المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

علوم اللغة العربية
عدد المواضيع في هذا القسم 2764 موضوعاً
النحو
الصرف
المدارس النحوية
فقه اللغة
علم اللغة
علم الدلالة

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية

Artificial spoken languages
2024-01-25
كيفية تقسيم الخمس
2024-07-09
المعارف ليست ضرورية
9-06-2015
درجات الإخلاص
10-6-2021
معاني صيغ اخرى
17-02-2015
مذهـب الاستعـارة في تحديد مسؤولية الشريك عن النتيجة المحتملة
27-3-2016


الدلالة (المقام والمقال)  
  
11694   11:12 صباحاً   التاريخ: 9-4-2019
المؤلف : تمام حسان
الكتاب أو المصدر : اللغة العربية معناها ومبناها
الجزء والصفحة : ص337- 355
القسم : علوم اللغة العربية / علم الدلالة / قضايا دلالية اخرى /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-4-2018 1140
التاريخ: 20-2-2019 2516
التاريخ: 30-4-2018 1279
التاريخ: 21-4-2018 462


المقام والمقال
وفكرة "المقام" هذه هي المركز الذي يدور حول علم الدلالة الوصفية في الوقت الحاضر, وهو الأساس الذي ينبني عليه الشق أو الوجه الاجتماعي من وجوه المعنى الثلاثة, وهو الوجه الذي تتمثَّل فيه العلاقات والأحداث والظروف الاجتماعية التي تسود ساعة أداء "المقال". ومن المعروف أن إجلاء المعنى على المستوى الوظيفي "الصوتي والصرفي والنحوي", وعلى المستوى المعجمي فوق ذلك لا يعطينا إلّا "معنى المقال" أو "المعنى الحرفي" كما يسميه النقاد, "أو معنى ظاهر النص" كما يسميه الأصوليون, وهو -مع الاعتذار الشديد للظاهرية- معنى فارغ تمامًا من محتواه الاجتماعي
ص337
والتاريخي منعزل تمامًا عن كل ما يحيط بالنص من القرائن الحالية التي تشبه ما يسمونه في المرافعات cirumstantial evidenec, وهي القرائن ذات الفائدة الكبرى في تحديد المعنى, ولقد كان علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- فاهمًا تمامًا لكل هذه الحقائق التي نحاول شرحها حين ردَّ على هتاف الخوارج "لا حكم إلّا الله" بقوله: "كلمة حق أريد بها باطل", وكان يعني أن الناس ربما قنعوا بالمعنى الحرفي لهذا الهتاف, أي: بمعنى "ظاهر النص" فصدَّقوا أن الخوارج أصحاب قضية تستحق أن يدافع الناس عنها, وربما غفل الناس عن المقام الحقيقي الذي ينبغي لهذه الجملة أن تفهم في ضوئه, وهو مقام "محاولة إلزام الحجة سياسيًّا بهتاف ديني" فالمقام في هذا الهتاف من السياسة والمقال من الدين، وكان ينبغي للناس أن يفهموا المقال في ضوء المقام.
والفرق بين ما يسميه الناس "نص القانون" وبين ما يسمونه "روح القانون" هو فرق ما بين الاكتفاء بمعنى "المقال" وبين عدم الاكتفاء به والغوص وراء المراد الحقيقي للمشروع وهو معنى "المقام", يقول أحمد أمين: "بل يظهر لي أن عمر كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرنا، ذلك أن ما ذكرنا هو استعمال الرأي حيث لا نصَّ من كتاب ولا سنة، ولكنا نرى عمر سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرف المصلحة التي لأجلها كانت الآية أو الحديث، ثم يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شيء إلى ما يعبَّر عنه بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته"(1) . وأقول أنا: إن معنى ذلك أن عمر لم يكن يكتفي بمعنى "المقال", أو بعبارة أخرى: لم يكن يكتفي بمنطوق الآية أو الحديث, وإنما كان يتوغّل في سبيل معرفة أسباب النزول وظروفه الاجتماعية والتاريخية, أي: إنه كان يتخطَّى المعنى الحرفي إلى المعنى الاجتماعي, ولا يقف عند معنى "المقال" وإنما يضمّ إليه معنى "المقام". ومن قبيل استغلال معنى "المقال" والمراوغة بنفي "معنى المقام" ما حدث من أنَّ اليهود في المدينة حينما سمعوا الآية القائلة: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا
ص338
حَسَنًا} قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} فقال أبو الدحداح وقد فهم "المقام" فهمًا حقيقيًّا: "إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا". وهذا يذكرنا بالمستشرق الذي سمع أحد الدراويش في إحدى طرقات القاهرة يصيح "مدد! ", وكان المستشرق يعرف المعنى المعجمي للكلمة, ولكنه لا يعرف ما وراءها من "مقام" ولذلك استفسر: "أيّ نوع من المدد يريده ذلك الرجل"؟ وأخيرًا ينبغي لنا أن نشير إلى أن المفسرين قد فطنوا منذ زمن سحيق في القدم إلى الفرق بين ظاهر القرآن وباطنه, فكان فهمهم لهذا الفرق تفريقًا منهم بين المعنى "المقالي" والمعنى "المقامي"، فإذا كان المعنى الدلالي يعتمد على هاتين الدعامتين فإن الشكل التالي ربما يوضح العلاقة بينهما توضيحًا كافيًا:
 
وقد يستعار "المقال" المشهور "للمقام" الطارئ "وهو ما يسمَّى بالاستشهاد أو الاقتباس" أثناء الحديث، والأصل في ذلك أننا نستطيع أن نوفق بين كلام ذائع الشهرة انقضى مقامه الأصلي الذي قيل فيه وبين مقام مشابه وجدنا أنفسنا فيه الآن, فنورد الكلام القديم الشهير في المقام الجديد على سبيل التلفيق. وكلما قوي التناسب بين المقال الشهير وبين المقام الطارئ كان ذلك من حسن الاستشهاد, ولقد رزق أبو بكر -رضي الله عنه- القدرة على حسن

ص339
الاستشهاد فمن ذلك استشهاده بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ولقد قال عمر عند سماعه هذا الاستشهاد ما معناه: والله لكأني لم أسمع هذه الآية من قبل. ومن ذلك أيضًا, ولعله حدث في اليوم نفسه في اجتماع السقيفة استشهاده أمام الأنصار بقول طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفرًا حين أزلفت ... بنا نعلنا في الخافقين فزلت
أبو أن يملّونا ولو أن أمنا ... تلافي الذي يلقون منا لملت
همو أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأظلت
ولقد كان لكلٍّ من هذين الاستشهادين أثره الحاسم في إصلاح مقامين من أخطر مقامات الفتنة في التاريخ الإسلامي.
وقد يستخدم النص الواحد في الاقتباس بحيث يرد جزء منه على جزئه الآخر كالذي يروى عن أحد علماء الأزهر, وكان بينه وبين زميل له ميل إلى المنافرة, فدخل المسجد الأزهر ذات يوم من أيام الشتاء فوجد زميله مستلقيًا تحت دفء الشمس وقد غطَّى وجهه بمنديلٍ فظنَّه نائمًا فوقف عنده وقال: "الفتنة نائمة" فاعتدل زميله من رقدته وقد تصنَّع صورة الذي أوقظ من نومه وقال: "لعن الله من أيقظها" فنرى من ذلك أن عبارة الحديث قد انقسمت إلى قسمين ردَّ ثانيهما على أولهما. والمغزى من وراء كل ذلك أن من المقال ما يتَّصف بصفات معينة أو ما تتوافر له مزايا معينة تجعله صالحًا للاستحضار في المقامات التي تشبه مقامه الأصلي الذي قيل فيه, فيصبح المقال القديم جزءًا من المقام الجديد, فيدخل في تحليل هذا المقام الجديد. ولقد كنَّا نسمع ونحن بعد طلبة في دار العلوم أن قبيلتين عراقيتين ذواتي آصرة حدث بينهما نزاع, فكان ممن ندب للصلح بينهما أستاذنا المرحوم الشاعر علي الجارم وكان وكيل دار العلوم في ذلك الحين, وقد سمعنا أنه نجح نجاحًا عظيمًا حين استشهد بقول البحتري:
ص340
شواجر أرماح تقطع دونها ... شواجر أرحام ملوم قطوعها
إذا احتريت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها
فبكى لسماع هذا الشعر رجال القبيلتين وتصالحوا, وما ذلك إلّا لأنَّ المقال القديم المشهور قد قيل مرة أخرى في مقام يكاد يكون تامّ الشبه بمقامه الأصلي القديم.
وللوصول إلى معنى في صورته الشاملة لا بُدَّ أن نستخدم الطرق التحليلية التي تقدمها لنا فروع الدراسات اللغوية المختلفة التي فصَّلنا القول فيها من قبل, وهي الصوتيات والصرف والنحو "أي الفروع الخاصة بتحليل المعنى الوظيفي", ثم المعجم "وهو الخاص بالمعنى المعجمي", والحقائق التي نصل إليها بواسطة التحليل على هذه المستويات حقائق جزئية بالنسبة إلى المعنى الدلالي. ذلك بأن هذه الحقائق إما أن تكون وظائف "كما في الصوتيات والصرف والنحو" أو علاقات عرفية اعتباطية "كما في المعجم". فالوظائف تتضح كما سبق نتيجة للتحليل على المستويات الثلاثة الأولى, أما العلاقات العرفية الاعتباطية التي ذكرناها فالمقصود بها العلاقات بين المفردات وبين معانيها. ولقد سبق لنا عند الكلام عن الجملة الهرائية التي أوردناها في التقديم لدراسة "النظام النحوي" أن وجدنا هذه الجملة الهرائية مكتملة الوظائف ولكنها تفتقد العلاقات العرفية المعجمية؛ لأنها ليست مكونة من كلمات ذات معنى, وكذلك تفتقد العنصر الاجتماعي وهو "المقام". ولقد كان اكتمال الوظائف سببًا في قدرتنا على إعراب الجملة, ولكن قصورها معجميًّا واجتماعيًّا حال بينها وبين أن تكون نصًّا عربيًّا مفهومًا.
وكذلك الأمر حين تنفرد العلاقات العرفية بين الكلمات ومعانيها بالوجود, فلا تكون هناك وظائف ولا مقام. إن مجرد وضوح هذه العلاقات لا يؤدي إلّا إلى فهم للكمات المفردة على المستوى المعجمي إذ أنها هنا لم توضع في سياق. ووضوح معاني المفردات لا يكشف حتى عن المعنى الحرفي الذي سميناه "ظاهر النص" أو معنى "المقال"؛ لأن الذي لدينا هنا هو "المفردات" وليس "النص", وذلك أيضًا لأن معنى "ظاهر النص" يحتاج إلى الوظائف
ص341
"المعنى الوظيفي", كما يحتاج إلى العلاقات العرفية بين المفردات ومعانيها "المعنى المعجمي"؛ إذ منهما معًا يكون معنى "المقال"، وانفراد العلاقات العرفية بين المفردات ومعانيها بالوجود يجعل الأمر بحاجة أيضًا إلى معنى "المقام" أو المعنى الاجتماعي الذي هو شرط الاكتمال "المعنى الدلالي" الأكبر، ومعنى هذا بالتالي أننا حين نفرغ من تحليل الوظائف على مستوى الصوتيات والصرف والنحو, ومن تحليل العلاقات العرفية بين المفردات ومعانيها على مستوى المعجم, لا نستطيع أن ندَّعي أننا وصلنا إلى فهم المعنى الدلالي؛ لأنَّ الوصول إلى هذا المعنى يتطلّب فوق كل ما تقدَّم ملاحظة العنصر الاجتماعي الذي هو المقام.
وهذا العنصر الاجتماعي ضروري جدًّا لفهم المعنى الدلالي, فالذي يقول لفرسه عندما يراها، "أهلًا بالجميلة" يختلف المقام معه عن الذي يقول هذه العبارة لزوجته, فمقام توجيه هذه العبارة للفرس هو مقام الترويض, وربما صحب ذلك ربت على كتفها أو مسح على جبينها. أما بالنسبة للزوجة فالمعنى يختلف بحسب المقام الاجتماعي أيضًا, فقد تقال هذه العبارة في مقام الغزل أو في مقام التوبيخ أو التعيير بالدمامة. فالوقوف هنا عند المعنى المعجمي لكلمتي "أهلًا" و"الجميلة", وعلى المعنى الوظيفي لهما وللباء الرابطة بينهما, لا يصل بنا إلى المعنى الدلالي, ولا يكون وصولنا إلى هذا المعنى الدلالي إلّا بالكشف عن المقام الذي قيل فيه النص.
والذي يتكلم إلى نفسه يكشف عن مقام من نوع آخر. ولست أحب أن أشير هنا إلى الجانب النفسي والطبي لهذا المقام؛ لأن ذلك أمر لا يتصل بالدراسات اللغوية إلّا من حيث هو جزء من "مقام" ما. ومهما يكن من أمر فإن هذا المقام وأشباهه كمقام الدعاء والصلاة وتقييد المواعيد والعنوانات وأرقام التليفون في المفكرة, وكالقراءة في الخلوة ونحوها, هو مما يعوزه الطابع الاجتماعي الواضح, حتى إن هذه المواقف لتصلح أن تسمَّى "مواقف" فردية لا "مقامات" اجتماعية. ومن قبيل ذلك أيضًا أن تقود سيارتك بنفسك ثم نجد أمامك شخصًا آخر يقود سيارة فلا يلتزم بها قواعد المرور ويسبب لك شيئًا من الارتباك والضيق, فإذا بك تصب سيلًا من الاحتجاجات والشتائم المسموعة
ص342
بالنسبة إليك أنت فقط في سيارتك فلا يسمعها معك إنسان, فهذا موقف فردي أيضًا, ولا يتوافر له عناصر المقام الاجتماعي. ومن قبيل ذلك أيضًا من يغنِّي لنفسه دون أن يسمعه أحد, أو على الأقل دون أن يكون غناؤه للإسماع. والذي يتثاءب ويختم تثاؤبه بنداء لفظ الجلالة, فكل هؤلاء المتكلمين يقصر أمر الموقف معهم عن أن يكون مقامًا اجتماعيًّا بالمعنى الذي نقصده, ولكن وصف أيّ "موقف" من هذه المواقف بأنه "اجتماعي" لا يأتي من طبيعة تكوينه, وإنما يأتي حين ننظر إليه باعتباره نمطًا سلوكيًّا معينًا داخلًا في نسيج ثقافة اجتماعية ما, بمعنى أن أفراد المجتمع جميعًا يقفون هذه المواقف بعينها عندما تتهيأ لها المناسبة, ولكنهم يقفونها أفرادًا. وهذه الأنماط من السلوك يتلقاها الفرد عن مجتمعه فيكتسبها منه, ويصبح سلوكه مشروطًا بطرقها مفرغًا في قوالبها التي حددها المجتمع, وهذا مناط لزعمها اجتماعية في أصلها. فالفرد يتعلم من مجتمعه كيف يقرأ القرآن بصوت مسموع وبنغمات ترتيلية خاصة, ويكتسب معتقداته في طفولته من المجتمع ويتعلم منه كيف يدعو الله, وكذلك يتعلم كيف يستشهد لنفسه بالشعر أو أي شكل تعبيري آخر بحسب المناسبة دون أن يسمع الناس حوله ما يقول. ويتعلم من المجتمع كيف يختم التثاؤب بذكر الله بصوت مسموع, فهذه المواقف على رغم كونها لا تحمل طابع الاتصال الاجتماعي يمكن اعتبارها أنماطًا سلوكية لغوية, فينسب إليها -لكونها أنماطًا- قدر من الطابع الاجتماعي.
وهناك نوع من المقامات الاجتماعية يمكن أن نسميه مقامات اللغو الاجتماعي, أو كما يسميها مالينوفسكي phatic communication يتبادل الناس فيها الكلام, ولكنهم لا يقصدون به أكثر من شغل الوقت, وحل موقف اجتماعي لولا هذا اللغو لكان فيه حرج. والكلام الذي يقال في هذا المقام ليس مقصودًا لذاته, فقد يكون موضوعه الطقس أو السياسة أو أيّ موضوع عام آخر, والحقائق التي يشتمل عليها هذا الموضوع معروفة عند طرفي المحادثة فلا يفيد أحدهما من سماعها أيّ قدر من المعلومات الجديدة, ولكن كلًّا من الطرفين يلغو رفعًا للحرج الذي يتوقعه نتيجة للصمت. مثال ذلك أن تكون في حجرة انتظار أحد الأطباء بمفردك ولم يحضر الطبيب إلى عيادته فتظلّ بمفردك تنتظر
ص343
قدومه, وفجأة يقدم عليك زائر آخر للطبيب فتضمكما الحجرة ولا ثالث لكما. فلو سكتُّما ولم يفتح أحدكما بابًا للكلام لأصبح الموقف بينكما مفعمًا بنوع من الحرج الاجتماعي الذي يشعر معه كل منكما برغبة في إنهاء الموقف. والحيلة الاجتماعية لتجنُّب هذا الحرج هي فتح موضوع لتبادل الكلام. ولكن كيف يمكن لأحدكما أن يفتح موضوعًا وليس بينكما تجارب مشتركة, ولم ير أحدكما الآخر قبل اليوم. الجواب على ذلك أيضًا أن المجتمع الذي اخترع حيلة فتح الموضوع حدَّد بعض الموضوعات العامة الطابع لهذا الغرض؛ بحيث لا يتعب إنسان في البحث عن موضوع, وهذه الموضوعات ذات طابع عام غير شخصي؛ بحيث لا يتأذّى بفتحها إنسان لا غائب ولا حاضر, فمن ذلك الكلام في الطقس وما يحس المتكلم والسامع من حرّ أو برّ أو جوٍّ ربيعي أو خريفي لطيف مع تذكر تجارب سابقة عن حالات جوية تستحق التذكر. وقد تدعو مناسبة زيارة الطبيب إلى أن يفصح كل منهما للآخر عمَّا يشكو منه وعن تطور مرضه, ومن الموضوعات المفضَّلة في هذه المواقف في البلاد العربية بخاصة الكلام في السياسة وفي القضايا القومية, ويروي بعض الظرفاء أنه إذا تقابل إنجليزيان فكلاهما في الطقس, وإذا تقابل عربيان فكلامهما في السياسة, وإذا تقابل يونانيان فكلاهما في المطاعم, والكلام في أوساط النساء عن الأزياء والأولاد وبين الخدم عن أسرار المخدومين, وبين الطلبة عن الامتحان والأساتذة وهلم جرا. والكلام في كل ذلك ليس مقصودًا لذاته إلّا حين يتحول اللغو إلى مناقشة تتطلَّب أن يكون لكل من الطرفين رأي يدافع عنه, ولكن المقصود باللغو في كل هذه الحالات رفع الحرج الاجتماعي عن شريكين في موقف خلقته الصدفة.
أما نوع المقامات الذي اكتمل فيه الطابع الاجتماعي فهو الذي يتحقق فيه وجود عناصر تجعل المقام مركبًا لا بسيطًا, أي: تجعله "مقامًا" لا "موقفًا" كمالمثال الذي أوردناه من قبل عن الرجل الذي قال لزوجته: "أهلًا بالجميلة" فقد ذكرنا أن الاحتمالات التي تحتملها هذه التحية تتنوع بتنوع المقامات الممكنة من مقام غزلٍِ إلى مقام تبويخٍ إلى مقام تعيير وكيد, ولا يمكن لواحد من هذه المعاني أن يؤخذ أخذًا مباشرًا من المعنى المعجمي لكلمة "أهلًا" ولا المعنى المعجمي لكلمة "الجميلة", ولا مع المعنى الوظيفي لأي منهما, ولا للباء التي
ص344
ربطت بينهما في السياق, أي: إن معنى الغزل أو التوبيخ إلخ لا يؤخذ من "المقال", وإنما يحتاج إلى اعتبار "المقام" بالضرورة.
دعنا نتأمل مثلًا مما يوضح ضرورة اعتابر "المقام" في تحديد المعنى الدلالي, كلنا قد يعلم أن "يا" من حروف النداء, وأن كلمة "سلام" اسم من أسماء الله تعالى, وهي كذلك ضد الحرب, فإذا أخذنا بالمعنى الوظيفي لأداة النداء, والمعنى المعجمي لكلمة "سلام", حين ننادي "يا سلام", فإن المعنى الحرفي أو المقالي أو ظاهر النص أننا ننادى الله سبحانه وتعالى لا أكثر ولا أقل. ولكن هذه العبارة صالحة لأن تدخل في مقامات اجتماعية كثيرة جدًّا, ومع كل مقام منها تختلف النغمة التي تصحب نطق العبارة, فمن الممكن أن تقال هذه العبارة في مقام التأثّر, وفي مقام التشكيك, وفي مقام السخط, وفي مقام الطرب, وفي مقام التوبيخ, وفي مقام الإعجاب, وفي مقام التلذذ, وفي مقامات أخرى كثيرة غير ذلك، وظاهر النص في عبارة "السلام عليكم" أنها تحية إسلامية يجاب عليها بأحسن منها أو مثلها, ولكن هذه العبارة بذاتها قد تتحوّل إلى معنى المغاضبة, فقد يطول النقاش بينك وبين إنسان في موضوع ما, ويتمسَّك كلٌّ منكما برأيه, فحين تيأس من إقناع صاحبك, وتريد أن تعلن له عن انتهاء المقابلة بالمغاضبة توليه ظهرك منصرفًا وتشير بيديك إشارة الذي ينبذ شيئًا وراء ظهره من فوق كتفه, وتقول مع هذه الإشارة: "السلام عليكم" وتذهب مغاضبًا. فهذا المعنى لا يفهم من مجرد المعنى الوظيفي منفردًا, ولا المعجمي منفردًا, ولا هما معًا, ولكنه يتوقف في النهاية على "المقام" الاجتماعي المعين. وقد تقال هذه العبارة بعينها فيفهم منها معنى الهزل في مقام يتعيّن فيه ذلك, ولبيان هذا المقام وأبعاده الاجتماعية يمكن أن نتصوره على النحو التالي: الأستاذ واقف بالمدرج يلقي محاضرته على ما يقرب من مائتي طالب, وقد انهمك في شرح نقطة هامة من نقاط المحاضرة, والطلبة ينصتون بشغف واهتمام بما يقوله الأستاذ حتى ليسمع كل منهم تردد أنفاسه, وقد تعود هؤلاء الطلبة من أستاذهم عدم الرضى عن التأخر عن بدء المحاضرة, فكان الواحد منهم إذا تأخَّر دخل المدرج وهو يحس بقدر غير قليل من الخجل, فيدخل المدرج متسللًا على أطراف أصابعه, ويجلس على أقرب مقعد إلى باب الدخول نجده خاليًا. ومن الطلبة واحد عرف بينهم
ص345
بشيء من الغفلة وسوء التقدير وعدم فهم المواقف الاجتماعية ومطالبها فهمًا تامًّا, وذات يوم كان الطلبة والأستاذ على هذه الحال في المدرج, وكان هذا الطالب قد تأخّر, وفجأة دخل المدرج بعد ربع ساعة من ابتداء المحاضرة فلم يتسلل إلى أقرب مقعد, ولم يحس شيئًا من الخجل, وإنما بدا أزهى من طاووس وهو يلج باب المدرج متئدًا في مشيته مع شيء من تصنّع الوقار, وقال لكل من في المدرج: "السلام عليكم" ومدَّ بها صوته. لا شكَّ أن ردَّ الفعل الوحيد لهذه العبارة التي يزعمونها مجرد تحية إسلامية أن يضحك الطلبة والأستاذ كثيرًا, فهذا الضحك هو الرد الذي إن لم يناسب "المقال" فقد ناسب "المقام" تمامًا. ولقد رأينا أن العناصر التي يشتمل عليها المقام الاجتماعي هنا هي: المحاضرة -تعود الخجل من التأخر- المتكلم الذي لم يخجل السامعون الصامتون -الأستاذ الذي صمت عند سماع العبارة- الوقار الذي تظاهر به المتكلم, وأخيرًا عبارة السلام عليكم نفسها، وربما احتملت هذ العبارة تحليلًا وظيفيًّا أو معجميًّا عند الحاجة, كأن يكون هذا الطالب ألثغ في السين مثلًا, فهذا يضيف إلى دواعي الضحك داعيًا صوتيًّا لغويًّا.
وإذا كان "المقال" المكتوب لا يقع في أثناء قراءته في وقت لاحق في مقامه الاجتماعي الذي كان له في الأصل, فإن هذا المقام الأصيل من الممكن بل من الضروري أن يعاد بناؤه في صورة وصف له مكتوب, حتى يمكن للنص أن يفهم على وجهه الصحيح. وفي بناء هذا المقام الأصيل بناءً جديدًا بواسطة وصفه, كما كان لا بُدَّ من الرجوع إلى الثقافة عمومًا والتاريخ بصفة خاصة. وكلما كان وصف المقام أكثر تفصيلًا كان المعنى الدلالي الذي نريد الوصول إليه أكثر وضوحًا في النهاية حين تصبح كل عبارة من عبارات النص واضحة بما يجليها من القرائن الحالية التاريخية والقرائن المقالية التي في وصف المقام؛ فالذين يقرءون خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي على منبر الكوفة دون أن يعرفوا المقام الذي قيلت فيه هذه الخطبة, ربما اتهموا الحجاج بتهم بعيدة عنه؛ أولها: سوء السياسة ما دام قد استهلّ ولايته على قوم لم يجربهم من قبل ولم يرهم بكل هذا العنف, ولكن المقام الذي يشتمل على إيضاح العلاقة بين العراقيين وبين بني أمية ربما شمل من الحوادث الماضة حادثًا كقتل عثمان ومعركة
ص346
صفين ومقتل الحسين وتشيع العراقيين وكراهيتهم لبني أمية, ورغبة الأمويين في تأديب هؤلاء العراقيين حتى لا يثوروا بهم أو يعصوا ولاتهم, ومن هنا يصبح من الضروري أن يأتي وصف المقام في صورة مقدمة للخطبة تجري على نحو شبيه بما يأتي:
كان عبد الملك بن مروان قد أرسل الحجاج واليًا من قِبَلِه على العراق, وكان أهل العراق من الشيعة يكرهون الأمويين ويعصون ولاتهم, فلمَّا دخل الحجاج المسجد وكان ضئل الجسم صعدَ المنبر وأرخى فضل عمامته على وجهه وصمت صمتًا طويلًا حتى همَّ بعض الناس أن يحصبه, وقال عمير بن ضابئ البرجمي وكان بين الناس في المسجد, قبَّح الله بني أمية إذ يرسلون إلينا مثل هذا, فرفع الحجاج ما كان أرخى من عمامته وحسرها عن وجهه وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العامة تعرفوني
فكل هذه العبارات التي قدَّمنا بها للخطبة ليست أكثر من وصف المقام الاجتماعي التاريخي الذي قيلت فيه هذه الخطبة, وبواسطته ينتفي عن الخطبة أن يكون معناها سوء السياسة, إلى أن يكون معناها الحزم. على أن هذا المقام الذي وصفناه بكلمات قليلة يمكن أن يكون وصفه هو كل ما قيل في تاريخ الفتنة الكبرى وما بعدها, ولكن الاكتفاء بهذا الوصف المختصر يفترض أن القارئ على علم بهذا التاريخ.
ولعل السبب الرئيسي في ضرورة التزام طلاب اللغة العربية وأدبها بدراسة مقررات من التاريخ الإسلامي والفلسفة الإسلامية والتفسير والحديث والأدب والشريعة وغيرها, إن طالب اللغة العربية حين ينظر في نص أدبي معيّن ينبغي أن يكون له من المعلومات الشاملة في هذه الفروع جميعًا ما يعينه على فهم "المقام" الذي قيل فيه هذا النص حين يلخِّص له هذا المقام. وقد تعوَّدنا أن نقول لطلبتنا دائمًا عن هذه الفروع التي يطلقون عليها "العلوم المساعدة": إنها فروع إيضاح المقام النصوص التي نصادفها في التراث العربي, ويمكن إيضاح هذه النقطة بالمثال الآتي:
ص347
إذا وقف معلم اللغة العربية يشرح لطلابه بيتًا لمروان بن أبي حفصة يقول فيه:
أنَّى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
فلن يستطيع أن يشرح هذا البيت أيّ قدر من الشرح إلّا إذا مسَّ علم الميراث ولو مسًّا خفيفًا, وشرح لهم رسالة إخوانية يقول مرسلها لمن يرسلها إليه: "أنت جوهر الفضل وهيولاه" فلن يعرف كيف يشرح هذه العبارة لتلاميذه إلّا إذا ألَمَّ إلمامًا يسير بالمقولات وبالفلسفة, وإذا أراد أن يشرح لهم الرسالة الهزلية لابن زيدون فإنه سيضَّطر إلى معرفة الكثير من فروع المعرفة؛ لأن الرسالة مليئة بالإشارات التاريخية والفلسفية والشرعية واللغوية وغيرها. فكل هذه العلوم المترابطة تتحد في كلٍّ متماسك لتوضح "المقام" للنص المكتوب.
ويحتّم الأصوليون على مَنْ يتصدَّى لاستخراج الأحكام من القرآن أمورًا لا ينبغي أن يغفل عنها, هي في الواقع "مقام" للفهم, فعليه مثلًا:
1- ألّا يغفل عن بعضه في تفسير بعضه.
2- ألّا يغفل عن السنة في تفسيره.
3- أن يعرف أسباب نزول الآيات.
4- أن يعرف النظم الاجتماعية عند العرب.
فهذه العناصر الأربعة يمكن اختصارها في كلمة "المقام", فلا ينبغي لمن يتصدَّى لتفسر آية أن يغفل عن مقامها, يقول صاحب أصول التشريع الإسلامي(2): "فإذا غفل عن بعضه لم يسلم استنباطه من الزلل, وتعرض عمله للفساد, فلا ينبغي مثلًا أن يفسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} مع الغفلة عن قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} ، ولا قوله تعالى:
ص348
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء} مع الغفلة عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} ، ولا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} مع نسيان قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} , ولا قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} مع إهمال قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} . فالآيات التي نهى عن الغفلة عنها من "مقام" فهم الآيات التي اقترنت بها وأريد تفسيرها والاستنباط منها.
ومن قبيل ذلك أيضًا أننا لو نظرنا إلى قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فاكتفينا بظاهر نصِّ هذه الآية عمَّا يحيط بهذا النص من ظروف أخرى, فقطعنا فهمنا لهذا النص عن مقامه, لكان هذا الفهم فهمًا خاطئًا لرأي الإسلام في الخمر, ولبدا الأمر في النهاية وكأنَّ الإسلام لم يحرِّم الخمر؛ إذ هو يفاضل بين المنافع والإثم في تناولها وفي اجتنابها. ولكن المقام اللازم للفهم الصحيح لهذا النص القرآني يمكن وصفه بعناصر متنوعة منها: حب العرب للخمر, واقترانها في أذهانهم بمفاهيم موقرة جدًّا عندهم؛ كفكرة "المروءة" والسؤود "والعز", كما يمكن فهم ذلك من أشعارهم كمعلقة طرفة ومعلقة عنترة ومعلقة عمرو بن كلثوم, ثم كراهية الإسلام للخمر وعزمه على صرف العرب عنها بغير طفرة, ثم رغبة الإسلام في تألّف القلوب وفي تحبيب المشركين في الدخول في حظيرته, وكذلك رغبته في توقي شحذ المقاومة في نفوسهم مما حدا بالإسلام إلى تجنب تحريم الرق دفعة واحدة, كما تجنَّب تحريم الخمر دفعة واحدة؛ إذ بدأ بالموازنة بين إثمها ونفعها فابتهل الضائقون بالخمر كعمر بن الخطاب إلى الله أن ينزل في الخمر حكمًا شافيًا, فنزل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} ذلك هو المقام الذي ينبغي أن نفهم المقال في ضوئه على أننا لا ينبغي لنا أن ننسى عنصرًا هامًّا من عناصر المقام هنا
ص349
جاء لاحقًا "أو ملحقًا" لنزول الآية الثانية, وهو القاعدة الأصولية التي تقول: "الأمر يفيد الوجوب"؛ إذ لا يكمل فهمنا للنصِّ هنا إلّا مع اعتبار هذه القاعدة.
وإذا كان المقام ضروريًّا للفهم فإنه يكون أحيانًا ضروريًّا لعدم تحديد فهمٍ بعينه؛ كالذي نلمحه في مقام التعمية والإبهام والإلغاز؛ إذ يكون اللبس الذي تسببه التعمية, أو يأتي عن الإبهام والإلغاز مقصودًا لذاته فلولا فهم المقام هنا والمعرفة بأنه مقام تعمية ما قبل الناس المقال, ولا أقبلوا عليه ولا اعترفو بأنه نص يستحق عناء النظر الجاد. ويتضح ذلك مثلًا في قول الشاعر في خياط أعور خاطه له قباء:
خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء
فاسأل الناس جميعًا ... أمديح أم هجاء
فلا سبيل إلى معرفة التمني بلفظ "ليت", أكان للخياط أم عليه إلّا بمعرفة ما إذا كان الشاعر قد رضي عن قبائه أو سخط عليه, ولكن إخفاء هذا الجانب من الرضى أو السخط في بطن الشاعر حال بين الرضى أو السخط وبين أن يكون مقامًا لفهم النص, وأحل محله مقام التعمية فأصبحت التعمية جزءًا من المعنى, وأصبح اللبس الذي فيها مقصودًا لا يراد دفعه.
وهل لنا أن نزعم قصد التعمية أو عدم القصد إلى تحديد شق بعينه من شقين ممكنين للمعنى, أو بعبارة أخرى: عدم القصد إلى تحديد أحد الاحتمالين في الفهم عندما نقرأ قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُن} ؟ إن هذا النص يحتمل حرفي الجر: "في" و "عن" فيصبح المعنى صالحًا لأن يكون: "وترغبون في نكاحهن" أو على العكس من ذلك "وترغبون عن نكاحهم", فهل لنا أن نزعم هنا أن التعمية مقصودة في النص؛ لأن بعض يتامى النساء كنَّ من الجميلات اللاتي يرغب الأولياء في نكاحهن, وكان البعض من الدميمات اللاتي يرغب هؤلاء الأولياء عن نكاحهن؟ إن الزمخشري(3) يلمح تلميحًا إلى قصد التعمية

ص350
ولا أريد أن أصرح وقد لمح هو. وإن كنت أحب أن أشير إلى أن إسقاط حرفي الجر هنا يجعل الآية صالحة للمعنيين في وقت واحد.
إنَّ مجموع الأشخاص المشاركين في المقال إيجابًا وسلبًا, ثم العلاقات الاجتماعية والظروف المختلفة في نطاق الزمان والمكان هو ما أسميه "المقام", وهو بهذا المعنى يختلف بعض اختلاف عن فهم الأولين الذين رأوه حالًا ثابتة state, ثم جعلوا البلاغة مراعاة مقتضى الحال. ويؤخذ المقام -كما فهمناه هنا- دائمًا من نسيج الثقافة الشعبية زمانيًّا في تطورها من الماضي إلى الحاضر؛ إذ يرثها جيل عن جيل, فتكون عنصر ربط بين هذه الأجيال, ومن ثَمَّ تكون الضمان الوحيد لاستمرار المجتمع في التاريخ, ثم مكانيًّا حيث يترابط بها أفراد الجيل الواحد من هذا المجتمع ما دام كلّ منهم قد نشأ في خضم هذه الثقافة وجعل منها منهجًا لحياته في المجتمع, أو بعبارة أدق: جعل منها مجرى لسلوكه لا يملك التحوّل عنه, حتى إنه ليتصرف في ظرفٍ بعينه تصرفًا بعينه, وكلما تكرر الظرف تكرر التصرف نفسه. وليس المقصود بالثقافة هنا أيّ معنى يرتبط بالتعليم والتثقيف, وإنما المقصود بها هنا ما يشمل مجموع العادات وطرق السلوك والتقاليد والمعتقدات والخزعبلات والفلكلور الشعبي والأحاجي ووسائل التكسب والعواطف الجماعية والنظرة الجماعية إلى الأحداث والأشياء. وبحسب هذا الفهم الشامل لفكرة "المقام" يعتبر النص "المقال" -منطوقًا كان أم مكتوبًا- غير منبت عمن ساقه ومن سيق إليه, ولو أننا حاولنا فهم المقال منفصلًا عن المقام لجاء فهمنا إياه قاصرًا مبتورًا أو خاطئًا. إن من يقرأ قول شوقي:
وما للمسلمين سواك ذخر ... إذا ما الضر مسهمو ونابا
ليرى في "مقال" البيت حين يقطعه عن "مقامه" أن شوقيًّا يجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- "وهو ميت في ضريحه الطاهر" ملاذًا للشعوب الإسلامية "وهي تعيش وتسعى وتكافح وتستطيع من الحيلة والحركة والفاعلية ما لا يستطيعه ميت في جدثه" فكيف هذا؟ إن معنى البيت يتضح في ضوء المقام" ما لا يتضح بدونه, ففي المقام أنَّ المسلم يتوسّل إلى الله وهو
ص351
القادر المعين بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الوسيلة وهو المشفع عند الله. والله يجيب المضطر إذا دعاه وتوسَّل إليه "لاحظ كلمة الضر في البيت"، والمسلمون في حاضرهم هم مضطرون ضعاف بين الأمم, وهم لا يصلون في مراتب التقوى إلى مرتبة المجتمع الصالح, ومن ثَمَّ فهم بحاجة إلى شفيع ووسيلة قربى وزلفى إلى الله مخافةَ ألا تجاب دعواتهم بدونه. وكل هذه الحقائق تأتي من خارج النص, ويشير إلى أن المعنى بدون هذه الاعتبارات الاجتماعية والدينية غير مكتمل. وليس الفرد الذي نشأ في إطار هذه الثقافة بحاجة في فهم البيت إلى كل هذا الشرح الطويل, وإنما يتقبله ويفهمه فهمًا سريعًا بما لهذا الفرد من نشأة في إطار هذه الثقافة.
هذا هو المقصود بفكرة "المقام", فهو يضمّ المتكلم والسامع, أو السامعين والظروف والعلاقات الاجتماعية والأحداث الواردة relevant في الماضي والحاضر, ثم التراث والفلكور والعادات والتقاليد والمعتقدات والخزعبلات, ولولا هذا المقام وما يقدمه العنصر الاجتماعي من قرائن حالية حين يكون المقال موضوعًا للفهم؛ لاعتبر الناس التمائم والأحجبة والسحر وهي مما يشتمل على كلمات لا تفهم ضربًا من ضروب الهراء, أو لما أعطوه ما يعطونه من تقبّل وتسامح على الأقل. ولقد سبق أن سقنا نصًّا هرائيًّا في الكلام عن النظام النحوي, وأشرنا إليه في سياق ذلك الفصل, وبرهنا من وضوح الوظائف فيه على إمكان إعرابه على رغم خلوه من عنصري المعنى المعجمي والمقام الاجتماعي. أما في السحر والتمائم والتعاويذ, فإن المعنى الدلالي يتوقف على المقام الاجتماعي لهذه النصوص غير المفهومة بسبب حاجتها إلى الوضوح الوظيفي والمعجمي, فمعنى السحر والتميمة والتعويذة هو قبولها في مقامها الخاص في إطار الثقافة الشعبية.
سبق أن وضعنا تخطيطًا للمعنى الدلالي في أوّل هذا الفصل فجعلناه يشتمل على عنصرين لا غنى له عن أحدهما, وذانك هما المعنى المقالي "ويشمل المعنى الوظيفي -المعنى المعجمي -القرائن المقالية الأخرى", والمعنى المقامي
ص352
"ويشمل ظروف أداء المقال + القرائن الحالية". ومعنى اشتمال "المعنى الدلالي" وهو قمّة تحليل المعنى اللغوي على كل هذه العناصر, أنّ كل دراسة تحليلية سبقت في هذا الكتاب تتجه أساسًا إلى المعنى كما ذكرنا لك في المقدمة سواء في ذلك النظام الصوتي والنظام الصرفي والنظام النحوي والظواهر الموقعية والمعجم وتحديد المقام, ثم ما يرتبط بكل ذلك من قرائن حالية أو مقالية كإشارة اليدين وتعبيرات الملامح وغمزات العينين ورفع الحاجب وهز الرأس وجميع الحركات العضوية مما يعتبر قرائن حالية في أثناء الكلام, ثم التعبيرية بخوالف الأصوات وبالتأفف والفحفحة والتأوه وأصوات الشفتين المختلفة, مما يعتبر من القرائن المقالية في أثناء الكلام أيضًا.
وقد يتوقّف المعنى الدلالي أحيانًا على الوظائف التحليلية كدلالة الحرف باعتباره "مقابلًا استبداليًّا" يؤثر عدم وضوحه على المعنى, فإذا نادى المزكوم الشديد الزكام على شخص يدعى "مأمون" فهذا مظنّة لسوء الفهم. فالمعروف أن الميم تتفق مع الباء في المخرج, ولكنها تختلف عنها من حيث توجد الغنة في الميم ولا توجد في الباء, وغنة الميمن يمكن نطقها في الأنف الصحيح ويتعذر نطقّها في الأنف المزكوم, وحين تتعذَّر الغنة تصير الميم إلى الباء, ومن ثَمَّ يصير النداء "يا بأبون", ولما كانت الباء الأولى واقعة في مقطع غير منبور, وكانت الثانية بداية مقطع وقع عليه النبر كما عرفنا من القواعد التي ذكرناها في حينها, أصبحت الباء الأولى غير واضحة في السمع كوضوح الباء الثانية, وأصبحت الباء الثانية أوضح أجزاء الكلمة في النطق. وهذا هو مناط اعتماد المعنى الوظيفي؛ لأن الميم الأولى لم تتضح في السمع فبقيت وظائف موقعها كما هي, وتفترض الأذن خطأ في هذه الحالة وجود الميم الأولى على حالها, ولكن الميم الثانية اتضحت في الأذن على صورة الباء, فإذا غضب المنادي لظنه أنه نودي "يا مأبون" فذلك دليل اعتماد المعنى الدلالي على الوظيفة التي تناط بالحرف باعتباره "مقابلًا استبداليًّا".
وأما قيمة الظاهرة الموقعية في السياق فتبدو عند التأمل في كلمة "الأمان", وتحديد المقصود من الهمزة في البداية أهي همزة قطع فتكون الكلمة مثنى "ألأم", أم هي همزة وصل وتكون الكلمة كلمة "أمان" ألحقت بها أداة
ص353
التعريف. ومثل ذلك ما أشرنا إليه في دراسة النبر من اختلاف فيهم الإسناد بين "اذكر الله" و"اذكري الله" بحسب اختلاف مكان النبر في السمع, وكذلك ما أشرنا إليه عند الكلام في الصلة بين النغمة وبين المعنى النحوي في بيت عمر بن أبي ربيعة وفي بيت جميل بن معمر. وأما اختلاف المعنى باختلاف الصيغة ووظيفتها, فهذا واضح من كل سطر خططته في الكلام عن النظامين الصرفي والنحوي تقريبًا. ونستطيع هنا كذلك أن نعطي مثالًا بأن نسوق جملة: "هذا محرَّم شرعًا" لأن فهم المنصوب هنا يتوقف على القرينة المعنوية التي تؤخذ عادة من السياق بمعونة القرائن الحالية التي في المقام, فإذا فهمنا من المقام معنى السببية كان هذا المعنى قرينة معنوية على أن هذا المنصوب مفعول لأجله, وإذا فهمنا منه معنى الواسطة كانت الواسطة قرينة معنوية على أن المنصوب هنا إنما هو على نزع الخافض, وإذا فهمنا من المقام معنى الظرفية فالنصب كذلك على نزع الخافض, وإذا فهمنا منه بيان النوع كان النصب على معنى النائب عن المفعول المطلق. ويمكن عند النظر في جملة: "صعدت علوًّا" أن تختلف معاني المنصوب على النحو التالي:
1- المفعول به إذا فهمنا من المقام "تعدية", ويكون المعنى: "صعدت مكانًا عاليًا".
2- نائب المفعول المطلق إذا فهمنا من المقام "توكيدًا", والمعنى حينئذ: "علوت علوًّا".
3- المفعول لأجله إذا فهمنا من المقام "سببية", والمعنى على ذلك: "صعدت لأعلو".
وكما أن المعنى الوظيفي يحدِّده النظام في اللغة, والموقع في السياق, كما يحدد العرف الاعتباطي المعنى المعجمي الذي يربط بين الكلمة ومدلولها, فكذلك يعين المقام أولًا على تحديد هذه المعاني جميعًا بما يستفاد منه من القرائن المعنوية, ويعين ثانيًا على استكمال المعنى الدلالي الأكبر في إطار الثقافة الشعبية. ولإيضاح هذه النقطة الأخيرة يمكن أن نضرب مثلًا بكلمة "خليفة" التي يختلف معناها باختلاف المقام من مقارنة العبارات الآتية:
ص354
1- قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة} .
2- قال الشاعر: "خليفة الله يستسقى به المطر".
3- "زرت مولد السيد البدوي فرأيت الخليفة على ظهر حصانه".
المعنى المعجمي لهذه الكلمة المفردة حين تكون خارج السياق يكاد يكون واحدًا في عموعمه وهو "الخليفة, من يخلف سلفًا في عمل أو نحوه", ولكن المعنى الدلالي له في هذه الجمل على الترتيب هو:
1- الجنس الإنساني.
2- أمير المؤمنين.
3- شيخ الضريح.
على أن الثقافة الشعبية من السعة والتشعُّب بحيث يصعب اتخاذها على حالها أداة لتحديد المقام, وإنما يستحسن أن نجري لعناصرها المفيدة في تحليل المعنى نوعًا من التنظيم والتبويب الذي نتمكن به من الوصول إلى تحديد المقام, وسنرى أنَّ نسيج الثقافة الشعبية تلتقي فيه أوضاع مقررة وتجارب ذات أنواع محددة, ومسالك معيارية لا حرية للفرد في تطبيقها أو عدمه, ومطابقتها أو عدمها, فمثل حرية الفرد في إطار هذه الجبرية الاجتماعية كمثل ما يراه المعتزلة من حرية إرادة الفرد في مجالها الضيق في نطاق إرادة الله -سبحانه وتعالى, فهو يحاسب لما له من إرادة فردية واختيار فردي, ولكن هذه الإرادة الفردية لا تغير ما أراده الله من نظم وقوانين في هذا الكون.
والحياة الاجتماعية مسرح أكبر لكل ممثل فيه دور خاص ذو كلمات محددة وحركات معينة, فإذا لم يحسن الفرد أداء كلماته وحركاته أصابه من الخيبة ومرارة الفشل ما يصيب الممثل الفاشل الذي يئول أمره إلى سماع الاستهجان من النظارة والمتفرجين. وقد يؤدي سوء الأداء لدور أد الممثلين إلى إصابة غيره من الممثلين بعدوى الفشل؛ لأن دور كل من الممثلين ينبنى من حيث الأداء الكلامي والحركي على دور غيره من الممثلين على المسرح, وهو من ثَمَّ يتأثر إجادةً أو تقصيرًا بأداة الأدوار الأخرى. وسنحاول فيما يلي
ص355
أن نشرح الطريقة التبويبية التي يمكننا بها تبويب المقامات في إطار الثقافة الشعبية.
وأول ما نلاحظه أن التحليل والتبويب يمكن أن ينبني على الأسس الآتية:
1- دور الفرد في المجتمع.
2- دور الفرد في الأداء.
3- غاية الأداء.


__________
(1) فجر الإسلام ص238.
(2) الأستاذ علي حسب الله.
(3) الكشاف: تفسير الآية رقم 127 من سورة النساء.




هو العلم الذي يتخصص في المفردة اللغوية ويتخذ منها موضوعاً له، فهو يهتم بصيغ المفردات اللغوية للغة معينة – كاللغة العربية – ودراسة ما يطرأ عليها من تغييرات من زيادة في حروفها وحركاتها ونقصان، التي من شأنها إحداث تغيير في المعنى الأصلي للمفردة ، ولا علاقة لعلم الصرف بالإعراب والبناء اللذين يعدان من اهتمامات النحو. واصغر وحدة يتناولها علم الصرف تسمى ب (الجذر، مورفيم) التي تعد ذات دلالة في اللغة المدروسة، ولا يمكن أن ينقسم هذا المورفيم الى أقسام أخر تحمل معنى. وتأتي أهمية علم الصرف بعد أهمية النحو أو مساويا له، لما له من علاقة وطيدة في فهم معاني اللغة ودراسته خصائصها من ناحية المردة المستقلة وما تدل عليه من معانٍ إذا تغيرت صيغتها الصرفية وفق الميزان الصرفي المعروف، لذلك نرى المكتبة العربية قد زخرت بنتاج العلماء الصرفيين القدامى والمحدثين ممن كان لهم الفضل في رفد هذا العلم بكلم ما هو من شأنه إفادة طلاب هذه العلوم ومريديها.





هو العلم الذي يدرس لغة معينة ويتخصص بها – كاللغة العربية – فيحاول الكشف عن خصائصها وأسرارها والقوانين التي تسير عليها في حياتها ومعرفة أسرار تطورها ، ودراسة ظواهرها المختلفة دراسة مفصلة كرداسة ظاهرة الاشتقاق والإعراب والخط... الخ.
يتبع فقه اللغة من المنهج التاريخي والمنهج الوصفي في دراسته، فهو بذلك يتضمن جميع الدراسات التي تخص نشأة اللغة الانسانية، واحتكاكها مع اللغات المختلفة ، ونشأة اللغة الفصحى المشتركة، ونشأة اللهجات داخل اللغة، وعلاقة هذه اللغة مع أخواتها إذا ما كانت تنتمي الى فصيل معين ، مثل انتماء اللغة العربية الى فصيل اللغات الجزرية (السامية)، وكذلك تتضمن دراسة النظام الصوتي ودلالة الألفاظ وبنيتها ، ودراسة أساليب هذه اللغة والاختلاف فيها.
إن الغاية الأساس من فقه اللغة هي دراسة الحضارة والأدب، وبيان مستوى الرقي البشري والحياة العقلية من جميع وجوهها، فتكون دراسته للغة بذلك كوسيلة لا غاية في ذاتها.





هو العلم الذي يهتم بدراسة المعنى أي العلم الذي يدرس الشروط التي يجب أن تتوفر في الكلمة (الرمز) حتى تكون حاملا معنى، كما يسمى علم الدلالة في بعض الأحيان بـ(علم المعنى)،إذن فهو علم تكون مادته الألفاظ اللغوية و(الرموز اللغوية) وكل ما يلزم فيها من النظام التركيبي اللغوي سواء للمفردة أو السياق.