المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
تـشكيـل اتـجاهات المـستـهلك والعوامـل المؤثـرة عليـها
2024-11-27
النـماذج النـظريـة لاتـجاهـات المـستـهلـك
2024-11-27
{اصبروا وصابروا ورابطوا }
2024-11-27
الله لا يضيع اجر عامل
2024-11-27
ذكر الله
2024-11-27
الاختبار في ذبل الأموال والأنفس
2024-11-27

تغير Variation
3-11-2015
مواجهة الطفل لنتائج سلوكه الصحيح
18-7-2022
الحكمة في وجود المتشابه في القرآن الكريم‏
26-04-2015
بيان حقيقة الدنيا.
2024-02-17
الجزئيات الحيوية Biomolecules
17-8-2017
عدد أنصار المهدي (عليه السلام)
4-08-2015


جمال الدين والثورة  
  
1246   11:34 صباحاً   التاريخ: 1-10-2019
المؤلف : عمر الدسوقي
الكتاب أو المصدر : في الأدب الحديث
الجزء والصفحة : ص:269-280ج1
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الحديث /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-03-2015 2423
التاريخ: 24-03-2015 1898
التاريخ: 2-10-2019 2979
التاريخ: 15-12-2019 695


لم يكن جمال الدين على وفاقٍ مع إسماعيل في أخريات أيامه، بل كان ناقمًا عليه لاستبداده وإسرافه، وتمكينه بسياسته للأجانب في البلاد، وكان يتوهم الخير في توفيق؛ إذ كان يجتمع به وهو وليٌّ للعهد، ويرى ميله للأخذ بنظام الشورى، ونقده لسياسة أبيه وإسرافه، وقد اجتمعا في محفل الماسونية، وتعاهدا على إقامة النظام النيابي.

(1/269)

بيد أن توفيقًا لم يف بعهدٍ بعد أن تولى الحكم، وسرعان ما تنكر لمبادئه ولأصدقائه, فلم يدخل نظام الشورى، ولم يحسن معاملة السيد جمال الدين الأفغاني، بل استمع لأقوال الوشاة من الإنجليز وسواهم؛ إذ حرضوه على إخراجه من مصر(1) فاستجاب لهم، ولم يكن كريمًا في معاملة هذا العبقريّ الشريف, بل استعمل معه غاية الغلظة والقسوة والجفاف، فسيق إلى دار الشرطة بليلٍ بعد انصرافه من مقهاه بغير غطاء أو فراش، وبات ليلته كما يبيت اللص الأفَّاق على أرض المخفر، ثم هرب إلى السيوس حيث رحلت به سفينة إلى الهند، وهكذا حرمت مصر مصدر خير كبير لها، وجازت هذا النابغة على فضله جحودًا وجفوة.
ومن العجيب أن يضم مجلس الوزراء الذي أصدر أمره بنفيه بحجة أنه "رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعةً على فساد الدين والدنيا" اثنين أعجب بهما وتوسم فيهما الخير: توفيق باشا، والبارودي، وكان ألمه بالغًا غايته للنكسة التي أصابت البارودي، وقد كان يؤمِّلُ فيه كل خير، ويعده ليومٍ عصيبٍ في تاريخ مصر، وقد ظلت هذه الآلام تَحِزُّ في نفسه حتى أخريات حياته, فقد زاره الأمير شكيب أرسلان وهو بالآستانة، ويدور الحديث حول ما روى من أن العرب عبروا المحيط الأطلسي قديمًا, وكشفوا أمريكا بدليل الأهرام الموجودة ببلاد المكسيك، فيقول السيد: "إن المسلمين أصبحوا كلما قال لهم الإنسان كونوا بني آدم أجابوه: إن آباءنا كانوا كذا وكذا، وعشاوا في خيال ما فعل آباءهم، غير مفكرين بأن مكان عليه أباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه من خمولٍ وضعةٍ، إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا: أفلا ترون كيف كان آباؤنا؟ نعم! قد كان آباؤكم رجالًا، ولكنكم أنتم أولاد كما أنتم، فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر آبائكم إلّا أن تفعلوا فعلهم؛ إن المسلمين قد سقطت هممهم، ونامت عزائمهم، وماتت خواطرهم، وقام شيء واحد فيهم هي شهواتهم، وهذا محمود سامي البارودي عاهدني ثم نكث معي, وهو أفضل من عرفت من المسلمين".
(1/270)

والحق أن موقف البارودي من السيد جمال الدين لا يمكن الدفاع عنه، وإذا كانت مصر قد حرمت شخص جمال الدين, فقد ظلَّت تعاليمه وروحه الثورية مشتعلة، قد انتقل منها قبس إلى كل من اتصل به، يتطلعون إلى نظامٍ جديدٍ في الحكم, حتى قامت الثورة العرابية، وكثير من أقطابها مدينون بأفكارهم وحماستهم للسيد جمال الدين.
أقام السيد جمال الدين بحيدر أباد بعد أن خرج من مصر، وهناك ألَّفَ كتابه في الرد على الدهريين، وفيه يثبت أن الدين أساس المدنية، والكفر فساد العمران، ويبطل فيه مذهب "داروين" في النشوء والارتقاء؛ لأن هذا المذهب قد أثار موجةً من الإلحاد والزندقة كادت تودي بالحياة الروحية بالشرق, وهي كل ما بقي له من تراث السلف، بعد أن نال منه الدهر غايته، وبَيَّنَ في هذه الرسالة كذلك, أن الدين أكسب عقول البشر ثلاث عقائد, وأودع نفوسهم ثلاث خصال؛ كلٌّ منها ركن لوجود الأمم, أما العقائد: فالأولى: التصديق بأن الإنسان ملك أرضيّ وأنه أشرف المخلوقات، والثانية: يقين كل ذي دين أن أمته أشرف الأمم, وكل مخالف له فعلى ضلالٍ وباطلٍ، والثالثة: يقينه بأن الإنسان جاء إلى الدنيا كي يكْمُلَ كمالًا يهيئه للعروج إلى عالمٍ أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي، وأما الخصال الثلاث: فهي الحياء والأمانة والصدق.
ويبين أن الإسلام يتميز على غيره من الأديان بمزايا عديدة؛ منها: صقل العقول بالتوحيد, وتطهيرها من لوثة الأوهام، ومخاطبة العقول حتى تؤمن, فلا يقبل الاعتقاد بدون دليل، وحرصه على تعليم الأمة ذكورًا وإناثًا.
ولما أخفقت الثورة العرابية، ودخل الإنجليز مصر, أبيح له أن يذهب أنَّى شاء في غير بلاد الشرق فاختار أوربا، وزار لندن, ثم انتقل إلى باريس، ووافاه إليها تلميذه الأكبر محمد عبده، وكان منفيًّا ببيروت, وهناك أصدرا معًا جريدة "العروة الوثقى".

(1/271)

جريدة العروة الوثقى:
وهي دليلٌ أخر على أن عزيمة السيد لا تفتر، وعلى أن اليأس لم يبلغ في نفسه مبلغًا يثنيه عن أداء رسالته، وقد كان من رأي الشيخ محمد عبده أن هذا الجيل من المسلمين، الذين يدعونه للرشاد واليقظة جيلٌ فاسدٌ ولا رجاء فيه، وأن الأولى أن تنشأ مدرسة يُربَّى بها عددٌ محدودٌ من خيار الشباب يقودون الأمة فيما بعد لما فيه خيرها ونفعها، ولكن هذه الفكرة لم ترق للسيد، ورأى فيها تثبيطًا للهمم، وكأني به يتعجل قطف الثمرة لهذه الغراس التي أودعها المتصلين به، وأصَرَّ على أن يوجِّه الدعوة إلى الجيل الحاضر من الناس في صورة جريدة "العروة الوثقى"، يكون له فيها الفكر المدبِّر والعقل المسيطر، وللشيخ محمد عبده القلم المحرر واللسان المعبر، ولميرزا محمد باقر الترجمة من الصحف الأوربية، ونقل كل ما يهم إلى الشرق والإسلام(2), وصدر من الجريدة ثمانية عشر عددًا، وكان شعلةً ملتهبةً متوجهةً من الحماسة والآراء الحرة الجريئة، وكانت حربًا شنَّهَا جمال الدين وزميلاه على الاستعمار الجشع، وكان طبيعيًّا أن يحاربها الاستعمار خشية أن تفسد عليه تفرده بالغنيمة, وقتله الشعوب التي وقعت في قبضته، فمنعها من دخول الهند ومصر(3).
ولما شعر السيد وزميلاه أن الأعداد لا تصل إلى أصحابها إلّا في النادر، وأنه قد حيل بينهم وبين وصول صوتهم إلى آذان الناس في مصر والشرق عطلوها، وإن لم يمت أثرها حتى اليوم.
عود إلى الرحلة:
لما عطلت الجريدة، وانفرط عقد هذه الجماعة الصغيرة المجاهدة، ورجع الشيخ محمد عبده وميزرا باقر إلى بيروت، وطلب شاه العجم السيد جمال الدين فلَبَّى دعوته علَّه يجد ميدانًا صالحًا للجهاد، وأرضًا خصبةً لغرس تعاليمه، ومَلِكًا شهمًا مستنيرًا ينفذ آراءه, فيكون هو الأمل المنشود، ولكن هيهات وملوك ذاك الزمان ما ألفوا أن يشاركهم في سلطانهم أن جاههم أحدٌ، ولذلك سئم الشاه "نصر الدين" صحبة السيد، ودبت في نفسه الغيرة منه، ولما أحسَّ جمال الدين أنه أخذ
(1/272)

يتنكر له, استأذن في الرحيل، ويَمَّمَ صوب روسيا، حيث قضى بها ثلاث سنوات, يحرك روسيا ضد إنجلترا، ويشن هجمات متتالية شديدة على شاه الفرس كي يقر النظام الشوري، ولما سأله القيصر عن سبب عدواته للشاه, أجاب بأنه نظام الشورى الذي لا يرضيه، والذي لا أنفك أدعو إليه ما حييت، فقال القيصر: إن الشاه على حق، فكيف يرضى مَلِكٌ أن يتحكم فيه فلاحو مملكته، فقال السيد: أعتقد يا جلالة القيصر أنه خيرٌ للملك أن تكون ملايين رعيته أصدقاءه من أن يكونوا أعداءه يترقبون له الفرص، فلم يعجب القيصر هذا الحديث، وكان من الطبيعيّ ألَّا يعجبه وهو المستبد الذي لا ينازعه سلطته منازع، ولذلك عمل على إبعاده من روسيا(4).
ومن ثَمَّ توجه السيد إلى باريس، وفي طريقه إليها تقابل مع الشاه مرةً ثانيةً واعتذر للسيد عما حدث، ووعده أن يمهد له طريق الإصلاح إن هو عاد معه، وتمنَّع السيد جمال الدين، ولكن رغبته في الإصلاح وحرصه عليه جعلته يقبل الرجوع إلى طهران، وفيها أخذ يُعِدُّ العدة للإصلاح وإقامة العدل، هو ومن التفَّ حوله من العلماء والعظماء، والشاه يظهر استعداده لتقبل هذا الإصلاح، ولكن الصدر الأعظم في تركيا خشي إن تمكن نظام الشورى في فارس أن تسري عدواه، فوسوس للشاه، ونفَّرَه من هذا الإصلاح بدعوى أن ذلك يحد من سلطانه، ويتركه إمعةً لا رأي له في بلده، فتجهم للسيد جمال الدين، ولكن هذا لجأ إلى ضريح وليٍّ في بلاده "شاه عبد العظيم" وهو حرمٌ من دخله كان آمنًا، ووافاه جم غفير من العلماء والزعماء ولقنهم دعوته، وملأ قلوبهم إحنًا وبغضًا للشاه ونظامه، فاغتاظ هذا, وأرسل جنده إليه، واقتحموا عليه الضريح غير مبالين بحرمته، ولا بمرض السيد، وفي ذلٍّ يقول: "سحبوني على الثلج إلى دار الحكومة بهوانٍ وصغار وفضيحةٍ لا يمكن أن يتصور دونها في الشناعة ... ثم حملتني زبانية الشاه وأنا مريض -على برذون، مسلسلًا، في فصل الشتاء, وتراكم الثلوج والرياح الزمهريرية, وساقتني جحفلة من الفرسان إلى خانقين" ومنها سافر إلى البصرة, وهو في أشد حالات المرض، وكاد يقضى عليه لولا رحمة الله به(5).
(1/273)

ولكن هذا المكافح أبى أن يتقبل هذه الإهانة, وأقسم ألّا يكفَّ عن الشاه حتى يسقطه عن عرشه, وقد بَرَّ بقسمه، وذلك بتحريضه العلماء والزعماء, وتعديده مساوئ الشاه وتجسيمه أخطاءه، ولا سيما تعاقده مع شركة إنجليزية للدخان، واضطر الشاه إلى فسخ العقد, ودفع تعويض مالي كبير، فكان ذلك أول خطورة في الانتقام.
وأخيرًا ذهب السيد إلى لندن, وأصدر مجلةً شهريةً سماها: "ضياء الخافقين" بالعربية والإنجليزية، وكان يكتب بها مقالاتٍ بإمضاء "السيد الحسيني".
خاتمة المطاف:
ثم رأى السلطان عبد الحميد أن يدعو إليه جمال الدين خشية أن ينضم إلى حزب تركيا الفتاة فيزيد قوته، وأرسل عبد الحميد رجاله يغرون السيد بالسفر إلى الآستانة, ويمنونه الأمانيّ الحلوة حتى استجاب لدعواه, فكان بها كأنه في قفص من ذهب، ويحصون عليه حركاته وأقواله، وإن لقي من السلطان حظوةً عالية. بيد أن الحاشية ولا سيما أبو الهدى الصيادي, ذلك الداهية المحتال الذي أتقن فن الدس والمؤامرات, وتمكَّن من قلب السلطان حتى أصبح قوَّةً غلابةً، وقد أفسدوا السلطان عليه، وما لبث عبد الحميد أن اصطدم بآراء السيد وجرأته، ولم يدع السيد فرصةً إلّا حرَّضه فيها على الإصلاح، وإقصاء الخونة والجبناء عن حاشيته, ولكن لم يستجب لشيءٍ من هذا.
ولما قُتِلَ شاه العجم سنة 1896 على يد أحد تلاميذ السيد, اشتدت الريبة في جمال الدين, وضُيِّقَ عليه حتى صار محبوسًا في قصره، ولما أراد الرحيل ترضَّاه السلطان خشيةَ أن يشنها عليه حربًا شعواء في الخارج، وهو تحت سمعه وبصره أهون، ثم مرض السيد بالسرطان في فمه ومات، وشاعت الأقوال بأنه مات مسمومًا، أو أن الطبيب أهمل في علاجه عمدًا(6), وكانت وفاته في 9مارس سنة 1898، ودفن في قبرٍ حقيرٍ كما يدفن أقل الناس، وطُمِسَت معالم هذا القبر إلى أن قَيَّضَ الله رجلًا أمريكيًّا يبحث عنه, حتى وجده فجدده، وبنى عليه حاجزًا حديديًّا, وشاده بالرخام, وكتب على أحد وجوه
(1/274)

الرخام اسم السيد وتاريخ ولادته ووفاته، وفي وجه آخر العبارة الآتية: "أنشأ هذا المزار الصديق الحميم للمسلمين في أنحاء العالم, الخيِّر الأمريكانيّ, المستر "شارلس كرين" سنة 1926" وهكذا خمدت هذه الشعلة المتوهجة، وإن ظلت آثارها حتى اليوم في نفوس من خالطوه وأخذوا عنه، وفي نفوس تلاميذه وأتباعهم والأجيال التي تأثرت بهم.
نبذة من آرائه:
1-
مر بك في ثنايا هذه الترجمة الموجزة شيءٌ من آراء السيد جمال الدين، وهناك بعضٌ من أفكاره وتعاليمه ونظراته إلى الحياة جديرةٌ بالنظر، فقد كان في أول حياته طموحًا، ذا خيال واسع، وأمل عريض, شمل الإنسانية جمعاء، حتى دعاه ذلك التفكير في السبب الذي يدعو الناس إلى الاختلاف والخصام، ويدعو الدول إلى الحروب والعداء، وهداه تفكيره إلى أن السبب الأول: هو تعصب رجال الدين في كل ملة, وسوء توجيههم للشعوب، وشحن قلوبهم بالحقد والبغضاء لكل مَنْ خالف دينهم، وفي هذا يقول: "ورجعت إلى أهل الأرض وبحثت في أهم ما فيه يختلفون فوجدته الدين، فأخذت الأديان الثلاثة، وبحثت فيها بحثًا مجردًا عن كل تقليدٍ, منصرفًا عن كل تقيد, مطلقًا للعقل سراحه" ووجد أن الأديان الثلاثة تتفق في الغاية والمبدأ وأنه "إذا نقص في الواحد شيء من أوامر الخير المطلق استكمله الثاني, وإذا تقادم العهد على الخلق، وتمادوا في الطغيان، وساءت الكهان فهم الناموس, أو أنقصوا من جوهره أتاهم رسول فأكمل لهم ما أنقصوه، وأتم بذاته ما أهملوه" وإذا كانت الأديان متفقةً في المبدأ والغاية, فما الذي يحول بين أهل هذه الأديان وبين الاتحاد؟ إن اتفاقهم ووحدتهم تكفل لهم السعادة للبشرية، وبعد ذلك يقول: "وأخذت أضع لنظريتي هذه خططًا وأخط أسطرًا، وأحبِّرُ رسائل للدعوة، كل ذلك وأنا لم أخالط أهل الأديان كلهم عن قرب، ولا تعمقت في أسباب اختلاف حتى أهل الدين الواحد، وتفرقهم فرقًا وشيعًا وطوائف".

 

(1/275)

ولكن سرعان ما أدرك أن دون هذا الاتحاد أهوالًا وأهوالًا، ولقد نسي قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} وأن من يتعرض لهذه الدعوة يُرْمَى بالكفر والإلحاد، والخروج عن جادة الدين، وقد رُمِيَ بذلك فعلًا, ولهذا باء بالإخفاق: "انقلبت أفراحي بالخيال أتراحًا، ورجعت عن نظريتي والفشل ملء إهابي وجبتي"(7).
وتطامن من أهدافه، ووجد أن الشرق المسكين أولى بالرعاية والعناية، وأن إصلاح العالم كله محال، ولذلك عكف على جهاده في سبيل هذا الشرق، وكان متألمًا لبعض الخلافات الدينية بين أبناء الملة الواحدة؛ كالسنة والشيعة.
2-
كان يرى أن لا موجب لسد باب الاجتهاد في الدين، وعلى المسلمين إذا أرادوا التقدم أن يستعملوا عقولهم، ويستنبطوا كما استنبط أسلافهم أحكامًا تتمشى مع زمنهم وبيئاتهم، ويقول: ما معنى أن باب الاجتهاد مسدود؟ وبأيِّ نصٍّ سُدَّ؟ ومن قال: لا يصح لمن بعدي أن يجتهد ليتفقه في الدين ويهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث, والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمن وأحكامه؟ إن الفحول من الأئمة اجتهدوا وأحسنوا, ولكن لا يصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن، واجتهادهم فيما حواه القرآن ليس إلّا فطرةً، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده(8)".
وإذا تأملت أهداف جريدة "العروة الوثقى" التي ذكرها في المقال الافتتاحيّ, أدركت إلى حدٍّ ما بعض آراء جمال الدين في إصلاح الشرق، وقد عرفت أن جمال الدين كانت له الفكرة التي يعبر عنها محمد عبده في الحرية، وهاك بعض هذه الأهداف والآراء:
أ- بيان الواجبات على الشرقيين التي كان التفريط فيها موجبًا للسقوط والضعف، وتوضيح الطرق التي يجب سلوكها لتدارك ما فات، ويستتبع ذلك بيان أصول الأسباب و مناشئ العلل التي أفسدت حالهم، وعمت عليهم طريقهم، وإزاحة الغطاء عن الأوهام التي حلت بهم.
(1/276)

ب- إشراب النفوس عقدية الأمل في النجاح، وإزالة ما حلَّ بها من اليأس.
ج- دعوتهم إلى التمسك بالأصول التي كان عليها أسلافهم, وهي ما تمسكت به الدول الأجنبية العزيزة الجانب.
د- الدفاع عما يُرْمَى به الشرقيون عمومًا والمسلمون خصوصًا من التهم, وإبطال زعم الزاعمين أن المسلمين لا يتقدمون في المدنية ما داموا متمسكين بأصول دينهم.
هـ- تقوية الصلات بين الأمم الإسلامية، وتمكين الألفة بين أفرادها, وتأمين المنافع المشتركة بينها، ومناصرة السياسة الخارجية التي لا تميل إلى الحيف والإجحاف بحقوق الشرقيين.
وكان جمال الدين يعتز بشرقيته وبلغته، ويشمئز من هؤلاء الذين يتنكرون لقوميتهم ولغتهم؛ فإن هذا التنكر يساعد المستعمر, بل هو أثر من آثار تعاليمه يرمي بها إلى الحطِّ من شأن كل ما هو شرقيّ, ولإضعاف لغة القوم، والتدرج بقتل التعليم القوميّ، وتنشيط القائلين من الشرقيين بأن ليس في لسانهم العربيّ أو الفارسيّ أو الأرديّ أو الهنديّ آداب تؤثر، ولا في تاريخهم مجد يذكر": لقد بلغ ببعضهم السفه "أن ينفروا من سماع لغتهم، وأن يتباهوا بأنهم لا يحسنون التعبير بها، وأن ما تعلموه من الرطانة الأعجمية هي منتهى ما يمكن الوصول إليه من المدركات البشرية".
وقد عرفت فيما سبق كفاحه في سبيل حرية الشعوب، ومطالبته بنظام الشورى, ووقوفه أمام الحكام المستبدين كالجبل الأشمِّ في جرأةٍ وعزة نفسٍ، واستنهاضه الهمم، كي تقوى دولةٌ إسلاميةٌ تكون النواة التي يلتف غيرها حولها, وبذلك يعاد مجد الإسلام قويًّا أمام مطامع الغرب وعسفه.
ولقد كان جمال الدين عالمًا ومفكرًا وفيلسوفًا ومصلحًا اجتماعيًّا، أشرب قلبه حب بلاده ودينه، وأرسله الله في هذه الحقبة من التاريخ ليبدد دياجير الجهل ويبعث الحمية في النفوس.

(1/277)

ولقد أرغم خصومه على احترامه بصراحته وجرأته، ولقد رأيت كيف ضاقوا به ذرعًا في كل مكان؛ لأنه كان حربًا على الجهل والظلم والقسوة والطغيان، ولقد أقرَّ له الغربيون بالفضل, حتى لقد قال عنه "رينان" وهو من هو في كراهته للمسلمين: "ولقد يخيل إليَّ من حرية فكر الأفغاني ونبالة شيمه وصراحته -وأنا أتحدث إليه- أني أرى أحد معارفي من القدماء وجهًا لوجه، وأني أشهد ابن سينا وابن رشد, أو واحدًا من العظام الذين ظلوا قرونًا عدة يعملون على تحرير الإنسانية من الإسار".
أسلوبه في الكتابة:
لم يكن جمال الدين مفطورًا على اللغة العربية مطبوعًا على أساليبها الفصيحة؛ لأنها ليست لغته الأولى، وإنما تعلمها تعلمًا، ولم يكن حظه من آدابها كثيرًا، ولم يتذوق منازع بلاغتها بقدر كبير، ولكنه أفادها فائدةً جليلةً بإرشاد تلاميذه إلى التحرر من القيود الثقيلة التي كانت ترسف فيها الكتابة الإنشائية من محسنات بديعية مختلفة، وسجعٍ متكلَّفٍ ممقوت، واستعاراتٍ غريبة, وغير ذلك مما أفسد المعنى وستر الأفكار عن الوضوح والجلاء؛ كما أرشدهم إلى تجنب المقدمات الطويلة؛ وطبعي أن يصرفهم إلى الاهتمام بالمعاني؛ لأن هناك أشياء كثيرة يريدون الإبانة عنها، والإفاضة فيها، ولا يتسع هذا النثر المقيد لكل تلك المعاني, ولا يستطيع إيضاحها كاملة, ولقد رأيت فيما سبق نماذج من هذا النثر دبجها تلاميذه، مثال: محمد عبده وأديب إسحاق، وقد قال أديب عن أسلوبه الذي تاثَّر فيه بتعاليم جمال الدين: "رأيت أن أصرف العناية والاجتهاد إلى تهذيب العبارة، وتقريب الإشارة؛ لتقرير المعنى في الأفهام، ومن أقرب وأعذب وجوه الكلام، وانتقاء اللفظ الرشيق للمعنى الرقيق، متجنبًا من الكلام ما كان غريبًا وحشيًّا أو مبتذلًا سوقيًّا، فإن التهافت على الغريب عجز، وفساد التركيب بالخروج عن دائرة الإنشاء داء إذا سرى في القراء والمطالعين أدى إلى فساد عام، وأغلق على الطلبة معاني كتب العلم، والتنازل إلى ألفاظ العامة يقضي بإماتة اللغة وإضاعة محاسنها، وإن في لغة القوم لدليلًا على حالهم".

(1/278)

هذا الوصف الذي ذكره أديب إسحق لنثره, هو أثر من تعاليم جمال الدين, وسترى من النموذج الذي سأعرضه عليك من نثره أن جمال الدين -وإن لم يكن من المطبوعين على أساليب العربية الجميلة، إلّا أنه كان ينتزع البلاغة انتزاعًا, فترى لقلمه سطوةً لا تراها لكثير من الأقلام، وقد مر بك ما قاله الشيح محمد عبده في قدرته على تفتيق المعاني والاحتفال بها، ومن مزايا أسلوبه كثرة الجمل الاعتراضية، والفصل بين فعل الشرط وجوابه, أو المسند والمسند إليه بفواصل طويلة، وهذا ناشئ من ترتيب فكره, وتعوده على الأساليب الفارسية الأعجمية، كما كانت لديه جرأة في استعمال القياس في اللغة, فيأتي بمجموعٍ لم يعرفها العرب, وصيغ لم تسمع في لغتهم, وكان من مستلزمات كتابته, وأثر عجمته, إدخال "الـ" على الأعلام.
هذا وقد وفينا موضوعات النثر في ذلك العصر حقها من الكلام، وبينَّا الأسلوب الذي تميَّزَ به كلٌّ منها، فألق عليها نظرة لتقف على أسلوب جمال الدين، فقد كان المرشد للكُتَّاب، وإن لم يكتب هو إلّا القليل، ومن هذا القليل الرسالة الآتية التي بعث بها إلى عبد الله باشا فكري يعتب عليه، وقد بلغه أن رجلًا ذمه أمام الخديو على مسمعٍ من فكري باشا, فسكت ولم يدافع عنه، وهي من النوع الأدبيّ, ولذلك احتفى بأسلوبها أيما احتفاء، وفيها تتجلى خصائص أسلوبه عامة.
"
مولاي. إن نسبتك إلى هوادة في الحق وأنت -تقدست جبلتك- فطرت عليه، وتخوض الغمرات إليه، فقد بعت يقيني بالشك، وإن توهمت فيك حيدانًا عن الرشد, وجورًا عن القصد, وأنا موقنٌ أنك ما زلت على السداد غير مفرطٍ في الحق ولا مفرط، فقد استبدلت علمي بالجهل, ولو قلت: إنك من الذين تأخذهم في الحق لومة لائم، وتصدهم عن الصدق خشية ظالم، وأنت تصدع به غير وانٍ ولا ضجر، ولو ألب الباطل الكوراث المردية، وأرى عليك الخطوب الموبقة لكذبت نفسي وكذبني من يسمع مقالتي؛ لأن العالم والجاهل، والفطن والغبي كلهم قد أجمعوا على طهارة سجيتك, ونقاوة سريرتك, واتفقوا على أن الفضائل حيث أنت، والحق معك أينما كنت, لا تفارق المكارم ولو اضطررت، وأنت مجبول على الخير لا

(1/279)

يحوم حولك شر أبدًا، ولا تصدر عنك نقيصة قصدًا، ولا تهن في قضاء حقٍّ, ولا تني عن شهادة صدق، ومع هذا وهذا وذاك, أنك مع علمك بواقع أمري، وعرفناك بسريرتي وسري، أراك ماذدت عن حق كان واجبًا عليك حمايته، ولا صنت عهدًا كانت عليك رعايته, وكتمت الشهادة، وأنت تعلم أني ما أضمرت للخديو ولا للمصريين شرًّا، ولا أسررت لأحد في خفيات ضميري ضرًّا، وتركتني وأنياب النذل اللئيم "فلان" حتى نهشني السبع الهرم والعظام، ضغينةً منه على السيد إبراهيم اللقاني، وإغراء من أعدائي أحزاب "فلان".
ما هكذا الظن بك, ولا المعروف من رشدك وسدادك, ولا يطاوعني لساني -وإن كان قلبي مذعنًا بعظم منزلتك في الفضائل، ومقرًّا بشرف مقامك في الكمالات- أن أقول عفا الله عما سلف، إلّا أن تصدع بالحق، وتقيم الصدق، وتظهر الشهادة؛ إزاحةً للشبهة وإدحاضًا للباطل، وإخزاءً للشر وأهله، وأظنك قد فعلت أداءً لفريضة الحق والعدل. ثم إني يا مولاي أذهب إلى لندن ومنها إلى باريس مسلمًا، وداعيًا لكم، والسلام عليكم وعلى أخي الفاضل البار أمين بك".
8
صفر سنة 1300 جمال الدين الأفغاني.

(1/280)

 

 

__________
(1) المنار ج8 ص 404 وانظر كذلك The persian: F.G. Browne p.8 وتاريخ الإمام ج1 ص70.

(2) تاريخ الإسلام ج2 ص229، والمنارج8 ص255.
(3) المنار ج8 ص 462, مشاهير ج2 ص57.

)4) The Persian Revolution, p.LL.70.
(5) Persian Revolution.p11. وتاريخ الإمام ج1 ص55.

(6) راجع حاضر العالم الإسلامي, ج1 ص204.

(7) قدري طوقان, جمال الدين: أراؤه وأثره في نهضة الشرق, ص20.
(8) خاطرات: محمد باشا المخزومي.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.