أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-10-2017
2803
التاريخ: 4-10-2017
3725
|
قال تعالى : {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المنافقون: 7 - 11].
قال سبحانه {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله} من المؤمنين المحتاجين {حتى ينفضوا} أي يتفرقوا عنه وإنما قالوا هم من عند محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولكن الله سبحانه سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) تشريفا له وتعظيما لقدره {ولله خزائن السماوات والأرض} وما بينهما من الأرزاق والأموال والأغلاق فلوشاء لأغناهم ولكنه تعالى يفعل ما هو الأصلح لهم ويمتحنهم بالفقر ويتعبدهم بالصبر ليصبروا فيؤجروا وينالوا الثواب وكريم الم آب.
{ولكن المنافقين لا يفقهون} ذلك على الحقيقة لجهلهم بوجوه الحكمة وقيل لا يفقهون أن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون {يقولون لأن رجعنا إلى المدينة} من غزوة بني المصطلق {ليخرجن الأعز} يعنون نفوسهم {منها الأذل} يعنون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنين فرد الله سبحانه عليهم بأن قال {ولله العزة ولرسوله} بإعلاء الله كلمته وإظهاره دينه على الأديان {وللمؤمنين} بنصرته إياهم في الدنيا وإدخالهم الجنة في العقبي وقيل ولله العزة بالربوبية ولرسوله بالنبوة وللمؤمنين بالعبودية أخبر سبحانه بذلك ثم حققه بأن أعز رسوله والمؤمنين وفتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها وقيل عز الله خمسة عز الملك والبقاء وعز العظمة والكبرياء وعز البذل والعطاء وعز الرفعة والعلاء وعز الجلال والبهاء وعز الرسول خمسة عز السبق والابتداء وعز الأذان والنداء وعز قدم الصدق على الأنبياء وعز الاختيار والاصطفاء وعز الظهور على الأعداء وعز المؤمنين خمسة عز التأخير بيانه نحن الآخرون السابقون وعز التيسير بيانه ولقد يسرنا القرآن للذكر يريد الله بكم اليسر وعز التبشير ، بيانه وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا وعز التوقير ، بيانه وأنتم الأعلون وعز التكثير ، بيانه أنهم أكثر الأمم.
{ولكن المنافقين لا يعلمون} فيظنون أن العزة لهم وذلك لجهلهم بصفات الله تعالى وما يستحقه أولياؤه ووجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله فلله العزة جميعا أن عز الرسول والمؤمنين من جهته عز اسمه وإنما يحصل به وبطاعته فلله العز بأجمعه ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم} أي لا تشغلكم {أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} أي عن الصلوات الخمس المفروضة وقيل ذكر الله جميع طاعاته عن أبي مسلم وقيل ذكره شكره على نعمائه والصبر على بلائه والرضاء بقضائه وهو إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يغفل المؤمن عن ذكر الله في بؤس كان أو نعمة فإن إحسانه في الحالات لا ينقطع {ومن يفعل ذلك} أي من يشغله ماله وولده عن ذكر الله {فأولئك هم الخاسرون} خسروا ثواب الله ورحمته {وأنفقوا مما رزقناكم} في سبيل البر فيدخل فيه الزكوات وسائر الحقوق الواجبة {من قبل أن يأتي أحدكم الموت} أي أسباب الموت {فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب} أي هلا أخرتني وذلك إذا عاين علامات الآخرة فيسأل الرجعة إلى الدنيا ليتدارك الفائت قالوا وليس في الزجر عن التفريط في حقوق الله آية أعظم من هذه وقوله {إلى أجل قريب} أي مثل ما أجلت لي في دار الدنيا.
{فأصدق} أي فأتصدق وأزكي مالي وأنفقه في سبيل الله {وأكن من الصالحين} أي من الذين يعملون الأعمال الصالحة وقيل من الصالحين أي من المؤمنين والآية في المنافقين عن مقاتل وقيل من المطيعين لله والآية في المؤمنين عن ابن عباس قال ما من أحد يموت وكان له مال فلم يؤد زكاته وأطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت قالوا يا ابن عباس اتق الله فإنما نرى هذا الكافر يسأل الرجعة فقال أنا أقرأ عليكم قرآنا ثم قرأ هذه الآية إلى قوله {من الصالحين} قال الصلاح هنا الحج وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) {ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها} يعني الأجل المطلق الذي حكم بأن الحي يموت عنده والأجل المقيد هو الأجل المحكوم بأن العبد يموت عنده إن لم يقتطع دونه أولم يزد عليه أولم ينقص منه على ما يعلمه الله من المصلحة {والله خبير بما تعملون} أي عليم بأعمالكم يجازيكم بها .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص24-26.
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} . ضمير {هم} يعود إلى المنافقين ، والمراد بمن عند رسول اللَّه فقراء المهاجرين ، وكان أغنياء الأنصار يعينون هؤلاء الفقراء ، وينفقون عليهم ، فقال المنافقون للأغنياء :
لا تنفقوا أموالكم على أحد من المهاجرين ، لعلهم يستيأسون من النبي فيتفرقوا عنه .
فردّ عليهم سبحانه بقوله : {ولِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ والأَرْضِ ولكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} . أتأمرون الناس بالبخل وعدم الإنفاق على من آمن باللَّه وجاهد في سبيله ، واللَّه خالق الخلق ومالكه ورازقه ووارثه ، وهو القادر على ان يغني المؤمنين من فضله ؟ . ولكنكم لا تعقلون هذه الحقيقة أيها المنافقون .
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} . قال المفسرون :
لهذه الآية قصة تتصل برأس النفاق عبد اللَّه بن أبي ، وبغزوة بني المصطلق ، وكانوا فرعا من خزاعة يسكنون على مقربة من مكة ، وقد عز عليهم أن يكون للإسلام شأن في الجزيرة العربية ، فتهيئوا لحرب النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بقيادة زعيمهم الحارث ابن أبي ضرار ، ولما علم النبي بادر إليهم بجيشه قبل أن يزحفوا إلى المدينة ، وخرج ابن أبي مع جيش المسلمين رغبة في الغنيمة ، فنصر اللَّه نبيه على أعدائه ، وغنم الكثير من أموالهم ، ورأى أن يفضل في العطاء الفقراء المهاجرين لينشلهم من الفقر ، ويقرب الفوارق بين الأغنياء والفقراء ، فامتلأ عبد اللَّه بن أبي غيظا ، وأخذ يحرض بعض الأنصار ، وقال فيما قال : {لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} . يريد بالأعز نفسه ، وبالأذل النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فنزلت هذه الآية ، وتخاذل ابن أبي ، ولم يجد ما يتعلل به . . وقال كثير من المفسرين : انه نطق بكلمة الكفر هذه لخلاف وقع بين أحد أتباعه وأجير لعمر بن الخطاب .
وكان لعبد اللَّه بن أبي ولد صالح ، اسمه عبد اللَّه أيضا ، ولما علم بأمر أبيه ذهب إلى رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) وقال له : لقد كان من أمر أبي ما قد علمت ، فإن كنت تريد قتله فمرني وأنا أقتله لأني أخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي ، فأقتل مؤمنا بكافر وادخل النار ، فأجابه الرسول :
بل نرفق بأبيك ونحسن صحبته ما بقي معنا .
{ولِلَّهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ} . هذا رد على ابن أبي الذي وصف نفسه بالأعز . . وعزة اللَّه سبحانه بأنه القاهر فوق عباده ، وعزة الرسول بإظهار دينه على جميع الأديان وخذلان أعدائه ومحادّيه ، أما عزة المؤمنين فبنصرة الحق وأهله {ولكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} ان العز بالايمان والتقوى .
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ومَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} . من تدبر هذه الآية والتي قبلها يرى أن المراد بذكر اللَّه هنا الجهاد ، لأن اللَّه سبحانه ذكر أولا أن العزة له ولرسوله وللمؤمنين ، ثم نهى المؤمنين وحذرهم من الغفلة والتشاغل عن ذكر اللَّه بالدنيا وحطامها ، وجعل نتيجة هذا التشاغل الخسران أي الخزي والمذلة دنيا وآخرة ، وليس من شك ان الخزي والمذلة نتيجة حتمية لحب الحياة والخوف من الجهاد والاستشهاد . . ولا شيء أصدق وأدل على هذه الحقيقة من حياة المسلمين والعرب في هذا العصر .
{وأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَولا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} . المراد بإتيان الموت ظهور أماراته
ومقدماته ، والمعنى بادروا الفرصة بالإنفاق مما أعطاكم اللَّه من فضله ، ومن أهمل حتى يأتي يومه الأخير فإنه يعض يد الندامة ، ويتضرع للَّه أن يمهله بعض الوقت . .
ولكن هيهات أن يرجع ما فات . وتقدم مثله في الآية 44 من سورة إبراهيم ج 4 ص 456 {ولَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها واللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} . الأجل محتوم لا تقديم له ولا تأخير ، ومن أضاع الفرصة فلا شيء له إلا الحسرة والكآبة .
وتقدم مثله في الآية 145 من سورة آل عمران ج 2 ص 171 فقرة (الأجل محتوم) والآية 34 من سورة الأعراف .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص333-335.
قوله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} إلخ، الانفضاض التفرق، والمعنى: المنافقون هم الذين يقولون: لا تنفقوا أموالكم على المؤمنين الفقراء الذين لازموا رسول الله واجتمعوا عنده لنصرته وإنفاذ أمره وإجراء مقاصده حتى يتفرقوا عنه فلا يتحكم علينا.
وقوله: {ولله خزائن السماوات والأرض} جواب عن قولهم: لا تنفقوا إلخ، أي إن الدين دين الله ولا حاجة له إلى إنفاقهم فله خزائن السماوات والأرض ينفق منها ويرزق من يشاء كيف يشاء فلوشاء لأغنى الفقراء من المؤمنين لكنه تعالى يختار ما هو الأصلح فيمتحنهم بالفقر ويتعبدهم بالصبر ليوجرهم أجرا كريما ويهديهم صراطا مستقيما والمنافقون في جهل من ذلك.
وهذا معنى قوله: {ولكن المنافقين لا يفقهون} أي لا يفقهون وجه الحكمة في ذلك واحتمل أن يكون المعنى أن المنافقين لا يفقهون أن خزائن العالم بيد الله وهو الرازق لا رازق غيره فلوشاء لأغناهم لكنهم يحسبون أن الغنى والفقر بيد الأسباب فلولم ينفقوا على أولئك الفقراء من المؤمنين لم يجدوا رازقا يرزقهم.
قوله تعالى: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} القائل هو عبد الله بن أبي بن سلول، وكذا قائل الجملة السابقة: لا تنفقوا إلخ، وإنما عبر بصيغة الجمع تشريكا لأصحابه الراضين بقوله معه.
ومراده بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويريد بهذا القول تهديد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإخراجه من المدينة بعد المراجعة إليها وقد رد الله عليه وعلى من يشاركه في نفاقه بقوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} فقصر العزة في نفسه ورسوله والمؤمنين فلا يبقى لغيرهم إلا الذلة ونفى عن المنافقين العلم فلم يبق لهم إلا الذلة والجهالة.
وتنبيه للمؤمنين أن يتجنبوا عن بعض الصفات التي تورث النفاق وهو التلهي بالمال والأولاد والبخل.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} إلخ، الإلهاء الإشغال، والمراد بالهاء الأموال والأولاد عن ذكر الله إشغالها القلب بالتعلق بها بحيث يوجب الإعراض عن التوجه إلى الله بما أنها زينة الحياة الدنيا، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] ، والاشتغال بها يوجب خلو القلب عن ذكر الله ونسيانه تعالى فلا يبقى له إلا القول من غير عمل وتصديق قلبي ونسيان العبد لربه يستعقب نسيانه تعالى له، قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67] ، وهو الخسران المبين، قال تعالى في صفة المنافقين: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16].
وإليه الإشارة بما في ذيل الآية من قوله: {ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}.
والأصل هو نهي المؤمنين عن التلهي بالأموال والأولاد وتبديله من نهي الأموال والأولاد عن إلهائهم للتلويح إلى أن من طبعها الإلهاء فلا ينبغي لهم أن يتعلقوا بها فتلهيهم عن ذكر الله سبحانه فهو نهي كنائي آكد من التصريح.
قوله تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت} إلخ، أمر بالإنفاق في البر أعم من الإنفاق الواجب كالزكاة والكفارات أو المندوب، وتقييده بقوله: {مما رزقناكم} للإشعار بأن أمره هذا ليس سؤالا لما يملكونه دونه، وإنما هو شيء هو معطيه لهم ورزق هو رازقه وملك هو ملكهم إياه من غير أن يخرج عن ملكه يأمرهم بإنفاق شيء منه فيما يريد فله المنة عليهم في كل حال.
وقوله: {من قبل أن يأتي أحدكم الموت} أي فينقطع أمد استطاعته من التصرف في ماله بالإنفاق في سبيل الله.
وقوله: {فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب} عطف على قوله: {أن يأتي} إلخ، وتقييد الأجل بالقريب للإشعار بأنه قانع بقليل من التمديد – وهو مقدار ما يسع الإنفاق من العمر - ليسهل إجابته، ولأن الأجل أيا ما كان فهو قريب، ومن كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم): كل ما هو آت قريب.
وقوله: {فأصدق وأكن من الصالحين} نصب {فأصدق} لكونه في جواب التمني، وجزم {أكن} لكونه في معنى جزاء الشرط، والتقدير إن أتصدق أكن من الصالحين.
قوله تعالى: {ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها} إياس لهم من استجابة دعاء من يسأل تأخير الأجل بعد حلوله والموت بعد نزوله وظهور آيات الآخرة، وقد تكرر في كلامه تعالى أن الأجل المسمى من مصاديق القضاء المحتوم كقوله: { إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } [يونس: 49] .
وقوله: {والله خبير بما تعملون} حال من ضمير {أحدكم} أو عطف على أول الكلام ويفيد فائدة التعليل، والمعنى: لا تتلهوا وأنفقوا فإن الله عليم بأعمالكم يجازيكم بها.
______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص249-258.
من الشواهد التي يذكرها القران الكريم كعلامة واضحة للمنافقين هو قوله تعالى : {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} فلا تعطوا المسلمين شيئا من أموالكم وإمكاناتكم لكي يتفرقوا عن رسول الله .
{ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون}.
إن هؤلاء فقدوا الوعي والبصيرة ، ولم يعرفوا أن كل ما لدى الناس إنما هو من الله ، وكل الخلق عياله . وأن تقاسم الأنصار لأموالهم مع المهاجرين إنما هو من دواعي الافتخار والإعتزاز ، ولا ينبغي أن يمنوا به على أحد .
ثم يقول تعالى في إشارة أخرى إلى مقالة أخرى سيئة من مقالاتهم {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} .
وهذا نفس الكلام الذي أطلقه " عبد الله بن أبي " ، ويريدون من ورائه أنهم أهل المدينة الأصليون الذين سيخرجون منها الرسول وأصحابه من المهاجرين ، بعد عودتهم من غزوة بني المصطلق التي مرت الإشارة إليها .
ورغم أن هذا الحديث صدر عن رجل واحد ، لكنه كان لسان حال المنافقين جميعا ، وهذا ما جعل القرآن يعبر عنهم بشكل جماعي " يقولون . . . " فيردهم ردا حازما إذ يقول : {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} .
ولم يكن منافقو المدينة وحدهم الذين رووا هذا الكلام ، بل سبقهم إلى ذلك رؤساء قريش عندما قالوا : ( سينتهي أمر هذه المجموعة القليلة الفقيرة من المسلمين إذا حاصرناهم اقتصاديا أو أخرجناهم من مكة ) .
وهكذا نرى اليوم الدول المستكبرة وهي تحذر الشعوب التي ترفض الخضوع لسيطرتها ، بأنها تملك الدنيا وخزائنها ، فإن لم تخضع لها تحاصر اقتصاديا لتركيعها .
وهؤلاء هم الذين طبع على قلوبهم واتخذوا منهجا واحدا على مدى التاريخ ، وظنوا أن ما لديهم باق ، ولم يعلموا أن الله قادر على إزالته وإزهاقه بلمحة بصر .
وهذا النمط من التفكير ( رؤية أنفسهم أعزاء والآخرين أذلاء وتوهم أنهم أصحاب النعمة والآخرون محتاجون إليهم ) هو تفكير نفاقي متولد من التكبر والغرور من جهة ، وتوهم الاستقلال عن الله عز وجل من جهة أخرى ، فلو أنهم أدركوا حقيقة العبودية ومالكية الله لكل شيء فمن المحال أن يقعوا في ذلك التوهم الخطير . .
وقد عبرت عنهم الآية السابقة بقولها : {لا يفقهون} وهنا قالت : {لا يعلمون} . ويمكن تفسير الاختلاف في التعبير إلى ضرورات البلاغة ، أو أنه إشارة إلى صعوبة تفهم أن الله مالك خزائن السماوات والأرض بالشكل الحقيقي ، في الوقت الذي لا يحتاج إدراك أن لله العزة ولرسوله وللمؤمنين إلى شيء من التعمق والدقة .
لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم !
إن حب الدنيا والتكالب على الأموال والانشداد إلى الأرض ، من الأسباب المهمة التي تدفع باتجاه النفاق ، وهذا ما جعل القرآن يحذر المؤمنين من مغبة الوقوع في هذه المصيدة الخطيرة {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} .
ورغم أن الأموال والأولاد من النعم الإلهية التي يستعان بها على طاعة الله وتحصيل رضوانه ، لكنها يمكن أن تتحول إلى سد يحول بين الإنسان وخالقه إذا ما تعلق به الإنسان بشكل مفرط .
جاء في حديث عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) يجسد هذا المعنى بأوضح وجه " ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راع ، هذا في أولها وهذا في آخرها ، بأسرع فيها من حب المال والشرف في دين المؤمن " (2) .
اختلف المفسرون في معنى " ذكر الله " ففسرها البعض بأنه الصلوات الخمس ، وقال آخرون : إنه شكر النعمة والصبر على البلاء والرضي بالقضاء ، وقيل : إنه الحج والزكاة وتلاوة القرآن ، وقيل أنه كل الفرائض .
ويبدو أن ل ( ذكر الله ) معنى واسعا يشمل كل تلك المصاديق .
ولهذا وصف القرآن الكريم أولئك الذين يرحلون عن الدنيا دون أن يستثمروا نعم الله في بناء الحياة الخالدة وتعمير الآخرة بأنهم " الخاسرون " فقد خرجوا من هذه الدنيا وهم منشغلون بالأموال والأمور الزائلة التي لا بقاء ولا دوام لها .
بعد هذا التحذير الشديد يأمر الله تعالى بالإنفاق في سبيله حيث يقول : {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين} (3) .
والأمر بالإنفاق هنا يشمل كافة أنواع الإنفاق الواجبة والمستحبة ، رغم قول البعض بأنها تعني التعجيل في دفع الزكاة .
والطريف أنه جاء في ذيل الآية فأصدق وأكن من الصالحين لبيان تأثير الإنفاق في صلاح الإنسان ، وإن فسره البعض بأنه أداء " مراسم الحج " كما عبرت بعض الروايات عن نفس هذا المعنى فهو من قبيل ذكر المصداق البارز .
وأراد القرآن أن يلفت الأنظار إلى أن الإنسان لا يقول هذا الكلام بعد الموت ، بل عند الموت والاحتظار ، إذ قال : {من قبل أن يأتي أحدكم الموت} .
وقال {مما رزقناكم} ليؤكد أن جميع النعم - وليس الأموال فقط - هي من عند الله ، وأنها ستعود إليه عما قريب ، فلا معنى للبخل والحرص والتقتير .
على أي حال فإن هناك عددا كبيرا من الناس يضطربون كثيرا حينما يجدون أنفسهم على وشك الانتقال إلى عالم البرزخ ، والرحيل عن هذه الدنيا ، وترك كل ما بنوا فيها من أموال طائلة وملاذ واسعة ، دون أن يستثمروها في تعمير الآخرة .
عندئذ يتذكر هؤلاء ويطلبون العودة إلى الحياة الدنيا مهما كان الرجوع قصيرا وعابرا ، ليعوضوا ما فات ، ويأتيهم الجواب {ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها} .
وفي الآية 34 من سورة الأعراف {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} .
ثم تنتهي الآية بهذه العبارة {والله خبير بما تعملون} فقد سجل كل شيء عنكم وستجدونه محضرا من ثواب وعقاب .
________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص215-223.
2 - أصول الكافي ، ج 2 ، باب حب الدنيا ، حديث 3 .
3 - يلاحظ في الآية أعلاه : أن " أصدق " منصوب و " أكن " مجزوم ، وكلاهما معطوف على الآخر ، لأن " أكن " عطف على محل " أصدق " وفي التقدير هكذا : " إن أخرتني أصدق وأكن من الصالحين " .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|