تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
تفسير الآية (76-82) من سورة القصص
المؤلف: إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
المصدر: تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة: .....
7-10-2020
12475
قال تعالى : {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُو أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [القصص : 76 ، 77] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
قال تعالى : {إن قارون كان من قوم موسى} أي كان من بني إسرائيل ثم من سبط موسى وهو ابن خالته عن عطا عن ابن عباس وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقيل كان ابن عم موسى لحا لأنه كان قارون بن يصهر بن فاهث وموسى بن عمران بن فاهث عن ابن جريج وقيل كان موسى ابن أخيه وقارون عمه عن محمد بن إسحاق {فبغى عليهم} أي استطال عليهم بكثرة كنوزه عن قتادة قال وكان يسمى المنور لحسن صورته ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ منه للتوراة ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري فبغى عليهم وقيل كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل فكان يبغي عليهم ويطالبهم لما كانوا بمصر عن سعيد بن المسيب وابن عباس وقيل إنه زاد عليهم في الثياب شبرا عن عطاء الخراساني وشهر بن حوشب .
{وآتيناه من الكنوز} قال عطا أصاب كنزا من كنوز يوسف {ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة} ما هذه موصولة بمعنى والذي وصلتها أن مع اسمها وخبرها أي أعطيناه من الأموال المدخرة قدر الذي ينيء مفاتحه العصبة والمفاتح هنا الخزائن في قول أكثر المفسرين وهو اختيار الزجاج كما في قوله سبحانه وعنده مفاتح الغيب فيكون المراد بمفاتحه خزائن ماله وهو قول ابن عباس والحسن وقيل هي المفاتح التي تفتح بها الأبواب عن قتادة ومجاهد .
وروى الأعمش عن خيثمة قال كانت مفاتيح قارون من جلود كل مفتاح مثل الإصبع واختلف في معنى العصبة فقيل ما بين عشرة إلى خمسة عشرة عن مجاهد وقيل ما بين عشرة إلى أربعين عن قتادة وقيل أربعون رجلا عن أبي صالح وقيل ما بين الثلاثة إلى العشرة عن ابن عباس وقيل إنهم الجماعة يتعصب بعضهم لبعض {إذ قال قومه} من بني إسرائيل {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين} أي لا تأشر ولا تمرح ولا تتكبر بسبب كنوزك إن الله لا يحب من كان بهذه الصفة ويدل على أن الفرح بمعنى البطر قول الشاعر :
ولست بمفراح إذا الدهر سرني *** ولا جازع من صرفه المتقلب
وقول الآخر : (ولا أرخي من الفرح الأزارا) .
{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة} وهذا أيضا من مقالة المؤمنين من قوم قارون له وقيل إن المخاطب له بذلك موسى وإن ذكر بلفظ الجمع ومعناه اطلب فيما أعطاك الله من الأموال الدار الآخرة بأن تنفقها في سبيل الخير ووجوه الخير والبر {ولا تنس نصيبك من الدنيا} وهو أن تعمل في الدنيا للآخرة عن أكثر المفسرين ومعناه لا تنس أن تعمل لآخرتك لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته وروي في معناه عن علي (عليه السلام) لا تنس صحتك وقوتك وفراغك وشبابك ونشاطك وغناك أن تطلب بها الآخرة وقيل أمر أن يقدم الفضل وأن يمسك ما يغنيه عن الحسن وقيل معناه أنه كان قتورا شحيحا فقيل له كل واشرب واستمتع بما آتاك الله من الوجه الذي أباحه الله لك فإن ذلك غير محظور عليك .
{وأحسن كما أحسن الله إليك} أي أفضل على الناس كما أفضل الله عليك وقيل أحسن فيما افترض الله عليك كما أحسن في إنعامه عليك عن يحيى بن سلام وقيل معناه وأحسن شكر الله تعالى على قدر إنعامه عليك وواس عباد الله بمالك {ولا تبغ الفساد} أي لا تطلب العمل {في الأرض} بالمعاصي {إن الله لا يحب المفسدين} ظاهر المعنى {قال} قارون {إنما أوتيته على علم عندي} اختلف في معناه فقيل أراد إنما أعطيت هذا المال بفضل وعلم عندي ليس ذلك عندكم عن قتادة يعني أنه قدر أن هذا ثواب من الله له لفضيلته كما أخبر سبحانه عن ذلك الكافر بقوله {ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا} .
وقيل معناه لرضا الله عني ومعرفته باستحقاقي عن ابن زيد وهذا قريب من الأول وقيل معناه إن المال حصل له على علم عندي بوجوه المكاسب وبما لا يتهيأ لأحد أن يكتسبه من التجارات والزراعات وغيرها وقيل على علم عندي بصنعة الذهب وهو علم الكيمياء عن الكلبي وحكي أن موسى (عليه السلام) علم قارون الثلث من صنعة الكيمياء وعلم يوشع الثلث منها وعلم ابن هارون الثلث منها فخدعهما قارون حتى علم ما عندهما وعمل بالكيمياء فكثرت أمواله .
{أ ولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون} الكافرة بنعمته {من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا} كقوم عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ثم بين سبحانه أن اغتراره بماله وعدده من الخطإ العظيم لأنه لا ينتفع بذلك عند نزول العذاب به كما أن من كانوا أقوى وأغنى منه لم تغن أموالهم إشغالهم عنهم شيئا عند ذلك {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} قال قتادة يعني أنهم يدخلون النار بغير حساب وقال قتادة إن الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا يسألون عنهم لعلامتهم ويأخذونهم بالنواصي والأقدام فيصيرونهم إلى النار وهذا كقوله فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان وأما قوله فوربك لنسألنهم أجمعين فإنما ذلك سؤال تقريع وتوبيخ لا ليعلم ذلك من قبلهم عن الحسن .
{فخرج على قومه} أي خرج قارون على بني إسرائيل {في زينته} التي كان يتزين بها وحشمه وتبعه وقيل إنه خرج في أربعة آلاف دابة عليها أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان عن قتادة والأرجوان في اللغة صبغ أحمر وقيل خرج في جوار بيض على سرج من ذهب على قطف أرجوان على بغال بيض عليهن ثياب حمر وحلي من ذهب عن السدي وقيل خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات .
{قال الذين يريدون الحيوة الدنيا} من الكفار والمنافقين وضعيفي الإيمان بما للمؤمنين عند الله من ثواب الجنة لما رأوه في تلك الزينة والجمال {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم} أي ذو نصيب وافر من الدنيا والمعنى أنهم تمنوا مثل منزلته ومثل ماله {وقال الذين أوتوا العلم} وهم المصدقون بوعد الله المؤمنون لهم {ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا} مما أوتي قارون وحذف لدلالة الكلام عليه .
{ولا يلقاها إلا الصابرون} أي ولا يلقى مثل هذه الكلمة ولا يوفق لها إلا الصابرون على أمر الله وقيل معناه ولا يعطاها يعني الجنة في الآخرة ودل عليها قوله {ثواب الله} . {إلا الصابرون} على طاعة الله وعن زينة الدنيا عن الكلبي .
{فخسفنا به وبداره الأرض} قال السدي دعا قارون امرأة من بني إسرائيل بغيا فقال لها إني أعطيك ألفين على أن تجيئي غدا إذا اجتمعت بنو إسرائيل عندي فتقولي يا معشر بني إسرائيل ما لي ولموسى قد آذاني قالت نعم فأعطاها خريطتين عليهما خاتمه فلما جاءت بيتها ندمت وقالت يا ويلتي قد عملت كل فاحشة فما بقي إلا أن أفتري على نبي الله فلما أصبحت أقبلت ومعها الخريطتان حتى قامت بين بني إسرائيل فقالت إن قارون قد أعطاني هاتين الخريطتين على أن آتي جماعتكم فأزعم أن موسى يراودني عن نفسي ومعاذ الله أن أفتري على نبي الله وهذه دراهمه عليها خاتمه .
فعرف بنو إسرائيل خاتم قارون فغضب موسى فدعا الله عليه فأوحى الله إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك وسلطتها عليه فمرها فقال موسى يا أرض خذيه وهو على سريره وفرشه فأخذته حتى غيبت سريره فلما رأى قارون ذلك ناشده الرحم فقال خذيه فأخذته حتى غيبت قدميه ثم أخذته حتى غيبت ركبتيه ثم أخذته حتى غيبت حقويه وهو يناشده الرحم فأخذته حتى غيبته فأوحى الله إليه يا موسى ناشدك الرحم واستغاثك فأبيت أن تغيثه لو إياي دعا واستغاثني لأغثته!
قال مقاتل ولما أمر موسى الأرض فابتلعته قال بنو إسرائيل إنما فعل ذلك موسى ليرث ماله لأنه كان ابن عمه فخسف بداره وبجميع أمواله بعده بثلاثة أيام فلم يقدر على ماله بعده أبدا .
{فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله} أي فما كان له من جماعة منقطعة إليه يدفعون عنه عذاب الله تعالى الذي نزل به وإنما قال سبحانه ذلك لأنه كان يقدر مع نفسه الامتناع بحاشيته وجنوده {وما كان من المنتصرين} بنفسه لنفسه {وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس} حين خرج عليهم في زينته {يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر} وهذه كلمة ندم واعتراف وقد بينا أن عند الخليل وسيبويه لفظة وي مفصولة من كان وإن وقعت في المصحف موصولة يقول القائل إذا تبين له الخطأ وي كنت على خطأ .
وقال الفراء أصله ويلك فحذفت اللام وجعلت أن مفتوحة في موضع نصب بفعل مضمر كأنه قال اعلم أن الله تعالى قال وحدثني شيخ من أهل البصرة قال سمعت أعرابية تقول لزوجها أين ابنك ويلك فقال لها ويك أنه وراء البيت قال معناه أ ما ترينه وراء البيت وقيل معناه أ لا كان وأما كان وقال الكسائي ويكأن في التأويل ذلك أن الله وهو قول ابن عباس أي قالوا ذلك أن الله يبسط الرزق لمن يشاء لا لكرامته كما بسط لقارون ويقدر أن يضيق على من يشاء لا لهوان لكن بحسب المصلحة وقال مجاهد وقتادة ويكأن معناه أ لم تعلم .
{لولا أن من الله علينا لخسف بنا} أي لولا أنه أنعم علينا بنعمه فلم يعطنا ما أعطى قارون لخسف بنا كما خسف به وقيل معناه لو أن الله تعالى من علينا بالتجاوز عما تمنينا لخسف بنا لما تمنينا منزلة قارون {ويكأنه لا يفلح الكافرون} أي لا يفوز بثواب الله وينجو من عقابه الجاحدون لنعمه العابدون معه سواه .
______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج7 ، ص459-463 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
قارون والرأسمالية المستبدة :
{إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} . كان قارون من بني إسرائيل ، لأنه من قوم موسى ، وقيل : ابن عمه ، وهو واضع أسس الرأسمالية المستبدة أو ممثلها ، لأنه احتكر المال ، وتسلط على قومه مبررا ذلك بقوله : {انما أوتيته على علم عندي} وهذا هو المذهب الاقتصادي القائل : الفرد أولا والمجتمع ثانيا ، وأيضا تومئ إليه الآية التي نفسرها حيث جمعت بين البغي وكنز المال . . وأي بغي أعظم من أن تكون مقدرات الخلائق رهنا بمشيئة الأفراد أو الفئات ؟ وقد حاول قوم قارون أن يردعوه عن البغي بالحسنى ، ويثيروا فيه روح الخير والصلاح .
{إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهً لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . مالك تكثر فرحا بالمال وتغتر به ، وتتخذه وسيلة للبغي والعدوان ، والترف والإسراف ، وحولك الألوف يموتون جوعا ؟ أتختال وتفاخر بقدرتك على المآثم والرذائل ؟ ان اللَّه لا يحب كلّ مختال فخور .
{وابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} . جد واجتهد واعمل لوجه اللَّه في كل ما أعطاك من مال وصحة وعقل ، فان المرء مسؤول أمام اللَّه عن جسمه فيم أبلاه ، وعن عمره فيم أفناه ، وعن ماله ممّ اكتسبه وفيم أنفقه .
{ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا} لا تترك ما أنت في حاجه إليه لحياتك ومتعتك ، فكل ما شئت من الطيبات ، والبس ما أردت من فاخر الثياب ، واسكن ما أحببت من الدور ، ولكن على حساب جهدك وكدك ، لا على حساب الآخرين ، فإنك بهذا تجمع بين الحظين معا ، وتملك الزادين جميعا : زاد الدنيا وزاد الآخرة .
{وأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} . اتق اللَّه فيما أنعم به عليك ، واشكره على ذلك بالإحسان إلى عباده وعياله ، وتعاون معهم على ما فيه خيرك وخيرهم .
{ولا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الأَرْضِ} بالجور والخيانة ، والتكبر والتجبر ، والعيش في الإسراف والبذخ ، وحولك الجياع والعراة . . ان هذا هو الفساد بالذات {إِنَّ اللَّهً لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} وأعد لهم عذابا أليما .
{قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي} . هذا المال من علمه هو . . من موهبته ومهارته . . وللإنسان أن يستغل علمه وموهبته في السلب والنهب ، والتقتيل والتشريد ، وفي كل ما يهوى ويريد . . وليس قارون بدعا في هذا المنطق . . فقد وضعت الولايات المتحدة الأمريكية مخططا لشراء العقول والمواهب من مختلف أنحاء العالم ، وأغرت العلماء والخبراء بالهجرة إليها ، وأسمت هذا المخطط (برين درين) أي استنزاف العقول ، والقصد منه أن تستخدم المواهب الإنسانية في نهب ثروات البلاد وأقوات العباد في شرق الأرض وغربها .
{أَولَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهً قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُو أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وأَكْثَرُ جَمْعاً} ؟ وكيف يعلم وقد أطغاه المال والجاه ، وأعماه عن عاقبة الظلم والبغي ، وأنساه ما سمع عن القرون الأولى ، وانها كانت أكثر منه مالا وأعز نفرا ، ولما طغت وبغت أذاقها اللَّه عذاب الخزي في الحياة الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشد وأخزى . . وضرب المفسرون مثلا بقوم نوح وعاد وثمود ، ولو كنت في عصرهم لم أعد أمثلتهم ، ولو كانوا في عصري لاكتفوا بما حدث في (ليبيا) في هذا الشهر الذي أكتب فيه كلماتي هذه ، وهو شهر أيلول من سنة 1969 حيث قامت مجموعة من الشباب الليبي ، وعزلت الملك السابق ، وهو أقوى وأغنى من قارون ، ومن ورائه الصهيونية والاستعمار . . واستولى على الحكم الذين يمثلون الشعب الليبي ، ويعبّرون عن أمانيه ، وهم الذين نكّل بهم الملك المخلوع واضطهدهم بالحبس والتشريد ومصادرة الأملاك .
{ولا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي ان اللَّه يعذبهم بغير حساب . وتسأل :
كيف تجمع بين هذه الآية ، وبين الآية 93 من سورة الحجر : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} وفي معناها كثير من الآيات ؟
الجواب : المراد بالمجرمين هنا الذين يعتدون على حقوق الناس وحرياتهم ، ويثيرون الفتن والحروب من أجل مصالحهم ومنافعهم ، فهؤلاء هم الذين يدخلون النار بغير حساب حتى ولو هللوا وكبروا ، وعليه يكون قوله تعالى : {ولا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} ، مخصّصا لقوله لنسألنهم أجمعين أي لو جمعنا بين القولين لكان المعنى لنسألنهم أجمعين إلا من اعتدى على حقوق الناس فإنه يدخل النار من غير سؤال .
{فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} . حذره قومه من عاقبة البغي والفساد ، فنفخ الشيطان في أنفه ، وأخذته العزة بالإثم ، وجمع خدمه وحشمه ، وركب في موكب فخم يعرض على الناس ثراءه وكبرياءه تحديا للذين وعظوه وحذروه من سكرات الترف والبغي .
{قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} . نظر ضعفاء العقول إلى المال والزينة ، وذهلوا عن عاقبة البغي والكبرياء فتمنوا أن يكون لهم مثل ترف قارون وأبهته ليغرقوا في الملذات والشهوات ، ولو نظروا بعين البصيرة لقالوا كما قال أولو العلم .
{وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وعَمِلَ صالِحاً ولا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ} . ضمير يلقاها يعود إلى المثوبة والمنزلة عند اللَّه التي دل عليها سياق الكلام ، والمعنى ان أهل العلم باللَّه قالوا لضعفاء العقول : لقد نطق الشيطان على ألسنتكم . . ان ما عند اللَّه خير وأبقى ، وما اعتز أحد بغيره تعالى إلا أذله وأخزاه ، قال الإمام علي : رب مغبوط في أول الليل قامت بواكيه في آخره .
وقال : ما قال الناس لشيء طوبى له إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء .
{فَخَسَفْنا بِهِ وبِدارِهِ الأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} . ولا ينجو ظالم من الخسف في الدنيا قبل الآخرة ، وليس من الضروري أن يكون الخسف بالأرض فقط ، فيكون أيضا بالخزي واللعن على ألسنة الخلائق ، وبأيدي المظلومين والمحقين . . وقد دلتنا التجارب ان الظالم إذا نزل به القصاص والعقاب تخلى عنه وتبرأ منه كل الناس حتى أعوانه وأرحامه ، وحسبه هذا خسفا ونكالا .
{وأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهً يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ويَقْدِرُ لَولا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ} .
بالأمس قال الضعفاء : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون لأنهم نظروا إلى الدنيا وزينتها ، وذهلوا عن عاقبة البغي والكبرياء ، أما اليوم ، وقد شاهدوا دائرة السوء تدور على رأس الطاغية قارون ، فقد أدركوا الحقيقة وحمدوا اللَّه الذي لم يؤتهم مثل ما أوتي الطغاة . وفي نهج البلاغة : فكم من منقوص رابح ، ومزيد خاسر . .
ومن هنا قيل : الأمور بخواتيمها .
_______________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص 86-88 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قصة قارون من بني إسرائيل ذكرها الله سبحانه بعد ما حكى قول المشركين : {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} وأجاب عنه بما مر من الأجوبة ليعتبروا بها فقد كانت حاله تمثل حالهم ثم أداه الكفر بالله إلى ما أدى ما أدى من سوء العاقبة فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصابه ، فقد آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة فظن أنه هوالذي جمعه بعلمه وجودة فكره وحسن تدبيره فآمن العذاب الإلهي وآثر الحياة الدنيا على الآخرة وبغى الفساد في الأرض فخسف الله به وبداره الأرض فلما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين .
قوله تعالى : {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة} قال في المجمع : ، البغي طلب العتو بغير حق .
قال : والمفاتح جمع مفتح والمفاتيح جمع مفتاح ومعناهما واحد وهو عبارة عما يفتح به الأغلاق .
قال : وناء بحمله ينوء نوءا إذا نهض به مع ثقله عليه . انتهى .
وقال غيره : ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله وهو الأوفق للآية .
وقال في المجمع ، أيضا : العصبة الجماعة الملتف بعضها ببعض .
وقال : واختلف في معنى العصبة فقيل : ما بين عشرة إلى خمسة عشر عن مجاهد ، وقيل : ما بين عشرة إلى أربعين عن قتادة ، وقيل أربعون رجلا عن أبي صالح ، وقيل : ما بين الثلاثة إلى العشرة عن ابن عباس ، وقيل : إنهم الجماعة يتعصب بعضهم لبعض . انتهى .
ويزيف غير القولين الأخيرين قول إخوة يوسف : {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [يوسف : 8] ، وهم تسعة نفر .
والمعنى : أن قارون كان من بني إسرائيل فطلب العتو عليهم بغير حق وأعطيناه من الكنوز ما إن مفاتيحه لتثقل الجماعة ذوي القوة ، وذكر جمع من المفسرين أن المراد بالمفاتح الخزائن ، وليس بذاك .
قوله تعالى : {إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين} فسر الفرح بالبطر وهو لازم الفرح والسرور المفرط بمتاع الدنيا فإنه لا يخلو من تعلق شديد بالدنيا ينسي الآخرة ويورث البطر والأشر ، ولذا قال تعالى : {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد : 23] .
ولذا أيضا علل النهي بقوله : {إن الله لا يحب الفرحين} .
قوله تعالى : {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة} إلى آخر الآية أي واطلب فيما أعطاك الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بإنفاقه في سبيل الله ووضعه فيما فيه مرضاته تعالى .
وقوله : {ولا تنس نصيبك من الدنيا} أي لا تترك ما قسم الله لك ورزقك من الدنيا ترك المنسي واعمل فيه لآخرتك لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هوما يعمل به لآخرته فهو الذي يبقى له .
وقيل : معناه لا تنس أن نصيبك من الدنيا - وقد أقبلت عليك - شيء قليل مما أوتيت وهوما تأكله وتشربه وتلبسه مثلا والباقي فضل ستتركه لغيرك فخذ منها ما يكفيك وأحسن بالفضل وهذا وجه جيد .
وهناك وجوه أخر غير ملائمة للسياق .
وقوله : {وأحسن كما أحسن الله إليك} أي أنفقه لغيرك إحسانا كما آتاكه الله إحسانا من غير أن تستحقه وتستوجبه ، وهذه الجملة من قبيل عطف التفسير لقوله : {ولا تنس نصيبك من الدنيا} على أول الوجهين السابقين ومتممة له على الوجه الثاني .
وقوله : {ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} أي لا تطلب الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال وما اكتسبت به من جاه وحشمة إن الله لا يحب المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح والإصلاح .
قوله تعالى : {قال إنما أوتيته على علم عندي} إلى آخر الآية .
لا شك أن قوله {إنما أوتيته على علم عندي} جواب عن جميع ما قاله المؤمنون من قومه ونصحوه به وكان كلامهم مبنيا على أن ما له من الثروة إنما آتاه الله إحسانا إليه وفضلا منه من غير استيجاب واستحقاق فيجب عليه أن يبتغي فيه الدار الآخرة ويحسن به إلى الناس ولا يفسد في الأرض بالاستعلاء والاستكبار والبطر .
فأجاب بنفي كونه إنما أوتيه إحسانا من غير استحقاق ودعوى أنه إنما أوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال وتدبيره وليس عند غيره ذلك ، وإذا كان ذلك باستحقاق فقد استقل بملكه وله أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء ويستدره في أنواع التنعم وبسط السلطة والعلو والبلوغ إلى الآمال والأماني .
وهذه المزعمة التي ابتلي بها قارون فأهلكته - أعني زعمه أن الذي حصل له الكنوز وساق إليه القوة والجمع هو نبوغه العلمي في اكتساب العزة وقدرته النفسانية لا غير - مزعمة عامة بين أبناء الدنيا لا يرى الواحد منهم فيما ساقه إليه التقدير ووافقته الأسباب الظاهرة من عزة عاجلة وقوة مستعارة إلا أن نفسه هي الفاعلة له وعلمه هو السائق له إليه وخبرته هي الماسكة له لأجله .
وإلى عموم هذه المزعمة وركون الإنسان إليها بالطبع يشير قوله تعالى : { فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الزمر : 49 - 52] ، وقال : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر : 82 ، 83] ، وعرض الآيات على قصة قارون لا يبقي شكا في أن المراد بالعلم في كلام ما قدمناه .
وفي قوله : {إنما أوتيته} من غير إسناد الإيتاء إلى الله سبحانه كما في قول الناصحين له : {فيما آتاك الله} نوع إعراض عن ذكره تعالى وإزراء بساحة كبريائه .
وقوله : {أ ولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا} استفهام توبيخي وجواب عن قوله : {إنما أوتيته على علم عندي} بأيسر ما يمكن أن يتنبه به لفساد قوله فإنه كان يرى أن الذي اقتنى به المال وهو يبقيه له ويمتعه منه هو علمه الذي عنده وهو يعلم أنه كان فيمن قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ، وكان ما له من القوة والجمع عن علم عنده على زعمه ، وقد أهلكه الله بجرمه ، فلوكان العلم الذي يغتر ويتبجح به هو السبب الجامع للمال الحافظ له الممتع منه ولم يكن بإيتاء الله فضلا وإحسانا لنجاهم من الهلاك ومتعهم من أموالهم ودافعوا بقوتهم وانتصروا بجمعهم .
وقوله : {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} ظاهر السياق أن المراد به بيان السنة الإلهية في تعذيب المجرمين وإهلاكهم بذنوبهم فيكون كناية عن عدم إمهالهم والإصغاء إلى ما لفقوه من المعاذير أو هيئوه من التذلل والإنابة ليرجو بذلك النجاة كما أن أولي الطول والقوة من البشر إذا أرادوا تعذيب من يتحكمون عليه سألوه عن ذنبه ليقضوا عليه بالجرم ثم العذاب ، وربما صرف المجرم بما لفقه من المعاذير عذابهم عن نفسه لكن الله سبحانه لعلمه بحقيقة الحال لا يسأل المجرمين عن ذنوبهم وإنما يقضي عليهم قضاء فيأتيهم عذاب غير مردود .
والظاهر على هذا أن تكون الجملة من تتمة التوبيخ السابق ويكون جوابا عن إسناده ثروته إلى علمه ، ومحصله أن المؤاخذة الإلهية ليست كمؤاخذة الناس حتى إذا لاموه أو نصحوه صرف عن نفسه ذلك بما لفقه من الجواب حتى ينتفع في ذلك بعلمه ، بل هو سبحانه عليم شهيد لا يسأل المجرم عن ذنبه وإنما يؤاخذه بذنبه ، وأيضا يؤاخذه بغتة وهولا يشعر .
هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية ولهم فيها أقاويل أخرى : فقيل : المراد بالعلم في قوله : {إنما أوتيته على علم عندي} علم التوراة فإنه كان أعلم بني إسرائيل بها .
وقيل : المراد علم الكيمياء وكان قد تعلمه من موسى ويوشع بن نون وكالب بن يوقنا والمراد بكون العلم عنده اختصاصه به دون سائر الناس وقد صنع به مقدارا كثيرا من الذهب .
وقيل : المراد بالعلم علم استخراج الكنوز والدفائن وقد استخرج به كنوزا ودفائن كثيرة .
وقيل : المراد بالعلم علم الله تعالى والمعنى : أوتيته على علم من الله وتخصيص منه قصدني به ، ومعنى قوله : {عندي} هو كذلك في ظني ورأيي .
وقيل : العلم علم الله لكنه بمعنى المعلوم ، والمعنى أوتيته على خير علمه الله تعالى عندي ، و{على} على جميع هذه الأقوال للاستعلاء وجوز أن تكون للتعليل .
وقيل : المراد بالسؤال في قوله : {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} سؤال يوم القيامة والمنفي سؤال الاستعلام لأن الله أعلم بذنوبهم لا حاجة له إلى السؤال والملائكة يعلمونها من صحائف أعمالهم ويعرفونهم بسيماهم وأما قوله تعالى : {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات : 24] فهو سؤال تقريع وتوبيخ لا سؤال استعلام ، ويمكن أن يكون السؤال في الآيتين بمعنى واحد والنفي والإثبات باعتبار اختلاف المواقف يوم القيامة فيسألون في موقف ولا يسألون في آخر فلا تناقض بين الآيتين .
وقيل : الضمير في قوله : {عن ذنوبهم} لمن هو أشد والمراد بالمجرمين غيرهم والمعنى : لا يسأل عن ذنوب من أهلكه الله من أهل القرون السابقة غيرهم من المجرمين .
وهذه كلها وجوه من التفسير لا يلائمها السياق .
قوله تعالى : {فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم} الحظ هو النصيب من السعادة والبخت .
وقوله : {يريدون الحياة الدنيا} أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم ليس لهم وراءها غاية فهم على جهل من الآخرة وما أعد الله لعباده فيها من الثواب قال تعالى : {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } [النجم : 29 ، 30] ولذلك عدوا ما أوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد وشرط .
قوله تعالى : {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا} إلخ ، الويل الهلاك ويستعمل للدعاء بالهلاك وزجرا عما لا يرتضي ، وهو في المقام زجرا عن التمني .
والقائلون بهذا القول هم المؤمنون أهل العلم بالله يخاطبون به أولئك الجهلة الذين تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون وعدوه سعادة عظيمة على الإطلاق ، ومرادهم أن ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا مما أوتي قارون فإن كانوا مؤمنين صالحين فليتمنوه .
وقوله : {ولا يلقاها إلا الصابرون} التلقية التفهيم والتلقي التفهم والأخذ ، والضمير - على ما قالوا - للكلمة المفهومة من السياق ، والمعنى : وما يفهم هذه الكلمة - وهي قولهم : ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا - إلا الصابرون .
وقيل : الضمير للسيرة أو الطريقة ومعنى تلقيها فهمها أو التوفيق للعمل بها .
والصابرون هم المتلبسون بالصبر عند الشدائد وعلى الطاعات وعن المعاصي ، ووجه كونهم هم المتلقين لهذه الكلمة أو السيرة أو الطريقة أن التصديق بكون ثواب الآخرة خيرا من الحظ الدنيوي - وهولا ينفك عن الإيمان والعمل الصالح الملازمين لترك كثير من الأهواء والحرمان عن كثير من المشتهيات - لا يتحقق إلا ممن له صفة الصبر على مرارة مخالفة الطبع وعصيان النفس الأمارة .
قوله تعالى : {فخسفنا به وبداره الأرض} إلى آخر الآية ، الضميران لقارون والجملة متفرعة على بغيه .
وقوله : {فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين} الفئة الجماعة يميل بعضهم إلى بعض ، وفي النصر والانتصار معنى المنع والامتناع ، ومحصل المعنى : فما كان له جماعة يمنعونه العذاب وما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذي يجلب إليه الخير ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه اللذان اكتسبهما بعلمه فلم يقه جمعه ولم تفده قوته من دون الله وبان أن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه .
فالفاء في قوله : {فما كان} لتفريع الجملة على قوله : {فخسفنا به} إلخ ، أي فظهر بخسفنا به وبداره الأرض بطلان ما كان يدعيه لنفسه من الاستحقاق والاستغناء عن الله سبحانه وأن الذي يجلب إليه الخير ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه وقد اكتسبهما بنبوغه العلمي .
قوله تعالى : {وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر} إلخ ، ذكروا أن {وي} كلمة تندم وربما تستعمل للتعجب وكلا المعنيين يقبلان الانطباق على المورد وإن كان التندم أسبق إلى الذهن .
وقوله : {كان الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر} اعتراف منهم ببطلان ما كان يزعمه قارون وهم يصدقونه أن القوة والجمع في الدنيا بنبوغ الإنسان في علمه وجودة تدبيره لا بفضل من الله سبحانه بل سعة الرزق وضيقه بمشية من الله .
والمقام مقام التحقيق دون التشبيه المناسب للشك والتردد لكنهم إنما استعملوا في كلامهم {كان} للدلالة على ابتداء ترددهم في قول قارون وقد قبلوه وصدقوه من قبل وهذه صنعة شائعة في الاستعمال .
والدليل على ذلك قولهم بعده : {لولا أن من الله علينا لخسف بنا} على طريق الجزم والتحقيق .
وقوله : {ويكأنه لا يفلح الكافرون} تندم منهم ثانيا وانتزاع مما كان لازم تمنيتهم مكان قارون .
قوله تعالى : {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} الآية وما بعدها بمنزلة النتيجة المستخرجة من القصة .
________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص60-66 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
الثّري الاسرائيلي البخيل :
جاء تفصيل قصّة موسى (عليه السلام) العجيبة ومواجهاته ومواقفه مع فرعون في قسم كبير من الآيات السابقة في هذه السورة . . وذكرنا الأقوال فيها ، وكان الكلام إلى حد ما كافياً عليها .
وفي القسم الآخر من آيات هذه السورة ، وقع الكلام على مواجهة بني إسرائيل مع رجل ثري منهم يدعى «قارون» .
قارون هذا كان مظهراً للثراء المقرون بالكبر والغرور والطغيان .
وأساساً ، فإنّ موسى (عليه السلام) واجه في طول حياته ثلث قوى استكبارية طاغوتية :
1 ـ «فرعون» الذي كان مظهراً للقوّة «والقدرة في الحكومة» .
2 ـ «قارون» الذي كان مظهراً للثروة والمال !
3 ـ «السامري» الذي كان مظهراً للنفاق والصناعة .
وبالرغم من أنّ أهم مواجهات موسى (عليه السلام) هي مواجهته لفرعون و«حكومته» إلاّ أَنّ مواجهتيه الأخيرتين لهما أهميّة كبيرة أيضاً ، وفيهما دروس ذات عبر ومحتوى كبير ! .
المعروف أن «قارون» كان من أرحام موسى وأقاربه «ابن عمه أو ابن خالته» وكان عارفاً بالتوراة ، وكان في بداية أمره مع المؤمنين ، إلاّ أنّ غرور الثروة جرّه إلى الكفر ودعاه إلى أن يقف بوجه موسى(عليه السلام) وأماته ميتة ذات عبرة للجميع ، حيث نقرأ شرح ذلك في الآيات التالية :
يقول القرآن في شأنه أوّلا : {إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم} وسبب بغيه وظلمه إنّه كان ذا ثروة عظيمة ، ولأنّه لم يكن يتمتع بايمان قوي وشخصية متينة فقد غرّته هذه الثروة الكبيرة وجرّته إلى الإنحراف والإستكبار .
يصف القرآن ما عنده من ثروة فيقول : {وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة} .
«المفاتح» جمع «مفتح» على زنة «مكتب» معناه المكان الذي يدخّر فيه الشيء ، كالصندوق الذي يحفظ فيه المال ، وهوما يسميه بعض التجار بـ «القاصة» .
فيكون المعنى : إنّ قارون كان ذا مال كثير ووفير من الذهب والفضّة ، بحيث كان يصعب حمل صناديقها على الرجال الأشداء {أولي القوّة} .
ومع ملاحظة كلمة «عصبة» التي تعني الجماعة المُتآزرة يداً بيد على الأمر المهم ، يتّضح حجم الذهب والفضة والمعادن الثمينة التي كانت عند قارون ، قال بعضهم : العصبة هي من عشرة رجال إلى أربعين رجلا .
وكلمة «تنوء» مشتقّة من «النوء» ومعناه القيام بمشقّة وثقل ، وتستعمل في حمل الاثقال التي لها ثقل ووزن كبير ، بحيث لو حملها الإنسان لمال إلى أحد جانبيه ! .
وهذا الذي بيّناه في «المفتاح» اتفق عليه جماعة من المفسّرين .
في حين أنّ بعضهم يرى أنّها جمع «مفتح» على زنة «مِنْبَر» وهو المفتاح الذي تفتح به الخزائن ، يقولون : إن خزائن قارون كانت من الكثرة إلى درجة إن مفاتيحها ينوء بحملها الرجال الأشداء .
والذين ذهبوا إلى هذا المعنى أتعبوا أنفسهم كثيراً في توجيهه ، إذ كيف يمكن تصور عدد هذه «المفتاح» بشكل هائل حتى لا يمكن حملها إلاّ بمشقّة وعناء بالغين . . وعلى كل حال فإنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر وأوضح بياناً . لأنّنا وإن سلّمنا على أن «مِفتَح ، بكسر الميم» تعني آلة الفتح أي «المفتاح» فإنّ أهل اللغة ذكروا لهذا الوزن (مِفتَح) معاني أُخرى منها «الخزانة» التي يجمع فيها المال ، فالمعنى الأوّل أقرب للواقع وبعيد عن المبالغة . فلا ينبغي الخلط بين «المفاتح» التي تعني الخزائن . و«المفاتيح» التي تعني آلات الفتح ، وهي جمع «مفتاح» (2) .
فلنتجاوز هذا البحث لنرى ما قال بنوا إسرائيل لقارون ، يقول القرآن في هذا الصدد : {إذ قال له قومه لا تفرح إنّ الله لا يحبّ الفرحين (3)} .
ثمّ يقدمون له أربع نصائح قيّمة أُخرى ذات تأثير مهم على مصير الإنسان ، بحيث تتكامل لديه حلقة خماسية من النصائح مع ما تقدم من قولهم له : {لا تفرح}
فالنصيحة الأُولى قولهم له : {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة} وهذا إشارة إلى أن المال والثروة ليس أمراً سيئاً كما يتصوره بعض المتوهّمين ، المهم أن تعرف فيم يستعمل المال ، وفي أي طريق ينفق ، فإذا ابتغي به الدار الآخرة فما أحسنه! أو كان وسيلة للعب والهوى والظلم والتجاوز ، فلا شيء أسوأ منه !
وهذا هو المنطق الذي ورد على لسان أمير المؤمنين(عليه السلام) في كلام معروف «من أبصر بها بصَّرته ومن أبصر إليها أعمته» (4) .
وكان قارون رجلا ذا قدرة على الأعمال الإجتماعية الكبيرة بسبب أمواله الطائلة ، ولكن ما الفائدة منها وقد أعماه غروره عن النظر إلى الحقائق .
والنصيحة الثّانية قولهم له : {ولا تنس نصيبك من الدنيا} والآية تشير إلى مسألة واقعيّة ، وهي أنّ لكل فرد منّا نصيباً من الدنيا ، فالأموال التي يصرفها على بدنه وثيابه ليظهر بمظهر لائق هي أموال محدودة ، وما زاد عليها لا تزيد مظهره شيئاً ، وعلى الإنسان أن لا ينسى هذه الحقيقة ! . . . فالإنسان . . . كم يستطيع أن يأكل من الطعام ؟ ولم يستطيع أن يلبس من الثياب؟ وكم يمكن أن يحوز من المساكن والمراكب ؟! وإذا مات وكم يستطيع أن يأخذ معه من الأكفان ؟!
فالباقي ـ إذن ـ رضي أم أبى هومن نصيب الآخرين .
وما أجمل قول الإمام علي (عليه السلام) : «يابن آدم ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك» (5) .
وهناك تفسير آخر لهذه الجملة في الرّوايات الإسلامية وكلمات المفسّرين ، ويمكن التوفيق بين هذا التّفسير والتّفسير السابق (لأنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى جائز) .
إذ ورد في تفسير {ولا تنس نصيبك من الدنيا} عن الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) أنّه قال : «لا تنس صحتك وقدرتك وفراغك وشبابك ونشاطك أن تطلب بها الآخرة» (6) .
وطبقاً لهذا التّفسير فالعبارة المتقدمة بمثابة التنبيه لجميع الناس ، لئلا يضيعوا أوقاتهم وفرصهم فإنّها تمر مرّ السحاب .
والنصيحة الثّالثة هي {وأحسن كما أحسن الله إليك} .
وهذه حقيقة أُخرى ، وهي أَن الإنسان يرجو دائماً نعم الله واحسانه وخيره ولطفه ، وينتظر منه كل شيء . فبمثل هذه الحال كيف يمكن له التغاضي عن طلب الآخرين الصريح أو لسان حالهم . . وكيف لا يلتفت إليهم ! .
وبتعبير آخر : كما أنّ الله تفضل عليك وأحسن ، فأحسن أنت إلى الناس .
وشبيه هذا الكلام نجده في الآية (22) من سورة النور في شأن العفو والصفح ، إذ تقول الآية : {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } [النور : 22] .
ويمكن تفسير هذه الجملة بتعبير آخر ، وهو أنّ الله قد يهب الإنسان مواهب عظيمة لا يحتاج إليها جميعاً في حياته الشخصيّة فقد وهبه العقل والقدرة التي لا تدير فرداً واحداً فحسب ، بل تكفي لإدارة بلد أيضاً ووهبه علماً لا يستفيد منه إنسان واحد فقط ، بل ينتفع به مجتمع كامل .
أعطاه مالا وثروة لتنفيذ المناهج الإجتماعية .
فهذه المواهب الإلهية مفهومها الضمني أنّها لا تتعلق بك وحدك ـ أيّها الإنسان ـ بل أنت وكيل مخوّل من قبل الله لنقلها إلى الآخرين ، أعطاك الله هذه المواهب لتدير بها عباده ! .
والنصيحة الرابعة والأخيرة أن لا تغرنّك هذه الاموال والامكانات المادية فتجرّك الى الفساد . {ولا تبغ الفساد في الآرض إنّ الله لا يحبّ المفسدين} .
وهذا أيضاً حقيقة واقعية أُخرى ، إنّ كثيراً من الأثرياء وعلى أثر جنون زيادة المال ـ أحياناً ـ أو طلباً للاستعلاء ، يفسدون في المجتمع ، فيجرّون إلى الفقر والحرمان ، ويحتكرون جميع الأشياء في أيديهم ، ويتصورون أنّ الناس عبيدهم ومماليكهم ، ومن يعترض عليهم فمصيره الموت ، وإذا لم يستطيعوا إتهامه أو الإساءة إليه بشكل صريح ، فإنّهم يجعلونه معزولا عن المجتمع بأساليبهم وطرائقهم الخاصة . . .
والخلاصة : إنّهم يجرون المجتمع إلى الفساد والإنحراف .
وفي كلام جامع موجز نصل إلى أن هؤلاء الناصحين سعوا أولا إلى أن يكبحوا غرور قارون ! .
ثمّ نبهوه أَن الدنيا إنّما هي وسيلة ـ لا هدف ـ في مرحلتهم الثّانية .
وفي المرحلة الثّالثة أنذروه بأن ما عندك تستفيد من قسم قليل منه ، والباقي لغيرك .
وفي المرحلة الرابعة أفهموه هذه الحقيقة ، وهي أن لا ينسى الله الذي أحسن إليه فعليه أن يحسن إلى الآخرين . . وإلاّ فإنّهُ يسلب مواهبه منك .
وفي المرحلة الخامسة حذروه من أن مغبة الفساد في الأرض الذي يقع نتيجة نسيان الأصول الأربعة آنفة الذكر .
وليس من المعلوم بدقّة من هم الناصحون لقارون يومئذ ولكن القدر المسلم به أنّهم رجال علماء متقون ، أذكياء ، ذوو نجدة وشهامة ، عارفون للمسائل الدقيقة الغامضة ! .
ولكن الاعتقاد بأنّ الناصح لقارون هو موسى (عليه السلام) نفسه بعيد جدّاً ، لأنّ القرآن يعبّر عن من قدم النصح بصيغة الجماعة {إذ قال له قومه} .
والآن لنلاحظ ما كان جواب هذا الإنسان الباغي والظالم الإسرائيلي لجماعته الواعظين له ! .
فأجابهم قارون بتلك الحالة من الغرور والتكبر الناشئة من ثروته الكبيرة ، و {قال إنّما أوتيته على علم عندي} .
هذا لا يتعلق بكم ، وليس لكم حق أن ترشدوني إلى كيفية التصرف بمالي ، فقد أوجدته بعلمي وإطلاعي .
ثمّ إنّ الله يعرف حالي ويعلم أنّي جدير بهذا المال الذي أعطانيه ، وعلمني كيف أتصرف به ، فلا حاجة إلى تدخلكم! .
وبعد هذا كله فقد تعبت وبذلت جهوداً كبيرة في سبيل جمع هذا المال ، فإذا كان الآخرون جديرين بالمال ، فلم لا يتعبون ويجهدون أنفسهم؟ فلست مضايقاً لهم ، وإذا لم يكونوا جديرين ، فليجوعوا وليموتوا فهو أفضل لهم (7) .
هذا المنطق العفن المفضوح طالما يردده الأثرياء الذين لا حظّ لهم من الإيمان أمام من ينصحهم .
وهذه اللطيفة جديرة بالإلتفات وهي أن القرآن لم يصرّح بالعلم الذي كان عند قارون وأبقاه مبهماً ، ولم يذكر أي علم كان عند قارون حتى استطاع بسببه على هذه الثروة الطائلة ! .
أهو علم الكيمياء ، كما فسّره بعضهم .
أم هو علم التجارة والصناعة والزراعة .
أم علم الإدارة الخاص به ، الذي استطاع بواسطته أَن يجمع هذه الثروة العظيمة .
أم جميع هذه العلومِ !
لا يبعد أن يكون مفهوم الآية واسعاً وشاملا لجميع هذه العلوم «بالطبع بصرف النظر عن أَن علم الكيمياء علم يستطاع بواسطته قلب النحاس وأمثاله ذهباً ، وهل هو خرافة أم حقيقة واقعية» ؟
وهنا يجيب القرآن على قول قارون وأمثاله من المتكبرين الضالين ، فيقول : {أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوّة وأكثر جمعاً} .
أتقول : {إنّما أوتيته على علم عندي} ونسيت من كان أكثر منك علماً وأشدّ قوّة وأثرى مالا ، فهل استطاعوا أن يفروا من قبضة العذاب الإلهي ؟!
لقد عبّر اولو الالباب والضمائر الحيّة عن المال بقولهم لقارون : {ما آتاك الله} ، ولكن هذا الغافل غير المؤدّب ردّ على قولهم بأنّ ما عنده من مال فهو بواسطة علمه !!
لكن الله سبحانه عبّر عن حقارة قوّته وقدرته أمام إرادته ومشيئته جلّو علا بالعبارة المتقدمة آنفاً .
وفي ختام الآية إنذار ذو معنى كبير آخر لقارون ، جاء في غاية الإيجاز : {ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون} .
فلا مجال للسؤال والجواب ، فالعذاب واقع ـ لا محالة ـ بصورة قطعيّة ومؤلمة ، وهو عذاب فجائي مُدمّر ! .
وبعبارة أُخرى أن العلماء من بني إسرائيل نصحوا قارون هذا اليوم وكان لديه مجال والجواب ، لكن بعد إتمام الحجة ونزول العذاب الإلهي ، عندئذ لا مجال للتفكير والجواب ، فاذا حلّ العذاب الالهي بساحته فهو الهلاك الحتمي .
هنا يرد سؤال حول الآية التي تقول : {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} أي سؤال هذا الذي نفاه الله أهو في الدنيا أم في الآخرة ؟!
قال بعض المفسّرين : إنّ المقصود بعدم السؤال هو في الدنيا ، وقال بعضهم : بل المقصود أنّه في الآخرة! لكن لا مانع من أن يكون عدم السؤال في الدارين «الدنيا والأخرة» .
أي لا يسألون حال نزول العذاب في الدنيا ، لئلا يدافعوا عن أنفسهم ويبرئوا ساحتهم ، ويظهروا الأعذار تلوا الأعذار . ولا يُسألون يوم القيامة ـ أيضاً ـ لأنّ يوم القيامة لا يبقى فيه شيء خافياً ، فكل شيء واضح ، وكما يعبّر القرآن تعبيراً دقيقاً في هذا الصدد {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن : 41] .
وكذلك فإنّ الآية ـ محل البحث ـ {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} منسجمة تمام الإنسجام مع الآية من سورة الرحمن إذ تقول : {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جانٌ} .
هنا ينقدح سؤال آخر ، وهو كيف يسنجم هذا التعبير في القرآن مع قوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر : 92] .
ويمكن الإجابة على هذا السؤال عن طريقين :
الأوّل : إنّ المواقف في يوم القيامة متعددة ، ففي بعضها يقع السؤال والجواب وفي بعض المواقف لا حاجة للسؤال ، لأنّ الحجب مكشوفة ، وكل شيء واضح هناك .
الثّاني : إنّ السؤال عادة نوعان . . «سؤال تحقيق» و«سؤال توبيخ» فليس في يوم القيامة سؤال للتحقيق ، لأنّ كل شيء هناك مكشوف عياناً وواضح دون لبس . ولكن يوجد هناك سؤال توبيخ وهو بنفسه نوع من العذاب النفسي للمجرمين .
وينطبق هذا تماماً في ما لو سأل الأب ابنه غير المؤدب : ألم أقدم لك كل هذه الخدمات . . . أهذا جزاء ما قدمت ؟! في حين أن كلا من الأب والابن يعرفان الحقيقة ، وأن قصد الأب من سؤاله لإبنه هو التوبيخ لا غير ! .
وقوله تعالى : {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [القصص : 79 - 82]
جنون الثّروة :
المعروف أَن أصحاب الثروة يبتلون بأنواع الجنون . . . وواحد منها «جنون عرض الثروة وإظهارها» فهؤلاء يشعرون باللذة عندما يعرضون ثروتهم على الآخرين ، وحين يعبرون على مركب غال وثير ويمرّون بين حفاة الأقدام فيتصاعد الغبار والاتربة لينتشر على وجوههم ، ويحقّرونهم بذلك ، فحينئذ يشعرون بالراحة النفسية والنشوة تدغدغ قلوبهم . .
وبالرغم من أَن عرض الثروة هذا غالباً ما يكون سبباً للبلاء عليهم ، لأنّه يربي الأحقاد في الصدور ويعبىء الحساسيّات ضده ، وكثيراً ما ينهي هذا العمل الرديء حياة الإنسان ، أو يزيل ثروته مع الريح ! .
ولعل هذا الجنون يحمل هدفاً من قبيل اغراء الطامعين وتسليم الأفراد المعاندين ولكن الأثرياء غالباً ما يقومون بهذا العمل دون هدف ، لأنّه نوع من الهوى والهوس وليس خطة أو برنامجاً معيناً .
وعلى كل حال فإن قارون لم يكن مستثنى من هذا القانون ، بل كان يعدّ مثلا بارزاً له ، والقرآن يتحدث عنه في جملة موجزة في بعض آياته فيقول : (فخرج على قومه في زينته} . امام قومه من بني اسرائيل .
والتعبير بـ «في زينته» ناطق عن هذه الحقيقة ، وهي أنّه أظهر جميع قدرته وقوته ليبدي ما لديه من زينة وثروة .
ومعلوم طبعاً إنّ رجلا بهذه المثابة من الثروة ماذا يستطيع أن يفعل !؟
وينقل في التاريخ ـ في هذا الصدد قصص كثيرة ـ مقرونة بالأساطير أحياناً ، فإنّ بعضهم يكتب أنّ قارون خرج في استعراض كبير ، وقد أركب أربعة آلاف نفر على أربعة آلاف فرس حُمر «غالية القيمة» مغطاة بالقماش الفاخر ، وقد ملأها زينة من الذهب والجواهر الأُخرى ، فمرّ بهذا الإستعراض على بني إسرائيل . . وقد أثار هذا المنظر الناس ، إذ رأوا أربعة آلاف من الخدم ابيض يلبسون ثياباً حُمراً مع زينتهم .
وقال بعضهم : بل بلغ عدد هؤلاء «الخدم والحشم» سبعة آلاف نفر ، وذكروا أخباراً أُخرى في هذا الصدد .
ولو فرضنا أن كل ذلك مبالغ فيه ، إلاّ أنّه لا يمكن إنكار هذه الحقيقة ، وهي أَن قارون لديه ثروات مهمّة أظهرها في زينته ! هنا أصبح الناس طائفتين ـ بحسب العادة فطائفة وهم الأكثرية ـ من عبدة الدنيا ـ أثارهم هذا المشهد ، فاهتزت قلوبهم وتأوهوا بالحسرات وتمنوا لو كانوا مكان قارون ولو يوماً واحداً ولوساعة واحدة وحتى ولو لحظة! واحدة . . .
فأيّة حياة عذبة جميلة هذه الحياة التي تهب اللذات والنشاط . . . {قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنّه لذو حظ عظيم} .
هنيئاً لقارون ولثروته العظيمة ! . . وما أعظم جلاله وعزّته . . ولا نظن في التاريخ أحداً أعطاه الله ما أعطى قارون . . وما إلى ذلك من الكلمات .
وهنا جاء دور الامتحان الالهي العظيم فمن جانب نجد قارون عليه أن يؤدي امتحانه في غروره وطيشه ! ومن جانب آخر من بهرهم مشهده الذين أحاطوا به ـ من بني إسرائيل ـ .
وبالطبع فإنّ العقاب الأليم هو العقاب الذي سيقع بعد هذا العرض المثير ، وهو أن يهوي قارون من أوج العظمة إلى قعر الأرض إذ تنخسف به الأرض على حين غرّة ! .
لكن أمام هذه الطائفة التي ذكرناها آنفاً طائفة أُخرى من العلماء والمتقين الورعين ، سمت آفاقهم عن مثل هذه المسائل ، وكانوا حاضرين حينئذ و«المشهد» يمرّ من أمامهم .
هؤلاء الرجال لا يقوّمون الشخصية بالذهب والقوّة ، ولا يبحثون عن القيم في الأُمور الماديّة . لا تبهرهم هذه المظاهر ، بل يسخرون منها ويتبسمون تبسم استهزاء وازدراء ! ويحقّرون هذه الرؤوس الفارغة .
فهؤلاء كانوا هناك ، وكان لهم موقف آخر من قارون ، وكما يعبر عنهم القرآن {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً} ثمّ أردفوا مؤكّدين {ولا يلقّاها إلاّ الصابرون} .
أُولئك الذين لا تهزّهم زخارف الدنيا وزبارجها ، ويقفون في استقامة ـ برجولة وشهامة ـ امام الحرمان ، ولا يطأطئون رؤوسهم للاراذل ويقفون كالجبال الرواسي في الامتحان الإلهي ـ امتحان الثروة والمال والخوف والمصيبة . . . وهؤلاء هم الجديرون بثواب الله سبحانه ! .
ومن المسلم به أنّه المقصود بجملة {الذين أوتوا العلم} هم علماء بني إسرائيل ، ومن بينهم «يوشع» وهومن كبار رجالهم .
غير أنّ الطريف في الأمر أن القرآن عبّر عن الطائفة الأُولى بجملة {الذين يريدون الحياة الدنيا} لكنّه لم يعبر عن الطائفة الثّانية بأنّهم «الذين يريدون الحياة الاخرة» بل عبر عنهم بـ {الذين أوتوا العلم} فحسب ، لأنّ العلم هو أساس كل شيء وجذر الإيمان والاستقامة والعشق للثواب الإلهي والدار الآخرة . .
كما أن التعبير بـ {الذين أوتوا العلم} هو جواب دامغ ـ ضمناً ـ لقارون الذي يدّعي العلم ، فالقرآن يريد أن يبيّن أن العلماء هم هؤلاء الذين لا يريدون الحياة الدنيا ، أمّا أنت يا قارون فمغرور وطائش ! .
وهكذا نرى مرّة أُخرى أنّ أساس البركات والخيرات هو العلم الحقيقي .
لقد أوصل قارون بعمله هذا طغيانه وعناده إلى الدرجة القصوى ، غير أن ما ورد في التواريخ حكاية منقولة عن قارون تدل على منتهى الخسة وعدم الحياء! ننقلها هنا حسب تفصيلها ! .
فقال له موسى (عليه السلام) إنّ الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال : إنّ موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا : لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم : أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها اليه فترميه بأنّه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها : نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنّه فجر بك قالت نعم .
فجاء قارون إلى موسى (عليه السلام) قال : اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربّك قال : نعم ، فجمعهم فقالوا له : بم أمرك ربّك ؟ قال : أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم . قالوا : وإن كنت أنت ؟ قال : نعم . قالوا : فإنّك قد زنيت ، قال : أنا ؟
فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا : ما تشهدين على موسى ؟ فقال لها موسى (عليه السلام) أنشدتك بالله إلاّ ما صدقت . قالت : أمّا إذا نشدتني فإنّهم دعوني وجعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنّك بريء وأنّك رسول الله . فخرّ موسى (عليه السلام) ساجداً يبكي فأوحى الله إليه : ما يبكيك ؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك ، فرفع رأسه فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى فقال : خذيهم فغيّبتهم فأوحى الله : «يا موسى سألك عبادي وتضرّعوا إليك فلم تجبهم فو عزّتي لو أنّهم دعوني لأجبتهم» .
يقول القرآن الكريم في هذا الصدد {فخسفنا به وبداره الأرض} .
أجل حين يبلغ الطغيان والغرور وتحقير المؤمنين الأبرياء والمؤامرّة ضد نبي الله أوجها ، تتجلى قدرة الله تعالى وتطوي حياة الطغاة . . . وتدمرهم تدميراً يكون عبرة للآخرين .
مسألة «الخسف» هنا التي تعني انشقاق الأرض وابتلاع ما عليها ، حدثت على مدى التاريخ عدّة مرات . . إذ تتزلزل الأرض ثمّ تنشقّ وتبتلع مدينة كاملة أو عمارات سكنية داخلها ، لكن هذا الخسف الذي حدث لقارون يختلف عن تلك الموارد . . هذا الخسف كان طعمته قارون وخزائنه فحسب ! .
يا للعجب ! . . ففرعون يهوي في ماء النيل! . . وقارون في أعماق الأرض ! .
الماء الذي هو سرّ الحياة وأساسها يكون مأموراً بهلاك فرعون .
والأرض التي هي مهاد الإطمئنان والدعة تنقلب قبراً لقارون واتباعه ! ومن البديهي أنّ قارون لم يكن لوحده في ذلك البيت فقد كان معه أعوانه وندماءه ومن أعانه على ظلمه وطغيانه ، وهكذا توغلوا في اعماق الارض جميعاً .
{فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين} . . .
فلم يخلصه أصدقاؤه ، ولا الذين كانوا يحملون أمتعته ولا أمواله ولا أي أحد من عذاب الله ، ومضى قارون وأمواله ومن معه في قعر الأرض !
أمّا آخر آية ـ محل البحث ـ فتحكى عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون : ياليت لنا مثل ما أوتي قارون ، وما شابه ذلك ! . وإذا هم اليوم يقولون : واهاً له ، فإنّ الرزق بيد الله {فأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الزرق لمن يشاء من عباده ويقدر} .
لقد ثبت عندنا اليوم أن ليس لأحد شيء من عنده ! فكلّ ما هو موجود فمن الله ، فلا عطاؤه دليل على رضاه عن العبد ، ولا منعه دليل على تفاهة عبده عنده ! .
فالله تعالى يمتحن بهذه الأموال والثروة عباده أفراداً وأقواماً ، ويكشف سريرتهم ونيّاتهم .
ثمّ أخذوا يفكرون في ما لو أجيب دعاؤهم الذي كانوا يصرون عليه ، وأعطاهم الله هذا المال ، ثمّ هووا كما هوى قارون ، فماذا يكون قد نفعهم المال ؟
لذلك شكروا الله على هذه النعمة وقالوا : {لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنّه لا يفلح الكافرون} .
فالآن نرى الحقيقة بأعيننا ، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة ! . ونعرف أن أمثال هذه الحياة المثيرة للقلوب بمظاهرها الخداعة ، ما أوحشها ! وما أسوأ عاقبتها ! .
ويتّضح من الجملة الأخيرة في هذه القصّة ـ ضمناً ـ أنّ قارون المغرور مات كافراً غير مؤمن ، بالرغم من أنّه كان يعدّ عارفاً بالتوراة قارئاً لها ، وعالماً من بني إسرائيل ومن أقارب موسى .
______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج9 ، ص622-634 .
2 ـ فسّر بعضهم «المفتاح» تفسيراً آخر ، وهو أنّ الإتيان بالمفتاح لحفظ الأموال وجمعها كان صعباً على الرجال الأشداء ، ولكن هذا التفسير بعيد جدّاً «فلا بأس بمراجعة لسان العرب لزيادة الإيضاح» .
3 ـ كلمة «الفرحين» جمع الفرح ، وتعني من يكون مغروراً على أثر تملكه الشيء ومتكبراً بطراً منتشياً من ريح النّصر .
4 ـ نهج البلاغة ، خطبة 82 .
5 ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار جملة 192 .
6 ـ معاني الأخبار ، مطابق تفسير نور الثقلين ، ج 4 ، ص 139 .
7 ـ جملة {إنّما أوتيته على علم عندي} تصلح للمعاني الثلاثة المتقدمة جميعاً ، كما أنّها تصلح لاي واحد منها كما فسروا (فتأملوا بدقّة) .