1

المرجع الالكتروني للمعلوماتية

الفضائل

الاخلاص والتوكل

الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

الإيثار و الجود و السخاء و الكرم والضيافة

الايمان واليقين والحب الالهي

التفكر والعلم والعمل

التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس

الحب والالفة والتاخي والمداراة

الحلم والرفق والعفو

الخوف والرجاء والحياء وحسن الظن

الزهد والتواضع و الرضا والقناعة وقصر الامل

الشجاعة و الغيرة

الشكر والصبر والفقر

الصدق

العفة والورع و التقوى

الكتمان وكظم الغيظ وحفظ اللسان

بر الوالدين وصلة الرحم

حسن الخلق و الكمال

السلام

العدل و المساواة

اداء الامانة

قضاء الحاجة

فضائل عامة

آداب

اداب النية وآثارها

آداب الصلاة

آداب الصوم و الزكاة و الصدقة

آداب الحج و العمرة و الزيارة

آداب العلم والعبادة

آداب الطعام والشراب

آداب الدعاء

اداب عامة

حقوق

الرذائل وعلاجاتها

الجهل و الذنوب والغفلة

الحسد والطمع والشره

البخل والحرص والخوف وطول الامل

الغيبة و النميمة والبهتان والسباب

الغضب و الحقد والعصبية والقسوة

العجب والتكبر والغرور

الكذب و الرياء واللسان

حب الدنيا والرئاسة والمال

العقوق وقطيعة الرحم ومعاداة المؤمنين

سوء الخلق والظن

الظلم والبغي و الغدر

السخرية والمزاح والشماتة

رذائل عامة

علاج الرذائل

علاج البخل والحرص والغيبة والكذب

علاج التكبر والرياء وسوء الخلق

علاج العجب

علاج الغضب والحسد والشره

علاجات رذائل عامة

أخلاقيات عامة

أدعية وأذكار

صلوات و زيارات

قصص أخلاقية

قصص من حياة النبي (صلى الله عليه واله)

قصص من حياة الائمة المعصومين(عليهم السلام) واصحابهم

قصص من حياة امير المؤمنين(عليه السلام)

قصص من حياة الصحابة والتابعين

قصص من حياة العلماء

قصص اخلاقية عامة

إضاءات أخلاقية

الاخلاق و الادعية : أدعية وأذكار :

حالتا الشوق والأنس في الحب

المؤلف:  الشيخ محمد مهدي الآصفي

المصدر:  الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام

الجزء والصفحة:  ص181-195

2024-09-15

223

للحب ظهوران : فقد يبرز الحب علىٰ صورة « الشوق » وقد يبرز الحب علىٰ صورة « الأنس » ، وكلتاهما حالتان تعبّران عن الحب ، إلّا أن حالة « الشوق » تنتاب المحب عندما يكون بعيداً عمّن يحبه ، وحالة « الأنس » تنتاب المحب عندما يكون بحضور حبيبه.

وهاتان الحالتان متواردتان علىٰ قلب العبد تجاه الله تعالىٰ. فإن لله تعالىٰ تجليين ، يتجلّىٰ للعبد عن بُعد تارة وعن قرب اُخرىٰ : « الذي بَعُدَ فلا يُرىٰ وَقَرُبَ فشهد النجویٰ » ([1]).

وعندما يتجلىٰ للعبد عن بُعد تنتاب العبد حالة الشوق ، وعندما يتجلىٰ للعبد عن قرب ، ويحسّ العبد بحضور مولاه ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ([2]) ، ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ([3]) ، ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ) ([4]) ، تنتاب العبد حالة « الأنس ».

وفي دعاء الافتتاح عن الإمام الحجة المهدي عجل الله فرجه تصوير دقيق لهاتين الحالتين : « الحمد لله الذي لا يُهتك حجابه ولا يُغلق بابه » ([5]).

ولا شك أن الذي لا يُهتك حجابه هو الذي لا يُغلق بابه ... ولكن شتّان بين ذكر الله تعالىٰ من خلال هذا التصور أو ذاك.

و « الحجاب » حجابان : حجاب ظلمة وحجاب نور ، فقد تمنع الإنسان من الرؤية شدة الظلمة ، وكثافة الحجب الظلامية ، وهذا حجاب الظلمة.

وقد تمنع الإنسان من الرؤية شدّة الوهج والنور ، كما يعجز الإنسان عن رؤية الشمس ليس لحاجزٍ أو مانعٍ ، وإنّما لشدة وهج الشمس ، وهذا هو حجاب النور.

وحجب الظلمة في علاقة الإنسان بالله تعالىٰ هي « حب الدنيا » و « مقارفة السيئات » و « ما يرين علیٰ القلب ».

وحجاب النور في علاقة الإنسان بالله تعالىٰ شيء غير ذلك ، وهو الحجاب الذي لا يُهتك كما يقول الإمام الحجة عجل الله تعالىٰ فرجه في هذا الدعاء.

وهذا الحجاب هو الذي يهيّج الشوق واللهفة في قلوب العباد. يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه ‌السلام) عن هذه الحالة من الشوق واللهفة الىٰ الله في مناجاته : « وغُلّتي لا يبرّدها إلّا وصلُك ، ولوعتي لا يطفيها إلّا لقاؤك وشوقي إليك لا يبلّه إلّا النظر إلىٰ وجهك ، وقراري لا يقرّ دون دُنوّي منك ، ولهفتي لا يردّها إلّا رَوحُك ، وسقمي لا يشفيه إلّا طبّك ، وغمّي لا يزيله إلّا قُربُك ، وجُرحي لا يبرئه إلّا صفحك ، ورَين قلبي لا يَجلوه إلّا عفوك ... فيا منتهىٰ أمل الآملين ، ويا غاية سؤل السائلين ، ويا أقصىٰ طلبة الطالبين ، ويا أعلىٰ رغبة الراغبين ويا ولي الصالحين ، ويا أمان الخائفين ، ويا مجيب دعوة المضطرين ، ويا ذخر المعدمين ، ويا  كنز البائسين » ([6]).

وفي مقابل هذا التجلّي نحوٌ آخر من التجلّي ، وهو تجلّي الله لعباده دون أن يغلق له باب بينه وبين عباده ، يسمع نجواهم ، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد ، يحول بين المرء وقلبه ، ولا يخفیٰ عليه شيء مما يخطر علىٰ قلوب عباده ، فيشعر العبد أنه بحضور مولاه ، يتهيّب أن يخالفه ويعصيه ، ويأنس بذكره ، ويسكن إلىٰ مناجاته ودعائه ، ويطيل المناجاة ، والذكر والدعاء ، والوقوف بين يديه.

وفي حديث قدسي ، يقول الله لبعض أنبيائه ، وهو سبحانه يصف قيامهم له في ظلمات الليل ، وقد هدأ الناس واستسلموا للنوم : « ولو تراهم وهم يقومون لي في الدجىٰ ، وقد مثلت نفسي بين أعينهم يخاطبوني ، وقد جللت عن المشاهدة ، ويكلموني ، وقد عززت عن الحضور » ([7]).

فلا يملّ العبد الوقوف بين يدي الله ، ولا يشعر بمرور الوقت. أو رأيت إن كان الإنسان بمحضر حبيب من الأحبّاء الذين تهوي إليهم نفسه ، هل يملّ أو يشعر بمرور الوقت ؟ فكيف لو كان الإنسان يشعر أنه بحضور الله ؟ يسمعه ، ويراه ، ويسمع خطابه وكلامه ، وهو معه ؛ ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ([8]).

فيسكن ويطمئن إلىٰ ذكر الله ( أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ([9]).

يقول الامام المهدي الحجة عجل الله فرجه في دعائه المعروف بـ « الافتتاح » : « فصرت أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً ، لا خائفاً ولا وجلاً ، مدلّاً عليك فيما قصدت فيه إليك » ([10]).

ولا شك أن هذه الحالة من الأنس بالله ، والسكون إلىٰ الله ، والإحساس بالأمن في كنف الله حالة نابعة من الإحساس بحضور الله وقربه ومعيّته ، وهي من أفضل حالات العبد تجاه ربه ، ولكنها ليست تمثل كلّ شيء في علاقة الإنسان بالله بل لابدّ أن تقترن بحالة (الشوق) حتىٰ تكتمل وتتوازن ، وتتناسق.

وهاتان الحالتان بارزتان في عبادة أولياء الله وعبادة الصالحين وعلاقتهم بالله ، فقد يكون طابع الشوق واللهفة هو الغالب علىٰ عباداتهم وعلاقتهم بالله ، وقد يكون طابع الاُنس والسكون والاطمئنان هو الغالب علىٰ عباداتهم وذكرهم وعلاقتهم بالله ، وقد يكون هذا وذاك ، وهو أفضل الأحوال وأسلمها ، واقرب إلىٰ حالة التوازن والتناسق في العلاقة بالله.

عن حمّاد بن حبيب العطّار الكوفي ، قال : « خرجنا حجّاجاً فرحلنا من زبالة ليلاً ، فاستقبلتنا ريح سوداء مظلمة ، فتقطّعت القافلة فتهت في تلك الصحاري والبراري فانتهيت إلىٰ واد قفر ، فلمّا أن جنَّ اللّيل أويت إلىٰ شجرة عادية ، فلمّا أن اختلط الظلام إذا أنا بشاب قد أقبل ، عليه أطمار بيض ، تفوح منه رائحة المسك ، فقلت في نفسي : هذا وليّ من أولياء الله متىٰ ما أحسَّ بحركتي خشيت نفاره وأن أمنعه عن كثير ممّا يريد فعاله. فأخفيت نفسي ما استطعت. فدنا إلىٰ الموضع فتهيّأ للصلاة ، ثمَّ وثب قائماً وهو يقول : يا من أحاز كلَّ شيء ملكوتاً ، وقهر كلَّ شيء جبروتاً ، أَوْلِجْ قلبي فرح الإقبال عليك ، وألحقني بميدان المطيعين لك. قال : ثمَّ دخل في الصلاة ...

فلما أن تقشّع الظلام وثب قائماً وهو يقول : يا من قصده الطالبون فأصابوه مرشداً ، وأمّه الخائفون فوجوده متفضّلاً ، ولجأ إليه العابدون فوجدوه نوالاً ، متىٰ وجد راحة من نصب لغيرك بدنه ، ومتىٰ فرح من قصد سواك بنيّته ، إلهي قد تقشّع الظلام ولم أقض من خدمتك وطراً ، ولا من حاضّ مناجاتك مدراً ، صلِّ علىٰ محمّد وآله ، وافعل في أولىٰ الأمرين بك يا أرحم الراحمين. قال : فخفت أن يفوتني شخصه ، وأن يخفیٰ عليَّ اثره فتعلّقت به ، فقلت له : بالّذي اسقط عنك ملال التعب ، ومنحك شدَّة شوق لذيذ الرعب ... من أنت ؟ فقال لي : أمّا إذا أقسمت فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب » ([11]).

وقال الأصمعي : « كنت أطوف حول الكعبة ليلة ، فإذا شابُّ ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان، وهو متعلّق بأستار الكعبة وهو يقول : « نامت العيون ، وعلت النجوم وأنت الملك الحيُّ القيوم، غلّقت الملوك أبوابها ، وأقامت عليها حرَّاسها ، وبابك مفتوح للسائلين ، جئتك لتنظر إليَّ برحمتك يا أرحم الراحمين ، ثمَّ أنشأ يقول :

 

يا من يجيب دعا المضطرِّ في الظلم
 

 

يا كاشف الضرِّ والبلویٰ مع السّقم
 

قد نام وفدك حول البيت قاطبة
 

 

وأنت وحدك يا قيّوم لم تنم
 

أدعوك ربّ دعاءً قد أمرت به
 

 

فارحم بكائي بحقِّ البيت والحرم
 

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف
 

 

فمن يجود علىٰ العاصين بالنعم
 

 

قال : فاقتفيته فإذا هو زين العابدين (عليه ‌السلام) » ([12]).

وقال طاووس الفقيه : « رأيته يطوف من العشاء إلىٰ السحر ويتعبّد ، فلمّا لم ير أحداً رمق السماء بطرفه ، وقال : إلهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون أنامك ، وأبوابك مفتّحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدِّي محمّد (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم) في عرصات القيامة ، ثمَّ بكىٰ وقال : وعزَّتك وجلالكما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكُّ ، ولا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرّض ، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني علىٰ ذلك سترك المرخىٰ به عليَّ ، فالآن من عذابك من يستنقذني ؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عنّي ؟ فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يديك ، إذا قيل للمخفّين جُوزوا ، وللمثقلين حطّوا ، أمع المخفّين أجوز ؟ أم مع المثقلين أحطّ ؟ ويلي كلّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربّي ؟ ثمَّ بكیٰ وأنشأ يقول :

 

أتحرقني بالنار يا غاية المنیٰ
 

 

فأين رجائي ثمَّ أين محبّتي
 

أتيت بأعمال قباح زريّة
 

 

وما في الورىٰ خلق جنىٰ كجنايتي
 

 
ثم بكیٰ وقال : سبحانك تُعصیٰ كأنّك لا تریٰ ، وتَحلم كأنّك لم تُعصَ. تتودّد إلىٰ خلقك بحسن الصنيع كأنَّ بك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيّدي الغنيُّ عنهم. ثمَّ خرَّ إلىٰ الأرض ساجداً. قال : فدنوت منه وشِلت برأسه ووضعته علىٰ ركبتي وبكيت حتّىٰ جرت دموعي علىٰ خدِّه ، فاستوىٰ جالساً وقال : من الّذي أشغلني عن ذكر ربّي ؟ فقلت : أنا طاووس يا بن رسول الله ما هذا الجزع والفزع ؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون. أبوك الحسين بن عليّ وأمّك فاطمة الزهراء ، وجدُّك رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم). قال : فالتفت إليَّ وقال : هيهات هيهاتيا طاوس دع عنّي حديث أبي واُمّي وجدِّي خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ، ولو كان عبداً حبشيّاً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً. أما سمعت قوله تعالىٰ : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ) والله لا ينفعك غداً إلّا تقدمة تقدمها من عمل صالح » ([13]).

ونصوص الادعية والمناجاة الواردة من أهل البيت (عليهم ‌السلام) غنيّة بهذه الصور الحيّة والمتحركة والمعبّرة عن « الانس » و « الشوق » ، وبشكل خاص المناجاة الخمس عشرة التي يرويها العلّامة المجلسي في البحار عن الامام زين العابدين علي بن الحسين (عليه ‌السلام) حافلة بصور من « الانس » و « الشوق ».

ونحن نجد في تراث أهل البيت (عليهم ‌السلام) كنزاً غنياً من هذه الصور والمعاني ، قلّما نجده عند غيرهم.

وها نحن نذكر بعض هذه الصور قبل أن نفارق هذا البحث : « إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلاً ، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغىٰ عنك حولاً.

إلهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك وولايتك وأخلصته لودّك ومحبتك ، وشوّقته إلىٰ لقائك ، ورضّيته بقضائك ، ومنحته النظر إلىٰ وجهك ، وحبوته برضاك ، وأعذته من هَجرك وقلاك ، وبوّأته مقعد الصدق في جوارك ، وخصصته بمعرفتك ، وأهّلهته لعبادتك ، وهيّمت قلبه لإرادتك ، واجتبيته لمشاهدتك ، وأخليت وجهه لك ، وفرّغت فؤاده لحبك ، ورغّبته فيما عندك ، وألهمته ذكرك ، وأوزعته شكرك ، وشغلته بطاعتك ، وصيّرته من صالحي بريتك ، واخترته لمناجاتك ، وقطعت عنه كل شيء يقطعه عنك.

أللهم اجعلنا ممّن دأبهم الارتياح إليك والحنين ، ودهرهم الزفرة والأنين ، جباههم ساجدة لعظمتك ، وعيونهم ساهرة لخدمتك ، ودموعهم سائلة من خشيتك ، وقلوبهم متعلقة بمحبتك ، وأفئدتهم منخلعة من مهابتك. يا من أنوار قدسه لأبصار محبيه رائقه ، وسبحات وجهه لقلوب عارفيه شائقة ، ويا منىٰ قلوب المشتاقين ، ويا غاية آمال المحبّين أسألك حبك وحب من يحبك ، وحب كل عمل يوصلني إلىٰ قربك ، وأن تجعلك أحب إليّ مما سواك ، وأن تجعل حبي إيّاك قائداً إلىٰ رضوانك ، وشوقي إليك ذائداً عن عصيانك ، وامنن بالنظر إليك عليّ ، وانظر بعين الود والعطف إليّ ، ولا تصرف عني وجهك » ([14]).

وهذه فقرات من الدعاء زاخرة بمفاهيم الحب والشوق والأنس ، ولست أريد التعليق ، فلن أستطيع أن أزيد الفقرات من الدعاء جمالاً علىٰ جمالها وبياناً علىٰ بيانها ، ولست ممن يحسن التعليق علىٰ آيات الدعاء والحب والأدب.

وأول ما يلفت النظر في هذه الفقرات النداء الذي ينادي به الإمام ربه سبحانه وتعالیٰ : « يا منیٰ قلوب المشتاقين ، ويا غاية آمال المحبين ... ». « يا من أنوار قدسه لأبصار محبيه رائقة ، وسبحات وجهه لقلوب عارفيه شائقة ».

ومطالب الإمام في هذا الدعاء ثلاثة ، وهي أعظم ثلاثة يطلبها العبد من ربه.

1 ـ فهو يطلب من الله أولاً أن يصطفيه لنفسه ، ويخلص قلبه لحبه ، ويخلي وجهه لوجهه الكريم ، ويرغبه فيما عنده ، ويفرغ فؤاده لحبه ، ويلهمه ذكره ، ويقطع عنه كل ما يقطعه عنه ، ويصرف عنه كلّما يصرفه عنه.

وهذه البداية ضرورية للحركة التي يطلبها الإمام من الله تعالىٰ ، والتي يحدّد غايتها بالنظر إلىٰ وجه الله ، ومن دون هذه البداية ، لا يمكن أن يتحرك الإنسان هذه الحركة الصعبة والشاقة إلىٰ قمّة لقاء الله ، والنظر إلىٰ وجهه الكريم ، وإنه لراحة لكل نبيّ وصدّيق.

ولئن كان النظر إلىٰ وجه الله رزقاً يرزقه الله تعالىٰ من يشاء ويصطفي من عباده ، فلابدّ أن يطلب العبد أن يرزقه الله تعالىٰ هذا الرزق بمفاتحه ، فإن الله تعالىٰ إذا رزق أحداً من عباده رزقاً رزقه من أبوابه ومفاتحه ، وسبّب له أسبابه.

والذين يطلبون من الله تعالىٰ أن يرزقهم من غير أبوابه ، وبغير مفاتحه يدعون الله تعالىٰ علىٰ خلاف سننه وقوانينه التي سنّها لعباده.

والأبواب التي منها يدخل الإنسان ، ومنها ينطلق إلىٰ قمّة لقاء الله ومشاهدة وجهه الكريم هي :

أولاً : تفريغ القلب من كل رين وهمّ وحب وتعلّق بالدنيا ، وهو ما يسمّيه العلماء بـ (التخلية) ، اي إخلاء القلب من كل هم وتعلّق لغير الله تعالىٰ.

فيقول الإمام : « واجعلنا ممن أخلصته لودّك ومحبتك ، وأخليت وجهه لك ، وفرّغت فؤاده لحبك ، وقطعت عنه كلّ شيء يقطعه عنك ».

وهذه هي النقطة الاُولىٰ في البداية ، وهي نقطة سلبية.

والنقطة الثانية في البداية هي « التحلية » في مقابل « التخلية » كما يقول العلماء. وهي نقطة إيجابية يلحظها الإمام في الطلبات التالية : « واجعلني ممن رضّيته بقضائك ، وحبوته برضاك ، وخصصته بمعرفتك ، وأهّلته لعبادتك ، ورغّبته فيما عندك ، وألهمته ذكرك ، وأوزعته شكرك ، وشغلته بطاعتك ، وصيّرته من صالحي بريّتك ، واخترته لمناجاتك ».

« واجعلنا من جباههم ساجدة لعظمتك ، وعيونهم ساهرة في خدمتك ، ودموعهم سائلة من خشيتك ، وأفئدتهم منخلعة من رهبتك ».

وهذه البداية « بنقطتيها » هي مفتاح الحركة إلىٰ الله ، وهي المنطلق التي منها ينطلق الانسان إلىٰ غاية لقاء الله ومشاهدة جلال وجهه الكريم وجماله. وهذا هو الطلب الأول.

2 ـ والطلب الثاني مترتب علىٰ الطلب الأول ، وهي المرحلة الوسطىٰ في هذه الحركة الصاعدة إلىٰ الله ، ومن دونه لا يمكن أن يتحرك الإنسان إلىٰ الله ، ويصل إلىٰ جواره وقربه ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) ([15]).

والمركب الذي يحمل الإنسان إلىٰ هذه الغاية التي يتمنّاها كل نبي وولي وصدّيق وشهيد ، هو « الحب » و « الانس بالله » و « الشوق إلىٰ الله » ومن دون الحب ، والشوق ، والاُنس لا يمكن أن يرقیٰ الإنسان هذا المرتقیٰ الرفيع إلىٰ الله.

والحب والشوق والاُنس رزق من عند الله ، من دون شك ، يرزقه الله تعالىٰ من يجتبي ويصطفي من عباده. ولكن بعد مقدمات ذكرها الامام (عليه ‌السلام) نجدها مبثوثة في فقرات هذه المناجاة.

ويلحّ الامام في هذا الطلب ، ويتوسل إلىٰ ذلك بمختلف الوسائل والتعابير. فهو ينادي الله تعالىٰ بهذا النداء الرائع : « يا منىٰ قلوب المشتاقين ويا غاية آمال المحبين ».

ثم يطلب منه الحب ، وحبّ من يحب ، وحبّ كل عمل يوصله إلىٰ قربه وجواره.

ولنتأمل في كلمات الإمام مباشرة فإنّ التعليق يضيّع علينا فرصة النظر المباشر إلىٰ آفاق هذا الحب التي يفتحها الإمام علينا في هذا الدعاء : « أسألكحبّك ، وحبّ من يحبّك ، وحبّ كل عمل يوصلني إلىٰ قربك ، وأن تجعلك أحبَّ إليّ مما سواك ، وأن تجعل حبي إيّاك قائداً إلىٰ رضوانك ، وشوقي إليك ذائداً عن عصيانك ، وامنن بالنظر إليك عليّ ، وانظر بعين الود والعطف إليّ ، ولا تصرف عنّي وجهك ».

ويقول: « واجعلنا ممن شوّقته إلىٰ لقائك ، وأعذته من هجرك وقلاك ، وهيَّمت قلبه لإرادتك ».

ثم يقول (عليه ‌السلام) : « اللهم اجعلنا من دأبهم الارتياح إليك والحنين ، ودهرهم الزفرة والأنين ... قلوبهم متعلقة بمحبتك ، وأفئدتهم منخلعة من مهابتك ».

وخلاصة المطالب في هذه الفقرة أربعة :

1 ـ أن يعيذنا هجره وقلاه.

2 ـ أن يرزقنا حبه ومودته.

3 ـ أن يرزقنا الاُنس به.

4 ـ أن يرزقنا الشوق إلىٰ لقائه.

ويختصر الإمام « الاُنس والشوق » في هذه الجملة الرائعة : « واجعلنا ممن دأبهم الارتياح إليك والحنين ».

فإنّ الارتياح إلىٰ الله غير الحنين إليه ، وكلاهما يطلبه الإمام من الله. والارتياح هو الأنس المنبعث من اللقاء ، والحنين هو الشوق المنبعث من الحركة إلىٰ اللقاء.

2 ـ والمرحلة الثالثة من هذه المرحلة العلوية إلىٰ الله في هذا الدعاء الجليل هي غاية الغايات ، وأشرف ما يطلبه النبيون والصدّيقون من الله. وهي طلب النظر إلىٰ جلال وجهه وجماله البهي ، وأنه غاية لا ينالها إلّا صفوة الصفوة ممن يصطفيهم الله تعالىٰ لقربه وجواره.

يقول الإمام (عليه ‌السلام) : « واجعلنا ممّن منحته النظر إلىٰ وجهك وبوّأته مقعد الصدق في جوارك ، واجتبيته لمشاهدتك ... وامنن بالنظر إليك عليّ ».

ويا لها من حاجة أن ينظر الإنسان إلىٰ وجه ربه ، ويشاهد جلاله وجماله عن قرب ، ويقعد عنده في مقعد صدق بجواره ، ويسقيه ربه شراباً طهوراً.

صورة اُخرىٰ من صور الشوق والاُنس في أدعية الإمام زين العابدين (عليه ‌السلام) :

« إلهي فاسلك بنا سبل الوصول إليك ، وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك. قرّب علينا البعيد، وسهِّل علينا العسير الشديد ، وألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار إليك يسارعون ، وبابك علىٰ الدوام يطرقون ، وإيّاك بالليل والنهار يعبدون ، وهم من هيبتك مشفقون الذين صفّيت لهم المشارب ، وبلّغتهم الرغائب ، وأنجحت لهم المطالب ، وقضيت لهم من فضلك المآرب ، وملأت لهم ضمائرهم من حبّك ، وروّيتهم من صافي شربك فبك إلىٰ لذيذ مناجاتك وصلوا ، ومنك أقصىٰ مقاصدهم حصّلوا. فيا من هو علىٰ المقبلين عليه مقبل ، وبالعطف عليهم عائد مفضل ، وبالغافلين عن ذكره رحيم رؤوف ، وبجذبهم إلىٰ بابه ودود عطوف ... أسالك أن تجعلني من أوفرهم منك حظّاً ، وأعلاهم عندك منزلاً ، وأجزلهم من ودّك قسْماً ، وأفضلهم في معرفتك نصيباً. فقد انقطعت إليك همتي ، وانصرفت نحوك رغبتي ، فأنت لا غيرك مرادي ، ولك لا لسواك سَهَري وسهادي ، ولقاؤك قرة عيني ، ووصلك منىٰ نفسي ، وإليك شوقي ، وفي محبتك ولهي ، وإلىٰ هواك صبابتي ، ورضاك بغيتي ، ورؤيتك حاجتي ، وجوارك طلبي ، وقربك غاية سؤلي ، وفي مناجاتك روحي وراحتي ، وعندك دواء علّتي ، وشفاء غلّتي ، وكشف كربتي ، فكن أنيسي في وحشتي ومُقيل عثرتي ، وغافر زلّتي ، وقابل توبتي ، ومجيب دعوتي ، ووليّ عصمتي ، ومُغني فاقتي ، ولا تقطعني عنك ، ولا تبعدني منك ، يا نعيمي وجنتي ، ويا دنياي وآخرتي » ([16]).

وهذه قطعة جليلة من جلائل المناجاة ، ورائعة من روائع أدب الدعاء ، وغرّة من غرر كلمات أهل البيت (عليهم ‌السلام) في الدعاء والتضرّع والحب ، صادرة عن قلبٍ والهٍ بحب الله ، مشتاق إلىٰ لقاء الله ، وهي تستحق الكثير من التأمل والوقوف.

ونقتصر علىٰ الإشارة السريعة إلىٰ بعض الصور والأفكار للحب الإلهي التي تزخر بها هذه المناجاة.

في البدء يطلب زين العابدين (عليه ‌السلام) من الله أن يأخذ بيده ويسلك به سبل الوصول إليه وهو خلاصة ما في هذا الدعاء ، وأجلّ ما فيه من المطالب. فلا يطلب الإمام في هذا الدعاء من الله تعالىٰ دنيا ولا آخرة ، وإنه لطلب مشروع يحبه الله ، ولكنه يطلب القرب ، والوصول والجوار ، في مقعد صدق عنده مع الانبياء والشهداء والصدّيقين. يقول (عليه ‌السلام) : « إلهي فاسلك بنا سبل الوصول إليك ». ولا يقول الإمام (سبيل الوصول إليك) بصيغة المفرد ، وإنّما يقول : « سبل الوصول » بصيغة الجمع، ذلك لأن « الصراط » إلىٰ الله تعالىٰ واحد لا يتعدد ، ولم يذكر القرآن لله تعالىٰ إلّا صراطاً واحداً ، يقول تعالىٰ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ õ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) ([17]) ويقول : ( وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ([18]). ويقول : ( وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ([19]). ويقول : ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ([20]).

أما (السبيل) فقد ورد بصيغة الجمع في الحق والباطل في القرآن كثيراً.

يقول تعالىٰ : ( يَهْدِي بِهِ اللَّـهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ) ([21]). ويقول : ( وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) ([22]).

( وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّـهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ) ([23]).

( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) ([24]).

فقد جعل الله تعالىٰ للناس إليه سُبلاً كثيرة يسلكونها إليه وقد اشتهر علىٰ لسان العلماء : « أن الطرق إلىٰ الله بعدد أنفاس الخلائق ». وكل هذه الطرق والسبل تجري علىٰ صراط الله المستقيم ، ولكن جعل الله تعالىٰ لكل إنسان طريقاً يعرف به ربه ، ويسلكه إليه.

فمن الناس من يسلك إليه سبيل العلم والعقل ، ومنهم من يسلك إليه سبيل القلب والفؤاد ، ومن الناس من يعرف الله بالتجارة والتعامل مع الله ، وأنه من أفضل السبل أن يتعرف الانسان علىٰ الله من خلال التعامل المباشر مع الله والأخذ والعطاء. قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) ([25]) ، وقال سبحانه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) ([26]).

ويطلب زين العابدين (عليه ‌السلام) هنا من الله تعالىٰ أن يسلك به سبل الوصول إليه، لا سبيلاً واحداً ، فكلما سلك الإنسان إلىٰ الله تعالىٰ مسالك وسبلاً أكثر كان وصوله إلىٰ جوار الله وقربه أوكد وأقوىٰ وابلغ.

ثم يسأل الله تعالىٰ بعد ذلك أن يلحقه بأهل البدار من عباده الصالحين الذين يسارعون إلىٰ الله ويطوون ليلهم ونهارهم علىٰ طاعة الله وعبادته.

والطريق إلىٰ الله صعب عسير ، وعن هذا الطريق يعبّر القرآن بـ « ذات الشوكة ». وكثيرون أولئك الذين بدأوا السير علىٰ هذا الطريق بعزم وصدق ، ثم تساقطوا أثناء الطريق.

وزين العابدين (عليه ‌السلام) يسأل الله أن يقرب عليه البعيد ، ويسهّل عليه العسير ، في هذه الرحلة الشاقة ، وأن يلحقه بالصالحين الذين سبقوه « وهو إمام الصالحين » فإنّ رفقة الأولياء والصالحين علىٰ طريق ذات الشوكة ، تشدّ علىٰ قلوب الجميع ، وتزيد من عزمهم علىٰ مواصلة الطريق.

إنّ السير إلىٰ الله صعب ، فإذا كان جمع من الصالحين يسيرون علىٰ هذا الطريق ، يتماسكون ، ويتواصون بالحق ، ويتواصون بالصبر ... خفّ عليهم السير علىٰ طريق ذات الشوكة.

يقول علي بن الحسين زين العابدين (عليه ‌السلام) في طبيعة هذه الرحلة الشاقة والطويلة ، وفي طلب التقريب والتخفيف والالتحاق بالصالحين علىٰ هذا الطريق : « وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك. قرّب علينا البعيد ، وسهِّل علينا العسير الشديد ، وألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار إليك يسارعون ، وبابك علىٰ الدوام يطرقون ، وإيّاك بالليل والنهار يعبدون ».


[1] مفاتيح الجنان ، دعاء الافتتاح.

[2] الحديد : 4.

[3] ق : 16.

[4] البقرة : 186.

[5] مفاتيح الجنان ، دعاء الافتتاح.

[6] بحار الأنوار 94 : 150.

[7] لقاء الله : 101.

[8] الحديد : 4.

[9] الرعد : 28.

[10] مفاتيح الجنان ، دعاء الافتتاح.

[11] بحار الانوار 46 : 77 ـ 78.

[12] بحار الانوار 46 : 80 ـ 81.

[13] بحار الأنوار 46 : 81 ـ 82.

[14] بحار الأنوار 94 : 148.

[15] القمر : 55.

[16] بحار الأنوار 94 : 148.

[17] الفاتحة : 6 ـ 7.

[18] البقرة : 213.

[19] المائدة : 16.

[20] الانعام : 87.

[21] المائدة : 16.

[22] الانعام : 153.

[23] ابراهيم : 12.

[24] العنكبوت : 69.

[25] الصف : 10.

[26] البقرة : 207.

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي