لو أن بحار الدنيا اجتمعت، وأقلام الخلائق أُبريت، ومداد السماوات سُكِبَ على أوراق الوجود، وسُخّرت أعمار الأجيال في الكتابة، لما أوفت حق جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام).
هو العلم إذا نطق، والحكمة إذا تجلّت، والقرآن إذا تُرجم إلى إنسان.
هو من حمل إرث النبوة ولبّ الإمامة، ففاضت ينابيع المعرفة من قلبه، وتشرّبت العقول من معينه الصافي ما لم تبلغه في قرون. كيف يُحصى فضلُ من كانت الملائكة تزدحم على بابه، والنجوم تغار من نوره، والحق يلوذ ببيانههو جعفر، الصادق باسمه، الهادي بفعله، الحارس لتراث محمد، والممهّد لغيبة ابن الحسن (عجل الله فرجه الشريف).
سلامٌ عليه ما أشرقت شمس، وما سجعت حمامة، وما خطّ قلم في سبيل الهدى.
حياة علمية وعقائدية في ظل التمهيد للإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف).
يُعدّ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) من أبرز أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، لما امتازت به مرحلته من انفتاح علمي واسع وتحديات فكرية حادة، إلى جانب دوره المحوري في ترسيخ معالم العقيدة، خاصةً في ما يتعلق بإمامة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) وغيبته، والتصدي لمنكريها.
أولاً: حياته وظروف عصره
وُلد الإمام الصادق (عليه السلام) سنة 83 هـ، واستشهد سنة 148 هـ، وبهذا يكون قد عاصر ضعف الدولة الأموية وسقوطها وصعود الدولة العباسية. وقد استغلّ الإمام هذه المرحلة لنشر علوم أهل البيت، فأسس أعظم مدرسة علمية شهدها الإسلام، وقد خرّجت آلاف التلاميذ، كما ورد (في ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ٣ -الصفحة ٢١٠٢) . قال الإمام الصادق (عليه السلام): ليس العلم بالتعلم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أولا في نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك.
ثانياً: علمه ومكانته العلمية
عرف الناس الإمام الصادق (عليه السلام) كبحر لا ينضب من العلوم. وقد قال فيه الإمام مالك بن أنس: "ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد علماً وعبادةً" (بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٧ - الصفحة ٢٨).
كان حريصًا على بناء جيل من العلماء الذين يحملون فكر أهل البيت وينقلونه للأمة، وقد وثّق العلامة المجلسي - ج ٢ - الصفحة ١٧٩: عليه السلام قال : حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، و حديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله قول الله عز وجل.
ثالثاً: دوره في ترسيخ العقيدة المهدوية
أكّد الإمام الصادق (عليه السلام) مراراً على وجود الإمام الثاني عشر من ولده، وغيبته، وضرورة الثبات على الإيمان به، وقد روى النعماني في كتاب الغيبة (ص 174) بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "إن لصاحب هذا الأمر غيبتين، إحداهما تطول حتى يقول بعضهم مات، وبعضهم يقول قُتل، وبعضهم يقول ذهب، حتى لا يبقى على أمره من أصحابه إلا نفر يسير، لا يطّلع على موضعه أحد من ولي ولا غيره، إلا المولى الذي يلي أمره".
وفي كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني - ج ١ - الصفحة ٣٠٥ قال الإمام الصادق (عليه السلام): "إن القائم منّا إذا قام استقبل من جهال الناس أشد مما استقبله رسول الله (صلى الله عليه وآله) من جهال الجاهلية".
رابعاً: التصدي لمنكري الغيبة
كان الإمام واضحًا في رفض الشكوك التي أُثيرت حول الغيبة وإمكانية استمرار حياة الإمام الحجة (عجل الله فرجه). وقد قال من أقر بجميع الأئمة عليهم السلام وجحد المهدي كان كمن أقر بجميع الأنبياء وجحد محمدا صلى الله عليه وآله نبوته. فقيل يا بن رسول الله ممن المهدي من ولدك قال: الخامس من ولد السابع يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته.(بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٥١ - الصفحة ١٤٣). كما جاء في كمال الدين وتمام النعمة - للشيخ الجليل الأقدم الصدوق - ج ١ - الصفحة ٤٤٠ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : "من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني".
خامساً: الرد على الغلاة والمنحرفين
أبرز الإمام الصادق (عليه السلام) الحدود العقائدية الواضحة لأتباعه، وواجه الغلاة ومنكري الإمامة بكل قوة، فقد ورد عنه في بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢٥ - الصفحة ٢٩٧ أنه قال: "لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، ولعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا".
الخاتمة
لقد اضطلع الإمام الصادق (عليه السلام) بدورٍ جوهريّ في ترسيخ دعائم العقيدة المهدوية، فكان كالنور الذي يسبق الفجر، يُمهّد للطلعة الموعودة، ويكشف عن معالم الإمام الغائب (عجل الله فرجه) ببيانٍ شافٍ ورواياتٍ وافية، حتى كأنّ الغيب قد انجلى في كلماته، وارتسمت ملامح المنتظر في نفوس المؤمنين من خلال وصاياه وتعاليمه.
فما كان ذكره للإمام المهدي (عجل الله فرجه) حديثَ عابرٍ ولا عرضًا هامشيًا، بل كان نَفَسًا مستمرًا في كل مجلس، وروحًا تسري في طيات كلماته، يُحيي بها القلوب، ويوقظ بها الضمائر، ويزرع بها الأمل في غدٍ موعود. لقد حمل الراية بيد العلم، ورفعها ببيانٍ حكيم، حتى أشرقت أنوار الإمام المنتظر في عقول الأتباع وقلوب المحبين، فغدَت القضية المهدوية عندهم يقينًا لا يزول، وانتظارًا حيًّا لا يخبو.
واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين...







وائل الوائلي
منذ 23 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN