمووتتقدم فهوفرض عين على القادة ، وفرض كفاية على الأفراد ، وكل ما فيه نفع بجهة من الجهات فهوفضيلة ، بل عبادة واجبة على كل قادر أومستحبة على مقدار ما فيها من النفع ، قال تعالى : « وأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ 17 الرعد . وقال الرسول الكريم ( صلى الله عليه واله وسلم ) : خير الناس من انتفع به الناس ، وأوضح الأدلة على هذه الحقيقة قوله تعالى : « النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ والإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأَغْلالَ » - 157 الأعراف .

وهذا المبدأ القرآني ، وهو المصلحة ، قد يلتقي مع نظرية الوسط ، كما في الأشياء التي لها وسط ، مثل الكرم بين التقتير والإسراف ، ويفترق عنها في الأشياء التي لا وسط لها ، كالأمانة فإنها ضد الخيانة ، ولا ثانية لها كي تتوسط الأمانة  بينهما . . وتكلمنا عن الأخلاق عند تفسير الآية 54 من سورة المائدة ج 3 ص 79 .

{ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ويَقْدِرُ » - أي يضيق - « إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } . كل شيء بيده تعالى الأرزاق وغير الأرزاق لأنه مالك الملك . . ولكن شاءت حكمته وقضت إرادته أن لا يرزق إلا بالأسباب الكونية التي خلقها ووضعها سبيلا لكسب المال . . أنظر تفسير الآية 66 من سورة المائدة ج 3 ص 94 .

والآية 100 من سورة المائدة أيضا ج 3 ص 131 . وتفسير الآية 26 من سورة الرعد .

3 - { ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً } . تقدم مثله في الآية 137 و151 من سورة الأنعام ج 3 ص 271 و283 .

4 - { ولا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلاً } . وما فشا في مجتمع الا كان مصيره إلى الانحلال ، بالإضافة إلى اختلاط الأنساب ، وكفى بالزنا قبحا انه من أقذر صفات الشتم والذم .

5 - { ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } . تقدم مثله في الآية 32 من سورة المائدة ج 3 ص 47 { ومَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً } . كل من قتل دون أن يأتي بجناية تستوجب القتل فقد قتل ظلما ، وأولياء القتيل هم أقرباؤه من أبيه ، وعند عدمهم الحاكم الشرعي ، وعدم الإسراف في القتل ان لا يقتل اثنين بإزاء واحد ، كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، والمنصور المعان ، والمعنى ان لأولياء المقتول ظلما الحقّ في قتل القاتل أوأخذ الدية منه ، كما في الحديث الشريف : « من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين :

ان أحبوا قتلوا ، وان أحبوا أخذوا الدية » . وبما ان للأولياء الحق في ذلك فعلى الحاكم وكل مسلم أن يكونوا عونا لهم على استيفاء هذا الحق . وسبق الكلام عن ذلك عند تفسير الآية 178 من سورة البقرة ج 1 ص 274 .

6 - { ولا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } مرّ بالحرف الواحد في الآية 152 من سورة الأنعام ج 3 ص 283 .

7 - { وأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُولاً } . وكل ما أمر اللَّه به ، ونهى عنه فهوعهد بحب الوفاء به ، ومنه عقود البيع والإجارة ونحوها . أنظر تفسير الآية 1 من سورة المائدة ج 3 ص 6 .

8 - { وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } . أي مآلا من آل يؤول ، وإيفاء الكيل والوزن واجب شرعا وعرفا ، ولا يختص بدين دون دين ، ولا بعرف دون عرف . وقد حث سبحانه على إيفاء الكيل والميزان بأساليب شتى منها « وزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ » أي العدل ، ومنها « أَوْفُوا الْكَيْلَ والْمِيزانَ » ، ومنها « ولا تَنْقُصُوا » ، ومنها « لا تَطْغَوْا » .

والسر أن الحياة الاجتماعية لا تنتظم الا بذلك .

القول بغير علم :

9 - { ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } . تقول العرب : قفوته إذا اتبعت أثره ، وقافية كل شيء آخره ، ومن أسماء النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) المقفي لأنه آخر الأنبياء وخاتمهم . . والقول بلا علم قبيح ، حيّ عند من لا يؤمن باللَّه واليوم الآخر ، وذكر سبحانه السمع والبصر والفؤاد ، وأراد صاحب هذه الأدوات الثلاث ، وانه تعالى يسأله عنها ، ويعاقبه إذا أسند إليها ما لا تعلم ، كما لوقال : سمعت دون أن يسمع ، ورأيت وهو لم ير ، واعتقدت وعزمت ، وهو لم يعتقد ولم يعزم ، أوعزم على الباطل . .

ولا فرق بين من يتعمد الكذب ، ومن يسرع إلى القول من غير تثبت وروية ، فإن القول بالظن والشبهة قول بغير علم ، قال تعالى : « إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً » - 36 يونس . وقال : « إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ » - 117 الأنعام . والخراص الافتراء ، وقد ساوى اللَّه بينه وبين الظن . . ويتفرع عن هذه الآية المسائل التالية :

أ - بطلان التقليد وتحريمه على الكفؤ القادر على استنباط الأحكام من مصادرها حيث ترك علمه ، وعمل بعلم غيره . وعلى هذا الرأي الشيعة الإمامية والزيدية والمعتزلة وابن حزم والشيخ محمد عبده والشيخ شلتوت وغيرهم ، وتكلمنا عن التقليد مفصلا عند تفسير الآية 170 من سورة البقرة ج 1 ص 259 .

ب - تحريم العمل بالقياس والاستحسان ، واستخراج الأحكام الإلهية منهما . .

والقياس هو الحاق أمر - في الحكم - غير منصوص عليه بآخر منصوص عليه لاتحاد بينهما في العلة المستنبطة ، ومثال ذلك ان ينص الشارع على أن الجدة لأم ترث ، ويسكت عن الجدة لأب ، فنلحق هذه بتلك في الميراث قياسا لأن كلتيهما جدة .

والاستحسان المحكي عن أبي حنيفة هو الحكم بما يستحسنه المجتهد بغير دليل إلا استحسانه هو أي حدسه وهجسه ( كتاب اللمع في أصول الفقه لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي ص 65 طبعة سنة 1939 ) . ومثّل له صاحب الكتاب المذكور بمن قال : ان فعلت كذا ( فأنا ) يهودي ، فيحنث هذا القائل ، وتجب عليه الكفارة استحسانا لأنه بمنزلة من قال : واللَّه ان فعلت كذا فهو يهودي .

ج - ان كل من تصدى للافتاء ، وبيان الحلال والحرام ، وهو غير كفؤ فقد كذب وافترى على اللَّه ورسوله ، وكان من المعنيين بقوله تعالى : « تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ » - 56 النحل ، وقول الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله وسلم ) : « من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار » . فان الكذب على اللَّه ورسوله كما يكون بالرواية عنهما يكون أيضا بنسبة الحلال والحرام إليهما . . وقد كثر في زماننا المفتون المفترون على اللَّه ورسوله الذين اتخذوا من سمة الدين وسيلة للارتزاق ، وستارا للخيانة والعمالة . . ومنهم من ألف المنظمات والأحزاب تعمل بوحي من الصهيونية والاستعمار ، وفي الوقت نفسه تحمل اسم الإسلام والمسلمين للخداع والتضليل .

سألني أحد الشيوخ عن زوجتي هابيل وقابيل ابني آدم ، هل هما من حور الجنة ، أومن غيرهن ؟ قلت : هذه مسألة تعرف بالنقل ، لا بالعقل ، والنقل في مثلها لا يعمل به إلا إذا كان نصا في القرآن أوالسنة المتواترة ، ولا نص فيهما على ذلك فعلينا السكوت عما سكت اللَّه عنه ورسوله . قال : كيف ؟ وهل نقف موقف العاجز إذا سئلنا ؟ قلت : وهل يطلب منا ان نعلم كل شيء لأنا معممون ؟ .

10 - { ولا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ « طُولاً } . قد يزهو الجاهل ويتعاظم إذا ملك شيئا من حطام هذه الحياة ، كالجاه والمال ، ولكن ان عرض له عارض من المخبئات والمفاجئات وهن وحار لا يدري ما ذا يصنع . . والعاقل من عرف قدره ، وتفكر واعتبر ، ولم يحد عن قصد السبيل . . وقوله تعالى : { ولا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً } نهي عن التكبر ، وأمر بالتواضع ، وقوله : { إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ ولَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً } كناية عن عجز الإنسان ، وانه أضعف من أن يبلغ ما يريد بالجاه والمال ، كما أنه أضعف من أن يبلغ الجبال بجسمه ، ويخرق الأرض بقدمه .

{ كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } . ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره مما أمر اللَّه به ، ونهى عنه ، والمراد بسيئه ما نهى عنه خاصة ، والمعنى ان كل هذه الأشياء التي نهى عنها مكروهة عند اللَّه ، وفاعلها ممقوت يستحق العذاب والعقاب { ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ } . أيضا ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره من الأوامر والنواهي ، والحكمة وضع الشيء في محله ، وليس من شك ان جميع أحكامه تعالى في محلها ، وان من أخذ بها فقد أخذ بالحق والخير والعدل { ولا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً } . تقدم تفسيره في الآية 22 من هذه السورة . . وقد ابتدأ سبحانه بالنهي عن الشرك ، وختم به لأن التوحيد هو البداية والغاية للإسلام دين اللَّه الحق ، ولأن جميع الأحكام تناط به وحده ، فلا حلال الا ما حلل ، ولا حرام الا ما حرم .

_________________

1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 38-45.

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى:{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} تقدم الكلام فيه في نظائره، وبالآية يظهر أن إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل مما شرع قبل الهجرة لأنها آية مكية من سورة مكية.

قوله تعالى:{ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا }{ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} قال في المجمع،: التبذير التفريق بالإسراف، وأصله أن يفرق كما يفرق البذر إلا أنه يختص بما يكون على سبيل الإفساد، وما كان على وجه الإصلاح لا يسمى تبذيرا وإن كثر. انتهى.

وقوله:{ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} تعليل للنهي عن التبذير، والمعنى لا تبذر إنك إن تبذر كنت من المبذرين والمبذرون إخوان الشياطين، وكأن وجه المواخاة بينهم أن الواحد منهم يصير ملازما لشيطانه وبالعكس كالأخوين الذين هما شقيقان متلازمان في أصلهما الواحد كما يشير إليه قوله تعالى:{وقيضنا لهم قرناء}: حم السجدة: 25، وقوله:{ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}: الصافات: 22 أي قرناءهم: وقوله:{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}: الأعراف: 202.

ومن هنا يظهر أن تفسير من فسر الآية بأنهم قرناء الشياطين أحسن من قول من قال: المعنى أنهم اتباع الشياطين سالكون سبيلهم.

وأما قوله:{ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} فالمراد بالشيطان فيه هو إبليس الذي هو أبو الشياطين وهم ذريته وقبيله واللام حينئذ للعهد الذهني ويمكن أن يكون اللام للجنس والمراد به جنس الشيطان وعلى أي حال كونه كفورا لربه من جهة كفرانه بنعم الله حيث إنه يصرف ما آتاه من قوة وقدرة واستطاعة في سبيل إغواء الناس وحملهم على المعصية ودعوتهم إلى الخطيئة وكفران النعمة.

وقد ظهرت مما تقدم النكتة في جمع الشيطان أولاً وإفراده ثانياً فإن الاعتبار أولا بأن كل مبذر أخو شيطانه الخاص فالجميع إخوان للشياطين والاعتبار ثانيا بإبليس الذي هو أبو الشياطين أو بجنس الشيطان.

قوله تعالى:{ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} أصله إن تعرض عنهم و{ما} زائدة للتأكيد والنون للتأكيد.

والسياق يشهد بأن الكلام في إنفاق الأموال فالمراد بقوله:{وإما تعرضن عنهم} الإعراض عمن سأله شيئا من المال ينفقه له ويسد به خلته وليس المراد به كل إعراض كيف اتفق بل الإعراض عند ما ليس عنده شيء من المال يبذله له وليس بآيس من وجدانه بدليل قوله:{ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} أي كنت تعرض عنهم لا لكونك مليئا بالمال شحيحا به، ولا لأنك فاقد له آيس من حصوله بل لأنك فاقد له مبتغ وطالب لرحمة من ربك ترجوها يعني الرزق.

وقوله:{ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} أي سهلا لينا أي لا تغلظ في القول ولا تجف في الرد كما قال تعالى:{وأما السائل فلا تنهر}: الضحى: 10 بل رده بقول سهل لين.

قال في الكشاف،: وقوله:{ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} إما أن يتعلق بجواب الشرط مقدما عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا رحمة لهم وتطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك أي ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم، وإما أن يتعلق بالشرط أي وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجوأن يفتح لك - فسمى الرزق رحمة - فردهم ردا جميلا فوضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسببا عنه فوضع المسبب موضع السبب. انتهى.

قوله تعالى:{ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن الإمساك كمن لا يعطي ولا يهب شيئا لبخله وشح نفسه، وبسط اليد كل البسط كناية عن إنفاق الإنسان كل ما في وجده بحيث لا يبقى شيئا كمن يبسط يده كل البسط بحيث لا يستقر عليها شيء ففي الكلام نهي بالغ عن التفريط والإفراط في الإنفاق.

وقوله:{ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} متفرع على قوله:{ولا تبسطها} إلخ والحسر هو الانقطاع أو العرى أي ولا تبسط يدك كل البسط حتى يتعقب ذلك أن تقعد ملوما لنفسك وغيرك منقطعا عن واجبات المعاش أوعريانا لا تقدر على أن تظهر للناس وتعاشرهم وتراودهم.

وقيل: إن قوله:{ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} متفرع على الجملتين لا على الجملة الأخيرة فحسب والمعنى إن أمسكت قعدت ملوما مذموما وإن أسرفت بقيت متحسرا مغموما.

وفيه أن كون قوله:{ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ظاهرا في النهي عن التبذير والإسراف غير معلوم وكذا كون إنفاق جميع المال في سبيل الله إسرافا وتبذيرا غير ظاهر وإن كان منهيا عنه بهذه الآية كيف ومن المأخوذ في مفهوم التبذير أن يكون على وجه الإفساد، ووضع المال ولو كان كثيرا أوجميعه في سبيل الله وإنفاقه على من يستحقه ليس بإفساد له، ولا وجه للتحسر والغم على ما لم يفسد ولا أفسد.

قوله تعالى:{ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} ظاهر السياق أن الآية في مقام التعليل لما تقدم في الآية السابقة من النهي عن الإفراط والتفريط في إنفاق المال وبذله.

والمعنى: أن هذا دأب ربك وسنته الجارية يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء فلا يبسطه كل البسط ولا يمسك عنه كل الإمساك رعاية لمصلحة العباد إنه كان بعباده خبيرا بصيرا وينبغي لك أن تتخلق بخلق الله وتتخذ طريق الاعتدال وتتجنب الإفراط والتفريط.

وقيل: إنها تعليل على معنى أن ربك يبسط ويقبض، وذلك من الشئون الإلهية المختصة به تعالى، وليس لك أن تتصف به والذي عليك أن تقتصد من غير أن تعدل عنه إلى إفراط أو تفريط، وقيل في معنى التعليل غير ذلك، وهي وجوه بعيدة.

قوله تعالى:{ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} الإملاق الفاقة والفقر، وقال في المفردات،: الخطأ العدول عن الجهة وذلك أضرب: أحدها أن تريد غير ما تحسن إرادته وفعله، وهذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان يقال: خطىء يخطأ وخطأة، قال تعالى:{ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} وقال:{وإن كنا لخاطئين} والثاني أن يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه خلاف ما يريد فيقال: أخطأ إخطاء فهو مخطىء وهذا قد أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل، وهذا المعنى بقوله:{ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، والثالث أن يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطىء في الإرادة مصيب في الفعل فهو مذموم بقصده غير محمود على فعله.

وجملة الأمر أن من أراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: أخطأ، وإن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أوأراد إرادة لا يجمل: أنه أخطأ، ولذا يقال: أصاب الخطأ وأخطأ الصواب وأصاب الصواب وأخطأ الخطأ وهذه اللفظة مشتركة كما ترى مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها. انتهى بتلخيص.

وفي الآية نهي شديد عن قتل الأولاد خوفا من الفقر والحاجة وقوله{نحن نرزقهم وإياكم} تعليل للنهي وتمهيد لقوله بعده:{إن قتلهم كان خطأ كبيرا}.

والمعنى ولا تقتلوا أولادكم خوفا من أن تبتلوا بالفقر والحاجة فيؤديهم ذلك إلى ذل السؤال أو ازدواج بناتكم من غير الأكفاء أوغير ذلك مما يذهب بكرامتكم فإنكم لستم ترزقونهم حتى تفقدوا الرزق عند فقركم وإعساركم بل نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا.

وقد تكرر في كلامه تعالى النهي عن قتل الأولاد خوفا من الفقر وخشية من الإملاق، وهو مع كونه من قتل النفس المحترمة التي يبالغ كلامه تعالى في النهي عنه إنما أفرد بالذكر واختص بنهي خاص لكونه من أقبح الشقوة وأشد القسوة، ولأنهم - كما قيل - كانوا يعيشون في أراضي يكثر فيها السنة ويسرع إليها الجدب فكانوا إذا لاحت لوائح الفاقة والإعسار بجدب وغيره بادروا إلى قتل الأولاد خوفا من ذهاب الكرامة والعزة.

وفي الكشاف،: قتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم كانوا يأدونهن خشية الفاقة وهي الإملاق فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم انتهى، والظاهر خلاف ما ذكره وأن الآيات المتعرضة لوأد البنات آيات خاصة تصرح به وبحرمته كقوله تعالى:{ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}: التكوير: 9، وقوله:{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: النحل: 59.

وأما الآية التي نحن فيها وأترابها فإنها تنهى عن قتل الأولاد خشية إملاق، ولا موجب لحمل الأولاد على البنات مع كونه أعم، ولا حمل الهون على خوف الفقر مع كونهما متغايرين فالحق أن الآية تكشف عن سنة سيئة أخرى غير وأد البنات دفعا للهون وهي قتل الأولاد من ذكر وأنثى خوفا من الفقر والفاقة والآيات تنهى عنه.

قوله تعالى:{ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} نهي عن الزنا وقد بالغ في تحريمه حيث نهاهم عن أن يقربوه، وعلله بقوله:{إنه كان فاحشة} فأفاد أن الفحش صفة لازمة له لا يفارقه، وقوله:{وساء سبيلا} فأفاد أنه سبيل سيء يؤدي إلى فساد المجتمع في جميع شئونه حتى ينحل عقده ويختل نظامه وفيه هلاك الإنسانية وقد بالغ سبحانه في وعيد من أتى به حيث قال في صفات المؤمنين:{ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا}: الفرقان: 68-70.

وقد أشار سبحانه إلى حكمة التحريم فيما نهى عنه بقوله:{ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} حيث عده أولا فاحشة ثم وصفه ثانيا بقوله:{وساء سبيلا} والمراد - والله أعلم - سبيل البقاء كما يستفاد من قوله:{ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ}: العنكبوت: 29، أي وتتركون إتيان النساء الذي هو السبيل فتنقطع بذلك وليس إلا سبيلا للبقاء من جهة تسببه إلى تولد المواليد وبقاء النسل بذلك، ومن جهة أن الازدواج وعقد المجتمع المنزلي هو أقوى وسيلة يضمن بقاء المجتمع المدني بعد انعقاده.

فمع انفتاح باب الزنا لا تزال الرغبات تنقطع عن النكاح والازدواج إذ لا يبقى له إلا محنة النفقة ومشقة حمل الأولاد وتربيتها ومقاساة الشدائد في حفظها والقيام بواجب حياتها والغريزة تقنع من سبيل آخر من غير كد وتعب، وهو مشهود من حال الشبان والفتيات في هذه البلاد، وقد قيل لبعضهم: لم لا تتزوج؟ فقال: وما أصنع بالازدواج وكل نساء البلد نسائي، ولا يبقى حينئذ للازدواج والنكاح إلا شركة الزوجين في مساعي الحياة الجزئية غير التناسل كالشركة في تجارة أوعمل ويسرع إليهما الافتراق لأدنى عذر، وهذا كله مشهود اليوم في المجتمعات الغربية.

ومن هنا أنهم يعدون الازدواج شركة في الحياة منعقدة بين الزوجين الرجل والمرأة وجعلوها هي الغاية المطلوبة بالذات من الازدواج دون الإنسال وتهيئة الأولاد ولا إجابة غريزة الميل الطبيعي بل عدوا ذلك من الآثار المترتبة عليه إن توافقا على ذلك وهذا انحراف عن سبيل الفطرة والتأمل في حال الحيوان على اختلاف أنواعه يهدي إلى أن الغاية المطلوبة منه عندها هو إرضاء الغريزة الهائجة وإنسال الذرية وكذا الإمعان في حال الإنسان أول ما يميل إلى ذلك يعطي أن الغاية القريبة الداعية إليه عنده هو إرضاء الغريزة ويعقبه طلب الولد.

ولو كانت الغريزة الإنسانية التي تدفعه إلى هذه السنة الطبيعية إنما تطلب الشركة في الحياة والتعاون على واجب المأكل والمشرب والملبس والمسكن وما هذا شأنه يمكن أن يتحقق بين رجلين أوبين امرأتين لظهر أثره في المجتمع البشري واستن عليه ولا أقل في بعض المجتمعات في طول تاريخ الإنسان وتزوج رجل برجل أحيانا أوامرأة بامرأة ولم تجر سنة الازدواج على وتيرة واحدة دائما ولم تقم هذه الرابطة بين طرفين أحدهما من الرجال والآخر من النساء أبدا.

ومن جهة أخرى أخذ مواليد الزنا في الإزدياد يوما فيوما يقطع منابت المودة والرحمة وتعلق قلوب الأولاد بالآباء ويستوجب ذلك انقطاع المودة والرحمة من ناحية الآباء بالنسبة إلى الأولاد وهجر المودة والرحمة بين الطبقتين الآباء والأولاد يقضي بهجر سنة الازدواج للمجتمع وفيه انقراضهم وهذا كله أيضا مما يلوح من المجتمعات الغربية.

ومن التصور الباطل أن يتصور أن البشر سيوفق يوما أن يدير رحى مجتمعه بأصول فنية وطرق علمية من غير حاجة إلى الاستعانة بالغرائز الطبيعية فيهيأ يومئذ طبقة المواليد مع الاستغناء عن غريزة حب الأولاد بوضع جوائز تسوقهم إلى التوليد والإنسال أو بغير ذلك كما هو معمول بعض الممالك اليوم فإن السنن القومية والقوانين المدنية تستمد في حياتها بما جهز به الإنسان من القوى والغرائز الطبيعية فلو بطلت أوأبطلت انفصم بذلك عقد مجتمعه، وهيئة المجتمع قائمة بأفراده وسننه مبنية على إجابتهم لها ورضاهم بها وكيف تجري في مجتمع سنة لا ترتضيها قرائحهم ولا تستجيبها نفوسهم ثم يدوم الأمر عليه.

فهجر الغرائز الطبيعية وذهول المجتمع البشري عن غاياته الأصلية يهدد الإنسانية بهلاك سيغشاها ويهتف بأن أمامهم يوما سيتسع فيه الخرق على الراقع وإن كان اليوم لا يحس به كل الإحساس لعدم تمام نمائه بعد.

ثم إن لهذه الفاحشة أثرا آخر سيئا في نظر التشريع الإسلامي وهو إفساده للأنساب وقد بني المناكح والمواريث في الإسلام عليها.

قوله تعالى:{ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى آخر الآية نهي عن قتل النفس المحترمة إلا بالحق أي إلا أن يكون قتلا بالحق بأن يستحق ذلك لقود أوردة أو لغير ذلك من الأسباب الشرعية، ولعل في توصيف النفس بقوله:{حرم الله} من غير تقييد إشارة إلى حرمة قتل النفس في جميع الشرائع السماوية فيكون من الشرائع العامة كما تقدمت الإشارة إليه في ذيل الآيات 151 - 153 من سورة الأنعام.

وقوله:{ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} المراد بجعل السلطان لوليه تسليطه شرعا على قتل قاتل وليه قصاصا والضميران في{فلا يسرف} و{إنه} للولي، والمراد بكونه منصورا هو التسليط الشرعي المذكور.

والمعنى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا بحسب التشريع لوليه وهو ولي دمه سلطنة على القصاص وأخذ الدية والعفو فلا يسرف الولي في القتل بأن يقتل غير القاتل أو يقتل أكثر من الواحد إنه كان منصورا أي فلا يسرف فيه لأنه كان منصورا فلا يفوته القاتل بسبب أنا نصرناه أوفلا يسرف اعتمادا على أنا نصرناه.

وربما احتمل بعضهم رجوع الضمير في قوله:{فلا يسرف} إلى القاتل المدلول عليه بالسياق، وفي قوله:{إنه} إلى{من} والمعنى قد جعلنا لولي المقتول ظلما سلطنة فلا يسرف القاتل الأول بإقدامه على القتل ظلما فإن المقتول ظلما منصور من ناحيتنا لما جعلنا لوليه من السلطنة، وهو معنى بعيد من السياق ودونه إرجاع ضمير{إنه} فقط إلى المقتول.

وقد تقدم كلام في معنى القصاص في ذيل قوله تعالى:{ولكم في القصاص حياة}: البقرة: 179 في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى:{ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} نهي عن أكل مال اليتيم وهو من الكبائر التي أوعد الله عليها النار قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}: النساء: 10.

وفي النهي عن الاقتراب مبالغة لإفادة اشتداد الحرمة.

وقوله:{إلا بالتي هي أحسن} أي بالطريقة التي هي أحسن وفيه مصلحة إنماء ماله، وقوله:{حتى يبلغ أشده} هو أوان البلوغ والرشد وعند ذلك يرتفع عنه اليتم فالتحديد بهذه الجملة لكون النهي عن القرب في معنى الأمر بالصيانة والحفظ كأنه قيل: احتفظوا على ماله حتى يبلغ أشده فتردوه إليه، وبعبارة أخرى الكلام في معنى قولنا: لا تقربوا مال اليتيم ما دام يتيما، وقد تقدم بعض ما يناسب المقام في سورة الأنعام آية 152.

قوله تعالى:{ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} أي مسئول عنه وهو من الحذف والإيصال السائغ في الكلام، وقيل: المراد السؤال عن نفس العهد فإن من الجائز أن تتمثل الأعمال يوم القيامة فتشهد للإنسان أوعليه وتشفع له أوتخاصمه.

قوله تعالى:{ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} القسطاس بكسر القاف وضمها هو الميزان قيل: رومي معرب وقيل: عربي، وقيل مركب في الأصل من القسط وهو العدل وطاس وهو كفة الميزان والقسطاس المستقيم هو الميزان العادل لا يخسر في وزنه.

وقوله:{ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} الخير هو الذي يجب أن يختاره الإنسان إذا تردد الأمر بينه وبين غيره، والتأويل هو الحقيقة التي ينتهي إليها الأمر، وكون إيفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم خيرا لما فيه من الاتقاء من استراق أموال الناس واختلاسها من حيث لا يشعرون وجلب وثوقهم.

وكونهما أحسن تأويلا لما فيهما من رعاية الرشد والاستقامة في تقدير الناس معيشتهم فإن معايشهم تقوم في التمتع بأمتعة الحياة على أصلين اكتساب الأمتعة الصالحة للتمتع والمبادلة على الزائد على قدر حاجتهم فهم يقدرون معيشتهم على قدر ما يسعهم أن يبذلوه من المال عينا أوقيمة، وعلى قدر ما يحتاجون إليه من الأمتعة المشتراة فإذا خسروا بالتطفيف ونقص الكيل والوزن فقد اختلت عليهم الحياة من الجهتين جميعا، وارتفع الأمن العام من بينهم.

وأما إذا أقيم الوزن بالقسط فقد أطل عليهم الرشد واستقامت أوضاعهم الاقتصادية بإصابة الصواب فيما قدروا عليه معيشتهم واجتلب وثوقهم إلى أهل السوق واستقر بينهم الأمن العام.

قوله تعالى:{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} القراءة المشهورة{لا تقف} بسكون القاف وضم الفاء من قفا يقفوقفوا إذا اتبعه ومنه قافية الشعر لكونها في آخر المصراع تابعة لما تقدمها، وقرىء{لا تقف} بضم القاف وسكون الفاء من قاف بمعنى قفا، ولذلك نقل عن بعض أهل اللغة أن قاف مقلوب قفا مثل جبذ مقلوب جذب، ومنه القيافة بمعنى اتباع أثر الأقدام.

والآية تنهى عن اتباع ما لا علم به، وهي لإطلاقها تشمل الاتباع اعتقادا وعملا، وتتحصل في مثل قولنا: لا تعتقد ما لا علم لك به ولا تقل ما لا علم لك به ولا تفعل ما لا علم لك به لأن في ذلك كله اتباعا.

وفي ذلك إمضاء لما تقضي به الفطرة الإنسانية وهو وجوب اتباع العلم والمنع عن اتباع غيره فإن الإنسان بفطرته الموهوبة لا يريد في مسير حياته باعتقاده أوعمله إلا أصابة الواقع والحصول على ما في متن الخارج والمعلوم هو الذي يصح له أن يقول: إنه هو، وأما المظنون والمشكوك والموهوم فلا يصح فيها إطلاق القول بأنه هو فافهم ذلك.

والإنسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقا ويجده واقعا في الخارج، ويتبع في عمله ما يرى نفسه مصيبا في تشخيصه، وذلك فيما تيسر له أن يحصل العلم به، وأما فيما لا يتيسر له العلم به كالفروع الاعتقادية بالنسبة إلى بعض الناس وغالب الأعمال بالنسبة إلى غالب الناس فإن الفطرة السليمة تدفعه إلى اتباع علم من له علم بذلك وخبرة باعتبار علمه وخبرته علما لنفسه فيئول اتباعه في ذلك بالحقيقة اتباعا لعلمه بأن له علما وخبرة كما يرجع السالك وهو لا يعرف الطريق إلى الدليل لكن مع علمه بخبرته ومعرفته، ويرجع المريض إلى الطبيب ومثله أرباب الحوائج إلى مختلف الصناعات المتعلقة بحوائجهم إلى أصحاب تلك الصناعات.

ويتحصل من ذلك أنه لا يتخطى العلم في مسير حياته بحسب ما تهدي إليه فطرته غير أنه يعد ما يثق به نفسه ويطمئن إليه قلبه علما وإن لم يكن ذاك اليقين الذي يسمى علما في صناعة البرهان من المنطق.

فله في كل مسألة ترد عليه إما علم بنفس المسألة وإما دليل علمي بوجوب العمل بما يؤديه ويدل عليه، وعلى هذا ينبغي أن ينزل قوله سبحانه{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فاتباع الظن عن دليل علمي بوجوب اتباعه اتباع للعلم كاتباع العلم في مورد العلم.

فيئول المعنى إلى أنه يحرم الاقتحام على اعتقاد أوعمل يمكن تحصيل العلم به إلا بعد تحصيل العلم، والاقتحام على ما لا يمكن فيه ذلك إلا بعد الاعتماد على دليل علمي يجوز الاقتحام والورود وذلك كأخذ الأحكام عن النبي واتباعه وإطاعته فيما يأمر به وينهى عنه عن قبل ربه وتناول المريض ما يأمر به الطبيب والرجوع إلى أصحاب الصنائع فيما يرجع إلى صناعتهم فإن الدليل العلمي على عصمة النبي دليل علمي على مطابقة ما يخبر به أو ما يأمر به وينهى عنه الواقع وأصابة من اتبعه الصواب، والحجة العلمية على خبرة الطبيب في طبه وأصحاب الصناعات في صناعاتهم حجة علمية على أصابة من يرجع إليهم فيما يعمل به.

ولولا كون الاقتحام على العمل عن حجة علمية على وجوب الاقتحام اقتحاما علميا لكانت الآية قاصرة عن الدلالة على مدلولها من رأس فإن الطريق إلى فهم مدلول الآية هو ظهورها اللفظي فيه، والظهور اللفظي من الأدلة الظنية غير أنه حجة عن دليل علمي وهو بناء العقلاء على حجيته فلو كان غير ما تعلق العلم به بعينه مما لا علم به مطلقا لكان اتباع الظهور ومنه ظهور نفس الآية منهيا عنه بالآية وكانت الآية ناهية عن اتباع نفسه فكانت ناقضة لنفسها.

ومن هنا يظهر اندفاع ما أورده بعضهم في المقام كما عن الرازي في تفسيره أن العمل بالظن كثير في الفروع فالتمسك بالآية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد إلا الظن فلودلت على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بها غير جائز فالقول بحجيتها يقضي إلى نفيه وهو غير جائز.

وفيه أن الآية تدل على عدم جواز اتباع غير العلم بلا ريب غير أن موارد العمل بالظن شرعا موارد قامت عليها حجة علمية فالعمل فيها بالحقيقة إنما هو عمل بتلك الحجج العلمية والآية باقية على عمومها من غير تخصص، ولوسلم فالعمل بالعام المخصص فيما بقي من الأفراد سالمة عن التخصيص عمل بحجة عقلائية نظير العمل بالعام غير المخصص من غير فرق بينهما البتة.

ونظيره الاستشكال فيها بأن الطريق إلى فهم المراد من الآية هو ظهورها والظهور طريق ظني فلودلت الآية على حرمة اتباع غير العلم لدلت على حرمة الأخذ بظهور نفسها، ولازمها حرمة العمل بنفسها.

ويرده ما تقدمت الإشارة إليه أن اتباع الظهور اتباع لحجة علمية عقلائية وهي بناء العقلاء على حجيته فليس اتباعه من اتباع غير العلم بشيء.

وقوله:{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } تعليل للنهي السابق في قوله:{ولا تقف ما ليس لك به علم}.

والظاهر المتبادر إلى الذهن، أن الضميرين في{كان عنه} راجعان إلى{كل} فيكون{عنه} نائب فاعل لقوله:{مسؤلا} مقدما عليه كما ذكره الزمخشري في الكشاف، أومغنيا عن نائب الفاعل، وقوله:{أولئك} إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد، وإنما عبر عنها بأولئك المختص بالعقلاء لأن كون كل منها مسئولا عنه يجريه مجرى العقلاء وهو كثير النظير في كلامه تعالى.

وربما منع بعضهم كون{أولئك} مختصا بالعقلاء استنادا إلى قول جرير:

ذم المنازل بعد منزلة اللوى.                    والعيش بعد أولئك الأيام.

وعلى ذلك فالمسئول هو كل من السمع والبصر والفؤاد يسأل عن نفسه فيشهد للإنسان أوعليه كما قال تعالى:{ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: يس: 65.

واختار بعضهم رجوع ضمير{عنه} إلى{كل} وعود باقي الضمائر إلى القافي المدلول عليه في الكلام فيكون المسئول هو القافي يسأل عن سمعه وبصره وفؤاده كيف استعملها؟ وفيما استعملها؟ وعليه ففي الكلام التفات عن الخطاب إلى الغيبة، وكان الأصل أن يقال: كنت عنه مسئولا. وهو بعيد.

والمعنى: لا تتبع ما ليس لك به علم لأن الله سبحانه سيسأل عن السمع والبصر والفؤاد وهي الوسائل التي يستعملها الإنسان لتحصيل العلم، والمحصل من التعليل بحسب انطباقه على المورد أن السمع والبصر والفؤاد إنما هي نعم آتاها الله الإنسان ليشخص بها الحق ويحصل بها على الواقع فيعتقد به ويبني عليه عمله وسيسأل عن كل منها هل أدرك ما استعمل فيه إدراكا علميا؟ وهل اتبع الإنسان ما حصلته تلك الوسيلة من العلم؟.

فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوما مقطوعا به؟ وعن البصر هل كان ما رآه ظاهرا بينا؟ وعن الفؤاد هل كان ما فكره وقضى به يقينيا لا شك فيه؟ وهي لا محالة تجيب بالحق وتشهد على ما هو الواقع فمن الواجب على الإنسان أن يتحرز عن اتباع ما ليس له به علم فإن الأعضاء ووسائل العلم التي معه ستسأل فتشهد عليه فيما اتبعه مما حصلته ولم يكن له به علم ولا يقبل حينئذ له عذر.

ومآله إلى نحومن قولنا: لا تقف ما ليس لك به علم فإنه محفوظ عليك في سمعك وبصرك وفؤادك، والله سائلها عن عملك لا محالة، فتكون الآية في معنى قوله تعالى:{ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - إلى أن قال - وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: فصلت - 20 - 23 وغيرها من آيات شهادة الأعضاء.

غير أن الآية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الإنسان وهو الذي به يشعر الإنسان ما يشعر ويدرك ما يدرك، وهو من أعجب ما يستفاد من آيات الحشر أن يوقف الله النفس الإنسانية فيسألها عما أدركت فتشهد على الإنسان نفسه.

وقد تبين أن الآية تنهى عن الإقدام على أمر مع الجهل به سواء كان اعتقادا مع الجهل أوعملا مع الجهل بجوازه ووجه الصواب فيه أوترتيب أثر لأمر مع الجهل به وذيلها يعلل ذلك بسؤاله تعالى السمع والبصر والفؤاد، ولا ضير في كون العلة أعم مما عللتها فإن الأعضاء مسئولة حتى عما إذا أقدم الإنسان مع العلم بعدم جواز الإقدام قال تعالى:{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} الآية.

قال في المجمع، في معنى قوله:{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}: معناه لا تقل: سمعت ولم تسمع ولا رأيت ولم تر ولا علمت ولم تعلم عن ابن عباس وقتادة، وقيل: معناه لا تقل في قفا غيرك كلاما أي إذا مر بك فلا تغتبه عن الحسن، وقيل: هوشهادة الزور عن محمد بن الحنفية.

والأصل أنه عام في كل قول أو فعل أوعزم يكون على غير علم فكأنه سبحانه قال: لا تقل إلا ما تعلم أنه يجوز أن يقال، ولا تفعل إلا ما تعلم أنه يجوز أن يفعل ولا تعتقد إلا ما تعلم أنه مما يجوز أن يعتقد انتهى.

وفيه أن الذي ذكره أعم مما تفيده الآية فإنها تنهى عن اقتفاء ما لا علم به لا عن الاقتفاء إلا مع العلم والثاني أعم من الأول فإنه يشمل النهي عن الاقتفاء مع العلم بعدم الجواز لكن الأول إنما يشمل النهي عن الاقتفاء مع الجهل بوجه الاعتقاد أوالعمل: وأما ما نقله من الوجوه في أول كلامه فالأحرى بها أن يذكر في تفسير التعليل بعنوان الإشارة إلى بعض المصاديق دون المعلل.

قوله تعالى:{ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} المرح شدة الفرح بالباطل - كما قيل - ولعل التقييد بالباطل للدلالة على خروجه عن حد الاعتدال فإن الفرح الحق هو ما يكون ابتهاجا بنعمة من نعم الله شكرا له وهو لا يتعدى حد الاعتدال، وأما إذا فرح واشتد منه ذلك حتى خف عقله وظهر آثاره في أفعاله وأقواله وقيامه وقعوده وخاصة في مشيه فهو من الباطل.

وقوله:{ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} نهي عن استعظام الإنسان نفسه بأكثر مما هو عليه لمثل البطر والأشر والكبر والخيلاء، وإنما ذكر المشي في الأرض مرحا لظهور ذلك فيه.

وقوله:{ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} كناية عن أن فعالك هذا وأنت تريد به إظهار القدرة والقوة والعظمة إنما هو وهم تتوهمه فإن هناك ما هو أقوى منك لا يخترق بقدميك وهي الأرض وما هو أطول منك وهي الجبال فاعترف بذلك أنك وضيع مهين فلا شيء مما يبتغيه الإنسان ويتنافس فيه في هذه النشأة من ملك وعزة وسلطنة وقدرة وسؤدد ومال وغيرها إلا أمور وهمية لا حقيقة لها وراء الإدراك الإنساني سخر الله النفوس للتصديق بها والاعتماد في العمل عليها لتعمير النشأة وتمام الكلمة، ولولا هذه الأوهام لم يعش الإنسان في الدنيا ولا تمت كلمته تعالى:{ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}: البقرة: 36.

قوله تعالى:{ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} الإشارة بذلك إلى ما تقدم من الواجبات والمحرمات - كما قيل - والضمير في{سيئه} يرجع إلى ذلك، والمعنى كل ما تقدم كان سيئه – وهو ما نهي عنه وكان معصية من بين المذكورات - عند ربك مكروها لا يريده الله تعالى.

وفي غير القراءة المعروفة{سيئة} بفتح الهمزة والتاء في آخرها وهي على هذه القراءة خبر كان والمعنى واضح.

قوله تعالى:{ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} ذلك إشارة إلى ما تقدم من تفصيل التكاليف وفي الآية إطلاق الحكمة على الأحكام الفرعية ويمكن أن يكون لما تشتمل عليه من المصالح المستفادة إجمالا من سابق الكلام.

قوله تعالى:{ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} كرر سبحانه النهي عن الشرك وقد نهى عنه سابقا اعتناء بشأن التوحيد وتفخيما لأمره، وهو كالوصلة يتصل به لاحق الكلام بسابقه، ومعنى الآية ظاهر.

_______________

1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج13،ص66-79.

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

رعاية الإِعتدال في الإِنفاق والهبات:

مع هذه الآيات يبدأ الحديث عن فصل آخر مِن سلسلة الأحكام الإِسلامية الأساسية، التي لها علاقة بحقوق القربى والفقراء والمساكين، والإِنفاق بشكل عام ينبغي أن يكون بعيداً عن كل نوع مِن أنواع الإِسراف والتبذير، حيث تقول الآية { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}.

«تبذير» مِن «بذر» وهي تعني بذر البذور، إِلاّ أنّها هنا تخص الحالات التي يصرف فيها الإِنسان أمواله بشكل غير منطقي وفاسد. بتعبير آخر: إِنَّ التبذير هو هدر المال في غير موقعه ولو كانَ قليلا، بينما إِذا صُرِفَ في محلِّه فلا يعتبر تبذيراً ولو كان كثيراً. ففي تفسير العياشي، عن الإِمام الصادق(عليه السلام)، نقرأ قوله: «مَن أنفق شيئاً في غير طاعة اللّه فهو مُبذر ومَن أنفق في سبيل اللّه فهو مُقتصد»(2).

وينقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أيضاً أنّه دعا برطب (لضيوفه) فاقبل بعضهم يرمي بالنوى، فقال: «لا تفعل إِن هذا من التبذير، وإن اللّه لا يحب الفساد»(3).

وفي مكان آخر نقرأ، أنَّ رسول الهدى(صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بسعد وهو يتوضاً، فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «نعم وإن كُنت على نهر جار»(4).

وبالنسبة لذوي القربى هناك كلام كثير بين المفسّرين، هل هُم عموم القربى؟ أو المقصود بهم قُربى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره هو المخاطب بالآية؟

في الأحاديث الكثيرة التي سنقرؤها وفي الملاحظات التي سنقف عندها سنعرف بأنَّ ذوي القربى هم قربى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعض الرّوايات تشير إِلى أنَّ الآية تتحدث عن قصّة فدك التي أعطاها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بنتهُ فاطمة الزهراء(عليها السلام). ولكن مخاطبة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في كلمة «وآت» لا تعتبر دليلا على إِختصاص هذا الحكم به، لأنَّ جميع الأحكام الواردة في هذه المجموعة من الآيات كالنهي عن الإِسراف ومداراة السائل والمسكين، والنهي عن البخل، هي أحكام عامّة بالرغم مِن أنّها تخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

وهُناك نقطة ينبغي الإِلتفات إِليها; وهي مجيء النهي عن التبذير والإِسراف، بعد إِعطاء الأمر بأداء حق الأقرباء والمساكين حتى لا يقع الإِنسان تحت تأثير عاطفة القرابة أو الصداقة فيعطي لهذا المسكين أو ابن السبيل أو القريب أكثر ممّايستحق أو يتحمل، فيعتبر ذلك إِسرافاً وتبذيراً، وهما مذمومان دائماً.

الآية التي بعدها هي لتأكيد النهي عن التبذير { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}.

أمّا كيف كفر الشيطان بنعم ربِّه، فهذا واضح، لأنَّ اللّه أعطاه قدرةً وقوةً واستعداداً وذكاءاً خارقاً للعادة، ولكن الشيطان استفاد مِن هذه الأُمور في غير محلِّها، أي في طريق إِغواء الناس وإِبعادهم عن الصراط المستقيم.

أما كون المبذرين إِخوان الشياطين، فذلك لأنّهم كفروا بنعم اللّه، إذ وضعوها في غير مواضعها. ثمّ إِنَّ استخدام «إِخوان» تعني أنَّ أعمالهم مُتطابقة ومتناسقة مع أعمال الشيطان، كالأخوين اللذين تكون أعمالهما مُتشابهة، أو أنّهم قرناء وجلساء للشيطان في الجحيم، كما توضح ذلك الآية (39) مِن سورة الزخوف بعد أن تشرك الشيطان والمذنب في العذاب: { وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}.

أمّا لماذا جاءت كلمة شيطان هنا بصيغة الجمع «شياطين»؟ قد يعود ذلك إِلى أنّ لكل إِنسان غافل عن خالقه وربّه، شيطانٌ قرينٌ له، كما نرى هذا المعنى واضحاً في الآية (36) و (38) مِن الزخرف: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ.. حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ }.

ثمّ أنّ الإِنسان قد لا يملك ما يعطيه للمسكين أحياناً، وفي هذه الحالة ترسم الآية الكريمة طريقة التصرُّف بالنحو الآتي: { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}.

«ميسور» مُشتقّة مِن «يسر» وهي بمعنى الراحة والسهولة، أمّا هنا فلها مفهوم واسع، يشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالإِحترام والمحبّة، وإِذا فسَّرها البعض بمعنى الوعد للمستقبل فإِنَّ ذلك أحد مصاديقها.

نقرأ في الرّوايات، أنَّه بعد نزول هذه الآية، كانَ إِذا جاء شخص محتاج إِلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، والرّسول لا يملك شيئاً لإِعطائه، قال له(صلى الله عليه وآله وسلم): «يرزقنا اللّه وإِيّاكم مِن فضله»(5).

وقديماً عندما كانَ السائل يطرق الباب، ويطلب مِنّا شيئاً لا نستطيع إعطاءه إِيّاه، نقول له «العفو» وذلك تأكيداً على أنَّ لهذا السائل حق علينا يُطالِبنا به، وإِذا كُنّا لا نملك قضاء حاجته وإِعطاءه حقّه، فإِننا نطلب منه العفو.

الإِعتدال هو شرط في كل الأُمور بما فيها الإِنفاق ومساعدة الآخرين، لذلك تنتقل الآية للقول: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}. وهذا تعبير جميل يفيد أنَّ الإِنسان ينبغي أن يكون ذا يد مفتوحة، لا أن يكون مثل البخلاء وكأنّ أيديهم مغلولة إِلى أعناقهم بُخلا وخشية من الإِنفاق. ولكن في نفس الوقت تقرِّر الآية أنّ بسط اليد لا ينبغي أن يتجاوز الحد المقرر والمعقول في الصرف والبذل والعطاء، حتى لا ينتهي المصير إِلى الملامة والإِبتعاد عن الناس: { وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}.

و«تقعد» مُشتقّة مِن «قعود» وهي كناية عن التوقف عن العمل. أمّا تعبير «ملوم» فهو يشير إِلى أنَّ عاقبة الإِسراف لا تؤدي إلى توقف الإِنسان عن عمله ونشاطه وحسب، وإِنّما تؤدي إِلى إِيقاع لوم الناس عليه.

«محسور» مُشتقّة مِن كلمة «حسر» وهي في الأصل تعني خلع الملابس رفع الثوب وإِظهار بعض البدن من تحته، لذا يقال للمقابل الذي لم يلبس الخوذة والدرع، بأنه «حاسر». وأيضاً يقال للحيوان الذي يتعب مِن كثرة المشي بأنَّه «حسير» أو «حاسر» بسبب استنفاذ طاقته وقدرته.

وقد توسع هذا المفهوم فيما بعد بحيث أصبح يُطلق على كل إِنسان عاجز عن الوصول إِلى هدفه بأنَّهُ «حسير» أو «محسور» أو «حاسر».

أمّا كلمة «الحسرة» والتي تعني الغم والحزن، فهي مُشتقة مِن هذه الكلمة، وتطلق على الإِنسان الفاقد لقابلية حل المشاكل بسبب الضعف.

وكذلك بالنسبة للإِنفاق، فهو إِذا تجاوز الحد المقرَّر بحيث يستنفذ طاقة الإِنسان، فإِنَّهُ يؤدي إِلى أن يُصاب صاحبه بالغم والحزن بسبب الضعف عن أداء واجباته ومسؤولياته، وينقطع اتصاله وارتباطه بالناس.

وبعض الرّوايات التي تتحدث عن سبب نزول الآية تؤكّد هذا المعنى، إِذ أنّها تتحدث أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كانَ يوماً في بيته فجاءه سائل يسأله إِعطاءه ملابس، ولمّا لم يكن مع الرّسول ما يُعطي السائل، فقد خلع لباسه وأعطاهُ إِيّاه، الأمر الذي أدّى إِلى بقاء الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في البيت وعدم خروجه في ذلك الوقت للصلاة.

وقد كانَ هذا الحادث سبباً لِتقولات الكفار المنافقين، الذين قالوا: إِنَّ الرّسول نائم، أو إِنَّهُ في لهو أنساهُ صلاته. وبذلك أدّى هذا العمل إِلى إِيقاع اللوم شماتة الأعداء والإِنقطاع عن الأصحاب، وأصبح بذلك مصداقاً للملوم والمحسور، عندها نزلت الآية أعلاه تنهي الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عن تكرار هذا العمل.

أمّا عن التضاد القائم بين هذا الأمر ومسألة «الإِيثار» فسنبحثهُ في الملاحظات القادمة إِن شاء اللّه.

بعض الرّوايات تتحدث عن أنّ سبب نزول الآية، هو أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعطي ما يوجد في بيت المال إِلى المحتاج بحيث إِذا جاءه محتاج آخر، فلن يجد شيئاً يعطيه له، فيلوم ذلك المحتاج الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويؤذيه، لذلك صدرت التعليمات بأن لا ينفقّ كل ما في بيت المال لمواجهة هذه المشكلات.

سؤال: لماذا يجب أن يكون هناك مساكين وفقراء ومحرومون حتى ننفق عليهم؟ أليس من الافضل أن يعطيهم اللّه ما يريدون حتى لا يحتاجون إِلى إِنفاقنا؟

الجواب: تعتبر الآية الأخيرة بمثابة جواب على هذا السؤال: {إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إِنَّه كان بعباده خبيراً بصيراً}. إِنَّهُ اختبارٌ لنا، فالله قادر على كل شيء، ولكنَّهُ يريد بهذا الطريق تربيتنا على روح السخاء والتضحية والعطاء. إِضافة إِلى ذلك، إِذا أصبح أكثر الناس في حالة الكفاية وعدم الحاجة فإِنَّ ذلك يقود إِلى الطغيان والتمرد { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، لذلك مِن المفيد أن يبقوا في حد معين مِن الحاجة. هذا الحد لا يسبب الفقر ولا الطغيان. مِن ناحية أُخرى يرتبط التقدير والبسط في رزق الإِنسان بمقدار السعي وبذل الجهد (باستثناء بعض الموارد من قبيل العجزة والمعلولين)، وهكذا تقتضي المشيئة الإِلهية ببسط الرزق وتقديره لمن يشاءَ، وهذا دليل الحكمة، إِذ تقضي الحكمة بزيادة رزق مَن يسعى ويبذل الجهد، بينما تقضي بتضييقه لمن هو أقل جهداً وسعياً.

العلاّمة الطباطبائي ينظر للعلاقة بين هذه الآية والتي قبلها في ضوء احتمال آخر فيقول في تفسير الميزان: «إِنَّ هذا دأب ربّك وسنته الجارية، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء، فلا يبسطه كل البسط، ولا يمسك عنهُ كل الإِمساك رعاية لمصلحة العباد،{ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أو ينبغي لك أن تتخلق بخلق اللّه وتتخذ طريق الإِعتدال وتتجنب الإِفراط والتفريط»(6).

ستةُ أحكام مهمّة:

في متابعة للأحكام الإِسلامية التي أثارتها الآيات السابقة، تتحدَّث هذه الآيات عن ستةِ أحكام إِسلامية أُخرى وردت في ست آيات، بعبارات قصيرة ومعان كبيرة، تأخذُ بلباب القلوب.

أوّلاً: تشير الآية إِلى عمل قبيح وجاهلي هو مِن أعظم الذنوب، فتنهى عنهُ: { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} فرزق هؤلاء ليس عليكم { نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} أمّا علّة الحكم فهي: { إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}.

هذه الآية تفيد أنَّ الوضع الإِقتصادي للعرب في الجاهلية كان صعباً وسيئاً.

بحيث أنّهم كانوا يقتلون أبناءهم في بعض الأحيان خوف العيلة والفقر. وهناك كلام بين المفسّرين فيما إِذا كانَ العرب في الجاهلية يدفنون البنات أحياء وحسب، أو أنّهم كانوا يقتلون الأبناء أيضاً خوفاً مِن الفقر!

البعض يعتقد أنَّ الآيات تتحدث عن دفن البنت وهي حيَّة، هذا العمل الذي كان شائعاً في الجاهلية لسببين:

الأوّل: يتمثل في الخوف مِن وقوعهن في الأسر أثناء الحروب، الأمر الذي يجعل الأعراض والنواميس تحت رحمة العدو.

أمّا الثّاني: فيعود إِلى خوفهم مِن الفقر وعدم تمكنهم مِن توفير المؤونة للبنات اللاتي لا يقمن بعمل إِنتاجي، ويقتصر دورهن على الإِستهلاك فقط. صحيح أنَّ الولد في مطلع حياته لا ينتج، لكنّه في عرف عرب الجاهلية يعتبر رأسمالا ثميناً، لا يمكن التفريط به.

البعض الآخر من المفسّرين يعتقد أن هناك نوعين مِن القتل، النوع الأوّل يشمل البنات، لحفظ الناموس حسب اعتقادهم الخاطيء. أمّا النوع الثّاني فسببهُ الفقر. وهو يشمل البنات والبنين معاً.

ظاهر الآية يدل على هذا المعنى، لوجود ضمير الجمع المذكر في الآية في «قتلهم» وهذا الضمير يطلق في اللغة العربية على الولد والبنت معاً، وبالتالي فإِنَّه يستبعد اختصاصه بالبنات وحدهن.

أمّا ما يقال مِن أنَّ الولد قادر على الإِنتاج، ويعتبر وجوده رأسمالا للمستقبل، فهذا صحيح في حال وجود القدرة المالية، أمّا في حالة عدم القدرة على تأمين حياة هؤلاء الأولاد فالراي الثّاني هو الاصح لهذا الدليل.

المهم أنَّ هذا التصرف الجاهلي يرتبط بعقيدة وهمية تقول: إِنَّ الأب والأُم هما الرازقان، بينما اللّه سبحانهُ وتعالى يقول: اطردوا هذا التفكير الشيطاني مِن أذهانكم وابذلوا سعيكم ووسعكم واللّه يؤمن رزقكم ورزقهم.

وفي الوقت الذي نستغرب فيه ارتكاب الجاهليين لهذه الجرائم بحق النوع البشري، فإِنَّ عصرنا الحاضر ـ وفي أكثر مُجتمعاته رُقياً وتقدماً ـ يعيد تكرار هذه الجريمة ولكن بأسلوب آخر، إِذ أنَّ العمليات الواسعة في إِسقاط الجنين وقتله خوفاً مِن الضائقة المالية وازدياد عدد السكان، هي نموذج آخر للقتل، (للمزيد راجع تفسير الآية (151) مِن سورة الإِنعام).

إِنَّ تعبير «خشية إِملاق» إِشارة لطيفة إِلى الدافع الوهمي الشيطاني ورفضه، حيثُ يُفيد التعبير أنَّ الوهم ومجرّد الخوف هو الذي يتحكم بهذا السلوك المحرَّم. لا الدوافع الحقيقية.

كما يجب الإِنتباه إِلى أنَّ «كان» في (كان خطأً كبيراً) هي فعل ماض، يُفيد هنا التأكيد على أنَّ قتل الأبناء يعتبر مِن الذنوب العظيمة التي كانت معروفة، منذ القدم بين البشر، وأنَّ الفطرة الإِنسانية السليمة تحمل دوافع الرفض وإِلادانة لِمثل هذا السلوك الذي لا يختص بزمان معين دون غيره.

ثانياً: الآية التي بعدها تشير إِلى ذنب عظيم آخر هو الزنا { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} وفي هذا التعبير القرآني تمت الإِشارة إِلى ثلاث نقاط:

ألف ـ لم تقل الآية: لا تزنوا، بل قالت: لا تقربوا هذا العمل الشائن، وهذا الأُسلوب في النهي فضلا عمّا يحملهُ مِن تأكيد، فإِنَّهُ يوضح أنَّ هناك مقدمات تجر إِلى الزنا ينبغي تجنبها وعدم مقاربتها، فخيانة العين تعتبر واحدة مِن المقدمات، والسفور والتعري مقدمة أُخرى، الكتب السيئة والأفلام الملوّثة والمجلات الفاسدة ومراكز الفساد كل واحدة مِنها تعتبر مقدمة لِهذا العمل.

كذلك فإِنَّ الخلوة بالأجنبية (يعني خلوة المرأة والرجل الأجنبي عليها في مكان واحد ولوحدهما) يعتبر عاملا في إِثارة الشهوة.

وأخيراً فإِنَّ امتناع الشباب عن الزواج خاصة مع ملاحظة الصعوبات الموضوعة أمام الطرفين، هي مِن العوامل التي قد تؤدي إِلى الزنا. والآية نهت عن كل ذلك بشكل بليغ مُختصر، ولكنّا نرى في الأحاديث والرّوايات نهياً مُفصلا عن كل واحدة مِن هذه المقدمات.

ب ـ إِنَّ جملة (إِنَّه كان فاحشة) بتأكيداتها الثلاثة المستفادة مِن «إِن» والفعل الماضي «كان» وكلمة «فاحشة» تكشف عن فظاعة هذا الذنب.

ج ـ إِنَّ جملة (ساء سبيلا) توضح حقيقة أنَّ هذا العمل «الزنا» يؤدي إِلى مفاسد أُخرى في المجتمع.

فلسفة تحريم الزنا:

يمكن الإِشارة إِلى خمسة عوامل في فلسفة تحريم الزنا، وهي:

1 ـ شياع حالة الفوضى في النظام العائلي، وانقطاع العلاقة بين الأبناء والآباء، هذه الرابطة التي تختص بكونها سبباً للتعارف الإِجتماعي، بل إنّها تكون سبباً لصيانة الأبناء، ووضع أُسس المحبّة الدائمة في مراحل العمر المختلفة، والتي هي ضمانة الحفاظ على الأبناء.

إِنَّ العلاقات الإِجتماعية القائمة فى أساس العلاقات العائلية ستتعرض للانهيار والتصدّع إِذا شاع وجود الابناء غير الشرعيين «أبناء الزنا»، وللمرء أن يتصّور مصير الأبناء فيما إِذا كانوا ثمرّة للزنا، ومقدار العناء الذي يتحملونه في حياتهم مِن لحظة الولادة وحتى الكبر.

وعلاوة على ذلك، فإِنّهم سيحرمون من الحبّ الأُسري الذي يعتبر عاملا في الحدّ الجريمة من في المجتمع الإِسلامي، وحينئذ يتحول المجمتع الإِنساني بالزنا إِلى مجتمع حيواني تغزوه الجريمة والقساوة من كل جانب.

2 ـ إِنَّ إِشاعة الزنا في جماعة ما، ستقود إلى سلسلة واسعة مِن الإِنحرافات أساسها التصرفات الفردية والإِجتماعية المنحرفة لذوي الشهوات الجامحة. وما ذكر في هذا الصدد من القصص عن الجرائم والإِنحرافات المنبعثة عن مراكز الفحشاء والزنا في المجتمعات يوضح هذه الحقيقة، وهي أنّ الانحرافات الجنسية تقترن عادة بأبشع الوان الجرائم والجنايات.

3 ـ لقد أثبت العلم ودلَّت التجارب على أنَّ إِشاعة الزنا سبب لكثير مِن الأمراض والمآسي الصحية وكل المعطيات تشير إِلى فشل مُكافحة هذه الأمراض مِن دون مُكافحة الزنا أصلا. (يمكن أن تلاحظ موجات مرض الإِيدز في المجتمعات المعاصرة، ونتائجها الصحية والنفسية المدمِّرة).

4 ـ إِنَّ شياع الزنا غالباً ما يؤدي إِلى محاولة إِسقاط الجنين وقطع النسل، لأنَّ مِثل هؤلاء النساء «الزانيات» لا يرضين بتربية الأطفال، وعادة ما يكون الطفل عائقاً كبيراً أمام الإِنطلاق في ممارسة هذه الأعمال المنحرفة، لذلك فهن يُحاولن إِسقاط الجنين وقطع النسل.

أمّا النظرية التي تقول، بأنَّ الدولة يمكنها ـ من خلال مؤسسات خاصّة ـ جمع الأولاد غير الشرعيين وتربيتهم والعناية بهم، فإِنَّ التجارب أثبتت فشل هذه المؤسسات في تأدية أهدافها، إِذ هناك صعوبات التربية، وهناك النظرة الإِجتماعية لهؤلاء، ثمّ هناك ضغوطات العزلة والوحدة وفقدان محبّة الوالدين وعطفهما، كل هذه العوامل تؤدي إِلى تحويل هذه الطبقة مِن الأولاد الى قساة وجناة وفاقدي الشخصية.

5 ـ يجب أن لا ننسى أنَّ هدف الزواج ليس إِشباع الغريزة الجنسية وحسب، بل المشاركة في تأسيس الحياة على أساس تحقيق الإِستقرار الفكري والأنس الروحي للزوجين. وأمّا تربية الأبناء والتعامل مع قضايا الحياة، فهي آثار طبيعية للزواج، وكل هذه الأُمور لا يمكن لها أن تثمر مِن دون أن تختص المرأة بالرجل وقطع دابر الزنا وأشكال المشاعية الجنسية.

في حديث عن الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) يقول: سمعت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: «في الزنا ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأمّا اللاتي في الدنيا، فيذهب بنور الوجه، ويقطع الرزق، ويسرع الفناء. وأمّا اللّواتي في الآخرة، فغضب الرب، وسوء الحساب، والدخول في النّار، أو الخلود في النّار»(7).

ثالثاً: الحكم الآخر الذي تشير إِليه الآية التي بعدها، هو احترام دماء البشر، وتحريم قتل النفس حيث تقول: { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}.

إِنَّ احترام دماء البشر وحرمة قتل النفس تعتبر من المسائل المتفق عليها في كل الشرائع السماوية وقوانين البشر، فقتل النفس المحترمة لدى الجميع مِن الذنوب الكبيرة، إِلاَّ أنَّ الإِسلام أعطى أهمية إِستثنائية لهذه المسألة بحيث اعتبر مَن يقتل إِنساناً فكأنّما قتل الناس جميعاً، كما في الآية (32) مِن سورة المائدة { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}. بل نستفيد مِن بعض الآيات القرآنية أنَّ جزاء قتل النفس بغير حق هو الخلود في النّار، وأنَّ هؤلاء الذين يتورطون في دم الأبرياء يخرجون عن ربقة الإِيمان، ولا يمكن أن يخرجوا مِن هذه الدنيا مؤمنين: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}(النساء،93). وحتى في الإِسلام فإِنَّ الذين يشهرون السلاح بوجه الناس ينطبق عليهم عنوان «محارب» وهذا الصنف لهُ عقوبات شديدة مُفصّلة في المصنفات الفقهية، وقد أشرنا إِلى بعضها أثناء الحديث عن الآية (33) من سورة المائدة.

إِنَّ الإِسلام يُحاسب على أقل أذى ممكن أن يلحقهُ الإِنسان بالآخرين، فكيف بقضية القتل وإِراقة الدماء؟! وهنا نستطيع أن نقول ـ باطمئنان ـ : إِننا لا نرى أيَّ شريعة غير الإِسلام أعطت هذه الحرمة الإِستثنائية لدم الإِنسان، بالطبع هناك حالات ينتفي معها احترام دم الإِنسان، كما لو قام بالقتل أو ما يوجب إِنزال العقوبة به، لذلك فإِنَّ الآية بعد أن تُثبت حرمة الدم كأصل، تشير للإِستثناء بالقول: (إِلا بالحق).

وفي حديث معروف عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ: «لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إِله إِلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه إِلاّ بإِحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المُحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة»(8).

أمّا القاتل فتكون نهايتهُ معلومة بالقصاص، الذي يُؤمّن استمرار الحياة واستقرارها، وإِذا لم يعط الحق لأولياء دم المقتول بالقصاص مِن القاتل، فإِنَّ القتلة سيتجرؤون على المزيد من القتل والإِخلال بالأمن الإِجتماعي.

أمّا الزاني المحصن، فإنّ قتله في قبال واحد من أعظم الذنون قباحة، وهو يساوى سفك الدم الحرام في المرتبة.

أمَّا قتل المرتد فيمنع الفوضى والإِخلال في المجتمع الإِسلامي، وهذا الحكم ـ كما أشرنا سابقاً ـ هو حكم سياسي، لأجل حفظ النظام الإِجتماعي في قبال الأخطار التي تهدِّد كيان النظام الإِسلامي ووحدة أمنه الإِجتماعي، والإِسلام ـ عادةً ـ لا يفرض على أحد قبول الإِنتماء إِليه، ولكن إِذا اقتنع أحد بالإِسلام واعتنقهُ، وأصبح جزاءاً من المجتمع الإِسلامي، واطلع على أسرار المسلمين، ثمّ أراد بعد ذلك الإِرتداد عن الإِسلام ممّا يؤدي عملا الى تضعيف وضرب قواعد المجتمع الإِسلامي، فإِن حكمه سيكون القتل(9) بالشرائط المذكورة في الكتب الفقهية.

إِنَّ حرمة دم الإِنسان في الإِسلام لا تختص بالمسلمين وحسب، بل تشمل غير المسلمين أيضاً مِن غير المحاربين، والذين يعيشون مع المسلمين عيشة مُسالمة، فإِنَّ دماءهم ـ أيضاً ـ وأعراضهم وأرواحهم مصونة ويحرم التجاوز عليها.

تشير الآية بعد ذلك إلى إثبات حق القصاص بالمثل لولي القتيل فتقول: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}. ولكن في نفس الوقت ينبغي لولي المقتول أن يلتزم حد الإِعتدال ولا يسرف { فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}إِذ ما دام ولي الدم يتحرك في الحدود الشرعية فإنّه سيكون مورداً لنصرة اللّه تعالى.

والنهي عن الإِسراف تشير إلى واقع كان سائداً في الجاهلية، واليوم أيضاً يُمكن مُشاهدة نماذج لها، فحين يُقتل فرد مِن قبيلة معينة، فإِنّها تقوم بهدر الكثير مِن الدماء البريئة من قبيلة القاتل.

أو أن يقوم أولياء الدم بقتل أناس أبرياء أو الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. كأن يكون المقتول شخصاً معروفاً وذا منزلة إِجتماعية، فإِنَّ أهله وفق الأعراف الجاهلية، سوف لن يكتفوا بحدّ القصاص الشرعي، بل يقتلون فرداً معروفاً ومكافئاً في منزلته الإِجتماعية للمقتول من قبيلة القاتل حتى وإِن لم يكن له أي دور في عملية القتل.(10)

وعصرنا الحاضر، شهد مِن التجاوز في الإِسراف وهدر دِماء الأبرياء ما غسل معه عار أهل الجاهلية، فهذه إِسرائيل اليوم تقوم بحجة قتل أحد جنودها بإِلقاء القنابل والصواريخ على رؤوس النساء والأطفال الفلسطنيين الأبرياء، وتعمد إِلى هدم ديارهم.

كذلك شهدت سنوات الحرب الظالمة التي شنّها النظام البعثي على الجمهورية الإِسلامية أسواء أنواع العدوان على دماء الأبرياء والإِسراف في القتل.

إِنَّ رعاية العدالة ـ حتى في عقاب القاتل ـ تعتبر مهمّة إِسلامياً، لذلك نقرأ في وصية الإِمام علي(عليه السلام)، بعد أن اغتاله عبدالرحمن بن ملجم المرادي قوله: «يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إِلاّ قاتلي، انظروا إِذا أنا مت مِن ضربته هذه، فاضربوه، ضربة بضربة، ولا تمثلوا بالرجل»(11).

رابعاً: الآية التي بعدها تشير الى حفظ مال اليتيم، والملاحظ أنَّ الآية استخدمت نفس أُسلوب الآية التي سبقتها، فلم تقل: لا تأكلوا مال اليتيم وحسب، وإِنّما قالت: { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}.

وفي هذا التعبير تأكيد على حرمة مال اليتيم. ولكن قد تكون هذه الآية حجة لبعض الجهلاء الذين سيتركون مال اليتامي يُهدر ويكون عرضة للحوادث بدون أن يكون عليه قيّم، لذلك استثنت بقوله: { إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وبناء على هذا الإِستثناء يمكن التصرف بأموال اليتامى بشرط حفظ هذه الأموال، وتنميتها وتكثيرها. وهذا الوضع يستمر الى أن يبلغ اليتيم سنّ الرشد ويستطيع فكرياً واقتصادياً أن يكون قيماً على نفسه وأمواله { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}.

«أشدّ» مأخوذة مِن «شدّ» على وزن «جدّ» وهي بمعنى «العقدة المحكمة» ثمّ توسع المعنى فيما بعد ليشمل أي نوع مِن القوة الروحية والجسمية. والمقصود من كلمة «أشد» في الآية هو الوصول إلى مرحلة البلوغ. ولكن ليس البلوغ الجسمي وحسب، وإِنّما الرشد الفكري والقدرة الإِقتصادية التي تؤهل اليتيم لأن يحفظ أمواله. اختيار كلمة «أشد» في الآية هو لتحقيق كل هذه المعاني مجتمعة، والتي يمكن اختيارها بالتجربة.

الأيتام ظاهرة طبيعية في أي مجتمع، ووجودهم يكون تبعاً لحوادث مختلفة يمر بها المجتمع، والدوافع الإِنسانية تفرض رعاية هؤلاء اليتامى من قبل الخيّرين والمحسنين في المجتمع، والإِسلام يحث على رعاية الأيتام، وقد تحدثنا عن هذا الأمر مُفصلا في الآية (12) مِن سورة النساء.

والشيء الذي نريد أن نضيفهُ هنا هو أن بعض الرّوايات والأحاديث الإِسلامية وسّعت في مفهوم اليتيم ليشمل الأفراد الذين انقطعوا عن إِمامهم وقائدهم، ولا يصل صوت الحق إِليهم. وهذا المعنى نوع مِن التوسع في المفهوم واستفادة معنوية مِن حكم مادي.

خامساً: تشير الآية بعد ذلك إِلى الوفاء بالعهد فتقول: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}. إِنَّ الكثير مِن العلاقات الإِجتماعية وخطوط النظام الإِقتصادي والمسائل السياسية قائمة على محور العهود، بحيث إِذا ضعف هذا المحور وانهارت الثقة بين الناس، فسينهار النظام الإِجتماعي وستحل الفوضى، ولهذا السبب تؤكّد الآيات القرآنية ـ بقوّة ـ على قضية الوفاء بالعهود.

«العهد» لهُ معان واسعة، فهو يشمل العهود والمواثيق الخاصة بين الأفراد في القضايا الإِقتصادية والمعاشية، وفي العمل والزواج، وهو يشمل أيضاً المواثيق والمعاهدات بين الحكومات والشعوب، وفوق ذلك فإِنَّ العهد يشير الى ميثاق الأُمم مع اللّه ورسوله وكتبه، وكذلك العكس، أي التزام هؤلاء بالعهد أمام الناس(12).

سادساً: آخر حكم من الأحكام الستة، يتصل بالعدل في الوزن والكيل ورعاية حقوق الناس في ذلك ومحاربة التطفيف في الميزان حيثُ تقول الآية الكريمة: { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.

الإنقياد للعلم:

في الآيات السابقة وقفنا على مجمعوعة من الاصول والأ حكام الإسلامية التي بدأت بالتوحيد بوصفه أساسا هذه التعاليم ، وأنتهت بالأحكام التي تشمل الحياة الفردية والإجتماعية للإنسان.

وفي الآيات التي نبحثها الآن نلتقي مع آخر مجموعة من سلسلة هذه الأحكام حيث تشير الآيات أعلاه إلى عدة أحكام مهمة:

أولاً:الالتزام والدقة في العمل:

في البداية ينبغي للإنسان المسلم أن يلتزم الدقة في كل الأمور و يجعل العلم رائده‌ ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‌ في شؤونك الشخصية وفي القضاوة بين الناس، وفي إعطاء الشهادة، وحتى في الأعمال الشخصية ليكن رائدك الدائم هو العلم دون غيره.

وعلى هذا الأساس يكون مورد الآية شاملا لمعان واسعة، ولا دليل على ما يذهب إليه بعض المفسّرين من تقييد المعنى ببعض ما ورد أعلاه من الموارد والذي يؤيد ذلك أن‌ لا تَقْفُ‌ مأخوذة من «قفو» على وزن «عفو» وهي تعني متابعة شي‌ء ما، ومن المعلوم أنّ الأمور التي نتابعها هي أمور لا تقف عند حد، لذلك فإنّ النهي الوارد في الآية يشملها جميعا.

بناء على ذلك، يتّضح أنّ (العلم واليقين) هما أساس المعرفة في كلّ شي‌ء، وأن لا شي‌ء من «الظن» أو «التخمين» أو «الشك» يسد مسد العلم واليقين، ومن يعتمد على ما دون العلم فإنّه بذلك يخالف القانون الإسلامي الصريح.

وبعبارة أخرى: لا الشائعة يمكن أن تكون مقياسا للقضاء والشهادة والعمل، ولا القرائن الظنية، ولا الأخبار غير القطعية المشكوك في مصادرها. وفي النهاية تعلّل الآية عدم اتباع ما دون العمل، فتقول: {إِنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا}.

والسّؤال الذي تواجه به الأعضاء المذكورة يعود إلى مسئولياتها عن الأعمال، إذ السمع مسئول عن الكلام المشكوك غير الموثق، والبصر عن موارد ادعاء الإنسان للمشاهدة والرؤية مع أنّه لم يشاهد أو يرى، والفؤاد يسأل عن الأفكار الخاطئة التي تدخل في الأحكام الخاطئة. وإذا كان بعض المفسّرين يرى أنّ المسؤولية التي تتحدث عنها الآية تقع على عاتق صاحبها لا عليها- أي الأعضاء- بالذات، إلّا أنّ هناك الكثير من الآيات تصرّح بأنّ الأعضاء نفسها تسأل يوم القيامة (مثل الآية 21 من سورة فصّلت) وتجيب عمّا اقترفت. لذلك لا معنى لتوجيه المسؤولية في الآية من الأعضاء المذكورة إلى صاحبها.

أمّا لما ذا أشارت الآية- من بين كل حواس الإنسان- إلى السمع والبصر بالذات؟ فسبب ذلك واضح، إذ أنّ معظم المعلومات الحسية للإنسان يكون مصدرها السمع والبصر.

درس في استقرار النظام الاجتماعي:

الآية المذكورة آنفا تشير إلى أحد المبادي والأصول المهمّة في الحياة الاجتماعية الذي لو طبّق في المجتمع البشري بشكل دقيق لأمكن اجتثاث جذور الفساد من الشايعات والأحكام القضائية المتسرعة والظنون العائمة والأكاذيب وأمثال ذلك، وفي غير هذه الصورة فإنّ حالة من الفوضى ستضرب العلاقات الاجتماعية، إذ سوف لا يبقى أي شخص بمنأى عن الشك والريبة، وبمأمن عن سوء الظن وستنعدم الثقة بين الأفراد. وتكون مكانة الفرد في المجتمع في خطر دائم.

لذلك نرى الآيات والأحاديث الإسلامية تؤكّد بكثرة على هذه الفكرة، وبين يدينا الآن ما يلي:

* الآية (36) من سورة يونس تنتقد بشدة الأفراد الذين يتبعون الظن ويجعلونه مقاسا لقناعاتهم‌ وما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا، إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.

* أمّا الآية (23) من النجم، فإنها اعتبرت الظن في مرتبة إتباع هوى النفس‌ {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وما تَهْوَى الْأَنْفُسُ}‌.

* وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السّلام نقرأ: «إنّ من حقيقة الإيمان أن لا يجوز منطقك علمك» (13).

* وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام نقل عن آبائه عليهم السّلام، قوله: «ليس لك أن تتكلم بما شئت، لأنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‌ (14).

* وعن الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «إيّاكم والظن فإنّ الظن أكذب الكذب» (15).

* وفي من لا يحضره الفقيه: «قال رجل للصادق عليه السّلام: إنّ لي جيرانا ولهم جوار يتغنين ويضربن بالعود، فربما دخلت المخرج فأطيل الجلوس استماعا منّي لهن؟

قال له الصادق عليه السّلام: «تاللّه أنت! أما سمعت اللّه يقول: {إِنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا} فقال الرجل: كأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب اللّه عزّ وجلّ من عربي ولا عجمي، ولا جرم أني قد تركتها وأنا أستغفر اللّه تعالى» (16).

وفي بعض المصادر الحديثية نقرأ أنّ الإمام الصادق عليه السّلام أمر الرجل أن ينهض ويغسل غسل التوبة، وأن يصلّي ما استطاع، لأنّه قد ارتكب عملا سيئا لو قبض عليه لكانت مسئولية عظيمة! من خلال مجموع هذه الآيات والرّوايات تتّضح مدى المسؤولية التي تقع على العين والأذن، وكيف أنّ الإسلام ينهى عن أن يقول الإنسان ما لم يسمع، أو ما لا يقوم على العلم، أو يتحدث عن أشياء لم يرها، إذا العلم وحده هو الميزان دون إتباع الظن والوهم والحدس أو الاعتماد على الشك والإشاعة، لأنّ سبيل الاعتماد على هذه المصادر يؤدي إلى آثار خطرة على حياة الفرد والمجتمع، هذه الآثار يمكن أن نلخصها كما يلي:

1- إنّ اعتماد ما هو دون العلم، يؤدي إلى هضم حقوق الأفراد وإعطاء الحق‌ لغير صاحبه.

2- الاعتماد على الظن وما شابهه يؤدي إلى تعريض كرامة الإنسان المؤمن للخطر، ويقلّل أيضا من حماس واندفاع المخلصين.

3- اعتماد ما هو دون العلم، يؤدي إلى انتشار الشائعات.

4- اعتماد الظن وغيره يقضى على ملاكات الدقة والبحث والتحقيق عند الإنسان ويجعله ساذجا سريع التصديق.

5- إنّ الاعتماد على غير العلم ينقض العلائق الودية الحميمة القائمة بين الناس في البيت والسوق ومحل العمل، ويجعل بعضهم يسي‌ء الظن بالبعض الآخر.

6- اعتماد غير العلم يفسد في الإنسان قابلية الاستقلال الفكري ويجعله عرضة للأفكار الفاسدة.

7- إنّ اعتماد غير العالم يكون قاعدة للتعجّل في انتخاب الأشياء والحكم على الأشخاص ممّا يسبّب الندامة والفشل فيما بعد.

الأوهام وسبل مكافحتها

السؤال الذي يرد هنا، هو كيف نصون أنفسنا ومجتمعنا من الانجرار إلى هذه العادة الخاطئة (إتباع الظن) ذات العواقب الوخيمة؟

والجواب على السؤال يحتاج إلى بحث طويل، ولكنّا لانعدم ثلاث إشارات سريعة هي:

أ- يجب أن ننبّه الناس إلى العواقب الخطيرة لاتباع الظن دون العلم، ونحذّرهم من مغبة النتائج الوخيمة لذلك.

ب- يجب تكريس طريقة التفكير الإسلامي، وجعلها حيّة في حياة الإنسان، هذه الطريقة التي يؤكّد على أنّ الإنسان مراقب دوما من قبل اللّه تعالى، إذ هو سميع وبصير، وخبير بالنوايا والبواطن، إذا جاء في الآية (19) من غافر قوله‌ تعالى:{يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وما تُخْفِي الصُّدُورُ}.

ج- ينبغي ترشيد المستوى الفكري والثقافي في حياة الإنسان المسلم لأنّ إتباع غير العلم هو سمة يختص بها الجهلاء الذين ما إن يستمعوا إلى إشاعة معينة حتى يصدّقوا بها، ويجعلوا منها قاعدة للحكم على القضايا ومقياسا لآرائهم.

ثانيا: الكبر والغرور:

الآية التي بعدها تدعو إلى محاربة الكبر والغرور، وبتعبير واضح ولطيف تنهي المؤمنين عن هاتين الصفتين حيث تخاطب النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالقول: ولا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً (17). لما ذا؟ {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ ولَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا}. وهذه إشارة إلى سلوك المتكبرين والمغرورين الذي يضربون الأرض بعنف أثناء مشيهم لكي يلتفت الناس إليهم، ويرفعون رؤوسهم في السماء علامة على أفضليتهم المزعومة بين الناس، لهؤلاء تقول الآية: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ ولَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا}. إذ مثل هؤلاء كالنملة التي تمشي على صخرة كبيرة وتضرب برجلها عليها، إلّا أن الصخرة تسخر من حماقتها. ثمّ أنت أيّها المتكبر هل تستطيع- مهما رفعت رأسك في السماء- أن تكون مثل الجبال علوا، إنّك مهما تفعل لا ترتفع سوى سنتيمترات قليلة، وحتى هذه الجبال لن تكون شيئا إزاء الكرة الأرضية، والكرة الأرضية تعتبر ذرّة سابحة في عالم الوجود! إذن فما هذا الكبر والغرور الموجود عندك أيّها الإنسان؟! الظريف في الأمر، أنّ القرآن لم يبحث مباشرة هذه الصفات الداخلية الخطرة في تركيب الإنسان ووجوده (أي التكبر والغرور) وإنّما أشار إليها من خلال آثارها والظواهر السلوكية التي تنتج عنها، حيث تحدّث القرآن عن مشية المتكبر والمغرور، وهذه إشارة إلى أنّ التكبر والغرور، حتى في أهون الصور وأقل الحالات، يعتبر مذموما مخجلا مهما كانت آثاره جزئية وصغيرة.

وفي الآية- أيضا- إشارة إلى أنّ الصفات الداخلية- الباطنية- للإنسان تظهر- شاء أم أبى- من خلال الأعمال والتصرفات، من خلال المشي مثلا، أو النظر أو الكلام وأمثال ذلك. لهذا السبب ينبغي علينا إذا ما واجهتنا أدنى ظاهرة أو أثر لهذه الصفات، أن نعرف أنّ الخطر أصبح قريبا، وأنّ هذه الصفة المذمومة (التكبر والغرور) قد عششت في روحنا ويجب علينا مجاهدتها فورا.

ويمكن أن نفهم من خلال هذه الآية، وما ذكر في القرآن الكريم (ومن خلال سورة لقمان وسور أخرى) أنّ التكبر والغرور مرفوضان بشكل عام. لماذا؟ لأنّ الغرور هو مصدر الغربة عن اللّه وعن النفس السليمة، وهو سبب الخطأ في الحكم والقضاء، وسبيل ضياع الحق والارتباط بخط الشيطان والتلوث بأنواع الذنوب.

فالإمام علي عليه السّلام يقول في صفات المتقين في حديثه إلى «همام»:«ومشيهم التواضع» (18).

والمقصود بالمشي هنا ليس التجوال في السوق والشارع، وإنّما هي كناية عن أسلوب المشي والتعامل في جميع الأمور الحياتية، بما في ذلك خطوطهم الفكرية إذ هم متواضعون في تفكيرهم.

البرنامج الحياتي العملي لقادة الإسلام يعتبر درسا مفيدا لكل مسلم حقيقي في هذا المجال. ففي سيرة الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نرى أنّه لم يكن يسمح لأحد أن يمشي بين يديه وهو راكب، بل كان يقول: اذهب أنت إلى المكان الفلاني وأنا سآتيك إلى نفس المكان، حيث أنّ المشي بين يدي الراكب يؤدي إلى غرور الراكب  للووذلة وذلة الماشي.

وذلة الماشي(19)

ونقرأ- أيضا- أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان يجلس على التراب تواضعا، ويأكل‌ الطعام كما يأكله العبيد، وكان صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يحلب الماعز بنفسه، ويركب الدابة دون غطاء.(20). وقد كان الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يلتزم هذا السلوك في كل مواقفه حتى عند فتح مكّة، حتى لا يفكر الناس بأنّهم إذا وصلوا إلى منصب مهم، أو أحرزوا إنجازا ما، فإنّ ذلك مدعاة لهم بأن يصابوا بالتكبر والغرور ويكونوا بالتالي بعيدين وغرباء عن الناس والمستضعفين.

وفي سيرة الإمام علي عليه السّلام، نقرأ أنّه كان يجلب الماء إلى البيت، وفي بعض الأحيان كان ينظّف البيت.

أمّا في سيرة الإمام الحسن عليه السّلام، فنقرأ أنّه عليه السّلام، حجّ إلى بيت اللّه عشرين مرّة مشيا على الأقدام، والنجائب (المحامل والدواب) تقاد بين يديه، وكان عليه السّلام يبيّن أن هذا العمل تواضع للّه تعالى‌ (21).

أمّا الآية التي بعدها فهي تؤكّد على ما تمّ تحريمه في الآيات السابقة كالشرك وقتل النفس والزنا وقتل الأولاد والتصرف في مال اليتيم وإيذاء الوالدين وما شابه ذلك، حيث تقول الآية: {كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} (22).

ومن هذا التعبير يتّضح أنّ اللّه سبحانه وتعالى ليس فقط لا يجبر الإنسان على الذنب، وإنّما لا يريد له (بمعنى لا يرغب ولا يوّد) أن يرتكب الذنب أيضا، وإلّا لو كان الأمر كما يقول أصحاب مذهب الجبر، لما أكّد اللّه سبحانه وتعالى على كراهية هذه الذنوب.

ويتّضح من التعبير- أيضا- أنّ القرآن استخدم كلمة «مكروه» اتجاه أعظم الذنوب وأكبرها.

ثالثا: لا تكن مشركا:

من أجل التأكيد أكثر على أنّ كل هذه التعليمات إنّما تصدر من الوحي وتتسم بالحكمة، تقول الآية: {ذلِكَ مِمَّا أَوْحى‌ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}.

إنّ استخدام كلمة «الحكمة» هي إشارة إلى أنّ هذه التعاليم والنواهي برغم كونها وحيا سماويا إلهيا، إلّا أنّها في نفس الوقت يمكن إدراكها بميزان العقل.

وإلّا فمن يستطيع أن ينكر- عقلا- قباحة الشرك أو القتل أو إيذاء الوالدين أو قبح الزنا والتكبر والغرور، وظلم اليتامى والعواقب السيئة لنقض العهود وما إلى ذلك؟

بتعبير آخر، إنّ هذه التعاليم ثابتة عن طريق العقل كما هي ثابتة عن طريق الوحي الإلهي. وعادة ما تكون جميع الأحكام الإلهية على هذه الشاكلة، بالرغم من أنّ الإنسان لا يستطيع في كثير من الأحيان أن يشخص انسجام جزئيات الأحكام الإلهية مع العقل بحكم عدم كماله، ويبقى بعد ذلك الوحي هو المجال الوحيد لمصداقية دركها والإيمان بها.

بعض المفسّرين استفادوا من كلمة «حكمة» على أساس أنّ الأحكام المتعدّدة في الآيات السابقة تعتبر من الأحكام الثابتة التي لا تقبل النسخ في جميع الأديان السماوية، إذ لا يمكن- في أي شريعة إلهية- اعتبار الشرك وقتل النفس والزنا ونقض العهود أمورا جائزة. لذلك فإنّ هذه الأحكام تعتبر من المحكمات والقوانين الثابتة.

بعد ذلك ينتهي الحديث عن مجموع هذه الأحكام بنفس البداية التي انطلق منها، حيث يقول تعالى: {ولا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ}. لما ذا؟ لأنّ المصير سيكون‌ {فَتُلْقى‌ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً}.

وفي الحقيقة: إنّ الشرك هو أساس جميع الانحرافات والجرائم والذنوب، لذلك فإنّ هذه المجموعة من الأحكام بدأت بالشرك وانتهت به.

_______________________

1- تفسير الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي،ج7،ص273-299.

2 ـ تفسير الصافي عند بحث هذه الآية.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ المصدر السابق.

5- تفسير مجمع البيان،ذيل الأية مورد البحث.

6- تفسير الميزان،ج13،ص88.

7- تفسير مجمع البيان،ج6،ص414.

8- صحيح البخاري ومسلم نقلا عن تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 323.

9- هناك بحث مفصل في نهاية الآية (106) من سورة النحل، من التّفسير الأمثل حول الإرتداد، وفلسفة العقوبات الشديدة للمرتد.

10- يراجع تفسير الآلوسي (روح المعاني) أثناء حديثه عن هذه الآية.

11- نهج البلاغة، مجموعة الرسائل، الرقم (47).

12- بالنسبة لأهمية الوفاء بالعهد والقسم لدينا بحث مفصل حول الموضوع يمكن مراجعته في بحث الآيات 91 ـ 94 مِن سورة النحل.

13- وسائل الشيعة، ج 18، ص 16.

14- المصدر السابق،ص17.

15- المصدر السابق،ص38..

16- نور الثقلين، ج 3، ص 164.

17- «مرح» على وزن فرح، وهي تعني الفرح الشديد قبال موضوع باطل لا أساس له.

18- نهج البلاغة، الخطبة (193).

19- بخار الانوار،ج16،ص236.

20- المصدر السابق،ص226.

21 - لقد تحدّثنا عن التكبر والغرور وآثارهما السيئة في المجلد الرّابع في تفسير الأمثل لدى تفسير الآية 12 من سورة الأعراف.

22- ضمير «سيئه» يعود على «ذلك» أو «كل» وسبب كونه مفردا لأنّ كلا من هاتين الكلمتين مفردتين بالرغم من أنّهما تعطيان معنى الجمع.

 

 

 

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .



مراحل متقدمة من الإنجاز يشهدها مشروع مركز الشلل الدماغي في بابل
الأمين العام للعتبة الحسينية المقدسة: يجب الاهتمام بالباحثين عن العمل ومنحهم الفرص المناسبة عبر الاهتمام بقدراتهم ومؤهلاتهم وإبداعاتهم
يمتد على مساحة (500) دونم ويستهدف توليد الطاقة الكهربائية.. العتبة الحسينية تعلن عن الشروع بإنشاء مشروع معمل لتدوير النفايات في كربلاء
بالفيديو: جامعة وارث الانبياء(ع) تحتضن فعاليات مؤتمر وارث الدولي الاول للعلوم الهندسية والمؤتمر الدولي الرابع للهندسة الجيوتقنية