المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17761 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



تفسير الآية (80-83) من سورة الانعام  
  
4409   07:01 مساءً   التاريخ: 15-6-2021
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الألف / سورة الأنعام /

قال تعالى : {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام : 80 - 83] .

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قال تعالى : {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام : 80 - 81] .

ذكر سبحانه محاجة إبراهيم مع قومه ، فقال {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} أي : خاصموه وجادلوه في الدين ، وخوفوه من ترك عبادة آلهتهم {قَالَ} أي . إبراهيم لهم {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} أي : وفقني لمعرفته ، ولطف بي في العلم بتوحيده ، وترك الشرك ، وإخلاص العبادة له {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} أي : لا أخاف منه ضررا إن كفرت به ، ولا أرجو نفعا إن عبدته ، لأنه بين صنم قد كسر ، فلم يدفع عن نفسه ، ونجم دل أفوله على حدوثه ، فكيف تحاجونني وتدعونني إلى عبادة من لا يخاف ضره ، ولا يرجى نفعه .

{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} فيه قولان أحدهما : إن معناه إلا أن يغلب الله هذه الأصنام التي تخوفونني بها ، فيحييها ويقدرها ، فتضر وتنفع ، فيكون ضررها ونفعها إذ ذاك ، دليلا على حدوثها أيضا ، وعلى توحيد الله ، وعلى أنه المستحق للعبادة دون غيره ، وأنه لا شريك له في ملكه ، ثم أثنى على الله سبحانه فقال : {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي : هو عالم بكل شيء ، ثم أمرهم بالتذكر والتدبر فقال : {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} . والثاني : قول الحسن : معناه لا أخاف الأوثان إلا أن يشاء ربى أن يعذبني ببعض ذنوبي ، أو يشاء الإضرار بي ابتداء ، والأول أجود .

ثم احتج عليه السلام عليهم ، وأكد الحجاج بقوله {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} أي : كيف تلزمونني أن أخاف ما أشركتم به من الأوثان المخلوقة ، وقد تبين حالهم في أنهم لا يضرون ولا ينفعون {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ} أي : ولا تخافون من هو القادر على الضر والنفع ، بل تجرؤون عليه بأن أشركتم ، أي : جعلتم له شركاء في ملكه ، وتعبدونهم ، من دونه ، وقيل : معناه كيف أخاف شرككم ، وأنا منه برئ ، والله تعالى لا يعاقبني بفعلكم ، وأنتم لا تخافون ، وقد أشركتم به ، فيكون على هذا ما في قوله {مَا أَشْرَكْتُمْ} مصدرية .

{مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} أي : حجة على صحته . وهذا يدل على أن كل من قال قولا ، أو اعتقد مذهبا بغير حجة ، فهو مبطل {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} أنحن ، وقد عرفنا الله بأدلته ، ووجهنا العبادة نحوه ، أم أنتم وقد أشركتم بعبادة غيره من الأصنام . ولو اطرحتم العصبية والحمية ، لما وجدتم لهذا الحجاج مدفعا {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي : تستعملون عقولكم ، فتميزون الحق عن الباطل ، والدليل من الشبهة .

 

- {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام : 82] .

لما تقدم قوله سبحانه : {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} أي : بأن يأمن من العذاب ، الموحد أم المشرك ، عقبه ببيان من هو أحق به فقال : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} معناه : الذين عرفوا الله تعالى ، وصدقوا به ، وبما أوجبه عليهم ، ولم يخلطوا ذلك بظلم . والظلم هو الشرك ، عن ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة ، ومجاهد ، وأكثر المفسرين . وروي عن أبي بن كعب ، أنه قال : ألم تسمع قوله سبحانه {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان : 13] ، وهو المروي عن سلمان الفارسي ، وحذيفة بن اليمان .

وروي عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية ، شق على الناس ، وقالوا : يا رسول الله ! وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال (صلَّ الله عليه وآله وسلم) : إنه ليس الذي تعنون ، ألم تستمعوا إلى ما قال العبد الصالح : {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان : 13] .

وقال الجبائي ، والبلخي : يدخل في الظلم كل كبيرة تحبط ثواب الطاعة . وقال البلخي : ولو اختص الشرك على ما قالوه ، لوجب أن يكون مرتكب الكبيرة إذا كان مؤمنا كان آمنا ، وذلك خلاف القول بالإرجاء ، وهذا لا يلزم لأنه قول بدليل الخطاب ، ومرتكب الكبيرة غير آمن ، وإن كان ذلك معلوما بدليل آخر .

{أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} . من الله بحصول الثواب ، والأمان من العقاب {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي : محكوم لهم بالاهتداء إلى الحق والدين ، وقيل : إلى الجنة .

واختلف في هذه الآية ، فقيل : إنه من تمام قول إبراهيم عليه السلام . وقيل : إن هذا القول من الله تعالى على جهة فصل القضاء بذلك ، بين إبراهيم عليه السلام وقومه ، عن محمد بن إسحاق ، وابن زيد ، والجبائي .

- {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام : 83] .

ثم بين سبحانه أن الحجج التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لقومه ، آتاه إياها ، وأعطاه إياها ، بمعنى أنه هداه لها ، وأنه احتج بها بأمره ، فقال {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} أي : أدلتنا {آتَيْنَاهَا} أي : أعطيناها {إِبْرَاهِيمَ} وأخطرناها بباله ، وجعلناها حججا {عَلَى قَوْمِهِ} من الكفار حتى تمكن من إيرادها عليهم عند المحاجة {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} من المؤمنين الذين يصدقون الله ورسوله ، ويطيعونه ، ونفضل بعضهم على بعض ، بحسب أحوالهم في الإيمان واليقين {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} يجعل التفاوت بينهم على ما توجبه حكمته ، ويقتضيه علمه . وقيل : معناه نرفع درجات من نشاء على الخلق بالاصطفاء للرسالة .

_____________________________

1 . تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 98-103 .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{وحاجَّهُ قَوْمُهُ} بعد أن أورد إبراهيم (عليه السلام) على قومه الحجة الدامغة من منطق العقل والفطرة ، وأثبت به فساد عبادتهم للأوثان والكواكب ، بعد هذا أوردوا عليه حججهم الواهية ، وقالوا له فيما قالوا : {وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ} وخوفوه من بطش آلهتهم به ، فأجابهم إبراهيم {قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وقَدْ هَدانِ} . أي ما هذا الحجاج في اللَّه ، وقد هداني إلى معرفته من نفسي ومن الكون ، وتقدم في الآية 71 {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى} الذي لا يتطرق إليه الشك ، وان ما عداه جهالة وضلالة .

أما التخويف من آلهتهم فقد أجاب عنه بقوله : {ولا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ} من دون اللَّه ، لأنه لا يضر ولا ينفع ، ولا يبصر ولا يسمع {إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً} وذلك بأن يسقط اللَّه صنما على رأسي يشجه ، أو كسفا من شهب الكواكب يحرقني . . إذن ، فيجب أن أخاف من اللَّه وحده ، لا من الأصنام والكواكب . {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} فلا أخاف أن يصيبني مكروه من غير علمه وإرادته {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} ان آلهتكم ليست بشيء ، وان اللَّه وحده هو الضار النافع ، لأنه خالق كل شيء .

{وكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ ولا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً} . المراد بما أشركتم الأوثان والكواكب التي يعبدون ، والمراد باشركتم باللَّه جعلهم للَّه شركاء ، والمعنى أتريدونني أن أخاف آلهتكم المخلوقة العاجزة ، وأنتم لا تخافون زعمكم وجعلكم للَّه شركاء . . هذا الزعم الذي هو افتراء محض ، لا حجة له ، ولا دليل عليه ! . . وبتعبير أوضح ان إبراهيم قال لهم : أتخوفونني مما لا حول له ولا قوة ، وتأمنون أنتم ، وقد افتريتم واعتديتم على من له القوة والعزة جميعا ! . . {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الفريق الذي يؤمن باللَّه القوي العزيز ، ويكفر بالشريك الضعيف ، أو الفريق الذي يؤمن بالضعيف الذليل ، ويكفر بالقوي العزيز ! . .

{الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وهُمْ مُهْتَدُونَ} . هذا بيان للفريق الناجي من الفريقين ، وانهم الذين أخلصوا للَّه في إيمانهم ولم يخلطوا بهذا الايمان شركا في عقيدة ، ولا في طاعة هوى مخلوق كائنا من كان .

 

هؤلاء وحدهم هم الآمنون المهتدون .

{وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ} . أي ان تلك الحجج الدامغة التي أفحم بها إبراهيم قومه - نحن ألهمناه إياها . . وفي هذه الآية دلالة واضحة على ان الأنبياء ، ومن اهتدى بهديهم من العلماء هم لسان اللَّه وبيانه ، وان الراد عليهم راد على اللَّه بالذات ، كما جاء في الحديث . {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ} تجد تفسيره في قوله تعالى : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ} [المجادلة - 11] .

فالسبب لرفعة الإنسان عند اللَّه هو الايمان والعلم ، ولكل منهما درجات ، رفيع وأرفع ، وقد بلغ إبراهيم (عليه السلام) أرفعها ، حتى صار للرحمن خليلا {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} حكيم منزه عن العبث والشهوة ، عليم بما يستحقه كل انسان من المراتب والدرجات .

___________________________

1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 216-217 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ} أنه يرد اعتراضهم على توحيده بأنه غني عن المحاجة في ذلك فإن الله هداه ولا حاجة معها إلى المحاجة لكن ظاهر السياق أنه في مقام المحاجة ولازمه أن كلامه احتجاج للتوحيد الاستغناء عن الاحتجاج .

وأما قوله تعالى : {لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً} فقد ذكروا في الصدر قريبا مما قدمناه ، وأما الاستثناء فقيل : معناه إلا أن يغلب ربي هذه الأصنام التي تخوفونني بها فيحييها ويقدرها فتضر وتنفع فيكون ضررها ونفعها إذ ذاك دليلا على حدوثها وعلى توحيد الله سبحانه ، وبعبارة أخرى : المعنى أني لا أخافها في حال من الحالات إلا أن يشاء ربي أن تحيا هؤلاء الشركاء فتضر وتنفع فأخافها وإذ ذاك كانت الربوبية لله وتبين حدوث شركائكم .

وهذا الوجه وإن كان قريبا مما قدمناه بوجه لكن نسبة النفع والضر إلى الشركاء لو كانت أحياء ـ مع أن بعضها أحياء عندهم كالملائكة وأرباب الأنواع وبعضها يضر وينفع بحسب ظاهر النسبة كالشمس ـ تخالف التعليم الإلهي في كتابه فإن القرآن يصرح أن لا يملك نفعا ولا ضررا إلا الله سبحانه .

وكذلك ما ذكر من دلالة ذلك على حدوث شركائهم أمر لا يضر أهل الأوثان فإنهم كما عرفت لا ينكرون كون الأصنام ولا أربابها معلولة لله مخلوقة له ، والقول بالقدم الزماني في بعضها لا ينافي إمكانها ولا معلوليتها عندهم .

وقيل : إن معنى الاستثناء أني لا أخاف شركاءكم وأستثني من عموم الخوف في الأوقات أن يشاء ربي أن يعذبني ببعض ذنوبي أو يصيبني بمكروه ابتداء ، وبعبارة أخرى الجملة استثناء من معنى أعم مما يدل عليه الجملة السابقة فقد دل قوله : {وَلا أَخافُ} إلخ ، على نفي الخوف من شركائهم ، وقوله : {إِلَّا أَنْ يَشاءَ} إلخ ، استثناء من كل خوف فالتقدير : لا أخاف ما تشركون به ولا شيئا آخر إلا من أن يشاء ربي شيئا أكرهه ابتداء أو جزاء فإني أخافه ، ووجه التعسف في هذا المعنى لا يحتاج إلى بيان .

وأما قوله : {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} فقد قيل . إنه ثناء منه عليه السلام لربه بعد إتمام الحجة .

وقيل : إنه تعريض بأصنامهم حيث إنها لا تعلم شيئا ولا تشعر ، ويرد عليه أن التعريض بمثل القدرة أقرب إلى اقتضاء المقام من التعريض بالعلم فما وجه العدول عن القدرة إلى العلم ؟ والإشكال جار في الوجه السابق .

وقيل : إنه لما استثنى ما يشاؤه ربه مما يقع عليه من المكاره بين بقوله : {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أنه تعالى علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح والخير والحكمة . وفيه أن الأنسب حينئذ أن يذكر الحكمة مكان العلم ولا أقل من أن يذكر الحكمة مع العلم كما في أغلب الموارد .

وقيل : إنه كالتعليل للاستثناء بجواز أن يكون قد سبق في علمه تعالى أصابته بسوء تكون سببه الأصنام كأن يشاء أن يسقط صنم عليه فيشجه أو تؤثر فيه حرارة الشمس فتمرضه أو تقتله ، وفيه أن التمسك بالقدرة أو الحكمة أنسب للتعليل من العلم .

وقيل : معناه أن علم ربي وسع كل شيء وأحاط به ومشيئته مرتبطة بعلمه المحيط القديم وقدرته منفذة لمشيئته فلا يمكن أن يكون لشيء من المخلوقات التي تعبدونها ولا لغيرها تأثير ما في صفاته ، ولا في أفعاله الصادرة عنها لا بشفاعة ولا غيرها وإنما يكون ذلك لو كان علم الله تعالى غير محيط بكل شيء فيعلمه الشفعاء والوسطاء من وجوه مرجحات الفعل أو الترك بالشفاعة أو غيرها ما لم يكن يعلم فيكون ذلك هو الحامل له على الضر أو النفع أو العطاء أو المنع .

قال هذا القائل : أخذنا هذا المعنى لهذه الجملة من حجج الله تعالى على نفي الشفاعة الشركية بمثل قوله : {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ} . قال : وهذا أرجح الوجوه ، وهو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن ، انتهى ملخصا .

ومحصله أن قوله : {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} بيان وتعليل لعموم نفي الخوف من الآلهة وغيرها كأنه قال : لا أخاف ضر شيء من آلهتكم وغيرها من المخلوقات فإن ربي يعلم كل شيء فيتمه بمشيئته وينفذه بقدرته فلا يحتاج إلى شفيع يعلمه ما جهل حتى يكون لها تأثير في أفعاله تعالى وشفاعة .

وأنت تعلم أن نفي هذا التأثير كما يحتاج إلى سعة علمه تعالى كذلك يحتاج إلى إطلاق القدرة والمشيئة ـ والمشيئة مع ذلك صفة فعل لا ذات كما يفرضه القائل ـ فما ذا تنفع سعة العلم لو لم يكن لقدرته ومشيئته إطلاق ، والشاهد عليه نفس كلامه الذي قرر فيه الوجه بالعلم والمشيئة والقدرة جميعا .

وبالجملة هذا الوجه لا يتم بسعة العلم وحدها وإنما يتم بها وبإطلاق القدرة والمشيئة ، وقد ذكرت في الآية سعة العلم وحدها .

وأما ما ذكره من دلالة آيات الشفاعة على ذلك فالآيات المذكورة مسوقة لإثبات الشفاعة بمعنى التوسط في السببية بإذن من الله سبحانه لا أنها تنفيها كما خيل إليه فزعم أنه يفسر القرآن ، بالقرآن وكيف لا ؟ والطمع في ارتفاع الأسباب عن العالم المشهود طمع فيما لا مطمع فيه ، والقرآن الكريم من أوله إلى آخره يتكلم عن السببية ويبني على أصل العلية والمعلولية العام ، وقد تقدم الكلام في هذه المعاني كرارا في الأجزاء السابقة من الكتاب .

قوله تعالى : {وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً} إلخ ، ثم كر عليه السلام عليهم بحجة أخرى تثبت المناقضة بين قولهم وفعلهم وبعبارة أخرى : حالهم يكذب مقالهم ومحصله أنكم تأمرونني أن أخاف ما لا يجب أن يخاف منه ، وأنتم أنفسكم لا تخافون من يجب أن يخاف منه فأنا أولى بالأمن منكم إن عصيتكم ولم آتمر بأمركم .

أما كون ما تأمرونني بخوفه لا يجب أن يخاف منه فلأن الأصنام وأربابها لا دليل على كونها مستقلة بالضر والنفع حتى توجب الخوف منها ، وأما كونكم لا تخافون من يجب أن يخاف منه فإنكم أنفسكم أثبتم لله سبحانه شركاء في الربوبية ولم ينزل الله في ذلك عليكم برهانا يمكن أن يعتمد عليه فإن الصنع والإيجاد لله سبحانه فله الملك وله الحكم فلو كان اتخذ بعض مخلوقاته شريكا لنفسه يوجب لنا بذلك عبادة شريكه كان إليه لا إلى غيره أن يبين لنا ذلك ويكشف عن وجه الحقيقة فيه ، والطريق فيه أن يقارنه بعلائم وآيات تدل على أن له شركة في كذا وكذا ، وذلك إما وحي أو برهان يتكئ على آثار خارجية ، وشيء من ذلك غير موجود .

وعلى هذا التقرير فقوله تعالى : {ما أَشْرَكْتُمْ} مقيد بحسب ما يستفاد من المقام بما قيد به قوله : {أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً} وإنما ذكر هذا القيد عند ذكر عدم خوفهم من شركهم لأن الحجة إلى ذكره هناك أحوج وهو ظاهر . وقوله : {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} من تتمة الحجة ، والمجموع برهان على مناقضتهم أنفسهم في دعوته عليه السلام إلى أن يخاف آلهتهم فإنهم يأمرونه بالخوف فيما لا يجب وهم أنفسهم لا يخافون فيما يجب .

وبالبيان السابق يظهر أن وصف شركائهم بأن الله لم ينزل بها عليهم سلطانا افتراض استدعاه نوع الحجة التي وضعت في الكلام لا مفهوم له يثبت إمكان أن يأمر الله باتخاذ الشركاء آلهة يعبدون فهو بمنزلة قولنا : لا دليل لكم على ما ادعيتم ، في جواب من يخوفنا من موضوع خرافي يدعي أنه ربما ينفع ويضر ، ولنا أن نبدل قولنا ذلك لو أردنا التكلم بلسان التوحيد بقولنا : ما أنزل الله على ذلك دليلا ، والكلام بحسب التحليل المنطقي يئول إلى قياس استثنائي استثني فيها نقيض المقدم في الشرطية لإنتاج نقيض التالي نحوا من قولنا :

لو كان الله نزل بها عليكم سلطانا يدل على قدرتهم على الضر لكان اتخاذكم الشركاء خوفا منها في محله لكنه لم ينزل سلطانا فليس اتخاذكم الشركاء في محله ، ومن المعلوم أن لا مفهوم في هذا القياس فلا حاجة إلى القول بأن التقييد بقوله : {لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً} للتهكم ، أو للإشارة إلى أن هذا وصف لازم لشركائهم على حد قوله تعالى : {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون : 117] إلى غير ذلك من التحملات .

والباء في قوله : {لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} للمعية أو السببية وقد كنى عليه السلام عنهم وعن نفسه بالفريقين ولم يقل : أنا وأنتم أو ما يشابه ذلك ليكون أبعد من تحريك الحمية وتهييج العصبية كما قيل ، وليدل على تفرقهما وشقاق بينهما من جهة الاختلاف في أصل الأصول وأم المعارف الحقيقية بحيث لا يأتلفان بعد ذلك في شيء .

قوله تعالى : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} سألهم في الآية السابقة في ضمن ما أقامه من الحجة عمن هو أحق بالأمن حيث قال : {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ثم أجابهم عما سألهم لكون الجواب واضحا لا يختلف فيه الفريقان المتخاصمان والجواب الذي هذا شأنه لا بأس بأن يبادر السائل إلى إيراده من غير أن ينتظر المسئول فإن المسئول لا يخالف السائل في ذلك حتى يخاف منه الرد ، وقد حكى الله تعالى اعترافهم بذلك في قصة كسر الأصنام : {قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ، فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}  [الأنبياء : 65] .

هذا ما يقتضيه سياق الكلام أن تكون الآية من كلام إبراهيم عليه السلام ومقولة لقوله ، وأما كونها من كلام قومه وجوابا محكيا عنهم ، وكذا كونها من الله سبحانه من باب القضاء بين الطرفين المتخاصمين فمما لا يساعد عليه السياق البتة .

وكيف كان فالكلام متضمن تأكيدا قويا من جهة إسنادات متعددة في جمل اسمية وهي ما في قوله : {لَهُمُ الْأَمْنُ} جملة اسمية هي خبر لقوله : {أُولئِكَ} والمجموع جملة اسمية هي خبر لقوله : {الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ ، والمجموع جملة اسمية ، وكذلك ما عطف على قوله : {لَهُمُ الْأَمْنُ} من قوله : {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فينتج أنه لا شك في اختصاص الذين آمنوا ولم يستروا إيمانهم بظلم بالأمن والاهتداء ولا ريب .

ولا ريب أن الآية تدل على أن خاصة الأمن والاهتداء من آثار الإيمان مشروطا بأن لا يلبس بظلم ، واللبس الستر كما ذكر الراغب في المفردات ، : وأصل اللبس ـ بفتح اللام ـ الستر ، فهو استعارة قصد فيها الإشارة إلى أن هذا الظلم لا يبطل أصل الإيمان فإنه فطري لا يقبل البطلان من رأس ، وإنما يغطي عليه ويفسد أثره ولا يدعه يؤثر أثره الصحيح .

والظلم وهو الخروج عن وسط العدل وإن كان في الآية نكرة واقعة في سياق النفي ولازمه العموم وعدم اقتران الإيمان بشيء مما يصدق عليه الظلم على الإطلاق لكن السياق حيث دل على كون الظلم مانعا من ظهور الإيمان وبروزه بآثاره الحسنة المطلوبة كان ذلك قرينة على أن المراد بالظلم هو نوع الظلم الذي يؤثر أثرا سيئا في الإيمان دون الظلم الذي لا أثر له فيه .

وذلك أن الظلم وإن كان المظنون أن أول ما انتقل إليه الناس من معناه هو الظلم الاجتماعي وهو التعدي إلى حق اجتماعي بسلب الأمن من نفس أحد من أفراد المجتمع أو عرضه أو ماله من غير حق مسوغ لكن الناس توسعوا بعد ذلك فسموا كل مخالفة لقانون أو سنة جارية ظلما بل كل ذنب ومعصية لخطاب مولوي ظلما من المذنب بالنسبة إلى نفسه بل المعصية لله سبحانه لما له من حق الطاعة المشروع بل مخالفة التكليف ظلما وإن كان عن سهو أو نسيان أو جهل وإن لم يبنوا على مؤاخذة هذا المخالف وعقابه على ما أتى به بل يعدون من خالف النصيحة والأمر الإرشادي ولو اشتبه عليه الأمر وأخطأ في مخالفته من غير تعمد ظالما لنفسه حتى أن من سامح في مراعاة الدساتير الصحية الطبية أو خالف شيئا من العوامل المؤثرة في صحة مزاجه ولو من غير عمد عد ظالما لنفسه وإن كان ظلما من غير شعور ، والملاك في جميع ذلك التوسع في معنى الظلم من جهة تحليله .

وبالجملة للظلم عرض عريض ـ كما عرفت ـ لكن ما كل فرد من أفراده بمؤثر أثرا سيئا في الإيمان فإن أصنافه التي لا تتضمن ذنبا ومعصية ولا مخالفة مولوية كما إذا كان صدوره عن سهو أو نسيان أو جهل أو لم يشعر بوقوعه مثلا فتلك كلها مما لا يؤثر في الإيمان الذي شأنه التقريب من السعادة والفلاح الحقيقي والفوز برضى الرب سبحانه وهو ظاهر فتأثير الإيمان أثره لا يشترط بعدم شيء من ذلك .

فقوله : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} معناه اشتراط الإيمان في إعطائه الأمن من كل ذنب ومعصية يفسد أثره بعدم الظلم غير أن هاهنا دقيقة وهي أن الذنب الاختياري ـ كما استوفينا البحث عنه في آخر الجزء السادس من الكتاب ـ أمر ذو مراتب مختلفة باختلاف الأفهام فمن الظلم ما هو معصية اختيارية بالنسبة إلى قوم وليس بها عند آخرين . فالواقف في منشعب طريقي الشرك والتوحيد مثلا وهو الذي يرى أن للعالم صانعا هو الذي فطر أجزاءها وشق أرجاءها وأمسك أرضها وسماءها ، ويرى أنه نفسه وغيره مخلوقون مربوبون مدبرون ، وأن الحياة الإنسانية الحقيقية إنما تسعد بالإيمان به والخضوع له فالظلم اللائح لهذا الإنسان هو الشرك بالله والإيمان بغيره بالربوبية كالأصنام والكواكب وغيرها على ما يثبته إبراهيم عليه السلام بقوله : {وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً} فالإيمان الذي يؤثر أثره بالنسبة إلى هذا الإنسان إنما يشترط في إعطائه الأمن من الشقاء بأن لا يلبسه ظلم الشرك ومعصيته .

ومن طوى هذه المرحلة فآمن بالله وحده فإنه يواجه من الظلم الكبائر من المعاصي كعقوق الوالدين وأكل مال اليتيم وقتل النفس المحترمة والزنا وشرب الخمر فإيمانه في تأثيره آثاره الحسنة يشترط باجتناب هذا النوع من الظلم ، وقد وعده الله أن يكفر عنه السيئات والمعاصي الصغيرة إن اجتنب كبائر ما ينهى عنه ، قال تعالى : {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}  [النساء : 31] وفساد أثر هذا الإيمان هو الشقاء بعذاب هذه المعاصي وإن لم يكن عذابا خالدا غير منقطع الآخر كعذاب الشرك بل منقطعا إما بحلول أجله وإما بشفاعة ونحوها .

ومن تزود هذا الزاد من التقوى وحصل شيئا من المعرفة بمقام ربه كان مسئولا بأصناف من الظلم تبدو له بحسب درجة معرفته بربه كإتيان المكروهات وترك المستحبات والتوغل في المباحات ، وفوق ذلك المعاصي في مستوى الأخلاق الكريمة والملكات الربانية ووراء ذلك الذنوب التي تعترض سبيل الحب ، وتحف بساط القرب ، فالإيمان في كل من هذه المراتب إنما يؤمن المتلبس به ويدفع عنه الشقاء إذا عري عن ملابسة الظلم المناسب لتلك المرتبة .

فلقوله تعالى : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} إطلاق من حيث الظلم لكنه إطلاق يختلف باختلاف مراتب الإيمان وإذ كان المقام مقام محاجة المشركين انطبق الظلم المنفي على ظلم الشرك فحسب والأمن الذي يعطيه هذا الإيمان هو الأمن مما يخاف منه من الشقاء المؤبد والعذاب المخلد ، والآية مع ذلك آية مستقلة من حيث البيان مع قطع النظر عن خصوصية المورد تفيد أن الأمن والاهتداء إنما يترتب على الإيمان بشرط انتفاء جميع أنحاء الظلم الذي يلبسه ويستر أثره بالمعنى الذي تقدم بيانه .

وأما الإيمان المذكور في الآية ففيه إطلاق والمراد به الإيمان بالربوبية الصالح للتقيد بما يصلحه أو يفسده ثم إذا قيد بقوله : {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} أفاد الإيمان بربوبية الله سبحانه ورفض غيره من شركائهم فإن إبراهيم عليه السلام ذكر فيما تحكي عنه الآية السابقة أن قولهم بربوبية شركائهم وإيمانهم بها مع كونها من خلق الله قول بما لا دليل لهم عليه من جانب الله ولا سلطان وأنهم بإيمانهم بشركائهم يتوقون شرا ويستأمنون شقاء ليس لها أن تدفعها لأنها لا تضر ولا تنفع ، وأما هو عليه السلام فقد خاف وآمن بمن هو فاطره وهو المتصرف بالهداية والمدبر الذي له في كل أمر إرادة ومشية لسعة علمه ، ثم سألهم : أي الفريقين أحق بالأمن والناجح بالإيمان بالرب ، ولكل من الفريقين إيمان بالرب ، وإن اختلفا من جهة الرب ، والذي آمنوا به بين مؤمن برب على ربوبيته دليل ، ومؤمن برب لا دليل على ربوبيته بل الدليل على خلافه .

ومن هنا يظهر أن المراد بالإيمان في قوله : {الَّذِينَ آمَنُوا} مطلق الإيمان بالربوبية ثم بتقيده بقوله : {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} يتعين في الإيمان بالله سبحانه الذي هو حق الإيمان فافهم .

فقد اتضح بما تقدم أولا : أن المراد بالإيمان هو الإيمان بالربوبية دون الإيمان بوجود صانع العالم خلافا لمنكري وجوده .

وثانيا : أن الظلم في الآية مطلق ما يضر الإيمان ويفسده من المعاصي ، وكذا المراد بالأمن مطلق الأمن من شقاء المعاصي والذنوب ، وبالاهتداء مطلق التخلص من ضلالها وإن انطبق بحسب المورد على معصية الشرك خاصة .

وثالثا : أن إطلاق الظلم يختلف بحسب اختلاف مراتب الإيمان .

قال بعض المفسرين في معنى عموم الظلم في الآية : إن الأمن في الآية مقصور على الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه وعدم مراعاة موضوع الإيمان يكون المعنى : الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم ما لأنفسهم لا في إيمانهم ولا في أعمالهم البدنية والنفسية من دينية أو دنيوية ولا لغيرهم من المخلوقات من العقلاء والعجماوات أولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الديني على ارتكاب المعاصي والمنكرات ، وعقابه الدنيوي على عدم مراعاة سببه في ربط الأسباب بالمسببات كالفقر والأسقام والأمراض دون غيرهم ممن ظلموا أنفسهم أو غيرهم فإن الظالمين لا أمان لهم بل كل ظالم عرضة للعقاب وإن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كل ظالم على كل ظلم بل يعفو عن كثير من ذنوب الدنيا ، ويعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به .

قال : وهذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه ، ويترتب عليه أن الأمن المطلق من الخوف من عقاب الله الديني والدنيوي أو الشرعي والقدري جميعا لا يصح لأحد من المكلفين دع خوف الهيبة والإجلال الذي يمتاز به أهل الكمال .

قال : وأما معنى الآية على فرض عدم الإطلاق فهو أن الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم وهو الشرك بالله أولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الديني المتعلق بأصل الدين وهو الخلود في دار العذاب وهم فيما دون ذلك بين الخوف والرجاء .

قال : وظاهر الآية هو العموم واستدل عليه بفهم الصحابة على ما روي : أن الآية لما نزلت شق ذلك على الناس ـ وقالوا : يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه ؟ فأخبرهم (صلَّ ‌الله ‌عليه ‌وآله) : أن المراد به الشرك ، وربما أشعر بذلك السياق وكون الموضوع هو الإيمان ، انتهى ملخصا .

وفيه مواقع للإشكال فأولا : أن ما استدل عليه من العموم بفهم الصحابة هو غير ما قرره من معنى العموم فإن الذي فهموه من الظلم هو ما يساوي المعصية ، والذي قرره هو أعم من ذلك .

وثانيا : أن ما قرره من عموم الظلم حتى بالنسبة إلى أفراد من الظلم ليست من المعصية في شيء ثم حكم بصحة تفسير الآية به أجنبي عن مدلول الآية فإن الآية في مقام بيان أن الأمن والاهتداء من آثار الإيمان ولكن بشرط أن لا يقارن ظلما يستره ويفسد أثره ، وهذا الظلم إنما هو المعصية بوجه ، وأما ما لا يعد معصية كأكل الغذاء المضر بصحة البدن خطاء فمن المعلوم أنه لا يفسد أثر الإيمان من الأمن والاهتداء ، وليس المراد بالآية بيان آثار الظلم أيا ما كانت ولو مع قطع النظر عن الإيمان فإنه تعالى قال : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} فجعل الإيمان هو الموضوع وقيده بعدم الظلم وجعل أثره الأمن والاهتداء ، ولم يجعل الظلم هو الموضوع حتى تكون الآية مسرودة لبيان آثاره .

فالآية سيقت لبيان الآثار التي تترتب على الإيمان الصحيح ، وأما الظلم بما له من العرض العريض وما له من الأثر المترتب عليه فالآية غير متعرضة لذلك البتة ، فقوله : (وهذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه) فاسد البتة .

وثالثا : أن قوله : (ويترتب عليه أن الأمن المطلق لا يصح لأحد من المكلفين) صريح في أن الآية لا مصداق لها بالنظر إلى الإطلاق الذي قرره ، ولازمه سقوط الكلام عن الفائدة ، وأي فائدة في أن يوضع في الحجة قول لا مصداق له أصلا ؟ .

ورابعا : أن الذي اختاره في معنى الآية أن المراد به هو الظلم الخاص وهو الشرك ليس بمستقيم فإن الآية من جهة عموم لفظها وإن دلت على وجوب كون الإيمان غير مقارن للشرك حتى يؤثر أثره لكن ذلك من باب انطباق اللفظ العام على مورده الخاص ، وأما إرادة المعنى الخاص من اللفظ العام من غير قرينة حالية أو مقالية متصلة أو منفصلة فمما لا ترتضيه صناعة البلاغة وهو ظاهر .

وأما ما أشار إليه من قوله (صلَّ ‌الله ‌عليه ‌وآله) : (إنما هو الشرك) فليس بصريح في أن الشرك مراد لفظي من الآية وإنما هو الانطباق ، وسيجيء البحث عن الحديث في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى : {وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ} إلخ ، في الإشارة بلفظ البعيد إلى الحجة تفخيم وتعظيم لأمرها لكونها حجة قاطعة جارية على صراط الفطرة مأخوذة بمقدماتها منها .

وأما قوله : {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ} فالدرجات ـ كما قيل ـ هي مراقي السلم ثم توسع فيها فأطلق على مراتب الكمال من المعنويات كالعلم والإيمان والكرامة والجاه وغير ذلك فرفعه تعالى من يشاء من عباده درجات من الرفع هو تخصيصه بكمالات معنوية وفضائل حقيقية في الخيرات الكسبية كالعلم والتقوى وغير الكسبية كالنبوة والرسالة والرزق وغيرها .

والدرجات لكونها نكرة في سياق الإيجاب مهملة غير مطلقة غير أن المتيقن من معناها بالنظر إلى خصوص المورد هو درجات العلم والهداية فقد رفع الله إبراهيم عليه السلام بهدايته وإراءته ملكوت السماوات والأرض وإيتائه اليقين والحجة القاطعة ، والجميع من العلم ، وقد قال تعالى في درجات العلم : {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ}  [المجادلة : 11] .

ثم ختم الآية بقوله : {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} لتثبيت أن ذلك كله كان بحكمة منه تعالى وعلم كما أن الحجج التي آتاها رسول الله (صلَّ ‌الله ‌عليه ‌وآله) المذكورة في السورة قبل هذه الحجة من حكمته وعلمه تعالى ، وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة لتطييب قلب النبي (صلَّ ‌الله ‌عليه ‌وآله) وتثبيت المعارف المذكورة فيه .

___________________________

1. تفسير الميزان ، ج7 ، ص 166-175 .

 

تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

تعقيبا على ما جرى بحثه في الآيات السابقة بشأن استدلالات إبراهيم عليه ‌السلام التوحيدية ، تشير هذه الآيات إلى ما دار بين إبراهيم والأقوام المشركة من عبدة الأصنام ، الذين بدأوه بالمحاجة {وَحاجَّهُ قَوْمُهُ} .

فردّ عليهم إبراهيم عليه ‌السلام قائلا : لماذا تجادلونني في الله الواحد الأحد وتخالفونني فيه ، وهو الذي وهبني من الدلائل المنطقية الساطعة ما هداني به إلى طريق التوحيد {قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ} .

يتّضح في هذه الآية بجلاء أنّ قوم إبراهيم المشركين من عبدة الأصنام كانوا يحاولون جهدهم وبأي ثمن أن يبعدوا إبراهيم عن عقيدته ويرجعوه إلى عبادة الأصنام ، ولكنّه بكل شجاعة وجرأة ردّ عليهم بالدلائل المنطقية الواضحة .

لا تشير هذه الآيات إلى المنطق الذي توسل به قوم إبراهيم لحمله على ترك عقيدته ، ولكن يبدو من جواب إبراهيم أنّهم قد حذروه وهددوه بغضب آلهتهم وعقابها في محاولة لإرعابه وإخافته ، لأنّنا على أثر ذلك نسمع إبراهيم يستهين بتهديدهم ويؤكّد لهم أنّه لا يخشى أصنامهم التي لا حول لها ولا قوّة في إيصال أي أذى إليه {وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ . . .} فما من أحد ولا من شيء بقادر على أن يلحق بي ضررا إلّا إذا شاء الله : {إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً} (2) .

يظهر من هذه الآية أنّ إبراهيم عليه ‌السلام سعى لاتخاذ إجراء وقائي تجاه حوادث محتملة ، فيؤكّد أنّه إذا أصابه في هذا الصراع شيء ـ فرضا ـ فلن يكون لذلك أي علاقة بالأصنام ، بل يعود إلى إرادة الله ، لأنّ الصنم الذي لا روح فيه ولا قدرة له على أن ينفع نفسه أو يضرها ، لا يتأتى له أن ينفع أو يضرّ غيره .

ويضيف إلى ذلك مبينا أنّ ربّه على درجة من سعة العلم بحيث يسع بعلمه كل شيء : {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} .

هذه العبارة ـ في الواقع ـ دليل على العبارة السابقة التي تقول : إنّ الأصنام لا قدرة لها على النفع والضرر ، لأنّها لا تملك العلم ولا المعرفة اللازمين لمن يريد أن ينفع أو يضرّ ، إنّ الله الذي أحاط علمه بكل شيء ثمّ يحرك فيهم روح البحث والتفكير فيخاطبهم قائلا : {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} .

في الآية التّالية ينهج إبراهيم منطقا استدلاليا آخر ، فيقول لعبدة الأصنام : كيف يمكنني أن أخشى الأصنام ويستولي عليّ الخوف من تهديدكم ، مع إنّي لا أرى في أصنامكم أثرا للعقل والإدراك والشعور والقوة والعلم ، أمّا أنتم فعلى الرغم من إيمانكم بوجود الله وإقراركم له بالعلم والقدرة ، ومعرفتكم بأنّه لم يأمركم بعبادة هذه الأصنام ، فإنكم لا تخافون غضبه : {وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً} (3) .

إنّنا نعلم أن عبدة الأصنام لم يكونوا ينكرون وجود الله خالق السموات والأرض ، ولكنّهم كانوا يشركون الأصنام في عبادته ويعتبرونها شفيعة لهم عنده ، كونوا منصفين إذن وقولوا : {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

يستند منطق إبراهيم عليه ‌السلام هنا إلى منطق العقل القائم على الواقع ، إنّكم تهددونني بغضب الأصنام ، مع أن تأثيرها وهم من الأوهام ، ولكنّكم بعدم خشيتكم من الله العظيم الذي نؤمن به جميعا ، ونعتقد بوجوب اتباع أمره تكونون قد تركتم أمرا ثابتا ، وتمسكتم بأمر وهمي فهو لم يصدر إلينا أمرا بعبادة الأصنام .

في الآية التّالية جواب يدلي به إبراهيم على سؤال كان هو قد ألقاه في الآية السابقة (وهذا أسلوب من أساليب الاستدلال العلمي ، فقد يسأل المتكلم سؤالا عن لسان المخاطب ثمّ يبادر إلى الإجابة عليه مباشرة كدليل على أن الجواب من الوضوح بحيث ينبغي أن يعرفه كل شخص) ، يقول : إنّ المؤمنين الذين لم يمزجوا إيمانهم بظلم ، هم الآمنون وهم المهتدون {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} .

ثمّة رواية عن أمير المؤمنين علي عليه ‌السلام تؤيد كون هذه الآية استكمالا لحوار إبراهيم مع عبدة الأصنام (4) .

بعض المفسّرين يرى أن من المحتمل أن تكون هذه الآية بيانا إلهيا ، وليست مقولة قالها إبراهيم ، إلّا أن ما ذكرناه ـ فضلا عن تأييد الرواية المذكورة له ـ أكثر انسجاما مع ترتيب الآيات ووضعها ، أمّا القول بأنّ هذه الآية لسان حال عبدة الأصنام ، وإنّهم قالوها بعد تيقظهم على أثر سماع أدلة إبراهيم ، فأمر بعيد الاحتمال جدّا .

 

ما معنى «الظلم» هنا ؟

يرى معظم المفسّرين أنّ معنى «الظلم» هنا هو «الشرك» . وأنّ الآية (12) من سورة لقمان : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} دليل على ذلك .

وفي رواية منقولة عن ابن عباس أنّه عند نزول هذه الآية شقّ على الناس فقالوا : يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ (أي أنّ الآية تشملهم جميعا) ، فقال : رسول الله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) : «إنّه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح : {. . . يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (5) .

غير أنّ لآيات القرآن معاني متعددة في كثير من الحالات بحيث يمكن أن يكون أحدها أوسع وأشمل ، وهذا الاحتمال جائز في هذه الآية أيضا ، فيحتمل أن يكون «الأمن» عاما يشمل الأمن من عقاب الله ، والأمن من حوادث المجتمع المؤلمة ، والأمن من الحروب والمفاسد ، والجرائم وحتى الأمن النفسي لا يتحقق إلّا عند ما يسود المجتمع مبدءان معا : الإيمان والعدالة الاجتماعية ، فإذا ما تزلزلت قاعدة الإيمان بالله ، وزال الشعور بالمسؤولية أمام الله ، وحل الظلم محل العدالة الاجتماعية ، فلن يكون في مثل هذا المجتمع أمان . لذلك فعلى الرغم من المساعي والجهود التي يبذلها فريق من العلماء في العالم للحيلولة دون انعدام الأمن ، فإنّ الهوة بين العالم وحالة الأمن والاستقرار تتسع يوما بعد يوم إنّ السبب هو ما جاء في الآية المذكورة : تزلزل أركان الإيمان ، وقيام الظلم مقام العدالة .

إنّ تأثير الإيمان في الاطمئنان النفسي والهدوء الروحي لا يمكن إنكاره ، كما لا يخفى على أحد حالات تبكيت الضمير والقلق النفسي بسبب ارتكاب المظالم .

روي عن الإمام الصّادق عليه ‌السلام في قوله تعالى : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال : «بما جاء به محمّد (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) من الولاية ، ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان» (6) .

هذا التّفسير يستهدف ـ في الحقيقة ـ بيان روح الموضوع في الآية الشريفة ، إذ أنّ الكلام يدور حول ولاية الله وعدم خلطها بولاية غيره ، ولما كانت ولاية أمير المؤمنين علي عليه ‌السلام بموجب {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ} . . قبسا من ولاية الله ورسوله (صلَّ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) والولايات غير المعينة من قبل الله ليست كذلك ، فإنّ هذه الآية من خلال نظرة واسعة تشمل الجميع ، وعليه ليس المقصود من هذا الحديث أن ينحصر معنى الآية في هذا فقط ، بل إنّ هذا التّفسير قبس من مفهوم الآية الأصلي .

لذلك نجد في حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه ‌السلام أنّه جعل هذه الآية تشمل الخوارج الذين خرجوا من ولاية الله ودخلوا في ولاية الشيطان (7) .

الآية التّالية فيها إشارة إجمالية لما مضى من بحث بشأن التوحيد ومجابهة الشرك كما جاء في لسان إبراهيم : فتقول : {وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ} .

صحيح أنّ تلك الاستدلالات كانت منطقية توصّل إليها إبراهيم بقوّة العقل والإلهام الفطري غير أن قوة العقل والإلهام الفطري من الله ، لذلك فإنّ الله ينسبها إلى نفسه ويوقعها في القلوب المستعدة كقلب إبراهيم عليه ‌السلام .

ومن الجدير بالملاحظة أنّ «تلك» اسم إشارة للبعيد ، غير أنّها تستعمل أحيانا للقريب للدلالة على أهمية المشار إليه وعلو مقامه ، مثل ذلك ما جاء في أوّل سورة البقرة : {ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ} .

ثمّ تقول الآية : {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ}(8) ولكيلا يخامر بعضهم الشك في أنّ الله يحابي في إعطاء الدرجات لمن يشاء ، تقول : إن الله متصف بالحكمة وبالعلم ، فلا يمكن أن يرفع درجة من لا يستحق ذلك : {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} .

__________________________

  1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 131-135 .
  2. هذا أشبه بالاستثناء المنقطع ، فقد نفى عن الأصنام كلّ قدرة على النفع والضرر ، وأثبتها لله ، وللمفسّرين آراء أخرى في تفسير هذه الآية ، غير أن ما قلناه أقرب .
  3. «السلطان» بمعنى التفوق والانتصار ، ولما كان الدليل والبرهان من أسباب الفوز والانتصار ، فقد يوصفان بالسلطان أيضا ، كما هو الحال هنا ، أي لا وجود لأي دليل على السماح بعبادتها وهذا ما لم يستطع إنكاره عباد صنم ، لأنّ أمرا كهذا ينبغي أن يصدر عن طريق العقل والمنطق ، أو عن طريق الوحي والنبوة ، وعبادة الأصنام مفتقرة إلى كليهما .
  4. تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 100 .
  5. المصدر السابق .
  6. تفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 740 .
  7. تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 538 .
  8. أنظر المجلد الثّالث ، تفسير الآية (145) من سورة النساء لمعرفة الفرق بين «الدرجة» و «الدرك» .



وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .