دور المحاكم الجنائية العادية في مكافحة الفساد الإداري
المؤلف:
صباح عبد الكاظم شبيب الساعدي
المصدر:
دور السلطات العامة في مكافحة ظاهرة الفساد الإداري في العراق
الجزء والصفحة:
ص 349-356
2025-11-13
23
لوحظ أن المشكلة في نظام العدالة الجنائية المطبق في بعض الدول لا تتمثل بالضرورة في النقص بمواد العقوبات التي تتعلق بالفساد كنشاط غير قانوني، أو في عدم وجود العقوبات الصارمة ضد المفسدين، ولكنها تتمثل في أن هذه المواد لا يتم تطبيقها دائماً بشكل ملائم، أو أنه يجري تطبيقها بشكل انتقائي من قبل النظام الجنائي نفسه، وتجدر الإشارة الى أن هناك خاصية واحدة من خصائص الفساد يمكن السيطرة عليها وتستحق المزيد من الانتباه والتركيز ، وتتمثل في عنصر المخاطرة الذي يصاحب ارتكاب أعمال الفساد، فالفساد مغرياً في الظروف التي يكون فيها عنصر المخاطرة ضعيفاً، ويقل الإغراء كلما زاد عنصر المخاطرة (1). وبذلك يتبن أن دور القضاء الجنائي مهم في مكافحة الفساد بكل اشكاله ومنها الفساد الإداري، فاذا ما ايقن الشخص أنه لن يفلت من العقاب، سوف يتردد كثيراً قبل أن يرتكب الفعل الفاسد، أو يمتنع نهائياً عن ارتكابه. تمارس المحاكم الجنائية العادية (Criminal Courts) في العراق اختصاصها من خلال النظر في الدعاوى الجزائية المتعلقة بالجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل والتشريعات العقابية الأخرى. ويتم النظر في الدعاوى الجزائية من قبل هذه المحاكم على مرحلتين الأولى مرحلة التحقيق الابتدائي (Investigation) وتقوم بها محاكم التحقيق (2) ، وتنظر في كل القضايا سواء كانت جنايات أو جنح (3)، بالإضافة لذلك فأن سلطة قاضي التحقيق واسعة فيما يتعلق بالاختصاص المكاني فقد نصت م/ 53 // من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23/ لسنة 1971/ المعدل على أن يحدد اختصاص التحقيق بالمكان الذي وقعت فيه الجريمة كلها أو جزءاً منها أو أي فعل متمم لها أو أية نتيجة ترتبت عليها أو فعل يكون جزءاً من جريمة مركبة أو مستمرة أو متتابعة أو من جرائم العادة كما يحدد بالمكان الذي وجد المجني عليه فيه أو وجد فيه المال الذي ارتكبت الجريمة بشأنه بعد نقله اليه بواسطة مرتكبها أو شخص عالم بها. كما أن الإجراءات التي يتخذها قاضي التحقيق بموجب قانون اصول المحاكمات الجزائية النافذ هي الأخرى واسعة بدءاً من سماع أقوال المشتكي والشهود (4)، وندب الخبراء(5)، والتفتيش (6)، وطرق الإجبار على الحضور (7)، والقبض (8) ، واستجواب المتهم (9) ، والكشف على محل الحادث وكشف الدلالة والاستعراض. لذلك فأن الخطوة الأولى على طريق دور القضاء في مكافحة الفساد الإداري هي مرحلة التحقيق) لأن مصير المتهم يتقرر أثناء دور التحقيق من خلال رجحان أدلة الإثبات أو النفي من هنا تأتي أهمية تعزيز وتقوية قضاء التحقيق وعدم فسح المجال لتسلل الفساد اليه (الرشوة، الواسطة المحسوبية، المحاباة) وكذلك يجب حمايته من العنف أو التهديد أو الانتقام، رغم أن البعض له رأي آخر بشأن ذلك فيما يخص مستوى الفساد في العراق حيث يقول: إن الفساد في العراق مرض مستفحل لا يمكن ابدا علاجه بالملاحقة الفردية للمفسدين لأني أظن أن أعدادهم أكبر من أن تطالها أيدي آلاف المحققين، ولأن وسائلهم وخبراتهم في الجريمة والفساد المالي والاداري اعظم وادق من ان تصل الى مستواها اعتى المؤسسات التحقيقية الا اننا لا نريد مما سبق ذكره القول بأن الملاحقات التحقيقية والقضائية والجزائية للمفسدين لا تجني بعض المكاسب في ميدان مكافحة الفساد، فلا أحد ينكر ذلك الدور الفاعل للردع الجزائي وللمؤسسات التحقيقية والرقابية الفاعلة في ايقاف الجريمة بشكل عام سواء كانت جريمة عادية أم جريمة فساد اداري او مالي الا اننا نزعم ان تلك المعالجة لن تغني لوحدها ابدا في القضاء على الفساد والمفسدين، ولو كان لها اثر ما في ذلك فأننا لا نقدره بأكثر من %10 من احتياجات مكافحة الفساد في مجتمعنا الذي وصل الأمر فيه احيانا الى شرعنه وسائل الفساد وطرقه) (10) .
ومن المعلوم أن إدانة المتهم لا تثبت إلا بالأدلة استنادا الى مبدأ المتهم بريء حتى تثبت إدانته)(11) لهذ يجب على قاضي التحقيق جمع الأدلة التي تدين المتهم وعدم التهاون أو المحاباة أو الخوف، والأدلة هي (الاعتراف والبيئة والقرائن والشهادة.....) وكثيرا ما يفلت المجرم الحقيقي من العقاب نتيجة التأثير على القضاء باستغلال النفوذ أو الوساطة أو حتى الرشوة، أو نتيجة تهديد الشهود والانتقام منهم. لهذا يجب تقوية نظام حماية المخبرين او ما يسمى بنظام حماية الشهود الذين يدلون بمعلومات عن حالات الفساد ومكافأتهم، فكلما كان نظام الحماية فعالا كان تدفق المعلومات وإقدام الآخرين على الإخبار والشهادة كبيرا (12). وقد صدر مؤخرا قانون مكافأة المخبرين رقم 33 لسنة 2008 ، الذي نص في المادة /1 على أن: ( يهدف هذا القانون الى تشجيع من يقدم إخباراً يؤدي الى استعادة الاصول والأموال المملوكة للدولة والقطاع العام أو الكشف عن جريمة السرقة أو الاختلاس أو تزوير المحررات الرسمية أو عن حالات الفساد الإداري وسوء التصرف من خلال مكافأة المخبر)، فرغم تعداد بعض الجرائم التي هي من صور الفساد الإداري مثل الاختلاس وسوء التصرف، إلا أن المشرع ذكر عبارة ( حالات الفساد الإداري) وهذا النص عاماً يشمل برأينا جميع حالات الفساد الإداري التي ذكرناها سواء كانت جرائم أو مخالفات إدارية أو مالية. وفيما يتعلق بأحكامه فأنها تسري حسب نص المادة 2/ على موظفي الدولة والقطاع العام ومن يخبر عن الجرائم المذكورة ومنها حالات الفساد الإداري، وحددت المواد اللاحقة مباغ المكافأة وطريقة دفعها، كما ألغى القانون بعض القرارات لمجلس قيادة الثورة المنحل واوامر سلطة الائتلاف المؤقتة (المنحلة) (13) . وقد تضمن القسم /4/ البند/3 من قانون هيئة النزاهة رقم 55 لسنة 2004 بصدد ذلك ما يأتي: (تضع المفوضية اجراءات لاستلام مزاعم عن الفساد بما فيها المزاعم المغفلة. وتتخذ المفوضية جميع التدابير المناسبة والضرورية الى الحد الأقصى الذي يسمح به القانون لحماية هوية المخبرين الا اذا تنازل المخبر عن هذه الحماية) (14) . ونلاحظ أنه برغم كل هذه الضمانات فهناك تردد من قبل الموظفين أو المواطنين الذين يخبرون عن الجرائم أو حالات الفساد الإداري بإعطاء المعلومات الكاملة عن هوياتهم، لأسباب كثيرة لعل في مقدمتها الوضع الأمني غير المستقر في الوقت الحاضر. وهناك العديد من قضايا الفساد في بعض الدول التي وصلت الى القضاء عن طريق المخبرين وتم الفصل فيها رغم فقدان بعضهم لحياته أو حريته أو غير ذلك، فقد ذكرت (فرجينيا تسوديروس) رئيس منظمة الشفافية العالمية فرع اليونان أثناء توزيع أولى جوائز الاستقامة (( لقد حان الوقت لكي نقدر جرأة نساء ورجال عاديين جداً... لقد دفع بعض هؤلاء حياتهم ثمنا لهذا حين كانوا يفعلون، ولم يكن من قبيل المهمة البسيطة أن يختار المرء أناسا من المرشحين لأننا كنا نحمل انطباعا عميقا فيما يتصل بالتضحية والتفاني والالتزام عند كل هؤلاء )). ومن أمثلة هؤلاء ( مصطفى أديب) النقيب في الجيش المغربي الذي كشف عن حالة فساد واسعة في الجيش المغربي عام 1998 تتمثل في اخفاء الأمتعة والإمدادات وبيعها وتقديمها رشوةً إلى آخرين، ورغم كتابته رسالة الى الملك إلا أنه لم يحصل على رد واصبح بعد ذلك هدفا للانتقام والقي في التوقيف عام 1999 وقدم للمحكمة لكنها لم تدينه لعدم كفاية الأدلة، ولم يسكت بل وجه نداء الى محكمة القضاء الاداري والمجلس الاستشاري للملك، وعلى أثر ذلك احيل الى المحكمة العسكرية مرة ثانية بتهمة انتهاك قواعد الانضباط وحكم عليه بالسجن عامين ونصف وجرد من رتبته، وانتشرت قصته في الصحف العالمية، وتم منحه جائزة الاستقامة من منظمة الشفافية العالمية عام 2000 لكنه لم يستلمها الا عام 2002 عندما اطلق سراحه، وتكريماً له عقد اجتماع المنظمة في المغرب في العام نفسه (15). وفي نفس السياق هناك تشريعات يحب مراعاتها عند التحقيق والتي تخص جرائم الفساد الإداري المتمثلة بالرشوة والاختلاس والتي تشدد الإجراءات بشأن المتهمين بمثل هذه الجرائم منها قرار مجلس قيادة الثورة (المنحل) رقم 38 لسنة 1993 الذي نص على أن:
1. عدم اطلاق سراح المتهم بجريمة الاختلاس أو السرقة أو الرشوة سواء كان في دور التحقيق ام المحاكمة حتى صدور قرار حكم بات في الدعوى.
2. يكون الحد الأدنى لعقوبات الجرائم الواردة في الفقرة 1 من هذا القرار خمس سنوات اذا كان حدها الأدنى يقل عن ذلك.
ينتهي دور قاضي التحقيق بعد انتهاء التحقيق فقد نصت المادة 130 من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل على ما يأتي:
1. اذا وجد قاضي التحقيق أن الفعل لا يعاقب عليه القانون أو ان المشتكي تنازل عن شكواه وكانت الجريمة مما يجوز الصلح فيها دون موافقة القاضي أو أن المتهم غير مسؤول قانونا بسبب صغر سنه فيصدر القاضي قرارا برفض الشكوى وغلق التحقيق نهائيا. إن ما ورد أعلاه لا يشمل جرائم الفساد الإداري ذلك أنها أفعال يعاقب عليها القانون وهي ليست من الجرائم التي يتنازل عنها لأنها من جرائم (الحق العام) كما لا يتصور وجود متهم فيها صغير السن لأنها تصدر من موظف عام.
2. اذا كان الفعل معاقبا عليه ووجد القاضي أن الأدلة تكفي لمحاكمة المتهم فيصدر قرارا بإحالته على المحكمة المختصة، أما اذا كانت الادلة لا تكفي لإحالته فيصدر قراراً بالإفراج عنه وغلق الدعوى مؤقتا مع بيان اسباب ذلك. وهنا يتحدد مصير المتهم فكلما كان التحقيق فعالا ودقيقا وكافيا كان الحصول على أدلة إثبات أكثر واقوى، وكلما كان التحقيق ضعيفاً أو مشوباً بأحدى صور الفساد، كانت ادلة الإثبات أقل وأضعف.
المرحلة الثانية: مرحلة المحاكمة (Trail) والتي تقوم بها محاكم الجنايات ومحاكم الجنح ومحاكم الأحداث حسب الاختصاص، وفيما يتعلق بجرائم الفساد الإداري فأن أكثرها جنايات (16) ، لذلك تنظر من قبل محاكم الجنايات وهي الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة المنصوص عليها في الباب السادس من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 وهي: الرشوة (17) الاختلاس (18)، الإضرار بالمصلحة العامة(19)، الانتفاع من الوظيفة (20) ، استخدام العمال والاستيلاء على أجورهم (21) .... الخ. وبالتأكيد أن محكمة الجنايات حينما تنظر في الدعوى الجزائية تأخذ بنظر الاعتبار ما نص عليه قانون العقوبات النافذ فيما يتعلق بالاشتراك في الجريمة والاتفاق الجنائي والظروف المشددة وموانع المسؤولية، وبالمقابل لا نعتقد أن هناك أعذاراً قانونية أو ظروفاً مخففة تطبق على مرتكبي جرائم الفساد الإداري ذلك أن كل هذه الجرائم عمدية وتمس المال العام وأنها من الجرائم المخلة بالشرف - كما تقدم ولا بد والحال هذا أن تكون هناك سلطات فعالة لملاحقة جرائم الفساد، حيث يشكل ذلك أحد العناصر الأساسية في منظومة مكافحة الفساد، وأن تكون مدربة ومتخصصة ومستقلة ومجهزة بشكل كامل بحيث تتمكن من الإحاطة بجميع أوجه الفساد، ولا سيما الفساد المنظم الذي يوجد في جرائم غسل الأموال أو الجرائم التي تعتمد على الوسائل التقنية الحديثة (22).
___________
1- ندوة الامم المتحدة، الفساد في الحكومة، تقرير الندوة الإقليمية التي عقدتها دائرة التعاون الفني للتنمية ( (DTCD، ومركز التنمية الاجتماعية والشؤون الإنسانية ( CSDHA ) بالأمم المتحدة لاهاي 1989 ، ص 31.
2- نصت م/51 من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23/ لسنة 1971/ على أن يتولى التحقيق الابتدائي قضاة التحقيق وكذلك المحققون تحت إشراف قضاة التحقيق.
3- يقوم قاضي التحقيق بالتحقيق في الجرائم بنفسه أو بواسطة محققين وله أن ينيب أحد اعضاء الضبط القضائي لاتخاذ اجراء معين.
4 - المواد 58 . 68.
5- المواد69 . 71.
6- المواد 86.72.
7- المواد 87. 91.
8- المواد 92 . 122
9- المواد 123. 136
10- القاضي رحيم حسن العكيلي، نائب رئيس هيئة النزاهة، وسائل وسبل مكافحة الفساد الإداري، مقال منشور بتاريخ 2007/7/30 على موقع الهيئة www.nazaha.org
11- انظر م/ 19 / خامسا من دستور 2005.
12- أنظر قانون رقم 119 لسنة 1988 قانون تعديل قانون اصول المحاكمات الجزائية الذي نص على ما يأتي: للمخبر في الجرائم الماسة بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي وجرائم التخريب الاقتصادي والجرائم الأخرى المعاقب عليها بالإعدام او السجن المؤبد او المؤقت أن يطلب عدم الكشف عن هويته وعدم اعتباره شاهدا وللقاضي أن يثبت ذلك. مع. خلاصة الإخبار في سجل خاص يعد لهذا الغرض ويقوم بإجراء التحقيق وفق الأصول مستفيدا من المعلومات التي تضمنها الإخبار دون بيان هوية المخبر في الأوراق التحقيقية .
13- للمزيد عن القانون أنظر: الوقائع العراقية العدد / 4085 في 2008/9/1.
14- تجدر الإشارة الى أن هناك الكثير من قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل قد نصت على مكافأة المخبر عن جرائم التهريب والتخريب الاقتصادي والتهرب الضريبي ومنها على سبيل المثال القرارات ذوات الأرقام 160 لسنة 1977، 1 و 6 لسنة 1988، 111 لسنة 1996.... الخ، وقد الغيت معظم هذه القرارات بموجب قانون ضبط الأموال المهربة والممنوع تداولها في الأسواق المحلية رقم / 18 لسنة 2008.
15- للمزيد عن قصص اخرى أنظر بيتر أيغن شبكات الفساد العالمية ترجمة محمد جديد ط1 ، قدمس للنشر والتوزيع دمشق 2005 ، ص 153 وما بعدها.
16- نصت م/ 25 من قانون العقوبات على أن الجناية هي الجريمة المعاقب عليها بإحدى العقوبات التالية: 1. الاعدام 2. السجن المؤبد 3 . السجن أكثر من خمس سنوات الى خمس عشرة سنة.
17- المواد/ 307. 314
18- المواد/ 315. 317
19- المادة /318.
20- المادة /319
21- المادة /320 .
22- أنظر: عادل عبد اللطيف، الفساد كظاهرة عربية وآليات ضبطها، ندوة الفساد والحكم الصالح في البلاد العربية التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بتاريخ 20-22 أيلول 2004 مجلة المستقبل العربي، العدد 309، نوفمبر 2004، ص 105
الاكثر قراءة في القانون الاداري
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة