أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-6-2021
2700
التاريخ: 6-11-2017
4060
التاريخ: 7-11-2017
53189
التاريخ: 5-11-2017
7648
|
قال تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام : 68 - 70] .
قال تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام : 68 - 69] .
أمر سبحانه بترك مجالستهم عند استهزائهم بالقرآن ، فقال : {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي : إذا رأيت هؤلاء الكفار.
وقيل : الخطاب له ، والمراد غيره ، ومعنى {يَخُوضُونَ} : يكذبون بآياتنا وديننا ، عن الحسن ، وسعيد بن جبير . والخوض : التخليط في المفاوضة على سبيل العبث ، واللعب ، وترك التفهم والتبيين {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي : فاتركهم ، ولا تجالسهم {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي : يدخلوا في حديث غير الاستهزاء بالقرآن ، وإنما أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عنهم ، لأن من حاج من هذه حاله ، فقد وضع الشيء غير موضعه ، وحط من قدر البيان والحجاج .
{وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} المعنى : وإن أنساك الشيطان نهينا إياك عن الجلوس معهم . ويسأل على هذا ، فيقال : كيف أضاف النسيان إلى الشيطان ، وهو فعل الله تعالى ؟ والجواب : إنما أضافه إلى الشيطان ، لأنه تعالى أجرى العادة بفعل النسيان عند الإعراض عن الفكر ، وتراكم الخواطر الردية ، والوساوس الفاسدة ، من الشيطان ، فجاز إضافة النسيان إليه ، لما حصل عند فعله ، كما أن من ألقى غيره في البرد حتى مات ، فإنه يضاف الموت إليه ، لأنه عرضه لذلك ، وكان كالسبب فيه .
{فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} أي : بعد ذكرك نهينا ، وما يجب عليك من الإعراض ، عن الجبائي . وقيل : معناه بعد أن تذكرهم بدعائك إياهم إلى الدين ، عن أبي مسلم . فكأنه قال : أعرض في حال اليأس ، وذكر في حال الطمع .
{مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يعني : في مجالس الكفار والفساق الذين يظهرون التكذيب بالقرآن والآيات ، والاستهزاء بذلك ، وبه قال سعيد بن جبير ، والسدي ، واختاره البلخي ، وقال . كان ذلك في أول الاسلام ، وكان يختص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ورخص للمؤمنين في ذلك لما عز الاسلام ، وكثر المسلمون ، نهوا عن مجالستهم ، ونسخت هذه الآية بقوله : {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء : 140] .
قال الجبائي : وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول الإمامية في جواز التقية على الأنبياء والأئمة ، وأن النسيان لا يجوز على الأنبياء ، وهذا القول غير صحيح ولا مستقيم ، لأن الإمامية إنما تجوز التقية على الإمام ، فيما تكون عليه دلالة قاطعة توصل إلى العلم ، ويكون المكلف مزاح العلة في تكليفه ذلك ، فأما ما لا يعرف إلا بقول الإمام من الأحكام ، ولا يكون على ذلك دليل إلا من جهته ، فلا يجوز عليه التقية فيه . وهذا كما إذا تقدم من النبي بيان في شيء من الأشياء الشرعية ، فإنه يجوز منه أن لا يبين في حال أخرى لأمته ذلك الشيء ، إذا اقتضته المصلحة . ألا ترى إلى ما روي أن عمر بن الخطاب سأله عن الكلالة فقال : يكفيك آية السيف !
وأما النسيان والسهو ، فلم يجوزوهما عليهم ، فيما يؤدونه عن الله تعالى ، فأما ما سواه فقد جوزوا عليهم أن ينسوه ، أو يسهوا عنه ، ما لم يؤد ذلك إلى إخلال بالعقل ، وكيف لا يكون كذلك ، وقد جوزوا عليهم النوم والإغماء ، وهما من قبيل السهو؟ فهذا ظن منه فاسد ، وإن بعض الظن إثم .
{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي : ليس على المؤمنين الذين اتقوا معاصي الله سبحانه من حساب الكفرة شيء ، بحضورهم مجلس الخوض {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، أي : نهوا عن مجالستهم ليزدادوا تقى ، وأمروا أن يذكروهم وينبهوهم على خطاياهم ، لكي يتقي المشركون إذا رأوا إعراض هؤلاء المؤمنين عنهم ، وتركهم مجالستهم ، فلا يعودون لذلك ، عن أكثر المفسرين.
وقيل : معناه ليس على المتقين من الحساب يوم القيامة مكروه ، ولا تبعة ، ولكنه أعلمهم أنهم محاسبون ، وحكم بذلك عليهم لكي يعلموا أن الله يحاسبهم ، فيتقوا ، عن البلخي . فالهاء والميم على الوجه الأول يعود إلى الكفار ، وفي الثاني إلى المؤمنين .
- {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام : 70] .
ثم عاد تعالى إلى وصف من تقدم ذكرهم من الكفار ، فقال : {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} أي : دعهم وأعرض عنهم ، وإنما أراد به إعراض إنكار ، لأنه قال بعد ذلك وذكر : يريد دع ملاطفتهم ومجالستهم ، ولا تدع مذاكرتهم ودعوتهم ، ونظيره في سورة النساء : {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} [النساء : 63] . {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} يعني به : اغتروا بحياتهم {وَذَكِّرْ بِهِ} أي : عظ بالقرآن . وقيل : بيوم الدين . وقيل : بالحساب {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي : لكي لا تسلم نفس للهلكة بما كسبت أي : بما عملت ، عن الحسن ، ومجاهد ، والسدي ، واختاره الجبائي ، والفراء . وقيل : إن معنى تبسل : تهلك ، عن ابن عباس .
وقيل : تحبس ، عن قتادة . وقيل : تؤخذ ، عن ابن زيد . وقيل : تسلم إلى خزنة جهنم ، عن عطية العوفي . وقيل : تجازى عن الأخفش {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ} أي : ناصر ينجيها من العذاب {وَلَا شَفِيعٌ} يشفع لها {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} وإن تفد كل فداء {لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} وقيل : معناه وإن تقسط كل قسط في ذلك اليوم ، لا يقبل منها ، لأن التوبة هناك غير مقبولة ، وإنما تقبل في الدنيا {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا} أي : أهلكوا . وقيل : أسلموا للهلكة ، فلا مخلص لهم . وقيل : ارتهنوا . وقيل : جوزوا {بِمَا كَسَبُوا} أي : بكسبهم وعملهم {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} أي : ماء مغلي حار {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} أي : بكفرهم يريد جزاء على كفرهم .
واختلف في الآية فقيل هي منسوخة بآية السيف ، عن قتادة . وقيل : ليست بمنسوخة ، وإنما هي تهديد ووعيد ، عن مجاهد ، وغيره . وفيها دلالة على الوعيد العظيم لمن كانت هذه سبيله من الاستهزاء بالقرآن ، وبآيات الله ، وتحذير عن سلوك طريقتهم . وقال الفراء : ما من أمة إلا ولهم عيد يلعبون فيه ويلهون ، إلا أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن أعيادهم صلاة ، ودعاء ، وعبادة !
____________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 81-84 .
{وإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} .
مر تفسيره في الآية 139 من سورة النساء .
{وإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . الخطاب للنبي ظاهرا ، والمقصود غيره واقعا ، لأن النبي معصوم عن المعصية والخطأ والنسيان ، والا لم يكن قوله وفعله وتقريره حجة بالغة ، ودليلا قاطعا ، لا يقبل الجدال والنقاش .
{وما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ولكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
أي ليس على المؤمنين المتقين شيء من تبعة الكافرين الذين يخوضون في آيات اللَّه ولكن يذكّرونهم وينهونهم لعلهم يجتنبون الخوض في آياته تعالى .
أما الآية التالية ففيها أمور :
1 – {وذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً ولَهْواً وغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} وذر الأمر موجه ظاهرا للنبي ، وواقعا له ولمن تبعه من المؤمنين ، أمرهم اللَّه سبحانه أن يتركوا معاشرة الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ، ولم يأمرهم بإهمالهم وعدم إنذارهم ، لأن قوله تعالى : {وذَكِّرْ بِهِ} أمر بالإنذار .
وكل من انتسب إلى دين من الأديان ، ولم يحترم ويقدس جميع مبادئه وأحكامه فقد اتخذ دينه لعبا ولهوا ، فمن تكسّب بالدين ، أو وصف حكما من أحكامه بما يدعو إلى الهزء والسخرية فهو من المعنيين بقوله تعالى : {اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً ولَهْواً} . وليس من شك ان من لا يدين بدين خير ممن ينتسب إلى دين يهزأ بأحكامه ومبادئه ، لأن هذا في واقعه قد اتخذ اللعب واللهو بالدين دينا له .
2 – {وذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ ولا شَفِيعٌ} . بعد أن أمر سبحانه النبي والمؤمنين أن لا يعاشروا الذين اتخذوا دينهم لعبا ، أمرهم أن يذكّروا بالقرآن أولئك الذين يخوضون في آيات اللَّه ، ويتلاعبون بالدين كيلا يؤخذوا بما كسبت أيديهم من الجرائم والآثام في يوم لا يجدون فيه فيه ناصرا ينصرهم من دون اللَّه ، ولا شفيعا يشفع لهم عند اللَّه {وإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها} . العدل هنا الفدية ، والمعنى انه كما لا يجد الكافر وليا ولا شفيعا يوم القيامة كذلك لا تقبل منه الفدية بالغة ما بلغت ، قال الرازي : إذا تصور الإنسان كيفية العقاب على هذا الوجه يكاد يرعد إذا أقدم على معاصي اللَّه .
3 – {أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ} . أولئك إشارة إلى الذين اتخذوا دينهم لعبا ، وأبسلوا بما كسبوا ، أي صاروا مرتهنين بأعمالهم ، أما قوله : {لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وعَذابٌ أَلِيمٌ} فهو بيان للعقاب على كفرهم وعصيانهم .
____________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 206-207 .
قوله تعالى : {وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} ذكر الراغب في المفردات ، أن الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه ، ويستعار في الأمور ، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه ، انتهى . وهو الدخول في باطل الحديث والتوغل فيه كذكر الآيات الحقة والاستهزاء بها والإطالة في ذلك .
والمراد بالإعراض عدم مشاركتهم فيما يخوضون فيه كالقيام عنهم والخروج من بينهم أو ما يشابه ذلك مما يتحقق به عدم المشاركة ، وتقييد النهي بقوله : {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} للدلالة على أن المنهي عنه ليس مطلق مجالستهم والقعود معهم ، ولو كان لغرض حق ، وإنما المنهي عنه مجالستهم ما داموا مشتغلين بالخوض في آيات الله سبحانه .
ومن هنا يظهر أن في الكلام نوعا من إيجاز الحذف فإن تقدير الكلام : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا يخوضون فيها فأعرض عنهم {إلخ} ، فحذفت الجملة المماثلة للصلة استغناء بها عنها ، والمعنى ـ والله أعلم ـ وإذا رأيت أهل الخوض والاستهزاء بآيات الله يجرون على خوضهم واستهزائهم بالآيات الإلهية فأعرض عنهم ولا تدخل في حلقهم حتى يخوضوا في حديث غيره فإذا دخلوا في حديث غيره فلا مانع يمنعك من مجالستهم ، والكلام وإن وقع في سياق الاحتجاج على المشركين لكن ما أشير إليه من الملاك يعممه فيشمل غيرهم كما يشملهم ، وقد وقع في آخر الآية قوله : {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فالخوض في آيات الله ظلم والآية إنما نهت عن مشاركة الظالمين في ظلمهم ، وقد ورد في مورد آخر من كلامه تعالى : {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء : 140] .
فقد تبين : أن الآية لا تأمر بالإعراض عن الخائضين في آيات الله تعالى بل إنما تأمر بالإعراض عنهم إذا كانوا يخوضون في آيات الله ما داموا مشتغلين به .
والضمير في قوله : {غَيْرِهِ} راجع إلى الحديث الذي يخاض فيه في آيات الله باعتبار أنه خوض وقد نهي عن الخوض في الآية .
قوله تعالى : {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} و {إِمَّا} في قوله : {إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ} زائد يفيد نوعا من التأكيد أو التقليل والنون للتأكيد ، والأصل وإن ينسك ، والكلام في مقام التأكيد والتشديد للنهي أي حتى لو غفلت عن نهينا بما أنساكه الشيطان ثم ذكرت فلا تهاون في القيام عنهم ولا تلبث دون أن تقوم عنهم فإن الذين يتقون ليس لهم أي مشاركة للخائضين اللاعبين بآيات الله المستهزئين بها .
والخطاب في الآية للنبي (صلَّ الله عليه وآله) والمقصود غيره من الأمة فقد تقدم في البحث عن عصمة الأنبياء عليهمالسلام ما ينفي وقوع هذا النوع من النسيان ـ وهو نسيان حكم إلهي ومخالفته عملا بحيث يمكن الاحتجاج بفعله على غيره والتمسك به نفسه ـ عنهم عليه السلام .
ويؤيد ذلك عطف الكلام في الآية التالية إلى المتقين من الأمة حيث يقول : {وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} إلى آخر الآية .
وأوضح منها دلالة قوله تعالى في سورة النساء : {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء : 140] فإن المراد في الآية وهي مدنية بالحكم الذي نزل في الكتاب هو ما في هذه الآية من سورة الأنعام وهي مكية ولا آية غيرها ، وهي تذكر أن الحكم النازل سابقا وجه به إلى المؤمنين ، ولازمه أن يكون الخطاب الذي في قوله : {وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا} إلخ موجها إلى النبي (صلَّ الله عليه وآله) والمقصود به غيره على حد قولهم : إياك أعني واسمعي يا جارة .
قوله تعالى : {وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} إلى آخر الآية . يريد أن الذي يكتسبه هؤلاء الخائضون من الإثم لا يحمل إلا على أنفسهم ولا يتعداهم إلى غيرهم إلا أن يماثلوهم ويشاركوهم في العمل أو يرضوا بعملهم فلا يحاسب بعمل إلا عامله ولكن نذكرهم ذكرى لعلهم يتقون فإن الإنسان إذا حضر مجلسهم وإن أمكنه أن لا يجاريهم فيما يخوضون ولا يرضى بقلبه بعملهم وأمكن أن لا يعد حضوره عندهم إعانة لهم على ظلمهم تأييدا لهم في قولهم لكن مشاهدة الخلاف ومعاينة المعصية تهون أمر المعصية عند النفس وتصغر الخطيئة في عين المشاهد المعاين ، وإذا هان أمرها أوشك أن يقع الإنسان فيها فإن للنفس في كل معصية هوى ومن الواجب على المتقي بما عنده من التقوى والورع عن محارم الله أن يجتنب مخالطة أهل الهتك والاجتراء على الله كما يجب على المبتلين بذلك الخائضين في آيات الله لئلا تهون عليه الجرأة على الله وآياته فتقربه ذلك من المعصية فيشرف على الهلكة ، ومن يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه .
ومن هذا البيان يظهر أولا : أن نفي الاشتراك في الحساب مع الخائضين عن الذين يتقون فحسب مع أن غير العامل لا يشارك العامل في جزاء عمله إنما هو للإيماء إلى أن من شاركهم في مجلسهم وقعد إليهم لا يؤمن من مشاركتهم في جزاء عملهم والمؤاخذة بما يؤاخذون به ، فالكلام في تقدير قولنا : وما على غير الخائضين من حسابهم من شيء إذا كانوا يتقون الخوض معهم ولكن إنما ننهاهم عن القعود معهم ليستمروا على تقواهم من الخوض أو ليتم لهم التقوى والورع عن محارم الله سبحانه .
وثانيا : أن المراد بالتقوى في قوله : {وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} التقوى العام وهو الاجتناب والتوقي عن مطلق ما لا يرتضيه الله تعالى ، وفي قوله : {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} التقوى من خصوص معصية الخوض في آيات الله ، أو المراد بالتقوى الأول أصل التقوى وبالثاني تمامه ، أو الأول إجمال التقوى والثاني تفصيله بفعلية الانطباق على كل مورد ومنها مورد الخوض في آيات الله ، وهاهنا معنى آخر وهو أن يكون المراد بالأول تقوى المؤمنين وبالتقوى الثاني تقوى الخائضين وتقدير الكلام ولكن ذكروا الخائضين ذكرى لعلهم يتقون الخوض .
وثالثا : أن قوله : ذكرى مفعول مطلق لفعل مقدر والتقدير ولكن نذكرهم بذلك ذكرى أو ذكروهم ذكرى أو خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : ولكن هذا الأمر ذكرى أو مبتدأ لخبر محذوف والتقدير : ولكن عليك ذكراهم وأوسط الوجوه أسبقها إلى الذهن .
قوله تعالى : {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} إلى آخر الآية ، قال الراغب : البسل ضم الشيء ومنعه ولتضمنه لمعنى الضم أستعير لتقطيب الوجه فقيل : هو باسل ومبتسل الوجه ، ولتضمنه لمعنى المنع قيل للمحرم والمرتهن بسل ، وقوله تعالى : {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ} ، أي تحرم الثواب ، والفرق بين الحرام والبسل أن الحرام عام فيما كان ممنوعا منه بالحكم والقهر ، والبسل هو المنوع منه بالقهر قال عز وجل : {أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا} أي حرموا الثواب ، انتهى .
وقال في المجمع ، يقال : أبسلته بجريرته أي أسلمته ، والمستبسل المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص ـ إلى أن قال ـ قال الأخفش : تبسل أي تجازى ، وقيل : تبسل أي ترهن والمعاني متقاربة ، انتهى .
والمعنى : واترك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا عد تدينهم بما يدعوهم إليه هوى أنفسهم لعبا وتلهيا بدينهم ، وفيه فرض دين حق لهم وهو الذي دعتهم إليه فطرتهم فكان يجب عليهم أن يأخذوا به أخذ جد ويتحرزوا به عن الخلط والتحريف ولكنهم اتخذوه لعبا ولهوا يقلبونه كيف شاءوا من حال إلى حال ويحولونه حسب ما يأمرهم به هوى أنفسهم من صورة إلى صورة .
ثم عطف على اتخاذهم الدين لعبا ولهوا قوله : {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} لما بينهما من الملازمة لأن الاسترسال في التمتع من لذائذ الحياة المادية والجد في اقتنائها يوجب الإعراض عن الجد في الدين الحق والهزل واللعب به .
ثم قال : {وَذَكِّرْ بِهِ} أي بالقرآن حذرا من أن تبسل أي تمنع نفس بسبب ما كسبت من السيئات أو تسلم نفس مع ما كسبت للمؤاخذة والعقاب ، وتلك نفس ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل وتفد كل فدية لا يؤخذ منها لأن اليوم يوم الجزاء بالأعمال لا يوم البيع والشري أولئك الذين أبسلوا ومنعوا من ثواب الله أو أسلموا لعقابه لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون .
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج7 ، ص 119-122 .
قال تعالى : {وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام : 68-69] .
اجتناب مجالس أهل الباطل :
بما أنّ المواضيع التي تتطرق إليها هذه السورة تتناول حال المشركين وعبدة الأصنام ، فهاتان الآيتان تبحثان موضوع آخر من المواضيع التي تتعلق بهم ، ففي البداية تقول للرّسول (صلَّ الله عليه وآله وسلم) : {وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (2) .
على الرغم من أنّ الكلام هنا موجه إلى رسول الله (صلَّ الله عليه وآله وسلم) ، إلّا أنّه لا يقتصر عليه وحده ، بل هو موجه إلى المسلمين كافة ، إنّ فلسفة هذا الحكم واضحة ، إذ لو اشترك المسلمون في مجالسهم ، لاستمر المشركون في خوضهم في آيات الله بالباطل نكاية بالمسلمين واستهزاء بكلام الله ولكنّ المسلمين إذا مروا دون أن يبالوا بهم ، فسيكفّون عن ذلك ويغيرون الحديث إلى أمور أخرى ، لأنّهم كانوا يتقصدون إيذاء رسول الله (صلَّ الله عليه وآله وسلم) والمسلمين .
ثمّ تخاطب الآية رسول الله مؤكّدة أهمية الموضوع : {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ (3) بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي إذا أنساك الشيطان هذا الأمر وجلست مع هؤلاء القوم سهوا ، فعليك ـ حالما تنتبه ـ أن تنهض فورا وتترك مجالسة الظالمين .
سؤالان :
هنا يبرز سؤالان :
الأوّل : هل يمكن للشّيطان أن يتسلط على النّبي (صلَّ الله عليه وآله وسلم) ويسبب له النسيان ؟ وبعبارة أخرى ، كيف يمكن للنّبي مع عصمته وكونه مصونا عن الخطأ حتى في الموضوعات أن يخطئ وأن ينسى ؟
في الإجابة على هذا السؤال يمكن القول بأنّ الخطاب في الآية وإن يكن موجها إلى النّبي (صلَّ الله عليه وآله وسلم) فهو يتحدث في الواقع مع اتباعه الذين يمكن أن ينسوا فيساهموا في اجتماعات المشركين الآثمة ، فهؤلاء عليهم حال انتباههم إلى ذلك أن يتركوا المكان ، أنّ مثل هذا الأسلوب كثير الحدوث في حياتنا اليومية وموجود في مختلف آداب العالم ، فأنت قد توجه الخطاب إلى أحدهم ولكنّ هدفك هو أن يسمع الآخرون ذلك كما يقول المثل : إياك أعني واسمعي يا جارة .
هناك مفسّرون آخرون مثل الطبرسي في مجمع البيان وأبي الفتوح في تفسيره المعروف يوردون جوابا آخر عن هذا السؤال خلاصته : إنّ السهو والنسيان في قضايا الأحكام ومقام حمل الرسالة من جانب الله غير جائزين بالنسبة للأنبياء ، أمّا في الحالات التي لا تؤدي إلى ضلال الناس فجائزان ، إلّا أنّ هذا الجواب لا يتفق مع ما هو مشهور عند متكلمينا من أن الأنبياء والأئمّة معصومون عن الخطأ ومصونون عن النسيان ، لا في قضايا الأحكام وحدها ، بل حتى في القضايا العادية أيضا .
السؤال الثّاني : يعتبر بعض علماء أهل السنة هذه الآية دليلاً على عدم جواز التقية الدينية للقادة الدينيين ، وذلك لأنّ الآية تصرّح بالنهي عن اللجوء إلى التقية أمام الأعداء وتأمر بترك مجلسهم .
والجواب على هذا الاعتراض واضح ، فالشيعة لا يقولون بوجوب التقية دائما ، بل إنّ التقية في بعض الأحيان حرام ، إنّما ينحصر وجوبها في الظروف التي تكون فيها للتقية وكتمان الحق منافع أكبر من منافع إظهاره ، أو تكون سببا في دفع خطر أو ضرر كبير .
الآية التّالية فيها استثناء واحد ، فإذا اشترك بعض المتقين في جلسات هؤلاء المشركين لكي ينهوهم عن المنكر على أمل أن يؤدي ذلك إلى انصراف أولئك عن الإثم ، فلا مانع من ذلك ، وأنّ آثام أولئك لا تسجل على هؤلاء ، لأنّ قصدهم هو الخدمة والقيام بالواجب : {وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
وهنالك تفسير آخر لهذه الآية ، والذي قلناه أكثر انسجاما مع ظاهر الآية ومع سبب النّزول .
وينبغي أن نعلم ـ في الوقت نفسه ـ إنّ الذين لهم أن يستفيدوا من هذا الاستثناء هم الذين تنطبق عليهم شروط الآية ، فيكونون متميزين بالتقوى ، وبعدم التأثر بهم ، وبالقدرة على التأثير فيهم .
سبق في تفسير الآية (140) من سورة النساء أن تطرقنا إلى هذا الموضوع وذكرنا مسائل أخرى أيضاً .
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام : 70] .
الذين اتّخذوا الدّين لعبا :
هذه الآية تواصل ما بحثته الآية السابقة ، وتأمر رسول الله (صلَّ الله عليه وآله وسلم) أن يدع أولئك الذين يستهينون بأمر دينهم ، ويتخذون ممّا يلهون ويلعبون به مذهبا لهم ويغترون بالدنيا وبمتاعها المادي : {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} .
بديهي أنّ الأمر بترك هؤلاء لا يتعارض مع قضية الجهاد ، فللجهاد شروط ، ولإهمال الكفار شروط أخرى ، وكل واحد من هذين الحالين يجب أن يتحقق في ظروفه الخاصّة ، قد يستلزم الأمر ـ أحيانا ـ دفع المناوئين عن طريق عدم الاعتناء بهم ، وفي أحيان أخرى قد يقتضي الأمر الجهاد والتوسل بالسلاح ، أمّا القول بأنّ آيات الجهاد قد نسخت هذه الآية فغير صحيح .
وتشير هذه الآية إلى أنّ سلوكهم الحياتي من حيث المحتوى أجوف وواه ، فهم يطلقون اسم الدين على بعض الأعمال التي هي أشبه بلعب الأطفال ومجمون الكبار ، فهؤلاء غير جديرين بالمناقشة والمباحثة ، وعليه يؤمر النّبي (صلَّ الله عليه وآله وسلم) بأن يعرض عنهم ولا يعتني بدينهم الفارغ .
يتضح ممّا قلنا أنّ «دينهم» يعني «دين الشرك وعبادة الأصنام» الذي كانوا يدينون به ، أمّا القول بأنّ المقصود هو «الدين الحق» وإنّ إضافة الدين إليهم يستند إلى كون الدين فطريا ، فيبدو بعيد الاحتمال .
والاحتمال الآخر في تفسير الآية هو أن القرآن يشير إلى جمع من الكفار الذين كانوا يتعاملون مع دينهم كألعوبة وملهاة ، ولم ينظروا أبدا إلى الدين كأمر جاد يستوجب إمعان الفكر والتأمل ، أي أنّهم كانوا لا يؤمنون حقيقة حتى في معتقدات شركهم ، ولم يقيموا وزنا حتى لدينهم الذي لا أساس له .
على كل حال فالآية لا تخص الكفار وحدهم ، بل هي تشمل جميع الذين يتخذون من الأحكام الإلهية ومن المقدسات وسائل للتلهي وملء الفراغ وبلوغ الأهداف المادية الشخصية ، أولئك الذين يجعلون الدين آلة الدنيا ، والأحكام الإلهية العوبة أغراضهم الخاصّة .
ثمّ يؤمر الرّسول الله (صلَّ الله عليه وآله وسلم) أن ينبّههم إلى أعمالهم هذه وإلى أنّ هناك يوما لا بدّ لهم أن يستسلموا فيه لنتائج أعمالهم ولن يجدوا من ذلك مفرا : {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ} (4) .
يوم لا شفيع ينفع ولا ولي سوى الله : {لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} .
إنّهم يومئذ في حال صعبة مؤلمة يرزحون في قيود أعمالهم بحيث إنّهم يرتضون أن يدفعوا أية غرامة (إن كان عندهم ما يدفعونه) ولكنّها لن تقبل منهم : {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها} (5) .
ذلك لأنّهم يكونون بين مخالب أعمالهم ، ولا فدية تنجيهم ، ولا توبة تنفعهم بعد أن فات الأوان : {أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا} .
ثمّ يشار إلى جانب ممّا سيصيبهم من العذاب الأليم بسبب إعراضهم عن الحق والحقيقة : {لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ} .
إنّهم يتعذّبون بالماء الحريق من الداخل ، ويكتوون بنار الجحيم .
يجدر الانتباه هنا إلى أن جملة {أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا} هي بمثابة السبب الذي يمنع من قبول الغرامة ومن قبول أي شفيع وولي ، أي أن عقابهم ليس لعلة خارجية بحيث يمكن دفعها بشكل من الأشكال ، بل ينبع من داخل الذات وسلوكها وأعمالها ، إنّهم أسرى أعمالهم القبيحة ، لذلك لا مفر لهم ، لأنّ فرار المرء من أعماله وآثارها إنّما هو فرار من ذاته ، وهو غير ممكن .
غير أنّنا لا بدّ أن نعلم أنّ هذه الحالة من الشدّة والصعوبة وانعدام طريق العودة ورفض الشفاعة إنّما تكون بحق الذين أصروا على كفرهم واستمروا عليه ، كما يتبيّن من عبارة : {بِما كانُوا يَكْفُرُونَ} (الفعل المضارع يفيد الاستمرارية) .
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 111 - 116 .
2. «الخوض» كما يقول الراغب الأصفهاني في «مفرداته» هو الدخول في الماء والمرور فيه ، ثمّ استعير للورود في أمور أخرى ، وأكثر ما ترد في القرآن بشأن الدخول في موضوع باطل ما أساس له .
3. غني عن القول بأن (لا تقعد) لا تعني النهي عن مجرّد الجلوس مع هؤلاء ، بل تعني النهي عن معاشرتهم في جميع حالات الجلوس والوقوف أو المسير .
4. «البسل» هو حفظ الشيء ومنعه بالقوة والقهر ، والإبسال حمل المرء على التسليم ، كما تطلق الكلمة على الحرمان من الثواب ، أو أخذ الرهائن ، والجيش الباسل بمعنى القاهر الذي يحمل العدو على التسليم ، والمعنى في الآية هو تسليم المرء وخضوعه لأعماله السيئة .
5. «العدل» بمعنى «المعادل» وهو ما يدفع جزاء وغرامة لقاء التحرر ، وهو أشبه في الواقع بما يفتدى به .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|