الطالقاني، عن الجلودي، عن محمد بن
عطية، عن عبد الله بن عمر بن سعيد البصري، عن هشام بن جعفر بن حماد، عن
عبد الله بن سليمان وكان قارئا للكتب قال: قرأت
في بعض كتب الله عزوجل أن ذا القرنين كان رجلا من أهل الاسكندرية وامه عجوز من عجائزهم
ليس لها ولد غيره يقال له: إسكندروس، وكان له أدب وخلق وعفة من وقت ما كان
فيه غلاما إلى أن بلغ رجلا، وكان رأى في المنام كأنه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها
شرقها وغربها، فلما قص رؤياه على قومه سموه ذا القرنين، فلما رأى هذه
الرؤيا بعدت همته وعلا صوته وعز في قومه، وكان أول ما أجمع عليه أمره أن قال: أسلمت
لله عزوجل، ثم دعا قومه إلى الاسلام فأسلموا هيبة له، ثم أمرهم أن يبنوا له مسجدا
فأجابوه إلى ذلك، فأمر أن يجعل طوله أربعمائة ذراع، وعرضه مائتي ذراع، وعرض حائطه
اثنين و عشرين ذراعا، وعلوه إلى السماء مائة ذراع، فقالوا له: يا ذا القرنين كيف
لك بخشب يبلغ ما بين الحائطين ؟ فقال لهم: إذا فرغتم من بنيان الحائطين
فاكبسوه بالتراب حتى يستوي الكبس مع حيطان المسجد، فإذا فرغتم من ذلك فرضتم
على كل رجل من المؤمنين على قدره من الذهب والفضة، ثم قطعتموه مثل قلامة الظفر
وخلطتموه مع ذلك الكبس، وعملتم له خشبا من نحاس وصفائح تذيبون ذلك وأنتم
متمكنون من العمل كيف شئتم على أرض مستوية فإذا فرغتم من ذلك دعوتم المساكين لنقل
ذلك التراب فيسارعون فيه من أجل ما فيه من الذهب والفضة. فبنوا المسجد، وأخرج
المساكين ذلك التراب، وقد استقل السقف بما فيه، واستغنى المساكين، فجندهم أربعة
أجناد في كل جند عشرة آلاف، ثم نشرهم في البلاد وحدث نفسه بالسير فاجتمع إليه قومه
فقالوا له: يا ذا القرنين ننشدك بالله لا تؤثر علينا بنفسك غيرنا فنحن أحق برؤيتك،
وفينا كان مسقط رأسك، وبيننا نشأت وربيت، وهذه أموالنا وأنفسنا وأنت الحاكم فيها،
وهذه امك عجوز كبيرة هي أعظم خلق الله عليك حقا فليس ينبغي عليك أن تعصيها ولا
تخالفها، فقال لهم: والله إن القول لقولكم، وإن الرأي لرأيكم، ولكني بمنزلة المأخوذ
بقلبه وسمعه وبصره، يقاد ويدفع من خلفه، لا يدري أين يؤخذ به ولا ما يراد به،
ولكن هلموا معشر قومي فادخلوا هذا المسجد واسلموا عن آخركم ولا تخالفوا علي فتهلكوا. ثم
دعا دهقان الاسكندرية فقال له: اعمر مسجدي، وعز عني امي، فلما رأى الدهقان جزع
امه وطول بكائها احتال ليعزيها بما أصاب الناس قبلها وبعدها من المصائب والبلاء،
فصنع عيدا عظيما ثم أذن مؤذنه: أيها الناس إن الدهقان يؤذنكم أن تحضروا يوم
كذا وكذا، فلما كان ذلك اليوم أذن مؤذنه: أسرعوا واحذروا أن يحضر هذا العيد إلا
رجل قد عرى من البلاء والمصائب، فاحتبس الناس كلهم وقالوا: ليس فينا أحد عرى من البلاء
والمصائب، ما منا أحد إلا وقد اصيب ببلاء أو بموت حميم، فسمعت أم ذي القرنين فأعجبها
ولم تدر ما أراد الدهقان. ثم إن الدهقان بعث مناديا ينادي فقال: أيها الناس إن
الدهقان قد أمركم أن تحضروا يوم كذا وكذا ولا يحضر إلا رجل قد ابتلي واصيب وفجع ولا
يحضره أحد عرى من البلاء، فإنه لا خير فيمن لا يصيبه البلاء، فلما فعل ذلك قال الناس:
هذا رجل قد بخل ثم ندم واستحيى فتدارك أمره ومحا عيبه، فلما اجتمعوا خطبهم
ثم قال ؟ إني لم أجمعكم لما دعوتكم له، ولكني جمعتكم لأكلمكم في ذي القرنين وفيما
فجعنا به من فقده وفراقه، فاذكروا آدم إن الله عزوجل خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه،
وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته وأكرمه بكرامة لم يكرم بها أحدا ثم ابتلاه بأعظم
بلية كانت في الدنيا وذلك الخروج من الجنة، وهي المصيبة التي لأجبر لها، ثم ابتلي
إبراهيم من بعده بالحريق، وابتلى ابنه بالذبح، ويعقوب بالحزن والبكاء، ويوسف بالرق،
وأيوب بالسقم، ويحيى بالذبح، وزكريا بالقتل، وعيسى بالأسر، وخلقا من خلق الله
كثيرا لا يحصيهم إلا الله عزوجل. فلما فرغ من هذا الكلام قال لهم: انطلقوا وعزوا
ام الاسكندروس لننظر كيف صبرها، فإنها أعظم مصيبه في ابنها، فلما دخلوا عليها قالوا
لها: هل حضرت الجمع اليوم ؟ وسمعت الكلام ؟ قالت لهم: ما غاب عني من أمركم شئ،
ولأسقط عني من كلامكم شئ، وما كان فيكم أحد أعظم مصيبة بالاسكندروس مني، ولقد صبرني
الله وأرضاني وربط على قلبي، وإني لأرجو أن يكون أجري على
قدر ذلك. وأرجو لكم من الاجر بقدر ما رزيتم به
من فقد أخيكم، وأنت توجروا على قدر ما نويتم في امه، وأرجو أن يغفر الله لي ولكم ويرحمني
وإياكم ; فلما رأو أحسن عزائها وصبرها انصرفوا عنها وتركوها، وانطلق ذو القرنين
يسير على وجهه حتى أمعن في البلاد يؤم المغرب وجنوده يومئذ المساكين.
فأوحى الله جل جلاله إليه: يا ذا القرنين أنت حجتي على جميع الخلائق ما بين الخافقين
من مطلع الشمس إلى مغربها وحجتي عليهم، وهذا تأويل رؤياك ; فقال ذو القرنين:
إلهي إنك ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره غيرك، فأخبرني عن هذه الامة بأية
قوم اكاثرهم وبأي عدد أغلبهم؟ وبأية حيلة أكيدهم؟ وبأي صبر اقاسيهم ؟ و بأي
لسان اكلمهم ؟ وكيف لي بأن أعرف لغاتهم ؟ وبأي سمع أعي قولهم ؟ وبأي بصر أنفذهم ؟
وبأية حجة اخاصمهم؟ وبأي قلب أغفل عنهم ؟ وبأية حكمة ادبر امورهم؟ وبأي حلم
اصابرهم ؟ وبأي قسط أعدل فيهم ؟ وبأية معرفة أفصل بينهم ؟ وبأي علم أتفن أمورهم
؟ وبأي عقل احصيهم ؟ وبأي جند أقاتلهم ؟ فإنه ليس عندي مما ذكرت شئ، يا رب فقوني
عليهم بانك الرب الرحيم، لا تكلف نفسا إلا وسعها، ولا تحملها إلا طاقتها. فأوحى
الله جل جلاله إليه: إني سأطوقك ما حملتك، وأشرح لك صدرك فتسمع كل شئ، وأشرح لك
فهمك فتفقه كل شئ، وأطلق لسانك بكل شئ وأحصي لك فلا يفوتك شئ، وأحفظ عليك فلا
يعزب عنك شئ، وأشد ظهرك فلا يهو لك شئ، والبسك
الهيبة فلا يروعك شئ، واسد دلك رأيك فتصيب كل شئ، واسخر لك جسدك فتحس كل شئ، واسخر
لك النور والظلمة وأجعلهما جندين من جندك: النور يهديك، والظلمة تحوطك وتحوش عليك
الامم من ورائك. فانطلق ذو القرنين برسالة ربه عزوجل وأيده الله بما وعده، فمر
بمغرب الشمس فلا يمر بأمة من الامم إلا دعاهم إلى الله عزوجل، فإن أجابوه قبل منهم
وإن لم يجيبوه أغشاهم الظلمة، فأظلمت مدائنهم وقراهم وحصونهم وبيوتهم ومنازلهم،
وأغشت أبصارهم ودخلت في أفواههم وآنافهم وأجوافهم فلا يزالوا فيها متحيرين
حتى يستجيب الله عز وجل ويعجوا إليه، حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجد عندها الامة
التي ذكرها الله عزوجل في كتابه، ففعل بهم ما كان فعله بمن مربه قبلهم، حتى فرغ
مما بينه وبين المغرب ووجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله عزوجل، وقوة وبأسا لا يطيقه
إلا الله، وألسنة مختلفة، وأهواء متشتة، وقلوبا متفرقة. ثم مشى على الظلمة ثمانية
أيام وثمان ليال وأصحابه ينظرونه حتى انتهى إلى الجبل الذي هو محيط بالأرض كلها،
فإذا بملك من الملائكة قابض على الجبل وهو يقول: سبحان ربي من الان إلى منتهى الدهر،
سبحان ربي من أول الدنيا إلى آخرها، سبحان ربي من موضع كفي إلى عرش ربي، سبحان
ربي من منتهى الظلمة إلى النور، فلما سمع ذو القرنين خر ساجدا فلم يرفع رأسه حتى
قواه الله عزوجل وأعانه على النظر إلى ذلك الملك، فقال له الملك: كيف قويت يا ابن
آدم على أن تبلغ إلى هذا الموضع ولم يبلغه أحد من ولد آدم قبلك ؟ قال ذو القرنين:
قواني على ذلك الذي قواك على قبض هذا الجبل وهو محيط بالأرض كلها، قال له
الملك: صدقت ولولا هذا البجل لانكفأت الارض بأهلها، وليس على وجه الارض جبل أعظم
منه، وهو أول جبل أسسه الله عزوجل، فرأسه ملصق بالسماء
الدنيا، وأسفله في الارض السابعة السفلى، وهو محيط بها كالحلقة، وليس على
وجه الارض مدينة إلا ولها عرق إلى هذا الجبل، فإذا أراد الله عزوجل أن يزلزل مدينة
فأوحي إلي فحركت العرق الذي يليها فزلزلتها. فلما أراد ذو القرنين الرجوع قال للملك:
أوصني، قال الملك: لا يهمنك رزق غد، ولا تؤخر عمل اليوم لغد، ولا تحزن على ما
فاتك، وعليك بالرفق، ولا تكن جبارا متكبرا. ثم إن ذا القرنين رجع إلى أصحابه، ثم عطف
بهم نحو المشرق يستقري ما بينه و بين المشرق من الامم فيفعل بهم ما فعل بأمم المغرب
قبلهم حتى إذا فرغ ما بين المشرق والمغرب عطف نحو الروم الذي ذكره الله عزوجل
في كتابه، فإذا هو بأمة لا يكادون يفقهون قولا، وإذا ما بينه وبين الروم مشحون
من امة يقال لها يأجوج ومأجوج أشباه البهائم، يأكلون ويشربون ويتوالدون، هم ذكور
وإناث، وفيهم مشابه من الناس الوجوه والاجساد والخلقة، ولكنهم قد نقصوا في الابدان
نقصا شديدا، وهم في طول الغلمان، ليس منهم انثى ولا ذكر يجاوز طوله خمسة أشبار،
وهم على مقدار واحد في الخلق والصور، عراة حفاة لا يغزلون ولا يلبسون ولا يحتذون،
عليهم وبر كوبر الابل يواريهم ويسترهم من الحر والبرد، ولكل واحد منهم اذنان:
أحدهما ذات شعر، والاخرى ذات وبر ظاهر هما وباطنهما، ولهم مخالب في موضع الاظفار،
وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها، وإذا تام أحدهم افترش إحدى اذنيه والتحف
الاخرى فتسعه لحافا، وهم يرزقون تنين البحر، كل عام يقذفه عليهم السحاب
فيعيشون به عيشا خصبا، ويصلحون عليه و يستمطرونه في إبانه، كما يستمطر الناس
المطر في إبان المطر، فإذا قذفوا به أخصبوا وسمنوا وتوالدوا وكثروا فأكلوا منه
حولا كاملا إلى مثله من العام المقبل ولا يأكلون
معه شيئا غيره، وهم لا يحصي عددهم إلا الله عزوجل الذي خلقهم، وإذا أخطأهم التنين
قحطوا وأجدبوا وجاعوا وانقطع النسل والولد، وهم يتسافدون كما تتسافد البهائم
على ظهر الطريق وحيث ما التقوا، فإذا أخطأهم التنين جاعوا وساحوا في البلاد فلا
يدعون شيئا أتوا عليه إلا أفسدوه وأكلوه، فهم أشد فسادا فيما أتوا عليه من الارض
من الجراد والبرد والآفات كلها، وإذا أقبلوا من أرض إلى أرض جلا أهلها عنها وخلوها،
وليس يغلبون ولا يدفعون حتى لا يجد أحد من خلق الله موضعا لقدمه، ولا يخلو للإنسان
قدر مجلسه، ولا يدري أحد من خلق الله كم من أولهم إلى آخرهم، ولا يستطيع شيء من
خلق الله أن ينظر إليهم، ولا يدنو منهم نجاسة وقذرا وسوء حلية فبهذا غلبوا، ولهم حس
وحنين إذا أقبلوا إلى الارض يسمع حسهم من مسيرة مائة فرسخ لكثرتهم، كما يسمع حس الريح
البعيدة أو حس المطر البعيد، ولهم همهمة إذا وقعوا في البلاد كهمهمة النحل إلا
أنه أشد وأعلى صوتا، يملا الارض حتى لا يكاد أحد يسمع من أجل ذلك الهمهمة شيئا، وإذا
أقبلوا إلى الارض حاشوا وحوشها وسباعها حتى لا يبقى فيها شئ منها، وذلك لأنهم يملؤون
ما بين أقطارها، ولا يتخلف وراءهم من ساكن الارض شئ فيه روح إلا اجتلبوه من قبل
أنهم أكثر من كل شئ، وأمرهم عجب من العجب، وليس منهم أحد إلا وقد عرف متى يموت،
وذلك من قبل أنه لا يموت منهم ذكر حتى يولد له ألف ولد، ولا يموت منهم انثى حتى
تلد ألف ولد، فبذلك عرفوا آجالهم، فإذا ولدوا الالف برزوا للموت وتركوا طلب ما كانوا
فيه من المعيشة والحياة، فتلك قصتهم من يوم خلقهم الله تعالى إلى يوم يفنيهم.
ثم إنهم أجفلوا في زمان ذي القرنين يدورون أرضا
أرضا من الارضين، وامة امة من الامم وهم إذا توجهوا الوجه لم
يعدلوا عنه أبدا، ولا ينصرفوا يمينا وشمالا، ولا
يلتفتوا فلما أحست تلك الامم بهم وسمعوا همهمتهم استغاثوا بذي القرنين وذو القرنين
يومئذ نازل في ناحيتهم واجتمعوا إليه فقالوا: يا ذا القرنين إنه قد بلغنا ما أتاك
الله من الملك والسلطان، وما ألبسك الله من الهيبة، وما أيدك به من جنود أهل الارض
ومن النور والظلمة وإنا جيران يأجوج ومأجوج وليس بيننا وبينهم سوى هذه الجبال،
وليس لهم إلينا طريق إلا من هذين الصدفين، لو مالوا علينا أجلونا من بلادنا
لكثرتهم حتى لا يكون لنا فيها قرار، وهم خلق من خلق الله كثير، فيهم مشابه من الانس
وهم أشباه البهائم، يأكلون العشب ويفرسون الدواب والوحوش كما تفترسها السباع،
ويأكلون حشرات الارض كلها من الحيات والعقارب وكل ذي روح مما خلق الله عزوجل،
وليس لله عزوجل خلق ينمو نماهم وزيادتهم ولا نشك أنهم يملؤون الارض ويجلون أهلها
منها ويفسدون، ونحن نخشى كل وقت أن يطلع علينا أوائلهم من هذين الجبلين،
وقد أتاك الله من الحيلة والقوة ما لم يؤت أحدا من العالمين، فهل نجعل لك خرجا
على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ؟ قال: ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم
وبينهم ردما آتوني زبر الحديد ; قالوا: ومن أين لنا من الحديد والنحاس ما يسع هذا
العمل الذي تريد أن تعمل ؟ قال: إني سأدلكم على معدن الحديد والنحاس، فضرب لهم في
جبلين حتى فتقهما واستخرج منهما معدنين من الحديد والنحاس، قالوا: بأي قوة نقطع الحديد
والنحاس؟ فاستخرج لهم معدنا آخر من تحت الارض يقال له السامور وهو أشد شئ
بياضا، وليس شئ منه يوضع على شئ إلا ذاب تحته، فصنع لهم منه أداة يعملون بها،
وبه قطع سليمان بن داود عليه السلام أساطين بيت المقدس، وصخوره جاءت به الشياطين
من تلك المعادن، فجمعوا من ذلك ما اكتفوا به فأوقدوا على الحديد حتى صنعوا منه
زبرا مثل الصخور، فجعل حجارته من حديد ثم أذاب النحاس فجعله كالطين
لتلك الحجارة، ثم بنى وقاس ما بين الصدفين فوجده
ثلاثة أميال، فحفر له أساسا حتى كاد يبلغ الماء وجعل عرضه ميلا، وجعل حشوه زبر
الحديد، وأذاب النحاس فجعله خلال الحديد فجعل طبقة من نحاس واخرى من حديد حتى
ساوى الردم بطول الصدفين، فصار كأنه برد حبرة من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد،
فيأجوج ومأجوج ينتابونه في كل سنة مرة وذلك أنهم يسيحون في بلادهم حتى إذا
وقعوا إلى الردم حبسهم، فرجعوا يسيحون في بلادهم فلا يزالون كذلك حتى تقرب الساعة
ويجئ أشراطها، فإذا جاء أشراطها وهو قيام القائم عجل الله فرجه فتحه الله
عزوجل لهم، وذلك قوله عزوجل: " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون
". فلما فرغ ذو القرنين من عمل السد انطلق على وجهه، فبينا هو يسير وجنوده إذ
مر على شخص يصلي فوقف عليه حتى انصرف من صلاته فقال له ذو القرنين: كيف لم يرعك
ما حضرك من الجنود ؟ قال: كنت اناجي من هو أكثر جنودا منك، وأعز سلطانا، وأشد قوة،
ولو صرفت وجهي إليك لم أدرك حاجتي قبله، فقال له ذو القرنين: هل لك أن تنطلق معي
فأواسيك بنفسي وأستعين بك على بعض اموري ؟ قال: نعم إن ضمنت لي أربع خصال: نعيما
لا يزول، وصحة لا سقم فيها، وشبابا لا هرم معه، وحياة لا موت معها ; فقال له ذو
القرنين: وأي مخلوق يقدر على هذه الخصال، قال: فإني مع من يقدر على هذه الخصال ويملكها
وإياك. ثم مر برجل عالم فقال لذي القرنين: أخبرني عن شيئين منذ خلقهما الله عزوجل
قائمين، وعن شيئين جاريين، وشيئين مختلفين، وشيئين متباغضين ; فقال: ذو القرنين:
أما الشيئان القائمان فالسماء والارض، وأما الشيئان الجاريان فالشمس والقمر،
وأما الشيئان المختلفان فالليل والنهار، وأما الشيئان المتباغضان فالموت والحياة
; فقال: انطلق فإنك عالم، فانطلق ذو القرنين يسير في
البلاد حتى مر بشيخ يقلب جماجم الموتى، فوقف عليه بجنوده
فقال: أخبرني أيها الشيخ لأي شئ تقلب هذه الجماجم ؟ قال: لأعرف الشريف من الوضيع
فما عرفت وإني لأقلبها عشرين سنة. فانطلق ذو القرنين وتركه وقال: ما أراك
عنيت بهذا أحدا غيري، فبينا هو يسير إذ وقع إلى الامة العالمة الذين منهم قوم موسى
الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، فوجد امة مقسطة عادلة يقسمون بالسوية، ويحكمون
بالعدل، ويتواسون ويتراحمون، حالهم واحدة، وكلمتهم واحدة، وقلوبهم مؤتلفة، وطريقتهم
مستقيمة، وسيرتهم جميلة، وقبور موتاهم في أفنيتهم وعلى أبواب دورهم، وليس لبيوتهم
أبواب، وليس عليهم امراء، وليس بينهم قضاة وليس فيهم أغنياء ولا ملوك ولا أشراف
ولا يتفاوتون ولا يتفاضلون، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يستبون ولا يقتتلون،
ولا تصيبهم الآفات، فلما رأى ذلك من أمرهم ملا منهم عجبا، فقال لهم: أيها القوم
أخبروني خبركم، فإني قد درت في الارض شرقها وغربها وبرها وبحرها وسهلها وجبلها ونورها
وظلمتها فلم أر مثلكم، فأخبروني ما بال قبور كم على أبواب أفنيتكم ؟ قالوا: فعلنا
ذلك عمدا لئلا ننسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا، قال: فما بال بيوتكم ليس عليها
أبواب ؟ قالوا: ليس فينا لص ولا خائن وليس فينا إلا أمين، قال: فما بالكم ليس عليكم
امراء ؟ قالوا: إنا لا نتظالم، قال: فما بالكم ليس عليكم حكام ؟ قالوا: إنا لا
نختصم، قال: فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا: لانا لا نتكاثر، قال: فما بالكم ليس
فيكم أشراف ؟ قالوا: لانا لا نتنافس، قال: فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون ؟
قالوا: من قبل أنا متواسون متراحمون، قال: فما بالكم لا تنازعون ولا تختصمون ؟
قالوا: من قبل الفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا قال: فما بالكم لا تستبون ولا تقتتلون ؟
قالوا من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم، وسننا أنفسنا بالحلم، قال: فما بالكم كلمتكم
واحدة وطريقتكم مستقيمة ؟ قالوا: من قبل أنا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا
بعضا، قال: فأخبروني لم ليس فيكم ؟ فقير ولا مسكين قالوا: من قبل أنا نقسم بالسوية،
قال: فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا: من قبل الذل
والتواضع، قال: فلم جعلكم الله أطول الناس أعمارا
؟ قالوا: من قبل أنا نتعاطي الحق ونحكم بالعدل، قال: فما بالكم لا تقحطون ؟ قالوا:
من قبل أنا لا نغفل عن الاستغفار، قال: فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا: من قبل أنا
وطنا أنفسنا على البلاء وحرصنا عليه فعزينا أنفسنا، قال: فما بالكم لا تصيبكم
الآفات ؟ قالوا: من قبل أنا لا نتوكل على غير الله، ولا نستمطر بالأنواء والنجوم.
وقال: حدثوني أيها القوم أهكذا وجدتم آباءكم يفعلون ؟ قالوا: وجدنا آباءنا
يرحمون مسكينهم، ويواسون فقيرهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم،
ويستغفرون لمسيئهم، ويصلون أرحامهم، ويؤدون أماناتهم، ويصدقون ولا يكذبون، فأصلح
الله عزوجل لهم بذلك أمرهم. فأقام عندهم ذو القرنين حتى قبض، ولم يكن له فيهم عمر،
وكان قد بلغ السن فأدركه الكبر، وكان عدة ما سار في البلاد من يوم بعثه الله عزوجل
إلى يوم قبض خمسمائة عام.
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
المصدر : بحار الأنوار
الجزء والصفحة : جزء 12 / صفحة [183]