بقلم: إسلام سعدون النصراويّ.
العشيرة شالته بحر الظهيرة
الكل منهم شالته الغيرة
بس ظلوا الماعدهم عشيرة
ضحايا اعلى الترب من غير تغسيل
في هذهِ الأبياتِ الشعبيّةِ البسيطةِ أوجزَ الشَّاعرُ ما انْجَلَتْ عنهُ الغَبَرَةُ بعدَ ظهيرةِ العاشرِ مِن المحرَّمِ الحرامِ، فبعدَ مجيءِ عشيرةِ الحُرِّ الرّياحيِّ وأخْذِ جثمانِهِ الطاهِرِ بقيَ الإمامُ الحسينُ (صلواتُ الله عليه) طريحًا على رمضاءِ كربلاءَ، جسدًا بلا رأسٍ، معَ سائرِ أبنائِهِ وإخوتِهِ وآلِ بيتِهِ وأصحابِهِ المنتجبينَ (عليهم السلام) تصهرُهُم حرارةُ الشّمسِ الحارقة.
بقيَتْ الأجسادُ الطاهرةُ ثلاثةَ أيّامٍ حتّى صبيحةِ اليومِ الثالثِ عشر مِن المحرَّمِ حيثُ جاءَ بنو أسدٍ فزعينَ مضطربينَ لا يدرُونَ ما يصنعُونَ؛ فهناكَ جسدٌ بلا رأسٍ وآخَرُ بلا كفَّينِ..
اختلاطُ الأشلاءِ الطاهرةِ أعجزَ كلَّ الحاضرينَ حتّى بانَ رجلٌ ـ وهو الإمامُ السجّادُ صلواتُ اللهِ عليه ـ أخذَ يُوَجِّهُهُم بعملِ المواضعِ ويحتسبُ اللهَ في قَتْلاه، ويقولُ: لا حولَ ولا قوّةَ إلّا باللهِ العليِّ العظيمِ.
وحينَمَا أكملَ (عليه السلام) دَفْنَ الأجسادِ الطاهرةِ عرّفَهُم بنفسِهِ الشَّريفةِ.
وقد ذكرَ أربابُ السِّيَرِ والمقاتِلِ أنَّ الإمامَ زينَ العابدينَ (عليه السلام) أشرَكَ عشيرةَ بني أسدٍ في دَفْنِ الأجسادِ الطاهرةِ إلّا جسدَ أبيه الحسين (صلواتُ اللهِ عليه) فقد تولّى بنفسِهِ دَفْنَهُ، وقالَ لهم: (إنَّ معي مَن يُعينُنِي) وهي إشارة منه بأنّه لا يُواري المعصومَ غيرُ المعصومِ.
ولمّا فرغَ وعرَّفَهُم بمواضعِ الشُّهداءِ (طلبَ إليهم أن يقومُوا بضيافةِ الزائرينَ ودلالتِهِم وتعريفِهِم ثُمَّ ودَّعَهُم وعادَ إلى سجنِ عُبيدِ الله بنِ زيادٍ ليلاً دُونَ أن يشعرَ بِهِ الحُرَّاسُ) (1).
وهكذا أصبحَ هذا اليومُ شعارَ بني أسدٍ في كلِّ عامٍ يُحيُونَ فيه مراسمَ دفنِ الأجسادِ الطاهرةِ بموكبٍ مهيبٍ تُسانِدُهُم العشائرُ العراقيّةُ الأصيلةُ لتعلنَ الحدادَ الدائمَ حتّى ظهورِ القائمِ (عجّل الله فرجه الشريف) فيكونونَ طوعَ أمرِهِ وتحتَ لوائِهِ، وهُم ممتثلُونَ لِمَا أوصاهُم إمامُهُم بأن يَقرُوا الضيفَ ويُعرِّفُوا زائرِي أبِي عبدِ الله (عليه السلام) بموضعِ قَبْرِهِ الشريفِ..
وهذا كانَ وعدًا مِن اللهِ تعالى لرسولِه (صلّى الله عليه وآله) بأن يبعثَ أُناسًا ((لاَ يَعْرِفُهُمُ اَلْكُفَّارُ لَمْ يَشْركُوا فِي تِلْكَ اَلدِّمَاءِ بِقَوْلٍ وَلاَ فِعْلٍ وَلاَ نِيَّةٍ، فَيُوَارُونَ أَجْسَامَهُمْ، وَيُقِيمُونَ رَسْمًا لِقَبْرِ سَيِّدِ اَلشُّهَدَاءِ بِتِلْكَ اَلْبَطْحَاءِ يَكُونُ عَلَمًا لِأَهْلِ اَلْحَقِّ، وَسَبَبًا لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى اَلْفَوْزِ، وَتَحُفُّهُ مَلاَئِكَةٌ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ، مِائَةُ أَلْفِ مَلَكٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَيُسَبِّحُونَ اَللَّهَ عِنْدَهُ، وَيَسْتَغْفِرُونَ اَللَّهَ لِزُوَّارِهِ...)) (2).
______________
(1) مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب للشيخ عبد الوهاب الكاشي: ص179.
(2) بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج28، ص 59 ـ 60.