أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-3-2020
3878
التاريخ: 17-1-2020
8944
التاريخ: 17-12-2019
1943
التاريخ: 3-12-2019
2881
|
القاسطون
حركة الناكثين ، تلك الحركة التي زرعت بذور التمرد ـ على النظام ـ في جسم المجتمع الاسلامي في عهد الامام
وحركة الناكثين ماهي ـ في الواقع ـ الا جانب واحد من جوانب الصراع المسلح بين علي ومناوئيه ، وهي صورة من اروع صور الصراع بين الحق والباطل .
وقد شجعت فتنة الجمل ـ القاسطين ـ الحائرين ـ معاوية واصحابه على القيام بعصيان مسلح على نظام الحكم في البلاد، كما أتاحت لهم فرصة التجمع وحشد قوى الشر والارهاب لمقاومة مبادئ الدين الحنيف الممثلة في خلق الامام وفي سياسته العامة .
وقد انضوى تحت لواء معاوية كل من كان حاقداً على الامام لعدالته وسلامة معتقداته في السياسة والدين والاخلاق . من ذلك مثلا :
أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب كان قد التحق بمعاوية « خوفا من علي ان يقيده بالهرمزان . وذلك ان ابا لؤلؤة ـ غلام المغيرة بن شعبة ـ قاتل عمر كان في ارض العجم غلاما للهرمزان فلما قتل عمر شد عبيد الله على الهرمزان فقتله ...
وكان الهرمزان عليلا في الوقت الذي قتل فيه عمر .. فعفا عثمان عن عبيد الله فلما صارت الخلافة لعلي اراد قتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان لقتله اياه ظلما من غير سبب استحقه . فلجأ الى معاوية » (1) .
ولجأ الى معاوية كذلك مصقلة بن هبيرة الشيباني ـ عامل علي في احدى خطط فارس .
وسبب ذلك ان مصقلة كان قد اشترى اسرى الخوارج من جماعة الخريت بن راشد السامي ولكنه التوى بما شرطه على نفسه من ثمنهم . « فلما طالبه ابن عباس بأداء الدين قال : لو طلبت اكثر من هذا المال الى ابن عفان ما منعني اياه .
ثم احتال حتى هرب من البصرة ولحق بمعاوية . فتلقاه معاوية احسن لقاء واطمعه وارضاه حتى طمع مصقلة في ان يحمل اخاه نعيم بن هبيرة على ان يلحق به . » (2)
وهكذا نجد ابن هند يحتضن الجناة ـ الفارين من وجه العدالة ـ ويغدق عليهم العطاء من بيت مال المسلمين فيزرع بتصرفه هذا بذور فساد الاخلاق في المسلمين ويشجع الناس على الخروج على مبادىء الدين الحنيف .
ولم تقتصر نتائج ذلك الزمن الذي عاش فيه ابن أبي سفيان بل تعدته فسارت في سجل الزمن منذ مصرع الإمام حتى يومنا هذا .
لقد تمرد معاوية على الخليفة وتنكر لمبادىء الدين متظاهرا بالطلب بدم عثمان ابن عفان (3) . ومعاوية ـ كما ذكرنا هو :
ابن هند آكلة الاكباد ، وأبوه ابو سفيان : الذي حارب النبي ... ولم يسلم الا بأخرة حين لم ير من الاسلام بداً ، وحين لم يكن الا ان يختار بين الاسلام والموت ...
ولم تكن ام معاوية بأقل من أبيه تنكراً للاسلام وبغضا لأهله وحفيظة عليهم .. حتى فتحت مكة فأسلمت كارهة كما اسلم زوجها كارها . (4) .
وكان على معاوية ـ اذا فرضنا انه يجوز له ان يطالب بدم عثمان ـ (5) ولو انصف واخلص نفسه للحق ان يبايع كما بايع الناس .
ثم يأتي الى علي ـ مع اولياء عثمان ـ فيطالبون بالإفادة ممن قتله . ولكن معاوية لم يكن يريد ان يثأر لعثمان (6) بمقدار ما كان يريد ان يصرف الامر عن علي . وآية ذلك ان الامر استقام له ـ بعد مصرع الامام ـ فتناسى ثأر عثمان ولم يتبع قتلته ..
فالطلب بدم عثمان اذن لم يكن الا اقصوصة اشترك في صوغها كل منافس لعلي ، حاقد عليه . وقد وسع كل شيء ووصل الى كثير من الغايات الا الثأر للشيخ القتيل » .
وكان رأي علي في الموضوع كما يذكر ابن حجر العسقلاني (7) « أن يدخل معاوية واصحابه في الطاعة .
ثم يقوم ولي دم عثمان بن عفان فيعمل الامام معه ما فيه حكم الشريعة . » .
وقد اشار الامام علي الى ذلك في احدى رسائله الى اهل الامصار بعد صفين حين قال (8) :
« وكان بدء امرنا ان التقينا والقوم من اهل الشام والظاهر ان ربنا واحد ونبينا واحد ودعوتنا في الاسلام واحدة ... والامر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء . فقلنا تعالوا نداوي مالا يدرك باطفاء الثائرة وتسكين العامة حتى يشتد الامر ويستجمع فنقوى على وضع الحق في مواضعه .
فقالوا : بل نداويه بالمكابرة . فأبوا حتى ضجت الحرب .. فلما ضرستنا واياهم ووضعت مخالبنا فينا وفيهم اجابوا عند ذلك الى الذي دعوناهم اليه . » .
ويلوح للباحث ان الخروج على ما توطا الناس عليه من العرف والخلق كان هو القاعدة العامة للاسرة الاموية في الجاهلية والاسلام .
وكتب التاريخ العربي زاخرة بالامثلة على ذلك . وقد مر بنا ـ في فصل سابق ـ ذكر كثير من الشواهد والامثلة في هذا الباب عندما تظاهر رؤوس الامويين في الانضواء تحت لواء الاسلام .
أما في الجاهلية فيجد الباحث :
على الرغم من قلة الاخبار الموثوقة عن سيرتهم ـ قصصا ممتعة في هذا المضمار . من ذلك مثلا ماذكره ابن الاثير (9) حين قال :
« كان لعبد المطلب جار يهودي يقال له : أذينة : يتجر وله مال كثير . فغاظ ذلك
حرب بن امية .. فأغرى به فتيانا من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله . فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار وصخر بن حرب بن عمرو بن كعب التيمي جد ابي بكر » .
وتتلخص حركة القاسطين ـ من حيث وقوع حوادثها من الناحية التاريخية ـ على الشكل التالي (10) :
« لما عاد علي الى البصرة بعد فراغه من الجمل قصد الكوفة ... وبعث جرير بن عبد الله البجلي ... وكتب معه كتابا الى معاوية يدعوه فيه الى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والانصار من طاعته ، فسار جرير الى معاوية .
فلما قدم عليه ماطله معاوية واستنظره ، واستشار عمرو بن العاص فأشار عليه ان يجمع اهل الشام ويلزم عليا دم عثمان ويقاتله بهم . ففعل معاوية ذلك . وكان اهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان ـ الذي قتل فيه ـ مخضوبا بالدم ..
وضع معاوية القميص مدة وهو على المنبر . واقسموا الا يمسهم الماء للغسيل من الجنابة والا يناموا على الفراش حتى يقتلوا : قتلة عثمان ، ومن قام دونهم قتلوه .
فلما عاد جرير الى علي واخبره خبر معاوية واجتماع اهل الشام على قتاله . خرج علي فعسكر بالنخيلة .. وسرح الاشتر ببعض الجند امامه .. وقال له :
اياك ان تبدأ القوم بقتال : ولاتدن منهم دنو من يريد ان ينشب الحرب ، ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس . حتى اقدم عليك ..
واصبح علي على غدوة الاشتر ..
وكان معاوية قد سبق .. فأخذ شريعة الفرات .. فطلب اصحاب علي شريعة غيرها فلم يجدوا . فأتوا عليا فأخبروه بعطشهم .. فدعا صعصعة بن صوحان . فأرسله الى معاوية يقول له :
انا سرنا سيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الاعتذار اليكم . فقدمت لنا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل ان نقاتلك ، ونحن من رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك . وهذه اخرى قد فعلتموها، منعتم الناس عن الماء.. فأبعث الى اصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء ... لننظر فيما بيننا وبينك، وفيما قدمنا له ..
فأصر معاوية واصحابه على المنع ..
فلما علم علي بذلك قال :
قاتلوهم على الماء ... فقاتلوهم حتى خلوا بينهم وبين الماء .
وصار الماء في ايدي اصحاب علي ، فقالوا :
والله لا تسقيه اهل الشام ، فأرسل علي الى اصحابه ان خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنهم ..
ثم ان عليا دعا أبا عمر وبشير بن عمرو بن محصن الانصاري ، وسعيد بن قيس الهمداني ، وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم : ائتوا هذا الرجل وادعوه الى الله والى الطاعة والجماعة ... فأتوه .. فبتدأ بشير ... وقال يا معاوية :
انشدك الله ان تفرق هذه الامة وتسفك دماءها بينها ..
فقطع معاوية عليه الكلام وقال :
ونترك دم عثمان ؟ والله لا افعل ذلك ابداً . فذهب سعيد بن قيس يتكلم فبادره شبث بن ربعي ... فقال : يا معاوية .
والله لا يخفى علينا ما تطلب ، انك لم تجد شيئا تستغوى به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم الا قولك قد قتل امامك مظلوما ، فنحن نطالب بدمه .. وقد علمنا انك ابطأت عنه بالنصر واحببت له القتل لهذه المنزلة التي اصبحت تطلب .
فاتق الله يا معاوية ولا تنازع الامر اهله ، قال معاوية :
ان اول ما عرفت به سفهك ... ان قطعت على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ، ثم ... كذبت ولؤمت ايها الاعرابي الجلف ...
انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم الا السيف .. فأتوا عليا فأخبروه بذلك .. فجرت مناوشات بالسلاح بين الفريقين بدأها أهل الشام في اوخر عام 36 هـ .
ثم دخلت سنة 37 هـ وفيها جرت موادعة بين علي ومعاوية ، توادعا على ترك الحرب بينهما حتى ينقضي المحرم طمعاً في الصلح .
واختلف بينهما الرسل .. فلم يسفر ذلك عن شيء .. فلما انسلخ المحرم .. خرج معاوية وعمرو يكتبان الكتائب ويعبثان الناس .. وعلي يقول لاصحابه :
لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم ، فأنتم على حجة وترككم قتالهم حجة اخرى ، فاذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تكشفوا عن عورة ، ولا تمثلوا بقتيل .
ولا تهتكوا ستراً ، ولا تدخلوا داراً ، ولا تأخذوا شيئاً ، ولا تهيجوا امرأة وان شتمن اعراضكم وسببن امراءكم وصلحاءكم .
وكان علي يقول بهذا المعنى لاصحابه في كل مكان » .
ذلك ما يتصل بالمرحلة التمهيدية لحرب صفين قبل ان ينشب القتال بين الطرفين ، ونحسب ان القارىء قد لاحظ معنا جملة أمور :
منها : سعى الامام الى دعوة ابن ابي سفيان ـ بالطرق السليمة المألوفة ـ الى عدم شقه عصا الطاعة على النظام ، واحداث الفتنة بين المسلمين ، ليتسنى للخليفة ـ بعد ذلك ـ ان ينظر في الطلب الذي يقدمه له عمرو بن عثمان بن عفان ـ ولى عثمان حسب منطوق الآية التي ذكرناها ـ بشأن المتهمين بقتل عثمان كي يجري التحقيق اللازم ويتخذ الاجراءات القانونية بحق الجناة .
ولكن معاوية ألب الناس على الامام واتخذ قميص عثمان ستاراً للخروج على النظام؛ وسار بجيوشه متمرداً باغيا يريد العراق. واستولى على ماء الفرات في موقع تجمع الجيشين ومنع اصحاب الامام الذين لم يخرجوا لقتاله بل للتفاوض معه عساه يثوب الى رشده فيحقن دماء المسلمين .
فاضطر الامام الى دعوة اصحابه لقتالهم على الماء فقط ، بعد ان فشلت مساعي صعصعة ابن صوحان كما رأينا ، وبعد أن بلغ العطش بأصحابه حداً لا يطاق .
وعندما اصبح الماء بحوزة اصحابه امرهم بالسماح لخصومه بالاستقساء .
ولم يثنه غدر ابن ابي سفيان وامشاجه ـ وخروجهم متمردين من الشام ، وابتداؤهم اصحابه بالقتال وحجزهم الماء عنهم ـ عن مواصلة مساعيه السلمية .
فأرسل بشير الانصاري، وسعيد الهمداني، وشبث التميمي، لمفاوضة معاوية واقناعه بالانصياع الى اوامر الله وسنة الرسول .
فأغلظ معاوية لهم القول وشتمهم وطردهم بعد ان حاول ان يوقع ـ بين سعيد ، وشبث ـ العداوة والبغضاء بأثارة العصبية الجاهلية التي حاربها الاسلام . فأبى معاوية الا الاستمرار في الطيش والعبث بأرواح الناس ومقدراتهم والاستهانة بمبادئ الدين الحنيف .
فحدث القتال المرير بين الجانبين وانهزمت قوى الشر امام جيوش الامام . فلجأ معاوية الى الحيلة والغدر ـ كعادته ـ فرفعت المصاحف وحصل التحكيم وخرج المارقون واغتيل الامام كما سنرى .
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع ان نقول مرة اخرى :
ان الصراع بين القاسطين وبين قوى الامام ما هو ـ في جوهره ـ الا صراع بين رجلين يختلفان ـ كل الاختلاف ـ في الخلق وفي العقيدة . فمعاوية : « رجل لم يردعه وازع عن التماس اي اسلوب ... مشروع او غير مشروع للوصول الى هدفه وهو انتزاع الحكم من الامام ـ ولم ير حرجا في الدس ، ولافي الغدر ولافي الادعاء الباطل .
فقد كان همه ان يغدر وان وطئت قدمه الملوثة قدس الحق وقيم الاخلاق .
وكانت الخطة التي درج عليها الامام تغاير ذلك .
لهذا فقد تباينت الاسلحة. فهي في يد علي معدومة وفي يد خصمه وفيرة، وتعددت ميادينها امام معاوية وضاقت حلقتها على الامام ـ الا ما أقره منها الدين وارتضته المثل الانسانية الرفيعة» (11) .
وتباين المقربون كذلك في الخلق والدين والهدف. فهم عند علي من خيرة اصحاب النبي وهدفهم السير وفق مستلزمات الاسلام . وهم ـ عند معاوية ـ من الوصوليين الانتهازيين:
عمار بن ياسر ومن هم على شاكلته من جهة، وعمرو بن العاص ومن لف لفه من جهة اخرى.
وتباين الاتباع كذلك . فقد كان معاوية يحارب الامام « بمئة الف ما فيهم ـ على حد قوله ـ من يفرق بين الناقة والجمل » (12) .
وقد بلغت طاعة اهل الشام لمعاوية حداً يفوق الوصف (13) .
فقد صلى بهم على ما يذكر المسعودي ـ عند مسيرهم الى صفين ـ الجمعة : يوم الاربعاء ، واعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها » .
وفي معرض التحدث عن موقف اهل الشام ازاء معاوية.
يقول المسعودي (14): ان احد اخوته من اهل العلم قال له: «كنا نقعد فنتناظر في ابي بكر وعمر، وعلي ومعاوية، فقالت لي ذات يوم بعض اهل الشام ـ وكان من اعقلهم. واكبرهم لحية ـ كم تظنون في علي ومعاوية؟
فقلت له : من هو علي ؟ فقال ... قتل علي في غزوة حنين مع النبي .
ولما خرج عبد الله بن علي في طلب مروان الى الشام ... وجه الى ابي العباس السفاح اشياخا من اهل الشام من ارباب النعم والرئاسة ، فحلفوا للسفاح انهم ما علموا لرسول الله قرابة ولا اهل بيت يرثونه غير بني امية حتى وليتم الخلافة »
وكان ذلك دون شك من آثار معاوية في تضليل الناس والتغرير بهم . فيكون معاوية ـ بالاضافة الى ما ذكرنا ـ مسئولا عن تشويه كثير من حقائق التاريخ الاسلامي وتزوير حوادثه .
أما أساليبه في الغدر بمناوئيه وتدبير المؤامرات لاغتيالهم فمعروفة لدى الكثيرين ، فقد دبر قضية سم الاشتر والحسن ، بعد ان نكث عهده .
وتتلخص قضية الاشتر النخعي في ان الامام عليا قد ولاه مصر بعد ان عزل عنها محمد بن ابي بكر. «ولكن الاشتر لم يكد يصل الى القلزم حتى مات » .
واكثر المؤرخين يتحدثون بأن معاوية اغوى صاحب الخراج في القلزم ... ان هو احتال في موت الاشتر، فدس هذا الرجل للأشتر سما في شربة من عسل فقتله ليومه .
وكان معاوية وعمرو يتحدثان فيقولان ان لله جنودا من عسل» (15) ، وكان غدره يتراوح بين الشدة واللين حسب الظروف ، فيلجأ الى القسوة اذا اعيته الحيلة والمراوغة والدس ، من ذلك مثلا :
انه اختار بسر بن ارطأة المعروف بقساوته ، وسيره على رأس جيش لتعقب خصومه .
وقد اوصى معاوية بسر بن ارطأة أن يقسو على البادية من شيعة علي .
فمضى بسر ونفذ وصية معاوية واضاف لها من عنده قسوة وغلظة واسرافاً في الاستخفاف بالدماء ، والاموال ، والحقوق والحرمات ، فكان كثير الفتك في البادية ، وجاء المدينة فروع اهلها ... وامرهم بالبيعة لمعاوية ففعلوا مرغمين .
ومضى الى اليمن ففر عنها عامل علي واعوانه .
ونشر فيها الروع بالإسراف في القتل ، ثم اخذ البيعة لمعاوية .
وبلغ خبره علياً فأرسل جارية بن قدامة ليرده عن اليمن ، ففر عنها بسر بن ارطأة ورجع الى الشام مفسداً في الارض اثناء رجوعه ومسرفاً في القتل والنهب حتى ذبح ابنى عبيد الله بن العباس وكانا صبيين .
ورد جارية اليمن الى طاعة الامام، وعاد الى مكة فعرف فيها ان عليا قد قتل» (16) .
يتضح مما ذكرنا ان خلق معاوية كان اقرب الى الوحشية منه الى الانسانية، على انه كان في ـ وحشيته الخلقية ـ كالوحش المفترس تارة، وكالثعلب المراوغ تارة اخرى اما الامام فكان انسانا كاملا في دينه، وسياسته واخلاقه، فقد امتلأت نفسه الكبيرة من خشية الله ، وحب الناس ، ونشر العدالة والاخاء بين المسلمين .
وكان موقف اتباعه منه ـ على حقه ـ مغايراً لموقف اتباع معاوية له على باطله كما رأينا .
والى القارىء طائفة من اقوال الامام لاتباعه وهو في احرج ساعات نزاعه مع مناوئيه : « أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم ليس لانهم اولى بالحق منكم ولكن لإسراعهم الى باطلهم وابطائكم عن حقي .
ولقد اصبحت الامم تخاف ظلم رعاتها ، واصبحت اخاف ظلم رعيتي .
أيها الشاهدة ابدانهم الغائبة عنهم عقولهم ، المختلفة اهواؤهم المبتلى بهم امراؤهم ، صاحبكم : يطيع الله وانتم تعصونه ، وصاحب اهل الشام : يعصى الله وهم يطيعونه
والله لكأني بكم فيما اخالكم ان لو حمس الوغى وحمى الضرب قد انفرجتم عن ابن ابي طالب انفراج المرأة عن قبلها ، واني لعلي بينة من ربي ، ومنهاج من نبي ، واني لعلى الطريق الواضح القطه لقطاً » (17) ، وقال في مكان آخر :
« ولكن بمن والى من ! أريد ان اداوي بكم وانتم دائي » كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم ان ضلعها معها » (18) وأشار الامام ـ في مناسبة اخرى ـ الى العامل الرئيسي في تقاعسهم عن نصرة الحق فقال : « أتأمرونني ان أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ؟ ؟
والله لا اطور به ما سمر سمير ... ولو كان المال لي لسويت بينكم فكيف وانما المال مال الله ؟ ؟ وان اعطاء المال في غير حقه تبذير واسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله » (19) .
وخاطب اتباعه ـ في موقع آخر ـ فقال :
« أيتها النفوس المختلفة ، الشاهدة ابدانهم والغائبة عنهم عقولهم ، اظأركم على الحق وانتم تنفرون منه ، هيهات ان اطلع بكم سرار العدل ، او اقيم اعوجاج الحق ؟ ؟
اللهم انت تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنرد المعالم من دينك ، ونظهر الاصلاح في بلادك » ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطلة من سننك » (20) .
وخاطبهم في موقف آخر فقال : « لم تكن بيعتكم اياي فلتة (21) ؛ وليس امري وامركم واحداً ، اني اريدكم لله وانتم تريدونني لا نفسكم .
ايها الناس اعينوني على انفسكم ، وايم الله لا نصفن المظلوم من ظالمه ، ولا قودن الظالم بخزامته حتى اورده منهل الحق وان كان كارها » (22) .
____________
(1) المسعودي « مروج الذهب ومعادن الجوهر » 2 / 261 .
(2) الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى ، علي وبنوه » ص 127 .
(3) في حين ان ولى عثمان الذي يسوغ له المطالبة بدمه من الناحية الشرعية هو ابنة عمرو كما ذكرنا .
(4) عبد الفتاح عبد المقصود « الامام علي بن ابي طالب » 2 / 61 .
(5) عبد الفتاح عبد المقصود « الامام علي بن ابي طالب » 2 / 301 .
(6) ليس لدى الباحث من الادلة المقنعة ما يمنعه من الاعتقاد باشتراك معاوية ـ بطريقة غير مباشرة ـ في التآمر على قتل عثمان ، فقد وهن العظم من عثمان وبلغ من الكبر عتيا . وليس من الممكن او المعقول ان تنتقل الخلافة الى معاوية دون ان يقتل عثمان ، وان بقاء عثمان سنتين او ثلاثا في الحكم ـ وتعديل سيرته السياسية ـ لم يكن في صالح معاوية واذا لم يكن معاوية قد الب الناس على الشيخ او خذلهم عن نصرته فقد تقاعس عن مساعدته في احرج الظروف ، فقد ساهم في قتله من الناحية السلبية على أسوأ الفروض . ذلك لان معاوية ، بحكم مركزه في الشام الذي استمر زهاء عشرين عاما كان هو الوالي الوحيد الذي باستطاعته انقاذ حياة ابن عفان . ويجمل بنا في هذا الصدد ، ان نذكر القارىء بالمحاورة الطريفة التي جرت بين معاوية وابي الطفيل حول تقاعس كل منهما عن نصرة عثمان . فقد سأل معاوية ابا الطفيل ـ متخابثا ـ عن تقاعسه عن نصرة الخليفة، فأجاب هذا بأن تقاعسه كان ضمن التقاعس العام الذي ابداه المهاجرون والانصار. ثم وجه السؤال نفسه الى معاوية فأجابه بأن طلبه بدمه ـ في خلافة علي ـ نصرة له. فضحك ابو الطفيل ثم قال : انت وعثمان كما قال الشاعر :
لا الفينك بعد الموت تندبني *** وفي حياتي ما زودتني زادي
هذا الى ان معاوية باسناده امارة مصر لابن العاص ـ الذي عزله عثمان عنها فجعله من المؤلبين عليه ـ قد برهن بوضوح على ان المطالبة بدم عثمان وسيلة للثورة على علي .
(7) الاصابة في تمييز الصحابة 2 / 501 ، 502 .
(8) شرح نهج البلاغة 4 / 161 ، 162 .
(9) الكامل في التاريخ 2 / 9 .
(10) ابن الأثير : « الكامل في التاريخ » 3 / 141 ـ 160 .
(11) عبد الفتاح عبد المقصود : « الامام علي بن ابي طالب » 5 / 66 ، 67 .
(12) عباس محمود العقاد : « عبقرية الامام » ص 50 .
(13) المسعودي : مروج الذهب ومعادن الجوهر 2 / 334 .
(14) المسعودي : مروج الذهب ومعادن الجوهر 2 / 51 .
(15) الدكتور طه حسين : « الفتنة الكبرى ، علي وبنوه » ص 131 .
(16) الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى علي وبنوه » ص 150 .
(17) « شرح نهج البلاغة » لابن ابي الحديد 2 / 182 ـ 185 .
( حمس الوغى . اشتد وعظم . الوغى في الاصل : الاصوات والجلبة ، وسميت الحرب نفسها وغى لما فيها من ذلك . وانفراج المرأة عن قبلها أي وقت الولادة . وقوله القطه لقطا يريد ان الضلال غالب على الهدى وأنه التقط طريقه من ههنا وههنا كما يسلك الانسان طريقاً دقيقة قد اكتنفها الشوك والعوسج من جانبيها كليهما فهو يلتقط النهج التقاطا ).
(18) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » ص 261 ، 262 .
ولكن بمن كنت اعمل ذلك والى من اخلد في فعله .. واما الحاضرون لنصرتي فأنتم وحالكم معلومة في الخلاف والشقاق والعصيان .
واما الغائبون من شيعتي ـ كأهل البلاد النائية ـ فالى ان يصلوا قد بلغ العدو غرضه مني ولم يبق من اخلد اليه في اصلاح الامر وابرام هذا الرأي ... الا اذا استعين ببعضكم على بعض فأكون كناقش الشوكة بالشوكة .
يقول : لا تستخرج الشوكة الناشبة في رجلك بشوكة مثلها فان احداهما في القوة والضعف كالاخرى . فكما ان الاولى انكسرت لما وطئتها فدخلت في لحمك فالثانية ـ اذا حاولت استخراج الاولى بها ـ تنكسر في لحمك .
(19) ابن ابي الحديد « شرج نهج البلاغة » 2 / 305 .
(20) المصدر نفسه 378 ، 379 أظأركم : اعطفكم .. والسرار آخر ليلة في الشهر وتكون مظلمة ، ويمكن عندي : ان يفسر على وجه آخر وهو : ان يكون السرار ههنا بمعنى السرر ، وهي : خطوط مضيئة في الجبهة .. فيكون معنى الكلام هيهات ان تلمع بكم لوامع العدل ، وتتجلى اوضاعه ، ويبرق وجهه وهو يمكن ان يكون فيه ايضا وجه آخر وهو ان ينصب سرار ههنا على الظرفية ويكون التقدير : هيهات ان اطلع بكم الحق زمان استسرار العدل واستخقائه فيكون قد حذف المفعول به .
(21) الفلتة : الامر يقع في غير تدبر ولا روية . وفي الكلام تعريض ببيعة ابي بكر لان المشهور عن عمر انه قال : « ان بيعة ابي بكر فلتة وقانا الله شرها » .
(22) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » 2 / 403 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|