أكّد المتولّي الشرعيّ للعتبة العبّاسية المقدّسة سماحة السيد أحمد الصافي (دام عزّه) أنّ التراث يمثّل هويّةً نعتزّ بها، والأمّة بلا تراث أمّةٌ مقطوعة النسب، وهذا التراث مداد العلماء الذين نحن الآن لا نعتزّ بهم فقط وإنّما نتشرّف بهم ولولاهم لكنّا في حالة غير هذه الحالة..
جاء ذلك خلال الكلمة التي ألقاها في حفل افتتاح المعرض التراثيّ السنويّ الأوّل (تراثُنا هويّتنا) الذي أقامه قسمُ شؤون المعارف الإسلاميّة والإنسانيّة في العتبة العبّاسية المقدّسة.
وممّا جاء فيها أيضاً: "ما أكثر ما كتب الأوائل وما أجمل ما كتبوا وما نمّقوا وما أقدس ما عملوا في ظروف صعبة، كانوا يقدّمون ما كتبوا على ما يأكلون، وهذا التاريخ الحافل هو تراثنا الذي نعتزّ به، ولعلّ طالب العلم عندما يتشرّف بدراسة العلوم الدينيّة سيستنصح الأساتذة الذين سبقوه فلعلّه يسمع منهم جملاً وكلمات تقول له اقرأ تأريخ العلماء الذين كانوا من قبلك، فإنّ هذه القراءة وهذا الفهم سيزيدُك تمسّكاً بما عندك وستشعر أيضاً بقيمة التضحيات التي بذلها الأوائل من أجل أن نقرأ الآن بكلّ يسر وسهولة، وبعض الذي نقرأه يصعب الآن تصديقه لكنّه أمرٌ واقع، الذنب ليس ذنبهم الذنب ذنبنا عندما لا نستطيع أن نتفهّم ذلك الدور الصعب الذي خطّته أنامل العلماء الأعلام".
وأضاف: "عندما نمرّ على بعضهم ونرى أنّه كان لا يملك –مثلاً- مالاً لزيت سراجه الخاصّ، فإنّه لا يأوي الى فراشه الخاصّ وإنّما كان يذهب الى أماكن عامّة يُمكن أن يقرأ عليها، أو كان البعض يسهر الليل ويقرأ على ضوء القمر، والحقيقة أنّ ضوء القمر يُقرأ عليه لكن بصعوبةٍ بالغة جدّاً بحيث تعجّل بتعب عينيه لكنّهم كانوا يفعلون".
وأكّد السيد الصافي: "هذا التراث مدادُ العلماء الذين لا نعتزّ بهم فقط وإنّما نتشرّف بهم، ولولاهم لكنّا في حالةٍ غير هذه الحالة، بالإضافة الى هذا المداد كانت هناك أنهر دمٍ أيضاً دفعها العلماء(رضوان الله تعالى عليهم) ثمناً للحقّ وللكتابة، ولو أردنا أن نعدّد الشهداء من العلماء أيضاً لطال بنا المقام، ولعلّ البعض عندما ألّف ذكر الكثير منهم أنّهم استشهدوا وخلّفوا لنا ثروةً بل ثروات علميّة كبيرة، والى الآن الحوزات العلميّة شاهدة على ما كتبوا، هذا ما صنع الأوائل والغائب عنّا أكثر، محاولة مكمّلة لما صنع الأوائل ألا وهي البحث عن هذا التاريخ والحفاظ عليه لعلّها من مسؤوليّتنا".
وأوضح الصافي: "الإمام الصادق(عليه السلام) عندما يمرّ على بعض أصحاب الإمام الباقر(عليه السلام) كان يقول: لولا هؤلاء لاندثرت آثار أبي.. والواقع فعلاً لولا هؤلاء العلماء لاندثرت آثارنا، ولولا هؤلاء العلماء الآن الذين بحمد الله تعالى بين ظهرانينا يحثّون الخطى لاستنطاق هذا التاريخ وإظهار عظمة الأوائل عندما نقرأ ما كتبوا، في الواقع فعلاً هذا التراث يمثّل هويّةً نعتزّ بها، فالأمّة بلا تراث أمّةٌ مقطوعة النسب على هذه الأرض الطيّبة، قبل مئات السنين بحول الله تعالى كُتب تأريخٌ نعتزّ به سواءً عندما كانت بغداد هي قلعةُ العلم أيّام الشيخ الكليني والشيخ المفيد والشيخ الطوسي أو عندما كانت النجف ولا زالت بحمد الله تعالى هي معقل العلم، ولعلّه بعد أقلّ من عشر سنوات يكون تاريخ النجف قد أكمل الألف سنة عندما هاجر اليها الشيخ الطوسي (رضوان الله تعالى عليه)، أو خلال هذه الألف سنة ما بين الحلّة الفيحاء وما بين كربلاء وما بين قم والحواضر الإسلاميّة الأخرى المبثوثة في أرجاء المعمورة، كتب من كتب بحمد الله تعالى ولا زال المدفون الذي يحتاج الى إطلالة من الحاضرين ومن المشتغلين، فلا زال المدفون لعلّه أكثر من الحاضر".
وتابع بالقول: "ندعو لكلّ الإخوة الأعزّاء.. الإنسان الذي يشتغل بالتأريخ والتأريخ الخاصّ -يعني التراث- حقيقةً هو يشتغل مع رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبعض الجيل الحاضر قد لا يعي أهمّية ما كتب الأوائل والجهد المضني عندما نقرأ عن حياة البعض، حقيقةً الإنسان يقف عاجزاً أمام اختيار كلمات تُناسب مقامهم الكبير في ظرفٍ صعبٍ من شظف العيش وعدم استقرار وأمراض وفقر وابتلاءات كبيرة جدّاً، لكن كانوا لا يستسلمون بهدفهم إطلاقاً، كانت إرادتهم قويّة وكانوا في هذا الجانب يمثّلون الصلابة الحقيقيّة".
وبيّن السيّد الصافي: "اليوم نشاهد الكمّ الكبير من المشتغلين في هذا التراث، ولعلّ فينا بعض الأعلام (أطال الله في أعمارهم) الذين قضوا حفنة من سنين أعمارهم وأثروا المكتبة الإسلاميّة بهذا الأثر الطيّب، ولعلّي لست مغالياً عندما أقول إنّ جناب السيد الأجلّ السيد أحمد الأشكوري (أمدّ الله في عمره) له السبق في هذا المضمار، وهو أستاذ ومعلّم في هذا المجال أنا ذكرته لحضوره، والحمد لله هناك بعض الأعلام المستفيدة منه أيضاً مبثوثون في أماكن متعدّدة".
وأشار: "العتبة العبّاسية المقدّسة أخذت على عاتقها أن تبحث في تراث ثلاث مدن، ولكن هي غير مقتصرة على ذلك وإنّما هذه نواة للبحث عن تراث البقيّة، وفعلاً تقدّم لنا طلبٌ من أكثر من جهة بأن ينضمّ الى هذه السلسلة المحافظة على التراث، سواءً كان في تاريخ وتراث كربلاء أو الحلّة الفيحاء أو البصرة، فعلاً هذه مراكز موجودة وجزى الله الإخوة العاملين عليها في عملٍ دؤوب لاستنطاق هذه المدن فيما كتبت وفيما ألّفت وفيما نشرت، وبرز فعلاً الى العالم شيءٌ نعتزّ به من هذه المراكز الثلاثة".
وأضاف: "في هذا المعرض واقعاً نتشرّف بحضوركم جميعاً للاستفادة وللإطلالة على بعض المعروض الذي عمله الإخوة، لكن المهمّ في الأمر أنّنا نحتاج فعلاً الى الاهتمام بالتراث بأوسع ما يُمكن وعلى جميع المستويات، أنا أتكلّم عن التراث المعرفي وعن كلّ ما يمتّ لهذه العلوم المهمّة، يجب علينا أن نهتمّ بها ونحن في العتبة المقدّسة في الواقع حاضرون لكلّ مشورة تقدّم ولكلّ همّة موجودة لا تجد أحداً، نحن حاضرون بخدمتهم لأنّنا نرى أنّ هذا جزءٌ من عملٍ ملقى على عاتقنا بمقدار ما نسع، والنجف الأشرف وكربلاء والحلّة هذه معاقل مهمّة وأعتقد أنّ هذا التراث الذي فيها هو تراثٌ يحتاج الى من يخرجه، هناك مؤسّسات شبه رسميّة أو مؤسّسات شخصيّة بدأت فعلاً تهتمّ بهذا التراث وبدأت تسير بالجانب الصحيح".