في مشهد لم تألفه ناحية العباسية التي تبعد 14 كيلومترا عن مركز محافظة النجف العراقية المشهورة بزراعة أرز العنبر والتي تضم أراضي زراعية واسعة تتوسط بساتين النخيل باتت الأرض جرداء إلا من بعض الخضراوات الصيفية والحشائش التي تستخدم كعلف حيواني.
فهذه الأراضي كانت بالشتاء الماضي عبارة عن منطقة زراعية عامرة بمحصول القمح قبل أن يتم حصاده في مايو الماضي. ومازالت بقايا حصاد القمح ظاهرة على أرض يملكها ستار سرحان أحد المزارعين في الناحية.
فمزرعته التي تقدر مساحتها بنحو 10 دونمات (قرابة خمسة أفدنة) والتي كانت أرضا خضراء على مدار العام باتت قاحلة بعد حصاد محصول القمح. لكنه لم يتمكن من زراعتها بالأرز الذي يبذر بذوره في يونيو كل عام بعد أن منعت الحكومة العراقية زراعته نتيجة أزمة المياه في البلاد وسمحت فقط بزراعة 5 آلاف دونم (قرابة 3089 فدانا) لأغراض استخلاص البذور.
وتحتاج زراعة الأرز إلى كميات كبيرة من المياه إذ تتطلب غمر المزروعات بالماء طوال فترة النمو.
يقول سرحان "نزرع في أرضنا محصول الرز بصنفيه العنبر والياسمين منذ عقود وورثنا هذه الزراعة عن الأجداد لكن لم أزرع العنبر بعد منع الحكومة زراعته فأصبحت أرضنا عبارة عن أرض قاحلة بعد حصاد محصول الحنطة (القمح) فكان المفترض أن نزرع الرز بعد حصاد الحنطة".
ويشير سرحان إلى أن هذه الأرض هي المصدر الوحيد لقوت عائلته المكونة من 26 شخصا وأن الحكومة لم تطبق قرارات سابقة وعدت بها بتعويض المزارعين بنسبة 50 بالمئة.
ويقول سرحان إن المساحات المخصصة لزراعة الأرز في محافظة النجف التي تقع في وسط العراق تبلغ 216 ألف دونم (نحو 133437 فدانا) فيما تبلغ المساحة المخصصة لناحية العباسية حيث تقع مزرعته 50 ألف دونم.
وكانت وزارة الزراعة العراقية قد اتخذت قرارا بمنع زراعة الأرز في موسمي 2022 و2023 على التوالي بسبب أزمة المياه التي نتجت عن قلة الإمدادات المائية الواردات إلى نهري دجلة والفرات وتراجع سقوط الأمطار بسبب أزمة الجفاف التي تمر بها المنطقة والعراق على وجه الخصوص.
مستهلك كبير للمياه
يقول وزير الموارد المائية عون ذياب في تصريحات صحفية إن "سبب منع زراعة الرز بالعراق أنه مستهلك كبير للمياه وزراعته تكون في فصل الصيف وطريقة زراعته بدائية".
واقترح الوزير اتباع الطرق الحديثة في الزراعة من خلال الزراعة بالطريقة الجافة عبر إنشاء أنابيب تحت الأرض ومن الممكن أن يعمل المزارعون على إدخال هذه التقنيات بالعراق في زراعة الأرز.
والأسبوع الماضي وعد وزير الزراعة العراقي عباس المالكي بصرف تعويضات للمتضررين من مزارعي الأرز وقال إن "التعويضات ستصرف لثلاث محافظات هي النجف والديوانية والمثنى".
وتشيع زراعة الأرز بالعراق بالمحافظات الثلاث الواقعة على نهر الفرات، وزاد من حجم المشكلة انخفاض منسوب مياه الفرات بشكل كبير نتيجة الجفاف.
أرز العنبر والمائدة العراقية
يعتبر أرز العنبر من الأطباق المفضلة لدى العراقيين ولا تكاد تخلو مائدة عراقية خاصة في الولائم من هذا الصنف المعروف بطعمه المميز ورائحته الزكية كما أنه يحتوي على نسبة عالية من البروتين.
لكن منع زراعته انعكس بشكل كبير على أسعاره في الأسواق المحلية حيث زادت أسعاره لتصل إلى 17 ألف دينار (12 دولارا) للعبوة زنة خمسة كيلوجرامات مقارنة مع 10 آلاف دينار (سبعة دولارات) العام الماضي.
ولا يعد قرار الحكومة العراقية بمنع زراعة الأرز الأول من نوعه، ففي عام 2018 وبعد أزمة جفاف أيضا تم حظر زراعته لتعود مجددا عام 2020 بعد زيادة رقعة الأراضي المخصصة لزراعة الأرز إلى 300 ألف دونم (نحو 185329 فدانا) عقب توفر المياه الكافية للري مما أدى لزيادة الإنتاج من الأرز المحلي بصنفيه العنبر والياسمين إلى مستويات قياسية بلغت 306 آلاف طن عام 2020.
تطوير سلالات الأرز
دفعت أزمة الجفاف التي تمر بها البلاد وزارة الزراعة إلى ابتكار طرق حديثة لزراعة الأرز تقلل من استهلاك المياه وإنتاج سلالات تقاوم الجفاف.
يقول وكيل وزارة الزراعة مهدي سهر الجبوي لوكالة رويترز إن دائرة البحوث الزراعية بالوزارة تعمل على "تجارب على البذور من خلال تطوير سلالات يمكن ريها عن طريق المرشات (الأنابيب) بدل أساليب الرش السابقة".
وأضاف "بعد نجاح تجارب الزراعة على هذا النوع من البذور ستكون هناك زيادة في الأراضي الزراعية المخصصة لزراعة الأرز في المحافظات التي تنتج هذه المحصول مثل النجف والديوانية".
وبحسب خبراء في الزراعة لا يمكن الاستمرار في زراعة الأرز باستخدام الطرق القديمة في الري.
ويقول الخبير الزراعي عادل المختار "يجب أن نستخدم الطرق الحديثة في الري وتوزيع المياه بين موسمي الصيف والشتاء وعدم استهلاك المياه في فصل الشتاء مما يؤدي إلى صعوبة توفير المياه للمحاصيل الصيفية".
وحذر المختار من "عدم زراعة الأرز بصورة نهائية بالعراق إذا ما بقيت أزمة الجفاف وعدم توفر المياه أو تنظيم عملية زراعته من خلال اتباع الطرق الحديثة بالإرواء".
أزمة الجفاف
تقول وزارة الموارد المائية إن الجفاف الذي ضرب البلاد خلال السنوات الثلاث الماضية وقلة الإيرادات المائية لنهري دجلة والفرات أسفرا عن استنزاف المخزون المائي في البلاد.
وقال المتحدث باسم الوزارة خالد شمال لوكالة رويترز "وضع العراق المائي حرج بسبب قلة واردات المياه من تركيا وإيران وسوريا والمشاريع الإروائية الكبيرة في تلك الدول استنزفت 60 بالمئة من استحقاق العراق".
ويضم العراق نهرين رئيسيين هما دجلة والفرات وتتشكل 73 بالمئة من الإيرادات المائية للنهرين من مياه قادمة من كل من تركيا وإيران.
وأوضح شمال أن "التغيرات المناخية التي تضرب المنطقة وارتفاع درجات الحرارة ودخول العراق ضمن الدول الخمسة المتأثرة بالجفاف وشح الأمطار منذ عام 2020 أدى إلى زيادة وطأة أزمة الجفاف".
وتحدث عن أضرار بيئية واقتصادية واجتماعية نتيجة قلة الواردات المائية لنهري دجلة والفرات مشيرا إلى أن المخزون المائي تراجع بشكل كبير في أكبر انخفاض منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1920.
ويأمل شمال أن يتم استخدام الطرق الحديثة بالري وإجراء بعض البحوث لغرض تقليل استهلاك المياه في الزراعة من أجل السماح مجددا بزراعة الأرز بالعراق والحفاظ على أرز العنبر.