أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-4-2020
3128
التاريخ: 17-4-2020
6578
التاريخ: 13-4-2020
3755
التاريخ: 17-4-2020
11138
|
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَو دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب : 9 - 15]
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
خاطب سبحانه المؤمنين فقال {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم} ذكرهم سبحانه عظيم نعمته عليهم في دفع الأحزاب عنهم {إذ جاءتكم جنود} وهم الذين تحزبوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أيام الخندق {فأرسلنا عليهم ريحا} وهي الصبا أرسلت عليهم حتى أكفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم {وجنودا لم تروها} من الملائكة وقيل إن الملائكة لم يقاتلوا يومئذ ولكن كانوا يشجعون المؤمنين ويجبنون الكافرين {وكان الله بما تعملون بصيرا} من قرأ بالتاء وجه الخطاب إلى المؤمنين ومن قرأ بالياء أراد أن الله عالم بما يعمله الكفار .
ثم قال {إذ جاءوكم} أي واذكروا حين جاءكم جنود المشركين {من فوقكم} أي من فوق الوادي قبل المشرق قريظة والنضير وغطفان {ومن أسفل منكم} أي من قبل المغرب من ناحية مكة أبوسفيان في قريش ومن تبعه {وإذ زاغت الأبصار} أي مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلا من كل جانب وقيل معناه عدلت الأبصار عن مقرها من الدهش والحيرة كما يكون الجبان فلا يعلم ما يبصر {وبلغت القلوب الحناجر} والحنجرة جوف الحلقوم أي شخصت القلوب من مكانها فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت عن قتادة وقال أبوسعيد الخدري قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ فقال قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا . قال : فقلناها فضرب وجوه أعداء الله بالريح فهزموا . قال الفراء : المعنى في قوله {بلغت القلوب الحناجر} أنهم جبنوا وجزع أكثرهم وسبيل الجبان إذ اشتد خوفه أن ينتفخ سحره والسحر الرئة فإذا انتفخت الرئة رفعت القلوب إلى الحنجرة .
{وتظنون بالله الظنونا} أي اختلفت الظنون فظن بعضكم بالله النصر وبعضكم آيس وقنط وقيل تظنون ظنونا مختلفة فظن المنافقون أنه يستأصل محمد وظن المؤمنون أنه ينصر عن الحسن وقيل إن من كان ضعيف القلب والإيمان ظن ما ظنه المنافقون إلا أنه ذلك وقيل اختلاف ظنونهم أن بعضهم ظن أن الكفار تغلبهم فظن بعضهم أنهم يستولون على المدينة وظن بعضهم أن الجاهلية تعود كما كانت وظن بعضهم أن ما وعد الله ورسوله من نصرة الدين وأهله غرور فأقسام الظنون كثيرة خصوصا ظن الجبناء .
ولما وصف سبحانه شدة الأمر يوم الخندق قال {هنالك ابتلي المؤمنون} أي اختبروا وامتحنوا ليظهر لك حسن إيمانهم وصبرهم على ما أمرهم الله به من جهاد أعدائه فظهر من كان ثابتا قويا في الإيمان ومن كان ضعيفا فيه {وزلزلوا زلزالا شديدا} أي حركوا بالخوف تحريكا شديدا وأزعجوا إزعاجا عظيما وذلك أن الخائف يكون قلقا مضطربا لا يستقر على مكانه قال الجبائي منهم من اضطرب خوفا على نفسه من القتل ومنهم من اضطرب عليه دينه .
{وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض} أي شك عن الحسن وقيل ضعف في الإيمان {ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} قال ابن عباس إن المنافقين قالوا يعدنا محمد أن يفتح مدائن كسرى وقيصر ونحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء هذا والله الغرور {وإذ قالت طائفة منهم} يعني عبد الله بن أبي وأصحابه عن السدي وقيل هم بنو سالم من المنافقين عن مقاتل وقيل إن القائل لذلك أوس بن قبطي ومن وافقه على رأيه عن يزيد بن رومان {يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا} أي لا إقامة لكم هاهنا أولا مكان لكم تقومون فيه للقتال إذا فتح الميم فارجعوا إلى منازلكم بالمدينة وأرادوا الهرب من عسكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) .
{ويستأذن فريق منهم النبي} في الرجوع إلى المدينة وهم بنو حارثة وبنو سلمة {يقولون إن بيوتنا عورة} ليست بحريزة ، مكشوفة ليست بحصينة عن ابن عباس ومجاهد وقيل معناه بيوتنا خالية من الرجال نخشى عليها السراق عن الحسن وقيل قالوا بيوتنا مما يلي العدو ولا نأمن على أهلينا عن قتادة فكذبهم الله تعالى فقال {وما هي بعورة} بل هي رفيعة السمك حصينة عن الصادق (عليه السلام) {إن يريدون} أي ما يريدون {إلا فرارا} وهربا من القتال ونصرة المؤمنين .
{ولو دخلت} أي ولو دخلت البيوت أو دخلت المدينة {عليهم} أي ولو دخل هؤلاء الذين يريدون القتال وهم الأحزاب على الذين يقولون إن بيوتنا عورة وهم المنافقون {من أقطارها} أي من نواحي المدينة أوالبيوت {ثم سئلوا الفتنة لأتوها} أي ثم دعوا هؤلاء إلى الشرك لأشركوا فالمراد بالفتنة الشرك عن ابن عباس {وما تلبثوا بها إلا يسيرا} أي وما احتبسوا عن الإجابة إلى الكفر إلا قليلا عن قتادة وقيل معناه وما أقاموا بالمدينة بعد إعطائهم الكفر إلا قليلا حتى يعاجلهم الله بالعذاب عن الحسن والفراء .
ثم ذكرهم الله سبحانه عهدهم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالثبات في المواطن فقال {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل} أي من قبل الخندق {لا يولون الأدبار} أي بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وحلفوا له أنهم ينصرونه ويدفعون عنه كما يدفعون عن نفوسهم ولا يرجعون عن مقاتلة العدو ولا ينهزمون قال مقاتل يريد ليلة العقبة {وكان عهد الله مسئولا} يسألون عنهم في الآخرة وإنما جاء بلفظ الماضي تأكيدا .
________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص124-141 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً} . اذكروا أيها المؤمنون الذين كنتم مع رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) في غزوة الخندق تحيط بكم الأعداء من كل جانب ، اذكروا ذلك واشكروا إنعام اللَّه عليكم بالخلاص والنصر حيث أرسل على أعدائكم ريحا عاتية {وجُنُوداً لَمْ تَرَوْها} قال المفسرون : انها الملائكة . ويجوز أن تكون كناية عما ألقاه سبحانه في قلوب الأحزاب من الخوف والهلع .
وفي البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي : كان جيش الأحزاب يتألف من خمسة عشر ألفا ، والمسلمون ثلاثة آلاف ، واتفق أهل التفاسير والسير ان صخرة ظهرت في بطن الخندق ، فكسرت حديدهم وشقّت عليهم ، فأخذ رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) المعول من سلمان ، وضرب به الصخرة ضربة صدعها ، ولمعت من تحت المعول برقة ، ثم ضربها ثانية ، فلمعت برقة أخرى ، وثالثة فلمعت ثالثة . فقال رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) : رأيت في البرقة الأولى مدائن كسرى ، وفي الثانية قصور قيصر ، وفي الثالثة قصور صنعاء ، وأخبرني جبريل ان أمتي ظاهرة عليها جميعا فأبشروا .
وتحقق كل ما قاله سيد الكونين (صلى الله عليه واله وسلم) .
{إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ومِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} . المراد ان جيش الأحزاب حاصر عسكر المسلمين ولم يدع له منفذا ، وقال جماعة من أهل التفسير : جاءت غطفان وبنو قريظة وبنو النضير من اليهود من قبل المشرق ، وجاءت قريش وبنو كنانة وأهل تهامة من قبل المغرب {وإِذْ زاغَتِ الأَبْصارُ وبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ} . هذا كناية عن شدة الخوف والفزع {وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} . ظن بعض من آمن ان اللَّه لن ينصر دينه ونبيه ، وقال بعض المنافقين : وعدنا محمد بكنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه ان يذهب إلى حاجته . . وليس من شك انه لا عذر أبدا للمنافق ، أما من آمن ثم تساءل بحرقة وقال : لما ذا لم يخسف اللَّه الأرض بالظالمين ، أو ينزل عليهم صاعقة من السماء ، أما هذا فلا نستبعد انه معذور عند اللَّه ما دام مؤمنا به في قرارة نفسه .
{هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً} . لا تظهر كوامن النفس على حقيقتها إلا عند الشدائد والامتحان بالمخاوف والمكاره . . وكانت وقعة الخندق امتحانا قاسيا للمؤمن والمنافق على السواء حيث ظهر كل على حقيقته {وإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ} وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الايمان {والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وهم أصحاب الايمان الضعيف الذين صدّقوا المنافقين من غير روية . قال هؤلاء وأولئك : {ما وَعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} . هم لا يؤمنون باللَّه ولا برسوله لأن المؤمن لا ينطق بمثل هذا الكفر ، وانما قالوا هذا ليشككوا البسطاء وضعاف العقول .
{وإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} . حين باشر النبي والصحابة بحفر الخندق قال جماعة من المنافقين : وما جدوى الخندق ؟ انه لا يغني عن الحرب شيئا ، قالوا هذا قبل أن تأتي الأحزاب ، ولما جاءت قالوا للمقاتلين : لا طاقة لكم بهذا الجيش الجرار ، ولا نجاة منه إلا بالفرار والاستسلام . .
تذكرت وأنا أفسر هذه الآية عملاء الصهيونية والاستعمار الذين ينشرون في هذه الأيام الهلع والفزع من قوة إسرائيل ، تذكرتهم حيث علمت أن لهم أشباها ونظائر في الزمان القديم ، وان للحرب النفسية جذورا عميقة في التاريخ ، وما هي من بدع الصهيونية والاستعمار ، بل شيء بال وعتيق لا ينخدع به إلا ساذج العقل وقاصر النظر .
{ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ} . كان بعض المنافقين يخلقون المعاذير للتهرب من عسكر رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) ، ويقولون له : ان بيوتنا منكشفة للصوص ، فأذن لنا بحمايتها ، فأكذبهم اللَّه وكشف عن نفاقهم بقوله :
{وما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً} من الجهاد ونصرة الحق .
{ولَو دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْها وما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً} .
ضمير عليهم يعود إلى المنافقين ، وإلى أصحاب الايمان المستودع الذي لا قرار له ، وضمير أقطارها إلى المدينة ، والمراد بالفتنة هنا الارتداد عن الدين . والمعنى لو دخلت جيوش الشرك المدينة وأحاطت بها من كل جانب ، وقال المشركون للمنافقين ولمرضى القلوب : ارتدوا عن الإسلام وأعلنوا الشرك لاستجابوا على الفور من غير تردد ، أو ترددوا قليلا ، ثم استسلموا للقوة . . وبالبداهة ان المؤمن الحق لا يرتد عن عقيدته ، بل يقتل عليها ، وهو يعلم أن السعيد من سلم له دينه مهما كانت النتائج ، كما هو شأن شهداء العقيدة الذين لا يبالون بسيف الجلاد .
{ولَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهً مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبارَ} . تذرعوا بالأكاذيب للفرار من عسكر رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) بعد أن أعطوه العهود والمواثيق على أن يثبتوا في الجهاد بين يديه حتى الموت . وفي تفسير الطبري : (ان بني حارثة وبني سلمة همّوا بالفشل يوم أحد ، ثم عاهدوا اللَّه على أن لا يعودوا لمثلها أبدا ، فذكّرهم اللَّه الآن بهذا العهد الذي أعطوه من أنفسهم) . أنظر تفسير قوله تعالى : إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا - 122 آل عمران ج 2 ص 149 {وكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا} يوم القيامة عن الوفاء به : {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ومَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهً فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} - 10 الفتح .
________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص198-200 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قصة غزوة الخندق وما عقبها من أمر بني قريظة ووجه اتصالها بما قبلها ما فيها من ذكر حفظ العهد ونقضه .
قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود} إلخ ، تذكير للمؤمنين بما أنعم عليهم أيام الخندق بنصرهم وصرف جنود المشركين عنهم وقد كانوا جنودا مجندة من شعوب وقبائل شتى كغطفان وقريش والأحابيش وكنانة ويهود بني قريظة والنضير أحاطوا بهم من فوقهم ومن أسفل منهم فسلط الله عليهم الريح وأنزل ملائكة يخذلونهم .
وهو قوله : {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ} ظرف للنعمة أو لثبوتها {جاءتكم جنود} من طوائف كل واحدة منهم جند كغطفان وقريش وغيرهما {فأرسلنا} بيان للنعمة وهو الإرسال المتفرع على مجيئهم {عليهم ريحا} وهي الصبا وكانت باردة في ليال شاتية {وجنودا لم تروها} وهي الملائكة لخذلان المشركين {وكان الله بما تعملون بصيرا} .
قوله تعالى : {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم} إلخ الجاءون من فوقهم وهو الجانب الشرقي للمدينة غطفان ويهود بني قريظة وبني النضير والجاءون من أسفل منهم وهو الجانب الغربي لها قريش ومن انضم إليهم من الأحابيش وكنانة فقوله : {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم} عطف بيان لقوله : {إذ جاءتكم جنود} .
وقوله : {إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر{ ، عطف بيان آخر لقوله : {إذ جاءتكم} إلخ ، وزيغ الأبصار ميلها والقلوب هي الأنفس والحناجر جمع حنجر وهو جوف الحلقوم .
والوصفان أعني زيغ الأبصار وبلوغ القلوب الحناجر كنايتان عن كمال غشيان الخوف لهم حتى حولهم إلى حال المحتضر الذي يزيغ بصره وتبلغ روحه الحلقوم .
وقوله : {وتظنون بالله الظنونا} أي يظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض الظنون فبعضهم يقول : إن الكفار سيغلبون ويستولون على المدينة ، وبعضهم يقول : إن الإسلام سينمحق والدين سيضيع ، وبعضهم يقول : إن الجاهلية ستعود كما كانت ، وبعضهم يقول : إن الله غرهم ورسوله إلى غير ذلك من الظنون .
قوله تعالى : {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} هنالك إشارة بعيدة إلى زمان أو مكان والمراد الإشارة إلى زمان مجيء الجنود وكان شديدا عليهم لغاية بعيدة ، والابتلاء الامتحان ، والزلزلة والزلزال الاضطراب ، والشدة القوة وتختلفان في أن الغالب على الشدة أن تكون محسوسا بخلاف القوة ، قيل : ولذلك يطلق القوي عليه تعالى دون الشديد .
والمعنى في ذلك الزمان الشديد امتحن المؤمنون واضطربوا خوفا اضطرابا شديدا .
قوله تعالى : {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} الذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان من المؤمنين وهم غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، وإنما سمي المنافقون الرسول لمكان إظهارهم الإسلام .
والغرور حمل الإنسان على الشر بإراءته في صورة الخير والاغترار احتماله له .
قال الراغب : يقال : غررت فلانا أصبت غرته ونلت منه ما أريد ، والغرة - بكسر الغين - غفلة في اليقظة .
انتهى .
والوعد الذي يعدونه غرورا من الله ورسوله لهم بقرينة المقام هو وعد الفتح وظهور الإسلام على الدين كله وقد تكرر في كلامه تعالى كما ورد أن المنافقين قالوا : يعدنا محمد أن يفتح مدائن كسرى وقيصر ونحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء .
قوله تعالى : {وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا} يثرب اسم المدينة قبل الإسلام ثم غلب عليه اسم مدينة الرسول بعد الهجرة ثم المدينة ، والمقام بضم الميم الإقامة ، وقولهم : لا مقام لكم فارجعوا أي لا وجه لإقامتكم هاهنا قبال جنود المشركين فالغلبة لهم لا محالة فارجعوا ثم أتبعه بحكاية ما قاله آخرون فقال عاطفا على قوله : قالت طائفة : {ويستأذن فريق منهم} أي من المنافقين والذين في قلوبهم مرض {النبي} في الرجوع {يقولون} استئذانا {إن بيوتنا عورة} أي فيها خلل لا يأمن صاحبها دخول السارق وزحف العدو{وما هي بعورة إن يريدون} أي ما يريدون بقولهم هذا {إلا فرارا{ .
قوله تعالى : {ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا} ضمائر الجمع للمنافقين والمرضى القلوب والضمير في {دخلت} للبيوت ومعنى دخلت عليهم دخل الجنود البيوت حال كونه دخولا عليهم ، والأقطار جمع قطر وهو الجانب ، والمراد بالفتنة بقرينة المقام الردة والرجعة من الدين والمراد بسؤالها طلبها منهم ، والتلبث التأخر .
والمعنى : ولو دخل جنود المشركين بيوتهم من جوانبها وهم فيها ثم طلبوا منهم أن يرتدوا عن الدين لأعطوهم مسئولهم وما تأخروا بالردة إلا يسيرا من الزمان بمقدار الطلب والسؤال أي إنهم يقيمون على الدين ما دام الرخاء فإذا هجمت عليهم الشدة والبأس لم يلبثوا دون أن يرجعوا .
قوله تعالى : {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا} اللام للقسم ، وقوله : {لا يولون الأدبار} أي لا يفرون عن القتال وهو بيان للعهد ولعل المراد بعهدهم من قبل هو بيعتهم بالإيمان بالله ورسوله وما جاء به رسوله ومما جاء به : الجهاد الذي يحرم الفرار فيه ومعنى الآية ظاهر .
_______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص230-232 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
الامتحان الإلهي العظيم في مواجهة الأحزاب :
تتحدّث هذه الآيات والآيات الاُخرى التالية ، والتي تشكّل بمجموعها سبع عشرة آية ، عن أعسر الامتحانات والإختبارات الإلهية للمؤمنين والمنافقين ، واختبار مدى صدقهم في العمل ، الذي بحث في الآيات السابقة .
إنّ هذه الآيات تبحث أحد أهمّ حوادث تاريخ الإسلام ، أي عن «معركة الأحزاب» ، تلك المعركة التي كانت في الواقع نقطة إنعطاف في تأريخ الإسلام ، وقلبت موازين القوى بين الإسلام والكفر لصالح المسلمين ، وكان ذلك النصر مفتاحاً للإنتصارات المستقبلية العظيمة ، فقد إنقصم ظهر الأعداء في هذه الغزوة ، ولم يقدروا بعد ذلك على القيام بأيّ عمل مهمّ .
إنّ حرب الأحزاب ـ وكما يدلّ عليها إسمها ـ كانت مجابهة شاملة من قبل عامّة أعداء الإسلام والفئات المختلفة التي تعرّضت مصالحها ومنافعها اللامشروعة للخطر نتيجة توسّع وإنتشار هذا الدين .
لقد اُشعلت أوّل شرارة للحرب من قبل يهود «بني النظير» الذين جاؤوا إلى مكّة وأغروا «قريش» بحرب النّبي (صلى الله عليه وآله) ، ووعدوهم بأن يساندوهم ويقفوا إلى جانبهم حتّى النفس الأخير ، ثمّ أتوا قبيلة «غطفان» وهيّئوهم لهذا الأمر أيضاً .
ثمّ دعت هذه القبائل حلفاءها كقبيلة «بني أسد» و«بني سليم» ، ولمّا كان الجميع قد أحسّ بالخطر فإنّهم اتّحدوا واتّفقوا على أن يقضوا على الإسلام إلى الأبد ، ويقتلوا النّبي (صلى الله عليه وآله) ، ويقضوا على المسلمين ، ويغيروا على المدينة ويطفئوا مشعل الإسلام ونوره .
أمّا المسلمون الذين رأوا أنفسهم أمام هذا الجحفل الجرّار ، فإنّهم إجتمعوا للتشاور بأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) ، وقبل كلّ شيء أخذوا برأي «سلمان الفارسي» وحفروا حول المدينة خندقاً حتّى لا يستطيع العدو عبوره بسهولة ويهجم على المدينة ، ولهذا كان أحد أسماء هذه المعركة «معركة الخندق» .
لقد مرّت لحظات صعبة وخطرة جدّاً على المسلمين ، وكانت القلوب قد بلغت الحناجر ، وكان المنافقون من جهة اُخرى قد شمّروا عن السواعد وجدّوا في تآمرهم على الإسلام ، وكذلك ضخامة عدد الأعداء وقلّة عدد المسلمين ـ (ذكروا أنّ عدد الكفّار كان عشرة آلاف ، أمّا المسلمون فكانوا ثلاثة آلاف) وإستعداد الكفّار من ناحية المعدّات الحربية وتهيئة كافّة المستلزمات ، كلّ ذلك قد رسم صورة كالحة للمصير المجهول في أعين المسلمين .
إلاّ أنّ الله سبحانه أراد أن ينزل هنا آخر ضربة بالكفر ، ويميّز صفّ المنافقين عن صفوف المسلمين ، ويفضح المتآمرين ، ويضع المسلمين الحقيقيين في موضع الإختبار العسير .
وأخيراً إنتهت هذه الغزوة بإنتصار المسلمين ـ كما سيأتي تفصيل ذلك ـ فقد هبّت بأمر الله عاصفة هوجاًء إقتلعت خيام الكفّار وأتلفت وسائلهم ، وألقت في قلوبهم الرعب الشديد ، وأرسل سبحانه قوى الملائكة الغيبية لعون المسلمين .
وقد اُضيف إلى ذلك تجلّي قدرة وعظمة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أمام عمرو بن عبد ودّ ، فلاذ المشركون بالفرار من دون القدرة على القيام بأيّ عمل .
نزلت الآيات السبع عشرة من هذه السورة ، وإستطاعت بتحليلاتها الدقيقة والفاضحة أن تستفيد من هذه الحادثة المهمّة من أجل إنتصار الإسلام النهائي وقمع المنافقين بأفضل وجه .
كان هذا عرضاً لمعركة الأحزاب التي وقعت في السنة الخامسة للهجرة(2) ، ومن هنا نتوجّه إلى تفسير الآيات ونؤجّل سائر جزئيات هذه الغزوة إلى بحث الملاحظات .
يلخّص القرآن الكريم هذه الحادثة في آية واحدة أوّلا ، ثمّ يتناول تبيان خصوصياتها في الستّ عشرة آية الاُخرى ، فيقول : {يا أيّها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود (كثيرة جدّاً) فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً} ويعلم أعمال كلّ جماعة وما قامت به في هذا الميدان الكبير .
وهنا جملة مطالب تستحقّ الدقّة :
1 ـ إنّ تعبير (اذكروا) يوحي بأنّ هذه الآيات نزلت بعد إنتهاء الحرب ومضي فترة من الزمن أتاحت للمسلمين أن يحلّلوا في عقولهم وأفكارهم ما كانوا قد رأوه ليكون التأثير أعمق .
2 ـ إنّ التعبير بـ «الجنود» إشارة إلى مختلف الأحزاب الجاهلية كقريش وغطفان وبني سليم وبني أسد وبني فزارة وبني أشجع وبني مرّة ، وكذلك إلى طائفة اليهود في داخل المدينة .
3 ـ إنّ المراد من (جنوداً لم تروها) والتي نزلت لنصرة المسلمين ، هو «الملائكة» التي ورد نصرها للمؤمنين في غزوة بدر في القرآن المجيد بصراحة ، ولكن كما بيّنا في ذيل الآية (9) من سورة الأنفال ، فإنّا لا نمتلك الدليل على أنّ هذه الجنود الإلهية اللامرئية نزلت إلى الميدان وحاربت ، بل إنّ القرائن الموجودة تبيّن أنّ الملائكة نزلت لرفع معنويات المؤمنين وشدّ عزيمتهم وإثارة حماسهم(3) .
وتقول الآية التالية تجسيداً للوضع المضطرب في تلك المعركة ، وقوّة الأعداء الحربية الرهيبة ، والقلق الشديد لكثير من المسلمين : {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنونا} .
يعتقد كثير من المفسّرين أنّ كلمة (فوق) في هذه الآية إشارة إلى الجانب الشرقي للمدينة ، وهو المكان الذي دخلت منه قبيلة غطفان ، و(أسفل) إشارة إلى غربها حيث دخلت منه قريش ومن معها .
إذا لاحظنا أنّ «مكّة» تقع في جنوب المدينة تماماً ، فمن الطبيعي أنّ قبائل المشركين أتت من الجنوب ، لكن ربّما كان وضع الطريق ومدخل المدينة في حالة بحيث إنّ هؤلاء قد داروا قليلا حول المدينة ودخلوا من الغرب . وعلى كلّ حال فإنّ الجملة أعلاه إشارة إلى محاصرة هذه المدينة من قبل مختلف أعداء الإسلام .
إنّ جملة (زاغت الأبصار) ـ بملاحظة أن «زاغت» من مادّة الزيغ ، أي الميل إلى جانب واحد ـ إشارة إلى الحالة التي يشعر بها الإنسان عند الخوف والإضطراب ، حيث تميل عيناه إلى جهة واحدة ، وتتسمّر وتثبت على نقطة معيّنة ، ويبقى متحيّراً حينذاك .
وجملة {بلغت القلوب الحناجر} كناية جميلة عن حالة القلق والإضطراب ، وإلاّ فإنّ القلب المادّي لا يتحرّك من مكانه مطلقاً ، ولا يصل في أي وقت إلى الحنجرة .
وجملة {وتظنّون بالله الظنونا} إشارة إلى أنّ بعض المسلمين كانوا قد خطرت على أفكارهم ظنون خاطئة ، لأنّهم لم يكونوا قد وصلوا بعد إلى مرحلة الكمال في الإيمان ، وهؤلاء هم الذين تقول عنهم الآية التالية : إنّهم زلزلوا زلزالا شديداً .
ربّما كان بعضهم يفكّر ويظنّ بأنّنا سننهزم في نهاية المطاف ، وينتصر جيش العدو بهذه القوّة والعظمة ، وقد حانت نهاية عمر الإسلام ، وأنّ وعود النّبي (صلى الله عليه وآله)بالنصر سوف لا تتحقّق مطلقاً .
من الطبيعي أنّ هذه الأفكار لم تكن عقيدة راسخة ، بل كانت وساوس حدثت في أعماق قلوب البعض ، وهذا شبيه بما ذكره القرآن في معركة اُحد ، حيث يقول : {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران : 154] .
ولا شكّ أنّ المخاطب في هذه الآية محل البحث هم المؤمنون ، وجملة {يا أيّها الذين آمنوا} التي وردت في الآية السابقة دليل واضح على هذا المعنى ، وربّما لم يلتفت الذين اعتبروا المنافقين هم المخاطبون هنا إلى هذه المسألة ، أو لعلّهم ظنّوا أنّ مثل هذه الظنون لا تتناسب مع الإيمان والإسلام ، في حين أنّ ظهور مثل هذه الأفكار لا يتعدّى كونها وسوسة شيطانية ، خاصّة في تلك الظروف الصعبة المضطربة جدّاً ، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لضعفاء الإيمان ، والحديثي العهد بالإسلام (4) .
هنا كان الإمتحان الإلهي قد بلغ أشدّه كما تقول الآية التالية : {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديداً} .
من الطبيعي أنّ الإنسان إذا اُحيط بالعواصف الفكرية ، فإنّ جسمه لا يبقى بمعزل عن هذا الإبتلاء ، بل ستظهر عليه آثار الإضطراب والتزلزل ، وكثيراً ما نرى أنّ الأشخاص المضطربين فكرياً لا يستطيعون الإستقرار في مجلسهم وتنعكس وبشكل واضح إضطراباتهم الفكرية من خلال حركاتهم وصفقهم يداً بيد .
وأحد شواهد هذا القلق والإضطراب الشديد ما نقلوه من أنّ خمسة من أبطال العرب المعروفين ـ وكان على رأسهم «عمرو بن عبد ودّ» ـ نزلوا إلى الميدان بغطرسة متميّزة وإعتداد بالنفس كبير ، فقالوا : هل من مبارز؟ سيّما عمرو بن عبد ودّ الذي كان يرتجز ويسخر من المسلمين ويستهزىء بالجنّة والآخرة ، وكان يقول : أيّها المسلمون ألم تزعموا أنّ قتلاكم في الجنّة؟ فهل فيكم من يشتاق إلى الجنّة؟ إلاّ أنّ السكوت ساد على معسكر المسلمين أمام سخريته وإستهزائه ودعوته للبراز ، ولم يجرؤ أحد على مناجزته ، إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هبّ لمبارزته ، وحقّق نصراً كبيراً للمسلمين ، وسيأتي ذلك مفصّلا في البحوث .
نعم . . إنّ الحديد يزداد صلابة وجودة إذا عرض على النار ، والمسلمون الأوائل كان يجب أن يوضعوا في بوتقة الحوادث الصعبة المرّة ، وخاصّة في غزوات كغزوة الأحزاب ، ليصبحوا أشدّ مقاومة وصلابة .
وقوله تعالى : {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا } [الأحزاب : 12 - 15]
المنافقون في عرصة الأحزاب :
فار تنوّر إمتحان حرب الأحزاب ، وابتلي الجميع بهذا الإمتحان الكبير العسير ، ومن الواضح أنّ الناس الذين يقفون ظاهراً في صفّ واحد في الظروف العادية ، ينقسمون إلى صفوف مختلفة في مثل هذه الموارد المضطربة الصعبة ، وهنا أيضاً إنقسم المسلمون إلى فئات مختلفة : فمنهم المؤمنون الحقيقيون ، وفئة خواصّ المؤمنين ، وجماعة ضعاف الإيمان ، وفرقة المنافقين ، وجمع المنافقين العنودين المتعصّبين ، وبعضهم كان يفكّر في بيته وحياته والفرار ، وجماعة كانوا يسعون إلى صرف الآخرين عن الجهاد ، والبعض الآخر كان يسعى إلى تحكيم أواصر الودّ مع المنافقين .
والخلاصة : فإنّ كلّ واحد قد أظهر أسراره الباطنية وما ينطوي عليه في هذه القيامة العجيبة ، وفي يوم البروز هذا .
كان الكلام في الآيات السابقة عن جماعة المسلمين ضعفاء الإيمان ، والذين وقعوا تحت تأثير الوساوس الشيطانية والظنون السيّئة ، وتعكس اُولى الآيات مورد البحث مقالة المنافقين ومرضى القلوب ، فتقول : {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً} .
جاء في تأريخ حرب الأحزاب : أنّه خلال حفر الخندق ، وبينما كان المسلمون مشغولين بحفر من الخندق ، إصطدموا بقطعة حجر كبيرة صلدة لم يؤثّر فيها أي معول ، فأخبروا النّبي (صلى الله عليه وآله) بذلك ، فأتى بنفسه إلى الخندق ووقف إلى جنب الصخرة ، وأخذ المعول ، فضرب الحجر أوّل ضربة قويّة فانصدع قسم منه وسطع منه برق ، فكبّر النّبي (صلى الله عليه وآله) وكبّر المسلمون .
ثمّ ضرب الحجر ضربة اُخرى فتهشّم قسم آخر وظهر منها برق ، فكبّر النّبي وكبّر المسلمون ، وأخيراً ضرب النّبي ضربته الثالثة ، فتحطّم الباقي من الحجر وسطع برق ، فكبّر النّبي (صلى الله عليه وآله) ورفع المسلمون أصواتهم بالتكبير ، فسأل سلمان النّبي عن ذلك فقال (صلى الله عليه وآله) «أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الاُولى ، وأخبرني جبرئيل أنّ اُمّتي ظاهرة عليها ، وأضاء لي في الثّانية القصور الحمر من أرض الشام والروم ، وأخبرني أنّ اُمّتي ظاهرة عليها ، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء ، وأخبرني أنّ اُمّتي ظاهرة عليها ، فأبشروا» فاستبشر المسلمون .
فنظر المنافقون إلى بعضهم وقالوا : ألا تعجبون؟ يعدكم الباطل ويخبركم أنّه ينظر من يثرب إلى الحيرة ومدائن كسرى وأنّها تفتح لكم ، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا؟ فأنزل الله : {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً} (5) .
والحقّ أنّ مثل هذه الأخبار والبشارات إعتبرها المنافقون في ذلك اليوم خدعة وغروراً ، إلاّ أنّ عين النّبي (صلى الله عليه وآله) الملكوتية كانت قادرة على رؤية فتح أبواب قصور ملوك ايران والروم واليمن من خلال الشرر المتطاير من ذلك الحجر ، ويبشّر هذه الاُمّة المضحيّة التي حملت القلوب على الأكفّ ، ويزيح الستار عن أسرار المستقبل .
وربّما لا نحتاج إلى التذكير بأنّ المراد من {الذين في قلوبهم مرض} هم المنافقون ، وذكر هذه الجملة توضيح في الواقع لكلمة «المنافقين» التي وردت من قبل ، وأيّ مرض أسوأ وأضرّ من مرض النفاق؟! لأنّ الإنسان السليم الذي له فطرة إلهيّة سليمة ليس له إلاّ وجه واحد ، أمّا اُولئك الذين لهم وجهان أو وجوه متلوّنة عديدة فإنّهم مرضى ، حيث إنّهم مبتلون دائماً بالإضطراب والتناقض في الأقوال والأفعال .
والشاهد لهذا الأمر ما ورد في بداية سورة البقرة في وصف المنافقين ، حيث تقول : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة : 10]
ثمّ تتطرّق الآية الاُخرى إلى بيان حال طائفة اُخرى من هؤلاء المنافقين مرضى القلوب ، والذين كانوا أخبث وأفسق من الباقين ، فمن جانب تقول الآية عنهم : واذكر إذ قالت مجموعة منهم للأنصار : يا أهل المدينة (يثرب) ليس لكم في هذا المكان موقع فلا تتوقّفوا هنا وارجعوا إلى بيوتكم : {وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا} .
وخلاصة الأمر أنّكم لا تقدرون على عمل أيّ شيء في مقابل جحفل الأعداء اللجب ، فانسحبوا من المعركة ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وبنسائكم وأطفالكم إلى ذلّ الأسر ، وبذلك كانوا يريدون أن يعزلوا الأنصار عن جيش الإسلام .
ومن جانب آخر : {ويستأذن فريق منهم النّبي يقولون إنّ بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلاّ فراراً} .
كلمة (عورة) مأخوذة من مادّة (عار) ، وتقال للشيء الذي يوجب ظهوره العار ، وتقال أيضاً للشقوق والثقوب التي تظهر في اللباس أو جدران البيت ، وكذلك للثغور الضعيفة والنقاط الحدودية التي يمكن إختراقها وتدميرها ، وعلى ما يخافه الإنسان ويحذره ، والمراد هنا البيوت التي ليس لها جدار مطمئن وباب محكم ، ويخشى عليها من هجوم العدوّ .
والمنافقين بتقديمهم هذه الأعذار كانوا يريدون الفرار من ساحة الحرب وإعتزال القتال ، واللجوء إلى بيوتهم .
وجاء في رواية : أنّ طائفة «بني حارثة» أرسلوا رسولا منهم إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)وقالوا : إنّ بيوتنا غير مأمونة ، وليس هناك بيت من بيوت الأنصار يشبه بيوتنا ، ولا مانع بيننا وبين «غطفان» الذين هجموا من شرق المدينة ، فائذن لنا أن نرجع إلى بيوتنا وندافع عن نسائنا وأولادنا ، فأذن لهم النّبي .
فبلغ ذلك «سعد بن معاذ» كبير الأنصار ، فقال للنبي (صلى الله عليه وآله) : لا تأذن لهم ، فإنّي اُقسم بالله أنّ هؤلاء القوم تعذّروا بذلك كلّما عرضت لنا مشكلة ، إنّهم يكذبون ، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يرجعوا .
و«يثرب» هو الإسم القديم للمدينة قبل أن يهاجر إليها النّبي (صلى الله عليه وآله) ، وبعد هجرته أصبح إسمها تدريجياً «مدينة الرّسول» ، ومخفّفها المدينة .
ولهذه المدينة أسماء عديدة ، ذكر لها الشريف المرتضى (رحمة الله عليه) أحد عشر إسماً آخر إضافةً إلى هذين الإسمين ، ومن جملتها : طيبة ، وطابة ، وسكينة ، والمحبوبة ، والمرحومة ، والقاصمة . ويعتقد البعض أنّ «يثرب» اسم لأرض هذه المدينة (6) .
وجاء في بعض الروايات أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قال : «لا تسمّوا هذه المدينة يثرب» وربّما كان ذلك بسبب أنّ يثرب في الأصل من مادّة «ثرب» (على وزن حرب) أي اللوم ، ولم يكن النّبي (صلى الله عليه وآله) ليرضى مثل هذا الإسم لهذه المدينة المباركة .
وعلى كلّ حال فإنّ خطاب المنافقين لأهل المدينة بـ (يا أهل يثرب) لم يكن خطاباً عشوائياً ، وربّما كان الباعث لخطابهم بهذا الإسم أنّهم كانوا يعلمون أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يشمئز من هذا الإسم ، أو أنّهم كانوا يريدون إعلان عدم إعترافهم بالإسلام واسم مدينة الرّسول ، أو أن يعودوا بأهلها إلى مرحلة الجاهلية!
وتشير الآية التالية إلى ضعف إيمان هذه الفئة ، فتقول : إنّ هؤلاء بلغ بهم ضعف الإيمان إلى درجة أنّ جيش الكفر لو دخل المدينة من كلّ جانب وصوب ، واستولى عليها ، ثمّ دعاهم إلى الشرك والكفر فسوف يقبلون ذلك ويسارعون إليه : {ولو دخلت عليهم من أقطارها ثمّ سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبّثوا بها إلاّ يسيراً} .
من المعلوم أنّ اُناساً بهذا الضعف والتزلزل وعدم الثبات غير مستعدّين للقاء العدو ومحاربته ، ولا هم متأهّبون لتقبّل الشهادة في سبيل الله ، بل يستسلمون بسرعة ويغيّرون مسيرهم ، وبناءً على هذا ، فإنّ المراد من كلمة «الفتنة» هنا هي الشرك والكفر ، كما جاء في آيات القرآن الاُخرى ، كالآية (193) من سورة البقرة : غير أنّ بعض المفسرين احتملوا أن يكون المراد من «الفتنة» هنا : الحرب ضدّ المسلمين ، بحيث إنّها لو عرضت على هؤلاء المنافقين لأجابوا إليها بسرعة ، ويعينوا أصحاب الفتنة! إلاّ أنّ هذا التّفسير لا يتلاءم مع ظاهر جملة : {ولو دخلت عليهم من أقطارها} وربّما إختار أكثر المفسّرين المعنى الأوّل لهذا السبب .
ثمّ يستدعي القرآن الكريم فئة المنافقين إلى المحاكمة ، فيقول : {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا} وعليه فإنّهم مسؤولون أمام تعهّدهم .
وقال البعض : أنّ المراد من هذا العهد والميثاق هو ذلك العهد الذي عاهد «بنو حارثة» عليه الله ورسوله يوم اُحد حينما قرّروا الرجوع عن ميدان القتال ثمّ ندموا بعد ذلك ، فقطعوا العهد على أنفسهم أن لا يرتكبوا مثل هذه الاُمور ، إلاّ أنّهم فكّروا مرّة ثانية في معركة الأحزاب في نقض عهدهم وميثاقهم (7) .
ويعتقد البعض أنّه إشارة إلى العهد الذي عاهدوا به رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غزوة بدر ، أوفي العقبة قبل هجرة النّبي (8) .
ولكن يبدو أنّ للآية أعلاه مفهوماً واسعاً يشمل هذه العهود والمواثيق ، وكلّ عهودهم الاُخرى .
إنّ كلّ من يؤمن ويبايع النّبي (صلى الله عليه وآله) يعاهده على أن يدافع عن الإسلام والقرآن ولو كلّفه ذلك حياته .
والتأكيد على العهد والميثاق هنا من أجل أنّه حتّى عرب الجاهلية كانوا يحترمون مسألة العهد ، فكيف يمكن أن ينقض إنسان عهده ويضعه تحت قدميه بعد إدّعائه الإسلام ؟
______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص345-353 .
2 ـ ما ذكرناه أعلاه كان إختصاراً لبحث مفصّل أورده المؤرخّون ، ومن جملتهم ابن الأثير في الكامل .
3 ـ لمزيد الإيضاح في هذا الباب راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (9) من سورة الأنفال .
4 ـ فسّر جمع من المفسّرين (الظنون) هنا بالمعنى الأعمّ من الظنّ السيء والحسن ، إلاّ أنّ القرائن الموجودة في هذه الآية والآية التالية تبيّن أنّ المراد من الظنون هنا السيّئة منها .
5 ـ الكامل لابن الأثير ، الجزء 2 ، صفحة 179 . وورد هذا الحادث بتفاوت يسير في سيرة ابن هشام ، وهو أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله)قال : أمّا الاُولى فإنّ الله فتح علي بها اليمن ، وأمّا الثّانية فإنّ الله
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|