أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-11-2016
2147
التاريخ: 27-11-2019
1566
التاريخ: 7-6-2021
3000
التاريخ: 18-7-2020
3010
|
وصول النبأ باجتماع الأنصار
لم يهدنا التأريخ إلى أن أبا بكر وعمر أي شئ صنعا مباشرة بعد حادثة إنكار موت النبي (صلى الله عليه وآله) واجتماعهما، وأين كانا قبل ذهابهما إلى السقيفة فهل دخلا إلى دار النبي (صلى الله عليه وآله) معا والباب مغلق دون الناس، أو أنهما وقفا على الباب، أو أن أبا بكر وحده دخل الدار؟ كل واحد من هذه الاحتمالات يستشعر فيه حديث. وجائز وقوعها جميعا .
ولكن مثلهما جدير به ألا يبارح دار النبي (صلى الله عليه وآله) (صلى الله عليه وآله) في مثل هذه الساعة، وإذا كان شئ يحدث فإنما يحدث ها هنا، ومحوره؟ ذا المشغول بجهاز النبي (صلى الله عليه وآله) (صلى الله عليه وآله) (علي بن أبي طالب)، ومن كان يتهم أن الأنصار تستبد بهذا الأمر على آل البيت والمهاجرين وتطمع فيه دونهم فتبادر إلى اجتماعها معرضة عن لهم شأن لا ينكر في هذا الأمر.
وأغلب الظن أنه لم يطل الزمن على وصولهما إلى الدار حتى جاء اثنان من الأوس مسرعين إلى دار النبي (صلى الله عليه وآله)، وهما (1) معن بن عدي وعويم بن ساعدة، وكان بينهما وبين سعد الخزرجي المرشح للخلافة موجدة قديمة، فأخذ معن بيد عمر بن الخطاب ، ولكن عمر مشغول بأعظم أمر ، فلم يشأ أن يصغي إليه ، لولا أن يبدو على معن الاهتمام إذ يقول له : ( لا بد من قيام ) ، فأسر إليه باجتماع الأنصار ففزع أشد الفزع ، وهو الآخر يصنع بأبي بكر ما صنع معن معه ، فيسر إلى أبي بكر بالأمر ، وهو يفزع أيضا أشد الفزع . فذهبا يتقاودان مسرعين إلى حيث مجتمع الأنصار، وتبعهما أبو عبيدة بن الجراح، فتماشوا إلى الأنصار ثلاثتهم (2).
أما علي (عليه السلام) (عليه السلام) وأما من في الدار وفي غير الدار من بني هاشم وباقي المهاجرين والمسلمين، فلم يعلموا بكل الذي حدث وبما عزم عليه أبو بكر وعمر. ولماذا؟ - ألم تكن هذه الفتنة التي فزعا لها أشد الفزع تعم جميع المسلمين بخيرها وشرها وأخص ما تخص علي (عليه السلام) ثم بني هاشم؟
أو ليس من الجدير بهما أن يوقفاهم على جلية الأمر ليشاركوهما على إطفاء نار الفتنة الذي دعاهما إلى الذهاب إلى مجتمع الأنصار مسرعين؟
ثم لماذا يخص عمر أبا بكر دون الناس ثم أبا عبيدة؟
ليس من السهل الإحاطة بأسرار ذلك التكتم وهذا التخصيص، وهو موضوع بكر لم يقرع بابه الباحثون.
ولكنا إذا علمنا أن الجماعة كانوا يلاحظون في علي (عليه السلام) تلك الأمور التي ذكرناها في البحث السابق فيحذرون أن يستبق إلى بيعته مستبق ، نجد منفذا إلى خبايا هذا التكتم ونطمئن إلى أنهم رأوا الأصلح لهم أن يتداركوا الأمر بأنفسهم من دون أن يشيع الخبر وحينئذ يستطيعون أن يهيمنوا على الوضع ولا يقع ما يحذرون ، إذ يكبسون على الأنصار اجتماعهم السري في جو هادئ ممن يتحمس لعلي (عليه السلام).
وهذا التخصيص من عمر يشجعنا على أن ندرك التفاهم السري بينه وبين أبي بكر بل بينهما وبين أبي عبيدة في هذا الشأن بل بينهم وبين سالم مولى أبي حذيفة.
ولذلك وجدنا عمر بن الخطاب يأسف عند الموت ألا يكون واحد من هذين " أبي عبيدة وسالم " حيا حتى يجعل الخلافة فيه من بعده، مع أن سالما ليس من قريش.
وإذا كانوا لم يلاحظوا في علي (عليه السلام) ما قلناه ، فمن هو أجدر منه بالإخبار بهذا الأمر ومن أجدر من قومه بني هاشم ، وعلي (عليه السلام) ليس ذلك الرجل الذي يستهان بشأنه ويستصغر قدره حتى لا يستشار ولا يخبر بمثل هذا الأمر الخطير ، وهو أن لم يكن منصوصا عليه بالخلافة فإن مؤاخاة النبي (صلى الله عليه وآله) له مرتين دون سائر الخلق وجعله منه بمنزلة هارون من موسى وهو أحب الناس إليه ومولى كل من كان مولاه وولي كل مؤمن بعده ووارثه ووصيه ويدور الحق معه كيفما دار . . . كل هذا وغيره ما شئت أن تحدث يجعل له المنزلة الأولى في هذا الشأن ليستشار على الأقل .
ولئن كان مشغولا عنهم بجهاز النبي (صلى الله عليه وآله) فجدير بأن يكون على خبر من ذلك ليكون ردا لهم عند حدوث ما يكره، وهم مقدمون على أمر عظيم، وعلي (عليه السلام) من لا ينكر في شجاعته وبطولته وإيمانه وتفانيه في سبيل نصرة الإسلام.
ولكنه بالرغم من ذلك كله لم يعلم بالحادث إلا بعد أن سمع التكبير من المسجد عاليا، وقد فرغوا من اجتماع السقيفة وجاءوا بأبي بكر يبايعونه البيعة العامة.
ولست في تعليلي هذا أدعي الإحاطة بأسرار هذا التكتم وإنما ذكرت ما يبدو لي عند البحث مقتنعا أنه أهم أسراره وعسى أن يكون هناك من يستطيع أن يشبع الموضع بحثا، فيزيدنا علما على علم أو يكشف لنا إنا على جهل.
تأثير دخول المهاجرين في اجتماع الأنصار
لنجيء الآن مع أبي بكر وعمر وأبي عبيدة إلى السقيفة، فنرى الأنصار مجتمعين يتداولون الحديث، وسعد بن عبادة بينهم مزمل وجع يخطب فيهم وقد ترأس حفلهم مرشحا للخلافة.
ولا نشك أن الأنصار الآن في لغط وحماس، قد أخذت الأنانية والفخر بأطرافهم معدين للوثبة عدتها، يريدون في اجتماعهم السري هذا أن يقبضوا على ناصية هذا الأمر العظيم، وليس أمامهم من يطاولهم.
وإذ يدخل عليهم وجوه المهاجرين فجأة لا بد أن يسقط ما في أيديهم بافتضاح أمرهم قبل إبرامه، وبتخوفهم من خروجه من أيديهم بعد ما قالوا وصنعوا. ولا بد أن يرتبكوا لذلك ويقوى فيهم شعور الخذلان.
وقد عرفنا نفسياتهم التي يتغلب عليها الضعف، فيتغير عليهم مجرى الحادثة. وهنا ينقلب الدور فيتهيئون لمواجهة هذا الحادث الجديد بما يقتضيه: فمن كان يبغض الإمارة لسعد وجد الفرصة قد حانت للانتقاض عليه، وبالعكس أصحابه الذين يوادونه لا بد أن ينقلبوا مدافعين.
وهذا أول تبدل في حالهم وانخذال في اجتماعهم. وبعد دخول جماعة المهاجرين هذا الاجتماع وسؤالهم عن هذا المزمل من هو ؟ وما شأنه ؟ نرى عمر يذهب ليبتدئ المنطق، وقد زور في نفسه مقالة في الطريق ليقولها بين يدي أبي بكر، وكان يخشى جد أبي بكر أو حدته، وكان ذا جد كما يقول هو.
ومن الواضح أن الموقف دقيق جدا يدعو إلى كثير من اللين واللباقة رعاية لهذه العواطف الثائرة المتحفزة، ولكن أبا بكر يمنع عمر من ابتداء الكلام، وكأنه هو أيضا يرقب شدته وغلظته المعرفتين فيه فانطلق يتكلم، وما شئ كان زوره عمر إلا أتى به أو بأحسن منه على ما يحدثنا عمر نفسه.
ولقد كان أبو بكر يحسن المعرفة بما يتطلب هذا الوضع من الرفق والسياسة، أولا ترى لما كادوا أن يطأوا سعدا قال قائل: قتلتم سعدا.. فقال عمر وهو مغضب: " اقتلوا سعدا قتله الله إنه صاحب فتنة " فالتفت إليه أبو بكر قائلا: " مهلا يا عمر! الرفق هنا أبلغ ".
ولا أعتقد مع ذلك أن عمر كان يجهل ضرورة الموقف، ولكني أخاله - وقد تمت البيعة لأبي بكر - لم يجد حاجة لكثير من هذا اللين والمداراة، وقد أخذ بموافقة الأنصار إلا القليل ، وتحقق فشل سعد وانخذاله . فهو إذن يعرف موضعي اللين والشدة. ولعله - وهو رجل الساعة بعد أبي بكر - أراد أن يظهر بالغلظة لينطق أبا بكر بكلمة اللين.
تأثير خطب أبي بكر على المجتمعين
من المتيقن أن الرجال الذين سادوا الأمم والجماعات فأحسنوا سيادتهم هم من أبرع الناس في علم الاجتماع وهم لا يشعرون. وإنما جبلوا على معرفة فطرية تشحذها التجارب التي تخلق في النفس الملكة على تطبيق النظريات عند الحاجة .
وأبو بكر وعمر هما من أولئك الناس الذين عرفوا خواص نفسية الجماعات وكيف يمكن التأثير عليها في الوقت المناسب كما دلت الحوادث المتكررة على ذلك.
ولا شك أن مميزات الجماعة المقصودة لعلماء الاجتماع كانت متوفرة أيضا هنا أتم من توفرها في اجتماع المسجد غب موت النبي (صلى الله عليه وآله) الذي أشرنا إليه سابقا: فقد كان الاجتماع حافلا التجأ فيه سعد بن عبادة أن ينيب عنه ابنه أو بعض بني عمه في إلقاء كلامه، فيرفع به صوته ليسمع المجتمعين.
وقد اجتمعوا لغرض واحد حساس أعني تأمير من يخلف ذلك النبي العظيم ، ليكون على رأس هذه الأمة الكبيرة القوية المستجدة ، وهم على ما هم عليه من الحال التي وصفناها من التوثب والشعور بالاستحقاق والتكتم .
ونظن إن الاجتماع الذي يتألف على هذا النحو كيف يطلع فيه قرن العاطفة ويأرز رأس العقل والتفكير في المجتمعين فيصبح عرضة للتقلبات والانقلابات الفجائية ويقوى فيه سلطان المحاكاة والتقليد الأعمى .
بل تظهر عليه الأعراض المتناقضة، فبينا تجده قد يقوم بأعمال وحشية جبارة تدل على شجاعة أفراده البالغة حدها تجده مرة أخرى يجبن من الصفير. وبينما تراه يأتي بأعمال صبيانية مضحكة تراه تارة أخرى يحكم التدبير والتنظيم .
وما ذلك كله إلا من سجية المحاكاة الموجودة في كل إنسان فتسود على المجتمع عندما يبطل حكم العقل وحينئذ يكون تابعا مسخرا لكل من يحسن تسخيره بالمؤثرات التي تهيمن على العاطفة كالمنوم تنويما مغناطيسيا.
ونحن إذا فهمنا جيدا هذه البديهيات عن روحية الجماعات، ولاحظنا توفر شروط الجماعة الاجتماعية في جماعة السقيفة، نفهم معنى تلك الأساليب التي اتبعها أبو بكر وصاحبه - كما سترى - للتأثير على المجتمعين يومئذ ونفهم سر تأثر جماعة الأنصار وانقلابهم الفجائي على أنفسهم، فأخذ أبو بكر وعمر الأمر من أيديهم باختيارهم .
على أنهما في جنب قوة الأنصار واعتزازهم بجمعهم تلك الساعة لا يعدان شيئا، وليس من المهاجرين معهما إلا أبو عبيدة بن الجراح كما سبق وسالم مولى أبي حذيفة على رواية. فاسمع الآن إلى الأساليب التي قلنا عنها:
لقد رأينا سابقا كيف حرش أبو بكر بين الأنصار، وأثار عواطف الأوس على الخزرج. وقد صادف منهم نفوسا متهيئة الوثبة على سعد. حتى استمالهم إلى جانبه وهم يشعرون أو لا يشعرون .
في حين أنهم يعلمون أن الأمر إذا كان للأنصار وأن تولاه رئيس الخزرج فهو إلى حيازتهم أقرب وإلى سلطانهم أدنى . ولكن للعاطفة هنا سلطانها القاهر على النفس لا يقف في وجهها أي سور محكم من المنطق والتفكير .
ولنفحص الآن " خطبته " التي واجههم بها في أول الملاقاة وقال عنها عمر: " ما شئ كان زورته في الطريق إلا أتى به أو بأحسن منه " فإنه ذكر فيها أولا ما للمهاجرين من فضل وسابقة في الإسلام بأنهم أول من عبد الله في الأرض وآمن بالله وبالرسول وأنهم أولياؤه وعشيرته وأحق أناس بهذا الأمر " أي الخلافة " من بعده. وأن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، وأنهم لا ينازعهم في ذلك إلا ظالم . . .! ثم خاطب الأنصار فلم يغمط حقهم وسابقهم وجهادهم، لكن . . . لكن من غير استحقاق لهذا الأمر، وإذا استحقوا شيئا فإنما هي " الوزارة ".. ولغيرهم . . . " الإمارة "، فقال: - (. . . وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلكم في الدين ولا سابقتكم العظيمة في الإسلام. رضيكم الله أنصارا لدينه ولرسوله وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه ، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ) ( 3 ) .
وفي هذا البيان الشئ المدهش من إطفاء نار عواطفهم المتأججة ضد المهاجرين، وإشباع نهمة نفوسهم الفخورة المتطاولة بفضلهم ، وجهادهم ونصرتهم ، وتقريبها إلى المهاجرين للاعتراف بفضلهم عليهم ، لأنه ليس أقوى على تخدير أعصاب الجماعة الهائجة من الذهاب مع تيار روحهم المندفعين بها ، فأعطى لهم ما يسألون بلسان حالهم من الاعتراف بالفضل والجهاد وكل فخر يشعرون به متطاولين .
حقا لقد صدق وصدقوا، فإن لهم الفضل الذي لا ينكر ، ولكنهم أخطأوا بزعمهم أن لهم بذلك حق الإمارة ، وهنا نجد أبا بكر يريد أن يحولهم عن هذا الزعم ، فيحذر أن يخدش عواطفهم بما ينقص منزلتهم ويحط من مقامهم ، فعدل عن التصريح بكلمة الخطأ أو ما ينسق عليها من معناها، واتبع أسلوبا آخر من البيان وأنه لمن السحر المأثور فلم يزد على كلمة : " فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم فنحن الأمراء وأنتم والوزراء " .
وفيها تنبيه على خطأهم من طرف خفي من دون التجاء إلى الكلمة التي بها تجرح عواطفهم وتثير الحزازات مع الثناء عليهم في نفس الوقت ثم إثبات الوزارة لهم.
وإذا أردت التدقيق في هذه الكلمة ترى الشئ الأعجب: فهو الآن يريد أن يفضل المهاجرين الأولين " الأولين بالخصوص! " عليهم، ليثبت لهم استحقاق الخلافة، ولو كان وضعهما في طرفين وفضل المهاجرين لأثار ذلك بحفيظتهم وحرش بين خصمين متطاولين من القديم ، فعدل عن منطوق مقصوده والتاف إليهم من طريق تفضيل الأنصار أنفسهم على الناس وألقى في الطريق كلمة " بعد المهاجرين الأولين "، فتظاهر أنه يريد أن يقول: ليس أحد بمنزلة الأنصار .
وأن مقصوده ليس غير ، وإنما استثنى المهاجرين كأمر ثابت مقرر لا يتطرق إليه الشك وليس محلا للنقاش لا لأنه المقصود في البيان . ؟ ؟ نا إذ تهدأ تلك النفوس الجامحة في الجماعة راضية بما قيل لها وفق شعورها تتفكك أوصالها وترجع من حيث جاءت كأنما حصل لها كل ما تصبو إليه.
وهذا من انحطاط نفسية الجماعات، فلا تشعر بالنتيجة التي يراد أخذها منها وإن خالفت تفكيرها عند التأمل، لأن عادة الجماعة في الأفكار أن تقبلها جملة أو تردها جملة، ولا طاقة لها على التأمل والتفكيك بين الأفكار ولا صبر لها على التمييز.
مضافا إلى أن الوعد بجعلهم الوزراء لا يفتاتون بمشورة ولا تقضي الأمراء دونهم الأمور يطمن من رغباتهم وأطماعهم، ويذهب بخوفهم من الاستبداد علي (عليه السلام)هم وأخذ الثأر منهم ، ويسدل على ما حاولوه ستارا كثيفا من النسيان . وبعبارة أصح، يأخذ أثره الوقتي وتلهو الجماعة عن صدق الوفاء ولا تحتاج إلى التدليل عليه، ولا يكلف قائله إلا الوعد وبهرجة الكلام.
وهناك كلمتان أخريان في تلك العبارة التي حللناها لا يفوتنا أن نتعرف إليهما وإلى ما فيهما من معنى أخاذ الأولى - كلمة (الأولين) - فأبعدهم بها عن شعور الخصومة الموجودة للمهاجرين عامة .
والمهاجرون والأنصار حزبان متطاولان وقد كان تنافسهما أمرا واضحا للعيان في زمن الرسول وبعده حتى قال لهم النبي (صلى الله عليه وآله) يوما: " ما بال دعوى أهل الجاهلية "، وذلك عندما قال الأنصاري: " يا للأنصار! " وقال المهاجري: " يا للمهاجرين - " فأقبل جمع من الجيشين وشهروا السلاح حتى كاد أن تكون فتنة عظيمة، في قصة مشهورة (4) - فتجد أبا بكر بتخصيص المهاجرين بالأولين كيف اتقى شعور الأنصار بخصومتهم لعامة المهاجرين، وهم لا ينكرون ما للأولين من فضل وقد سبقوهم إلى الإسلام وعبادة الرحمن على أنه بهذا التخصيص قرب نفسه وصاحبيه إلى هذا الأمر. الثانية : كلمة ( عندنا ) - فانظر إلى ما فيها من قوة سحرية إذ رفع بها عن مقام القرن المنازع للأنصار ، وأخرجها عن الحزبين : الأنصار والمهاجرين ، ونصب نفسه بها كحكم بينهما يفضل هذا على ذاك ثم يختار لهم ما فيه الصلاح .
وهذا له الأثر البليغ في إخماد نار عاطفة التعصب عليه، ويعطيه أيضا منزلة في نفوسهم هي أعلى وأرفع تجعل له نفوذ الحكم المستشار والزعيم للفريقين وعلى العكس فيما لو نصب نفسه مزاحما لهم مطالبا بحق يعود له ولحزبه . وشأن الجماهير أنها لا تنتظر الدليل على الدعاوي البراقة المبهرجة . لأن التصوير ولو بالألفاظ له الحكم الفصل على نفسياتها .
فارجع الآن إلى تلك العبارة ودققها ! وهي جعجعة تسحن الجماعات من غير طحن ، وإلا فمن المقصود بضمير ( عندنا ) يتكلم عنه أبو بكر غير جماعة المهاجرين وهو منهم ، وعلى تقديره فمن الذي خوله أن يمثل المهاجرين بشخصه ؟ . . . ولكنه جرد من نفسه " ومعه غيره " حكما مفضلا ، عنده المهاجرون أفضل من الأنصار وليس بمنزلة الأنصار أحد بعدهم .
فلا نعجب بعد ان عرفنا هذه الأساليب التي لها القوة السحرية على الجماعات أن يأخذ أبو بكر بناصية الحال ، ويستهوي المجتمعين لينظروا إليه بقلوبهم لا بعقولهم ، فيصرفهم كيف يريد . فانتظر نتيجة تأثيره عليهم .
نقاش المهاجرين والأنصار
قرأنا في الفصل السابق خطبة أبي بكر وما فيها من الأساليب فلنرى مدى تأثيرها على المجتمعين وكيف كانت النتيجة؟: لم يرد عليه إلا الحباب بن المنذر في كلامه المتقدم في البحث رقم ( 2 ) وقد رأيناه لم يأت بشئ وكان أول منخذل أمام المهاجرين وإن ظهر بالقوة التي تلاشت في آخر كلامه كما شرحناه ، ففتح على نفسه باب الحجة الظاهرة إذ قال : " فمنكم أمير ومنهم أمير " ، على أنه ظهر جليا بمظهر المتعصب المغالب ، فاستهل كلامه بقوله : " املكوا عليكم أمركم . . . " وهذا مردود عليه معكوس الأثر ، وسيأتي .
وهنا. جاء دور عمر بن الخطاب فقال: " هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن. والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم. ولنا بذلك من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين . من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لا ثم أو متورط في هلكة " . فتجد كلام عمر هذا - وإن كان هادئا - لا يبلغ كلام أبي بكر، إذ ظهر بمظهر الخصم المدعي بحق الإمارة .
وكأن أبا بكر فسح له المجال لأن يكون هو المدعي العام عن المهاجرين بعد أن نصب نفسه كحكم للمتنازعين .
كما نلاحظ أيضا أنه لم يشر إلى قضية النص على قريش أو على خصوص واحد منهم ، وإنما القضية قضية رضى العرب وإبائها وأن المهاجرين أولياء محمد وعشيرته .
ولذا قال علي (عليه السلام) بعد ذلك : " احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة " .
فقام الحباب بعد عمر فقال: " يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم - والله - أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين. أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب. أنا شبل في عرينه الأسد. أما والله لو شئتم لنعيدنها جذعة . والله لا يرد أحد على ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف ". وهذه عصبية جاهلية وسوء قصد ظاهر.
فقال له عمر: " إذا يقتلك الله " فانتحى به الناحية الدينية إذ نسب القتل إلى الله تعالى ولم يقل يقتلك الناس. وهذا أسلوب من الرد فيه التهديد والتنديد على تلك دعوى الجاهلية منه.
فقال الحباب: " بل إياك يقتل " .
وهذه مهاترة يلتجأ إليها ضعف الحجة وشدة الغضب، فترى الحباب في كل ذلك كان قلق الوضين يرسل من غير سدد، وتتضوع من فمه رائحة نفسه، ولا يعرف أن يسر حسوا في ارتغاء.
فاقتحم في الميدان بجنان الفارس المدله المدل بقوته ونفسه، ومن سيفه ولسانه تنطف دعوى الجاهلية الأولى البشعة في الإسلام، تأباها عليه الصبغة الدينية المصطبغ بها المجتمع يومئذ، وهو في الدرجة الأولى متأثر بالإسلام وتعاليمه، وللشعور الديني المكان الأول في تأثر الجماعات الدينية وانفعالاتها، فما لم يستخدم هذا الشعور لا يرجى أن يحدث في الجماعة التعصب الذي يجعل الإنسان يرى سعادته في التضحية بنفسه وبكل عزيز فداء للمقصد الذي يوجه إليه .
فالحباب إن تولى الدفاع عن سعد وقومه نصرة لهم فهو الذي أفسد عليهم أمرهم أكثر من أي شخص آخر من حيث يظن الصلاح وبدلا من أن يقود المجتمعين للغرض الذي اجتمعوا لأجله قد خسرهم وأعطى القيادة - من حيث لا يشعر – لغيره الذي عرف كيف تؤكل الكتف في استمالتهم واستعمال نفوذه فيهم. وكان أول ظهور هذه الخسارة قيام ابن عمه بشير بن سعد الخزرجي، فنقض على الخزرج ما أجمعوا عليه فقال: " يا معشر الأنصار إنا والله لئن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا إلا رضى ربنا . نبينا والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ولا نبتغي من الدنيا عرضا فإن الله ولي المنة علينا بذلك. ألا إن محمدا من قريش وقومه أحق به وأولى. وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم ".
أنظر إلى الشعور الديني كيف أخذ بأطراف كرم هذا الرجل ، متأثرا بدعوة أبي بكر وصاحبه ، خارجا على قومه بل على نفسه ، وكان بعد ذلك أول مبايع من القوم . ولا أعتقد أن ذلك كله عن نفاسة لسعد كما رماه به الحباب لما مد يده للبيعة فناداه : " يا بشير بن سعد عققت عقاق ! ما أحوجك إلى ما صنعت ؟ أنفست على ابن عمك الإمارة ! " .
فقال بشير : " لا والله ولكن كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله لهم " .
بل اعتقد أنه كان صادقا بعض الصدق أو كله فيما ادعاه عن نفسه فإن سير الحادثة كما وصفناه يدل دلالة واضحة على تأثر الجماعة بكلام أبي بكر وانقيادها إلى دعوته ولا سيما بعد ما صدر من الحباب ما يبعد النفوس عن دعوة قومه .
نعم ! وإنما كان مبدأ ظهور ذلك التأثير في بشير بن سعد ، فيصح أن نجعله ممثلا لشعور قومه تلك الساعة .
المهاجرون يربحون الموقف
إن الحقيقة هي التي وصفناها لك . إن القوم قد تكهربوا بدعوة المهاجرين وتهيئوا لبيعة واحد منهم بالرغم من وجود التنافس بين الحزبين كما أشرنا إليه وصرح به أبو بكر في خطبته التي تقدمت في البحث ( 5 ) إذ قال : " فقد جلس بين لحي أسد يقضمه المهاجري ويجرحه الأنصاري " وزاد في تهيئهم هذا منافسة الأوس للخزرج وحسدهم لسعد . وطبيعي أن تنافس القريب أكثر أثرا من منافسة البعيد مهما كانت .
ولذلك نرى أبا بكر لما سمع مقالة بشير لم يتأخر عن تقرير النتيجة من هذا النقاش ، فلا بد أنه علم بانقلاب الجمع تأثرا بدعوتهم كيف وهو قد هيمن علي (عليه السلام)هم ونومهم تنويما مغناطيسيا ، فيعرف كيف سخره وقاده فقدم للبيعة أحد الرجلين اللذين معه : عمر بن الخطاب وأبي عبيدة الجراح ، وقال:" قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فأيهما شئتم فبايعوا".
وقد جرى في هذا الكلام هنا على نفس تلك الطريقة التي سلكها في خطبته المتقدمة في البحث من ترفعه عن مقام المعارضة، وتجريده من نفسه حكما للحزبين يختار لهما ما هو الصالح باجتهاده، فاختار لهم أحد هذين الرجلين .
ولكن الجمهور كما قلنا ضعيف الرأي والاختيار، لا يعرف أن يختار ولا يعرف أن يعين ما يختار، ويبقى في مثل هذا الحال منتظرا إشارة من سخرة ونومه التنويم المغناطيسي أو لأي شخص آخر يفاجئه بإرادة قوية حازمة ، فلو أن أحدا من الحاضرين قام فبايع أحدا منهما عمر أو أبا عبيدة لبويع وانتهى كل شئ .
ولو أن أبا بكر عين واحدا لما تأخروا عن بيعته، ولكن هذا الترديد بين الرجلين يظهر أنه كان مقصودا تمهيدا لإرجاع الأمر إليه، ولعله عن تفاهم سابق واتفاق بين الثلاثة ليتعاقبوا هذا الأمر.
ولذلك تمنى عمر عند الموت أن يكون أبو عبيدة حيا ليعهد إليه .
أما هما فقد أبيا عليه وقال عمر: " لا والله لا نتولى الأمر عليك ابسط يدك نبايعك! " قال هذا القول ولم يترك فرصة تستغل للرد والحجاج، فحقق القول بالعمل، وأقدم بإرادة جازمة لا تعرف التردد يتطلبها الموقف الدقيق، فذهب ليبايع أبا بكر، ولم يتمنع أبو بكر فمد يده، ولكن بشير بن سعد هذا الذي تقدمت خطبته سابق عمر بن الخطاب إليها فوضع يده بين يديهما مبايعا ، كأنما أراد بذلك أن يحرز الفضيلة في السبق أو ليبرهن على إخلاصه للمهاجرين ، بل هذا من اندفاعات الجمهور المدهشة بنتيجة انفعالهم بالمؤثرات التي تطرأ عليهم . وهو من أبلغ الشواهد على ما قلنا من تكهرب نفوس جمهور السقيفة بتلك المؤثرات التي استعملها أبو بكر بتلك الحذاقة واللباقة، فإن لبعض الألفاظ والجمل سلطانا لا يضعفه العقل ولا يؤثر فيه الدليل. ألفاظ وجمل يفوه بها الخطيب خاشعا أمام الجمهور، فلا تكاد تخرج من فيه حتى تعلو الوجوه هيبتها وتعنو القلوب لها احتراما كأن فيها قوة إلهية أو موجة سحرية، فتثير تارة في النفوس أشد الصواعق من الغضب، وتسكنها تارة إذا جاشت فتمزق أشلاءها وتقودها إلى حيث يريد المتكلم راضية قانعة ( 6 ) .
ويظهر أن عمر أيضا أدرك حقيقة الموقف وكيف قد ربحه المهاجرون فلم يبق إلا أن يصدر أحدهم الحكم الفاصل في تعيين من يبايع منهم ، فأقدم على بيعة أبي بكر - كما رأيناه - غير متردد ولا متخوف ولا مستشير ، ومد يده مسرعا .
وإلا فإن الأمر أعظم من أن يتم بهذه السرعة والسهولة التي كانت : بإقدام شخص واحد يعقد البيعة لشخص آخر الظاهر ظهور الشمس أنه صاحبه المنحاز إليه في وقت هو أحد ثلاثة أو أربعة من الحزب المعارض لقوم في عقر دارهم معتزين بقوتهم يريدون أن يملكوا أعظم سلطان لأعظم أمة ، وهو لم يأخذ رأيهم وتصديقهم على ما أراد ( 7 ) .
وإنما أقدم كأن الأمر لا يدور إلا بينه وبين أبي بكر كأمر ثابت لا شك فيه .
وهذه مغامرة خطيرة لها ما بعدها ، ولم تكن منه إلا لأنه أدرك نضج القوم وتهيئهم لبيعة أحد المهاجرين . ولذلك لم نجد معارضة من القوم ، بل الأوس ذهبت جميعها مسرعة للبيعة من غير تردد ولا تلكؤ يقدمها أسيد بن حضير بعد أن قالت ما قالت كما تقدم في البحث ( 3 ) .
ثم تبعهم جميع الأنصار ما عدا سعدا ومن كان شديد التعصب له كابنه قيس والحباب. ولا شك أن للعدوى أثرها الفعال في الجماعات فتسري سريان النار في الهشيم، أو تيار الكهرباء في سلكه، فقد وجدنا كيف كان هلعهم في تزاحمهم على البيعة وتسابقهم إليها ، كأنما تفوت دونها الفرصة ، فأقبلوا من كل جانب يبايعون أبا بكر ، حتى ازدحموا على سعد بن عبادة السيد المطاع في الخزرج بل الأنصار كلهم ، هذا الزعيم الذي كان قبل ساعة مرشحا للبيعة خليفة للنبي وأميرا على جميع المسلمين ، وكادوا يطأونه فيقتلونه وهو مزمل وجع ، فحمل إلى داره صفر اليدين .
وهذا ألطف شئ في تناقض أفعال الجمهور وعدم ثباته وتطرفه في أعماله وآرائه وشدة نزقه ، فإنه لا يعرف الحلم والصبر ولا قمع النفس عن الاسترسال في نزعاتها ، ولا المحافظة على الآداب العامة المصطلح عليها ، وهو مع ذلك كثير النسيان لأحواله السابقة .
أما الحباب - ولا ينبغي أن ننساه - لما رأى إقبال الناس على البيعة انتضى سيفه ، فحامله عمر فضرب يده ، فندر السيف ، فأخذ منه . فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة ، ولكن من المعلوم أنه لم يصنع شيئا ولم يستطيع رد جماح أي شخص من قومه حتى تمت البيعة مرغما ، وصدق فيه وفي قومه المثل المشهور " رب ساع لقاعد " .
وليتني أراه في تلك الساعة كيف كان حاله فتزبد شدقاه ويتميز غيظا ويعض على أنامله وقد ملكت حواسه سورة الغضب ، وماذا كان يقول لقومه ولنفسه بعد ذلك الذي مضى منه من التهديد والوعيد ثم ذهب هباء وخار ضعفا ؟
لا شك أنه لو كان من أبناء هذه المدينة الحديثة متشبعا بعاداتها ، لكان - هو على مثل هذه الحال - ضحية الانتحار ليتخلص من شنارها ويستر عارها .
النتيجة
نستنتج من سير الحادثة إن طريقة بيعة أبي بكر لم تكن طريقة اختيار بالمعنى الصحيح ( 8 ) ويحقق معنى أنها كانت " فلتة " وقى الله شرها على حد تعبير عمر بن الخطاب .
وقد رأينا السرعة التي جرت بالحادث لم تبق مجالا للمفكر أن يشحذ فكره ولا للمعارض أن يقيم حجته ، فكانت مفاجأة في مفاجأة . مع أن العاطفة العدائية عند الأوس المهيجة من أبي بكر كان لها الأثر الفعال في تقريب النتيجة ، وساعدها بل أشعل أوارها إن المجتمعين انطبعت فيهم أوصاف الجماعة الاجتماعية ، مما يذهب عنهم صحة الاختيار والحكم .
فلا بدع إذا لم يثق الباحث المفكر باختيار جماعة السقيفة، ولا يغتر به دليلا على صحة هذه الطريقة من البيعة في الإسلام . وقد أشرنا في الفصل الأول إلى أن عمر نفسه قال عنها: " فمن دعا إلى مثلها فهو الذي لا بيعة له ولا لمن بايعه " .
ولا غرابة أيضا إذا لم يدافع أحد عن النص على علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وقد اندفع المجتمعون بتيار جارف لا يقف في سبيله شئ ، ونحن نعرف رأي المهيمنين على الاجتماع في علي (عليه السلام) ، وهم يبتعدون أن يتم له شئ من ذلك .
أفتراهم يدعون إليه في هذا المجتمع الذي أسس على الإعراض عن النص فيه .
وإذا قال بعد ذلك بعض الأنصار أو كلهم " لا نبايع إلا عليا (عليه السلام) " كما سبق فقد قلنا إن ذلك بعد خراب البصرة ، فإن هذا الجمهور أصبح لا يملك اختياره وتفكيره وشعوره بواجبه الديني لما قلناه من تكهربه بتيار تلك القوة السحرية قوة الاجتماع التي تجعل أعماله أعمالا لا شعورية ، على أن أساس الاجتماع ارتكز على طمع الأنصار من جهة تخوفهم من جهة أخرى " على ما شرحناه فيما تقدم " .
وهذان لم يتركاهم يفكرون في واجبهم الديني فبعد أن أفحموا وغلبوا واندفعوا مع الغالبين، وتلك هي فطرة البشر .
ويشهد على ما نحسه من الضعف الديني في تلك الأحكام العاجلة والقرارات الخاطفة في اجتماع السقيفة ، إنه مما تقرر في تلك النهزة أمران عامان :
1 - إن الأنصار لا حق لهم في هذا الأمر .
2 - إنهم الوزراء لمن كانت له الإمارة .
مع أن الأول شك فيه أبو بكر نفسه بعد ذلك إذ تمنى فيما تمنى لو سأل النبي (صلى الله عليه وآله) عنه ، والثاني هذا المنصب المزعوم - وزارة الخليفة - لم يعط لأحد منهم لا في عهد أبي بكر ولا بعده ، بل هذا المنصب لم يحدث لأحد إلا في عهد العباسيين .
وبهذه النتيجة التي حصلنا عليها من سير حوادث السقيفة وملابساتها يسهل علينا أن نفسر بها الآية الكريمة {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]. فإن الاجتماع كان - على كل حال - انقلابا على الأعقاب حتى لو لم نؤمن بالنص من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) على من سيكون خليفة من بعده ، لأن الاجتماع كما قلنا من أصله كان افتياتا على المسلمين ولم يكن مستندا إلى قاعدة إسلامية أو تصريح من الرسول . وكذلك ما قرره الاجتماع لم يكن إلا قرارا خاطفا تحكمت فيه العواطف في المبدأ والمنتهى ، وليس فيه مجال الرجوع إلى النص .
وإلى هنا نستطيع أن نرجع إلى ما قلناه في التمهيد أنه كيف تفسر الآية بحوادث السقيفة وأرجو من القارئ أن يرجع من جديد إلى بحث السقيفة ليأخذ بأطراف الموضوع على ضوء هذه النتيجة.
ومن نفس الحادثة نستطيع أيضا أن نؤيد النص على الإمام علي (عليه السلام) ، لأن ما ورد فيه من تلك النصوص لو لم تكن لتعيينه خليفة وكانت لمجرد الثناء وبيان فضله ولم يكن الاجتماع لاستغلال الفرصة لمخالفة النص وكان اجتماعا طبيعيا شرعيا - لو لم يكن كل ذلك لوجب أن يكون هذا الرجل الذي هو من النبي (صلى الله عليه وآله) بمنزلة هارون من موسى في مقدمة المجتمعين وعلى رأسهم ومعه أهل بيته ولما كان ينعقد الاجتماع ولا يقرر فيه شئ من دون مشورته وموافقته ولكن - كما سبق – كل ذلك لم يقع . بل الحادثة من مبدأها إلى منتهاها أخذت على أن تقع على غفلة منه ومن بني هاشم إلى آخر لحظة منها وأهمل شأنهم وكأنهم لم يكونوا من المسلمين أو لم يكونوا من الحاضرين إلا بعد أن تم كل شئ .
____________
(1) ذكر ذلك في العقد الفريد ( 3 : 63 ) وفي الجزء الثاني من شرح النهج ولم نر غيرهما يصرح باسم الشخص المخبر . ولكن عمر بن الخطاب نفسه يحدثنا أنه صادفها في ذهابهم إلى السقيفة، فأشار عليهم بالرجوع ليقضوا أمرهم بينهم .
(2) وأحسب أن عمر أراد أن يحفظ لهما هذه اليد، فيكتم عليهما غايتهما هذه على قومهما دفاعا عنهما، لأن الأنصار اجتمعت بعد بيعة أبي بكر في محفل فدعوهما وعيروهما بانطلاقهما إلى المهاجرين واكبوا فعلهما فخطبا فردت عليهما الأنصار وأغلظوا وفحشوا عليهما وكل منهما قال شعرا: ( راجع شرح النهج 2 : 11 نقلا عن كتاب الموفقيات للزبير بن بكار ) .
( 3 ) الطبري ( 3 : 208 ).
( 4 ) الطبري ( 3 : 208 ) .
( 5 ) راجع البخاري ( 2 : 165 و 3 : 126 ).
( 6 ) راجع كتاب " روح الاجتماع " المعرب لغستاف لبون ص 113 .
( 7 ) على أنه قال بعد ذلك في خلافته : " فمن بايع أميرا من غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذي بايعه تغرة يقتلا " راجع كنز العمال الجزء الثالث رقم الحديث 2323 .
( 8 ) فنصدق كلمة الأستاذ محمد فريد أبي حديد في مقاله " نظرة في نظام بيعة الخلفاء " المنشور في مجلة الرسالة المصرية العدد 10 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|