تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
كلام في إبليس وعمله
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص118-131
2025-08-10
16
عاد موضوع «إبليس» موضوعاً مبتذلًا عندنا لا يُعبأ به دون أن نذكره أحياناً ونلعنه أو نتعوّذ بالله منه أو نقبّح بعض أفكارنا بأنّها من الأفكار الشيطانيّة ووساوسه ونزغاته دون أن نتدبّر فنحصل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود العجيب الغائب عن حواسّنا، وما له من عجيب التصرّف والولاية في العالَم الإنسانيّ.
وكيف لا وهو يصاحب العالَم الإنسانيّ على سعة نطاقه العجيبة منذ ظهر في الوجود حتى ينقضي أجله وينقرض بانطواء بساط الدنيا، ثمّ يلازمه بعد الممات ثمّ، يكون قرينه حتى يورده النار الخالدة، وهو مع الواحد منّا كما هو مع غيره هو معه في علانيّته وسرّه يجاريه كلّما جرى حتى في أخفى خيال يتخيّله في زاوية من زوايا ذهنه أو فكرة يواريها في مطاوي سريرته، لا يحجبه عنه حاجب، ولا يغفل عنه بشغل شاغل.
وأمّا الباحثون منّا فقد أهملوا البحث عن ذلك وبنوا على ما بنى عليه باحثوا الصدر الأوّل سالكين ما خطّوا لهم من طريق البحث، وهي النظريّات الساذجة التي تلوح للأفهام العامّيّة لأوّل مرّة، تلقّوا الكلام الإلهيّ ثمّ التخاصم في ما يهتدي إليه فم كلّ طائفة خاصّة، والتحصّن فيه ثمّ الدفاع عنه بأنواع الجدال والاشتغال بإحصاء إشكالات القصّة وتقرير السؤال والجواب بالوجه بعد الوجه.
لِمَ خلق الله إبليس وهو يعلم من هو؟
لِمَ أدخله في جمع الملائكة وليس منهم؟
لِمَ أمره بالسجدة وهو يعلم أنّه لا يأتمر؟
لِمَ لم يُوفّقه للسجدة وأغواه؟
لِمَ لم يُهلِكْهُ حين لم يسجد؟
لِمَ أنظره إلى يوم يُبعثون أو إلى يوم الوقت المعلوم؟
لِمَ مَكّنه من بني آدم هذا التمكين العجيب الذي به يجري منهم مجرى الدم؟
لِمَ أيّده بالجنود من خيلٍ ورَجِلٍ وسلّطه على جميع ما للحياة الإنسانيّة من مساس؟
لِمَ لم يُظهْرهُ على حواسّ الإنسان ليحترز مساسه؟
لِمَ لم يؤيّد الإنسان بمثل ما أيّده به؟
ولِمَ لم يكتم أسرار خِلْقَة آدم وبنيه من إبليس حتى لا يطمع في إغوائه؟
وكيف جازت المشافهة بينه وبين الله سبحانه وهو أبعد الخليقة منه وأبغضهم إليه ولم يكن بنبيّ ولا مَلَك؟ فقيل بمعجزة وقيل بإيجاد آثار تدلّ على المراد، ولا دليل على شيء من ذلك.
ثمّ كيف دخل إبليس الجنّة؟ وكيف جاز وقوع الوسوسة والكذب والمعصية هناك وهي مكان الطهارة والقدس؟
وكيف صدّقه آدم وكان قوله مخالفاً لخبر الله؟
وكيف طمع في المُلك والخلود وذلك يخالف اعتقاد المعاد؟
وكيف جازت منه المعصية وهو نبيّ معصوم؟
وكيف قُبِلَت توبته ولم يَرِد إلى مقامه الأوّل والتائب من الذنب كمن لا ذنب له؟
وكيف...؟ وكيف...؟
وقد بلغ من إهمال الباحثين في البحث الحقيقيّ واسترسالهم في الجدال إشكالًا وجواباً أن ذهب الذاهب منهم إلى أن المراد بآدم هذا، آدم النوعي والقصّة تخيليّة محضة، واختار آخرون أن إبليس الذي يخبر القرآن الكريم عنه هو القوّة الداعية إلى الشرّ من الإنسان.
وذهب آخرون إلى جواز انتساب القبائح والشنائع إليه تعالى وأن جميع المعاصي من فعله وأنّه يخلق الشرّ والقبيح فيُفسِد ما يُصلحه، وأن الحَسَن هو الذي أمر به والقبيح هو الذي نهي عنه.
وآخرون: إلى أن آدم لم يكن نبيّاً.
وآخرون: إلى أن الأنبياء غير معصومين مطلقاً.
وآخرون إلى أنّهم غير معصومين قبل البعثة وقصّة الجنّة قبل بعثة آدم.
وآخرون: إلى أن ذلك كلّه من الامتحان والاختبار.
ولم يبيّنوا ما هو الملاك الحقيقيّ في هذا الامتحان الذي يضلّ به كثيرون ويهلك به الأكثرون، ولو لا وجود ملاك يحسم مادّة الإشكال لعادت جميع الإشكالات.
والذي يمنع نجاح السعي في هذه الأبحاث ويختلّ به نتائجها هو أنّهم لم يفرّقوا في هذه المباحث جهاتها الحقيقيّة من جهاتها الاعتباريّة، ولم يفصلوا التكوين عن التشريع فاختلّ بذلك نظام البحث، وحكّموا في ناحية التكوين غالباً الاصول الوضعيّة الاعتباريّة الحاكمة في التشريعات والاجتماعيّات.
الذي يجب تحريره وتنقيحه على الحرّ الباحث عن هذه الحقائق الدينيّة المرتبطة بجهات التكوين أن يحرّر جهات:
الاولى: أن وجود شيء من الأشياء التي يتعلّق بها الخلق والإيجاد في نفسه- أعني وجوده النفسيّ من غير إضافة- لا يكون إلّا خيراً ولا يقع إلّا حُسناً، فلو فرض محالًا تعلّق الخلقة بما فرض شرّاً في نفسه عاد أمرا[1] موجوداً له آثار وجوديّة يبتدئ من الله ويرتزق برزقه ثمّ ينتهي إليه، فحاله حال سائر الخليقة ليس فيه أثر من الشرّ والقبح إلّا أن يرتبط وجوده بغيره، فيفسد نظاماً عادلًا في الوجود، أو يوجب حرمان جمع من الموجودات من خيرها وسعادتها، وهذا هو معنى الإضافة المذكورة.
ولذلك كان من الواجب في الحكمة الإلهيّة أن ينتفع من هذه الموجودات المضرّة الوجود بما يربو على مضرّتها، وذلك قوله تعالى: الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ.[2]
وقوله تعالى: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.[3]
وقوله: وإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.[4]
الثانية: أن عالم الصنع والإيجاد على كثرة أجزائه وسعة عرضه مرتبط بعضه ببعض معطوف آخره إلى أوّله، فإيجاد بعضه إنّما هو بإيجاد الجميع، وإصلاح الجزء إنّما هو بإصلاح الكلّ، فالاختلاف الموجود بين أجزاء العالم في الوجود وهو الذي صيّر العالم عالماً ثمّ ارتباطها يستلزم استلزاماً ضروريّاً- في الحكمة الإلهيّة- نسبة بعضها إلى بعض بالتنافي والتضادّ، أو بالكمال والنقص والوجدان والفقدان والنيل والحرمان، ولو لا ذلك لعادت جميع الأشياء إلى شيء واحد لا تميّز فيه ولا اختلاف فيبطل بذلك الوجود.
قال تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.[5]
فلولا الشرّ والفساد والتعب والفقدان والنقص والضعف وأمثالها في هذا العالم لما كان للخير والصحّة والراحة والوجدان والكمال والقوّة مصداق، ولا عُقل منها معنى لأنّا إنّما نأخذ المعاني من مصاديقها.
ولو لا الشقاء لم تكن سعادة، ولو لا المعصية لم تتحقّق طاعة، ولو لا القبح والذنب لم توجد حُسن ولا مدح، ولو لا العقاب لم يحصل ثواب، ولو لا الدنيا لم تتكوّن آخرة.
فالطاعة مثلًا امتثال الأمر المولويّ، فلو لم يمكن عدم الامتثال- الذي هو المعصية- لكان الفعل ضروريّاً لازماً، ومع لزوم الفعل لا معنى للأمر المولويّ لامتناع تحصيل الحاصل، ومعه عدم الأمر المولويّ لا مصداق للطاعة ولا مفهوم لها كما عرفت.
ومع بطلان الطاعة والمعصية يبطل المدح والذم المتعلّق بهما والثواب والعقاب والوعد والوعيد والإنذار والتبشير، ثمّ الدين والشريعة والدعوة، ثمّ النبوّة والرسالة، ثمّ المجتمع والمدنيّة، ثمّ الإنسانيّة، ثمّ كلّ شيء، وعلى هذا فقس جميع الامور المتقابلة في النظام، فافهم ذلك.
ومن هنا ينكشف لك أن وجود الشيطان الداعي إلى الشرّ والمعصية من أركان نظام العالم الإنسانيّ الذي إنّما يجري على سُنّة الاختيار ويقصد سعادة النوع.
وهو كالحاشية المكتنفة بالصراط المستقيم الذي في طبع هذا النوع أن يسلكه كادحاً إلى ربّه ليلاقيه، ومن المعلوم أن الصراط إنّما يتعيّن بمتنه صراطاً بالحاشية الخارجة عنه الحافّة به، فلولا الطرف لم يكن وسط، فافهم ذلك وتذكّر قوله تعالى: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ.[6]
وقوله تعالى: [قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ولَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ].
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ.[7]
إذا تأمّلت في هاتين الجهتين ثمّ تدبّرت آيات قصّة السجدة وجدتها صورة منبّئة عن الروابط الواقعيّة التي بين النوع الإنسانيّ والملائكة وإبليس قد عُبِّرَ عنها بالأمر والامتثال والاستكبار والطرد والرجم والسؤال والجواب، وأن الإشكالات الموردة فيها ناشئة من التفريط في تدبّر القصّة، حتى أن بعض من تنبّه لوجه الصواب،[8] وأنّها تُشير إلى ما عليه طبائع الإنسان والملك والشيطان فقد ذكر أن الأمر والنهي- يُريد أمر إبليس بالسجدة ونهي آدم عن أكل الشجرة- تكوينيّان، فأفسد بذلك ما قد كان أصلحه، وذهل عن أن الأمر والنهي التكوينيّين لا يقبلان التخلّف والمخالفة، وقد خالف إبليس الأمر وخالف آدم النهي.
الثالثة: أن دلالة قصّة الجنّة- على ما تقدّم تفصيل القول فيها في سورة البقرة- تُنَبِّئ عن أن الله سبحانه خلق جنّة برزخيّة سماويّة، وقد أدخل آدم فيها قبل أن يستقرّ على الحياة الأرضيّة، ويغشاه التكليف المولويّ، ليختبر بذلك الطباع الإنسانيّة فيظهر به أن الإنسان لا يسعه إلّا أن يعيش على الأرض، ويتربّى في حِجر الأمر والنهي فيستحقّ السعادة والجنّة بالطاعة، وإن كان دون ذلك فدون ذلك.
وأن لا قدرة للإنسان ليقف في موقف القُرب وينزل في منزل السعادة إلّا بقطع هذا الطريق.
وبذلك ينكشف أن لا وجود للإشكالات التي أوردوها في قصّة الجنّة، فلا الجنّة كانت جنّة الخُلد التي لا يدخلها إلّا وليّ من أولياء الله تعالى دخولًا لا خروج بعده أبداً، ولا الدار كانت داراً دنيويّة يُعاش فيها عيشة دنيويّة يديرها التشريع ويحكم فيها الأمر والنهي المولويّان، بل كانت داراً يظهر فيها حُكم السجيّة الإنسانيّة لا سجيّة آدم عليه السلام بما هو شخص آدم، إذ لم يؤمَر بالسجدة له ولا ادخِل الجنّة إلّا لأنّه إنسان كما تقدّم بيانه.
رجعنا إلى أوّل الكلام: لم يصف الله سبحانه من ذات هذا المخلوق الشرّير الذي سمّاه إبليس إلّا يسيراً، وهو قوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.[9]
وما حكاهُ عنه في كلامه: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ.
فبيّن أن بدء خِلقته كان من نار من سنخ الجِنّ وأمّا ما آل إليه أمره فلم يذكره صريحاً، كما أنّه لم يذكر تفصيل خلقته كما فصّل القول في خلقة الإنسان.
نعم، هناك آيات واصفة لصنعه وعمله يمكن أن يستفاد منها ما ينفع في هذا الباب، قال تعالى حكاية عنه: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ومِنْ خَلْفِهِمْ وعَنْ أَيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ ولا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ.[10]
فأخبر أنّه يتصرّف فيهم من جهة العواطف النفسانيّة من خوف ورجاء وامنية وأمل وشهوة وغضب، ثمّ في أفكارهم وإرادتهم المنبعثة منها.
كما يقارنه في المعنى قوله: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ.[11]
أي لُأزيننّ لهم الامور الباطلة الرديئة الشوهاء بزخارف وزينات مهيّأة من تعلّق العواطف الداعية نحو اتّباعها، ولُأغوينّهم بذلك، كالزنا مثلًا الذي يتصورّه الإنسان، وتزيّنه في نظره الشهوة ويضعف بقوّتها ما يخطر بباله من المحذور في اقترافه، فيصدّق به فيقترفه.
ونظير ذلك قوله يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.[12]
وقوله: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ.[13]
كلّ ذلك- كما ترى- يدلّ على أن ميدان عمله هو الإدراك الإنسانيّ، ووسيلة عمله العواطف والإحساسات الداخليّة، فهو الذي يُلقي هذه الأوهام الكاذبة والأفكار الباطلة في النفس الإنسانيّة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ.[14]
لكن الإنسان مع ذلك لا يشكّ في أن هذه الأفكار والأوهام المسمّاة وساوس شيطانيّة أفكار لنفسه يوجدها هو في نفسه من غير أن يشعر بأحد سواه يُلقيها إليه أو يتسبّب إلى ذلك بشيء، كما في سائر أفكاره وآرائه التي لا تتعلّق بعمل غيره، كقولنا: الواحد نصف الاثنين، والأربعة زوج، وأمثال ذلك.
فالإنسان هو الذي يوجِد هذه الأفكار والأوهام في نفسه، كما أن الشيطان هو الذي يُلقيها إليه ويخطرها بباله من غير تزاحم، ولو كان تسبّبه فيها نظير التسبّبات الدائرة فيما بيننا لمن ألقى إلينا خبراً أو حكماً أو ما يشبه ذلك لكان إلقاؤه إلينا لا يُجامع استقلالنا في التفكير، ولانتفت نسبة الفعل الاختياريّ إلينا، لكون العلم والترجيح والإرادة له لا لنا، ولم يترتّب على الفعل لوم ولا ذمّ ولا غيره.
وقد نسبه الشيطان نفسه إلى الإنسان فيما حكاه الله من قوله يوم القيامة:
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ووَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي ولُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.[15]
فنسب الفعل والظلم واللوم إليهم وسلبها عن نفسه، ونفى عن نفسه كلّ سلطان إلّا السلطان على الدعوة والوعد الكاذب، كما قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ.[16]
فنفى سبحانه سلطانه إلّا في ظرف الاتّباع، ونظيره قوله تعالى: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ ولكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ.[17]
وبالجملة فإنّ تصرّفه في إدراك الإنسان تصرّف طوليّ لا ينافي قيامه بالإنسان وانتسابه إليه انتساب الفعل إلى فاعله، لا عرضيّ ينافي ذلك.
فله أن يتصرّف في الإدراك الإنسانيّ بما يتعلّق بالحياة الدنيا في جميع جهاتها بالغرور التزيين، فيضع الباطل مكان الحقّ ويُظهره في صورته، فلا يرتبط الإنسان بشيء إلّا من وجهه الباطل الذي يغرّه ويصرفه عن الحقّ، وهذا هو الاستقلال الذي يراه الإنسان لنفسه أولًا، ثمّ لسائر الأسباب التي يرتبط بها في حياته، فيحجبه ذلك عن الحقّ ويلهيه عن الحياة الحقيقيّة، كما تقدّم استفادة ذلك من قوله المحكيّ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ.[18]
وقوله: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ.[19]
ويؤدّي ذلك إلى الغفلة عن مقام الحقّ، وهو الأصل الذي ينتهي إليه فيحلّل كلّ ذنب، قال تعالى: ولَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ والْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ولَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.[20]
فاستقلال الإنسان بنفسه وغفلته عن ربّه وجميع ما يتفرّع عليه من سيّئ الاعتقاد ورديء الأوهام والأفكار التي يرتضع عنها كلّ شِرك وظلم
إنّما هي من تصرّف الشيطان، في حين أن الإنسان يخيّل إليه أنّه هو الموجد لها القائم بها لِما يراه من استقلال نفسه، فقد صبغ نفسه صبغة لا يأتيه اعتقاداً وعمل إلّا صبغه بها.
وهذا هو دخوله تحت ولاية الشيطان وتدبيره وتصرّفه من غير أن يتنبّه لشيء أو يشعر بشيء وراء نفسه، قال تعالى: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.[21]
وولاية الشيطان على الإنسان في المعاصي والمظالم على هذا النمط نظير ولاية الملائكة عليه في الطاعات والقُربات، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.[22] والله من ورائهم محيط وهو الوليّ الذي لا وليّ سواه، قال تعالى: ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا شَفِيعٍ.[23]
وهذا هو الاحتناك اي الإلجام الذي ذكره فيما حكاه الله تعالى عنه بقوله: قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا، قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً، واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ وشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ والْأَوْلادِ وعِدْهُمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.[24]
أي لألجمنهم فأتسلّط عليهم تسلّط راكب الدابّة الملجم لها عليها، يُطيعونني فيما آمرهم ويتوجّهون إلى حيث أشير لهم إليه من غير أيّ عصيان وجماح.
ويظهر من الآيات أن له جُنداً يعينونه فيما يأمر به ويساعدونه على ما يريد، وهم القبيل الذي ذُكر في الآية السابقة إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ. وهؤلاء وإن بلغوا من كثرة العدد وتفنّن العمل ما بلغوا فإنّما صنعهم صنع نفس إبليس ووسوستهم نفس وسوسته، كما يدلّ عليه قوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.[25] وغيره ممّا حكته الآيات، نظير ما يأتي به أعوان الملائكة العظام من الأعمال فتُنسب إلى رئيسهم المستعمل لهم فيما يريده، قال تعالى في ملك الموت: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ.[26]
ثمّ قال: حتى[27] إلى غير ذلك.
وتدلّ الآية: الذي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ والنَّاسِ.[28] على أن في جنده اختلافاً من حيث كون بعضهم من الجنّة وبعضهم من الإنس.
ويدلّ قوله: أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ[29]. أن له ذرّيّة هم من أعوانه وجنوده، لكن لم يفصّل كيفيّة انتشاء ذرّيّته منه.
كما أن هناك نوعاً آخر من الاختلاف يدلّ عليه قوله: وأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ، في الآية المتقدّمة، وهو الاختلاف من جهة الشدّة والضعف وسرعة العمل وبطئه، فإنّ الفارق بين الخيّالة والمشاة هو السرعة في اللحوق والإدراك وعدمها.
وهناك نوع آخر من الاختلاف في العمل، وهو الاجتماع عليه والانفراد، كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ، وأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ.[30]
ولعلّ قوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ[31] من هذا الباب.
فملّخص البحث: أن إبليس لعنه الله موجود مخلوق ذو شعور وإرادة، ويدعو إلى الشرّ ويسوق إلى المعصية، كان في مرتبة مشتركة مع الملائكة غير متميّز منهم إلّا بعد خلق الإنسان وحينئذٍ تميّز منهم ووقع في جانب الشرّ والفساد، وإليه يستند نوعاً من الاستناد انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم وميله إلى جانب الشقاء والضلال، ووقوعه في المعصية والباطل.
كما أن المَلَك موجود مخلوق ذو إدراك وإرادة، إليه يستند نوعاً من الاستناد اهتداء الإنسان إلى غاية السعادة ومنزل الكمال والقرب.
وأن أعوان من الجِنّ والإنس وذرّيّة مختلفي الأنواع يجرون بأمره إيّاهم أن يتصرّفوا في جميع ما يرتبط به الإنسان من الدنيا وما فيها بإظهار الباطل في صورة الحقّ، وتزيين القبيح في صورة الحَسن الجميل.
وهم يتصرّفون في قلب الإنسان وفي بدنه وفي سائر شئون الحياة الدنيا من أموال وبنين وغير ذلك بتصرّفات مختلفة اجتماعاً وانفراداً، وسرعة وبطاً، وبلا واسطة ومع الواسطة، وربّما كانت الواسطة خيراً أو شرّاً، وطاعة أو معصية.
ولا يشعر الإنسان في شيء من ذلك بهم ولا بأعمالهم، بل لا يشعر إلّا بنفسه ولا يقع بصره إلّا بعمله، فلا أفعالهم مزاحمة لأعمال الإنسان ولا ذواتهم وأعيانهم في عرض وجود الإنسان، غير أن الله سبحانه أخبرنا أن إبليس من الجِنّ وأنّهم مخلوقون من النار، وكأنّ أوّل وجوده وآخره مختلفان.
[1] حسينى طهرانى، سيد محمد حسين، معرفة الله، 3جلد، دار المحجة البيضاء - بيروت - لبنان، چاپ: 1، 1420 ه ق.
[2] «الميزان في تفسير القرآن» ج 8؛ ص 17 إلى 33، الآيات 10 إلى 25 من السورة المذكورة.
[3] الآية 7، من السورة 32: السجدة.
[4] الآية 54، من السورة 7: الأعراف.
[5] الآية 44، من السورة 17: الإسراء.
[6] الآية 50، من السورة 54: القمر.
[7] الآية 16، من السورة 7: الأعراف.
[8] الآيات 39 إلى 42: من السورة 15: الحجر.
[9] صاحب« المنار» في الجزء الثامن من التفسير، تحت عنوان« الإشكالات في القصّة».
[10] الآية 50، من السورة 18: الكهف.
[11] الآيتان 16 و17، من السورة 7: الأعراف.
[12] الآية 39، من السورة 15: الحجر.
[13] الآية 120، من السورة 4: النساء.
[14] الآية 63، من السورة 16: النحل.
[15] الآيتان 4 و5، من السورة 114: الناس.
[16] الآية 22، من السورة 14: إبراهيم.
[17] الآية 42، من السورة 15: الحجر.
[18] الآية 27، من السورة 50: ق.
[19] الآية 16، من السورة 7: الأعراف.
[20] الآية 39، من السورة 15: الحجر.
[21] الآية 79، من السورة 7: الأعراف.
[22] الآية 27، من السورة 7: الأعراف.
[23] الآيتان 30 و31، من السورة 41: حم السجدة.
[24] الآية 4، من السورة 41: السجدة.
[25] الآيات 62 إلى 64، من السورة 17: الإسراء.
[26] الآية 39، من السورة 15: الحجر.
[27] الآية 11، من السورة 32: السجدة.
[28] الآية 61، من السورة 6: الأنعام.
[29] الآيتان 5 و6، من السورة 114: الناس.
[30] الآية 50، من السورة 18: الكهف.
[31] الآيتان 97 و98، من السورة 23: المؤمنون. وجاء في« أقرب الموارد»: الهَمْزَة، ج: هَمَزات؛ وهَمَزاتُ الشَّيْطان: خطَراتُه التي يَخطِرُ بها بقَلْبِ الإنسان.
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
