أخبرنا ابن خشيش،
عن محمد بن عبد الله، قال: حدثنا أبو الطيب علي بن محمد بن مخلد الجعفي الدهان بالكوفة،
قال. حدثنا أحمد بن ميثم بن أبي نعيم، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني أملاه
علي في منزله، قال: خرجت أيام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي في الكوفة من منزلي فلقيني
أبو بكر بن عياش، فقال لي: امض بنا يا يحيى إلى هذا، فلم أدر من يعني، وكنت أجل أبا
بكر عن مراجعة، وكان راكبا حمارا له، فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه، فلما صرنا
عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم التفت إلي فقال لي: يا بن الحماني، إنما
جررتك معي وجشمتك معي أن تمشي خلفي لأسمعك ما أقول لهذا الطاغية.
قال: فقلت: من هو،
يا أبا بكر؟ قال. هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى، فسكت عنه، ومض وأنا أتبعه حتى إذا
صرنا إلى باب موسى بن عيسى وبصر به الحاجب وتبينه، وكان الناس ينزلون عند الرحبة، فلم
ينزل أبو بكر هناك، وكان عليه يومئذ قميص وإزار وهو محلول الإزار.
قال: فدخل على حمار،
وناداني: تعالى يا بن الحماني، فمنعني الحاجب فزجره أبو بكر، وقال له: أتمنعه يا فاعل
وهو معي؟ فتركني، فما زال يسير على حماره حتى دخل الإيوان،
فبصر بنا موسى وهو قاعد في صدر الإيوان على سريره وبجنبي السرير رجال متسلحون وكذلك
كانوا يصنعون، فلما أن رآه موسى، رحب به وقربه وأقعده على سريره، ومنعت أنا حين وصلت
إلى الإيوان أن أتجاوزه، فلما استقر أبو بكر على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف،
فناداني: تعال ويحك، فصرت إليه ونعلي في رجلي، وعلي قميص وإزار، فأجلسني بين يديه،
فالتفت إليه موسى فقال:
هذا رجل تكلمنا
فيه؟ قال: لا ولكني جئت به شاهدا عليك. قال: في ماذا؟ قال: إني رأيتك وما صنعت بهذا
القبر. قال: أي قبر؟ قال: قبر الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه
وآله).
وكان موسى قد وجه
إليه من كربه وكرب جميع أرض الحائر وحرثها وزرع الزرع فيها، فانتفخ موسى حتى كاد أن
ينقد، ثم قال: وما أنت وذا؟ قال: اسمع حتى أخبرك، اعلم أني رأيت في منامي كأني خرجت
إلى قومي بني غاضرة، فلما صرت بقنطرة الكوفة اعترضني خنازير عشرة تريدني، فأغاثني الله
برجل كنت أعرفه من بني أسد فدفعها عني، فمضيت لوجهي، فلما صرت إلى شاهي ضللت الطريق،
فرأيت هناك عجوزا فقالت لي: أين تريد، أيها الشيخ؟ قلت: أريد الغاضرية.
قالت لي: تبطن هذا الوادي،
فإنك إذا أتيت آخره اتضح لك الطريق.
فمضيت ففعلت ذلك
فلما صرت إلى نينوى إذا أنا بشيخ كبير جالس هناك، فقلت: من أين أنت أيها الشيخ؟ فقال
لي: أنا من أهل هذه القرية. فقلت: كم تعد من السنين؟ فقال. ما أحفظ ما مض من سني وعمري،
ولكن أبعد ذكري أني رأيت الحسين بن علي (عليه السلام) ومن كان معه من أهله ومن تبعه
يمنعون الماء الذي تراه ولا يمنع الكلاب ولا الوحوش شربه! فاستفظعت ذلك وقلت له: ويحك
أنت رأيت هذا؟ قال: إي والذي سمك السماء، لقد رأيت هذا أنها الشيخ وعاينته، وإنك وأصحابك
هم الذين يعينون على ما قد رأينا مما أقرح عيون المسلمين، إن كان في الدنيا مسلم. فقلت:
ويحك وما هو؟ قال: حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم إليه.
قلت: ما أجرى إليه؟
قال: أيكرب قبر ابن النبي (صلى الله عليه وآله) وتحرث أرضه؟ قلت:
وأين القبر؟ قال:
ها هو ذا أنت واقف في أرضه، فأما القبر فقد عمي عن أن يعرف موضعه.
قال أبو بكر بن
عياش: وما كنت رأيت القبر قبل ذلك الوقت قط ولا أتيته في طول عمري، فقلت: من لي بمعرفته؟
فمضى معي الشيخ حتى وقف بي على حير له باب وآذن، له إذا جماعة كثيرة على الباب فقلت
للآذن: أريد الدخول على ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال: لا تقدر على الوصول
في هذا الوقت. قلت: ولم؟ قال:
هذا وقت زيارة إبراهيم
خليل الله ومحمد رسول الله ومعهما جبرئيل وميكائيل في رعيل من الملائكة كثير.
قال أبو بكر بن
عياش: فانتبهت وقد دخلني روع شديد وحزن وكآبة، ومضت بي الأيام حتى كدت أن أنسى المنام،
ثم اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة لدين كان لي على رجل منهم، فخرجت وأنا لا أذكر
الحديث حتى إذ صرت بقنطرة الكوفة لقيني عشرة من اللصوص، فحين رأيتهم ذكرت الحديث ورعبت
من خشيتي لهم، فقالوا لي: الق ما معك وانج بنفسك، و كانت معي نفيقة، فقلت: ويحكم أنا
أبو بكر بن عياش، وإنما خرجت في طلب دين لي، والله الله لا تقطعوني عن طلب ديني وتضروا
بي في نفقتي، فإني شديد الإضاقة، فنادى رجل منهم: مولاي ورب الكعبة لا يعرض له. ثم
قال لبعض فتيانهم: كن معه حتى تصير به إلى الطريق الأيمن.
قال أبو بكر: فجعلت
أتذكر ما رأيته في المنام، وأتعجب من تأويل الخنازير حتى صرت إلى نينوى، فرأيت والله
الذي لا إله إلا هو الشيخ الذي كنت رأيته في منامي بصورته وهيئته، رأيته في اليقظة
كما رأيته في المنام سواء، فحين رأيته ذكرت الامر والرؤيا، فقلت: لا إله إلا الله ما
كان هذا إلا وحيا، ثم سألته كمسألتي إياه في المنام، فأجابني
ثم قال لي: امض بنا؟ فمضيت فوقفت معه على الموضع وهو مكروب، فلم يفتني شئ في منامي
إلا الآذن والحير فإني لم أر حيرا ولم أر آذنا، فاتق الله أيها الرجل، فإني قد آليت
على نفسي ألا أدع إذاعة هذا الحديث، ولا زيارة ذلك الموضع وقصده وإعظامه، فإن موضعا
يأتيه إبراهيم ومحمد وجبرئيل وميكائيل (عليهم السلام) لحقيق بأن يرغب في إتيانه وزيارته،
فإن أبا حصين حدثني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من رآني في المنام فإياي
رأى، فإن الشيطان لا يتشبه بي.
فقال له موسى: إنما
أمسكت عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة التي ظهرت منك، وبالله لئن بلغني بعد هذا
الوقت أنك تتحدث بهذا لأضربن عنقك وعنق هذا الذي جئت به شاهدا علي.
فقال أبو بكر. إذن
يمنعني الله وإياه منك، فإني إنما أردت الله بما كلمتك به.
فقال له: أتراجعني
يا عامر؟ وشتمه، فقال له: اسكت أخزاك الله وقطع لسانك، فأرعد موسى على سريره، ثم قال:
خذوه، فأخذ الشيخ عن السرير وأخذت أنا، فوالله لقد مر بنا من السحب والجر والضرب ما
ظننت أننا لا نكثر الأحياء أبدا، وكان أشد ما مر بي من ذلك أن رأسي كان يجر على الصخر،
وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي، وموسى يقول: اقتلوهما بني كذا وكذا؟ بالزاني لا
يكنى، وأبو بكر يقول له: أمسك قطع الله لسانك وانتقم منك، اللهم إياك أردنا، ولولد
وليك غضبنا، وعليك توكلنا.
فصير بنا جميعا
إلى الحبس، فما لبثنا في الحبس إلا قليلا، فالتفت إلي أبو بكر ورأي ثيابي قد خرقت وسالت
دمائي، فقال: يا حماني قد قضينا لله حقا، واكتسبنا في يومنا هذا أجرا، ولن يضيع ذلك
عند اللة ولا عند رسوله، فما لبثنا إلا مقدار غدائه ونومة حتى جاءنا رسوله فأخرجنا
إليه، وطلب حمار أبي بكر فلم يوجد، فدخلنا عليه فإذا هو في سرداب له يشبه الدور سعة
وكبرا، فتعبنا في المشي إليه تعبا شديدا، وكان أبو بكر إذا تعب في مشيه جلس يسيرا ثم
يقول. اللهم إن هذا فيك فلا تنسه، فلما دخلنا على موسى، وإذا هو على سرير له، فحين
بصر بنا، قال. لا حيا الله ولا قرب من جاهل أحمق يتعرض لما يكره، ويلك يا دعي ما دخولك
فيما بيننا معشر بني هاشم.
فقال له أبو بكر:
قد سمعت كلامك والله حسبك. فقال له: اخرج قبحك الله، والله لئن بلغني أن هذا الحديث
شاع أو ذكر عنك لأضربن عنقك.
ثم التفت إلي وقال:
يا كلب، وشتمني، وقال: إياك ثم إياك أن تظهر هذا، فإنه إنما خيل لهذا الشيخ الأحمق
شيطان يلعب به في منامه، أخرجا عليكما لعنة الله وغضبه، فخرجنا وقد يئسنا من الحياة،
فلما وصلنا إلى منزل الشيخ أبي بكر وهو يمشي وقد ذهب حماره، فلما أراد أن يدخل منزله
التفت إلي وقال: احفظ هذا الحديث وأثبته عندك، ولا تحدثن هؤلاء الرعاع، ولكن حدث به
أهل العقول والدين.
المؤلف : شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي
المصدر : الأمالي
الجزء والصفحة : ص 321