أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-08-2015
1986
التاريخ: 25-06-2015
4571
التاريخ: 8-2-2018
1810
التاريخ: 10-04-2015
1835
|
هو متمم بن نويرة بن عمرو بن شداد من بني يربوع بن مالك من تميم. كان فارساً شاعراً قبل الإسلام، إلّا أنّهم قالوا عنه بأنّه أسلم وحسن إسلامه ولم تحدّد سنة إسلامه، ولم يشترك فيما قام به قومه.
لقد شاع اسم متمم بسبب قصائده الرائعة التي رثى بها أخاه حين قتل في حروب الردّة، وكانت له أخبار طويلة مع الخليفة أبي بكر ثمّ الخليفة عمر بن الخطّاب بشأن مقتل أخيه وأخذه ديته، وأجاد متمم في بكائه ورثائه حتّى وجدنا ابن سلام يفرد طبقة خاصّة لأصحاب المراثي في كتابه طبقات الشعراء، ويقدّم متمماً بقوله: والمقدّم عندنا متمم بن نويرة. وقال أيضاً: وبكى متمم مالكاً فأكثر وأجاد، والمقدّمة منهنّ قوله:
لعمري وما دهري بتأبين هالك |
|
ولا جزعاً ممّا أصاب فأوجعا |
وقد عدّ الأصمعي هذه القصيدة أُمّ المراثي.
وقال أبو العبّاس المبرد: ومن أشعار العرب المشهورة المتخيّرة في المراثي قصيدة متمم بن نويرة. وقال ابن الأثير معجباً برثاء متمم: (وأمّا متمم فلم يختلف في إسلامه. كان شاعراً محسناً، لم يقل أحد مثل شعره في المراثي التي رثى بها أخاه مالكاً). وقد قيل في بيته المشهور:
لقد لامني عند القبور على البكا |
|
رفيقي لتذارف الدموع السوافك |
بأنّه أرثى بيت قالته العرب، وانّه أبلغ ما قيل في تعظيم ميت.
وقد علّق ابن نباتة على هذه القصيدة أيضاً بأنّها من جيّد مراثي متمم لمالك ويذكر ابن حجر رواية تعكس إعجاب الحطيئة بشعر متمم، ورثائه فقد ذكر أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب قال للحطيئة: هل رأيت أو سمعت بأبكى من هذا؟ قال: والله ما بكى عربي قط، ولا يبكيه.
هذا الإعجاب الكبير برثاء متمم مردّه إلى الروح الرقيقة الصادقة التي اتّسمت بها نفسه، وانعكاس هذه الروح في أشعاره، والعاطفة القوية التي صبّت أحزانه في أبيات شعرية ما إن تعيها الأُذن حتّى تمسّ شغاف القلب، وتحرّك فيه أوتار الحزن، وتهيج ماكمن فيه من الأسى واللوعة.
لقد كان رثاء متمم يحرّك في نفس الخليفة عمر كوامن الحزن على أخيه زيد الذي قتل في حروب اليمامة. وروي أنّه كان يقول: رحم الله زيداً ما هبّت الريح من تلقاء اليمامة إلّا أتتني برياه، وما ذكرت قول متمم إلّا ذكرته، وهاج بي شجنا:
وكنا كندماني جذيمة حقبة |
|
من الدهر حتّى قيل لن يتصدّعا |
فلمّا تفرّقنا كأنّي ومالكاً |
|
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا |
وذكر أنّه حين أنشده متمم قصيدته السابقة التي مطلعها:
لعمري وما دهري بتأبين مالك |
|
ولا جزعاً ممّا أصاب فأوجعا |
قال: هذا والله التأبين، ولوددت إنّي أحسن الشعر، فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك. فقال متمم: لو أنّ أخي مات على ما مات أخوك ما رثيته. فقال عمر: ما عزاني عن أخي بمثل ما عزاني به متمم. وتمنّي عمر قوله الشعر ليرثي أخاه زيداً يجلي لنا حقيقة، هي أنّ العاطفة وحدها لا تكفي لإيجاد شعر قوي مؤثّر، وإنّما يجب أن تلازمها موهبة شعرية تنضح بالصدق والعاطفة. ومن هنا كان إعجاب الخليفة الثاني بشعر متمم، لأنّ حزنه على أخيه كان شديداً، وأنّه استطاع أن يصوّر هذا الحزن، وينقله إلى نفوس الآخرين. وكما أنّ العاطفة لابدّ أن تلازمها موهبة شعرية لإجادة شعر مؤثّر فالعكس كذلك. وتفسّر هذه الحقيقة رواية تذكر أنّ متمماً رثى زيد بن الخطّاب بعد أن سمع تمنّي عمر قول الشعر، ليرثي به
أخاه، ولكنّه ما أجاد في نظمه. فقال له عمر : لم أرك رثيت زيداً كما رثيت مالكاً فقال: والله انّه ليحرّكني لمالك ما لا يحرّكني لزيد وفي هذا صورة لصدق عاطفة متمم إزاء أخيه، وظهور هذا الصدق في مراثيه، وانّ متمماً حين حاول أن يتكلّف قول الشعر، وان يفتعل العاطفة لم يجد. ولو وصلت إلينا أشعاره في رثاء زيد لاستطعنا المقارنة بينها وبين رثائه لأخيه مالك، ومع ذلك فإنّ نظرة لشعره في رثاء الخليفة عمر بن الخطّاب تعطينا صورة لرثائه المنبعث عن مجاملة أو عن عاطفة غير العاطفة التي رثى بها مالكاً:
يسائلني ابن بجير أين أبكره |
|
عنّي فإنّ فؤادي عنك مشغول |
هلّا بيوم أبي حفص ومصرعه |
|
إنّ (ابتغاءك) ما ضيعت تضليل |
إنّ الرزيئة فابكه ولا تسمن |
|
عبء تطيف به الأنصار محمول |
فلا نجد في هذه الأبيات عاطفة قوية، ولا روحاً حزينة، بل أنّها تبدو فضلاً عن هذا ركيكة النظم فيها خبن ثقيل، ومعان مبتذلة واهية.
لقد سارت مراثي متمم مسير الأمثال. وروت الركبان أشعاره، وحفظها العرب، وتمثّلوا بها، وذكرها شعراء الرثاء في أشعارهم مثلاً لطول التلازم وشدّة الأسى، وصدق المودّة في الاخاء.
وكون متمم من الشعراء الذين عاشوا في البادية، وشهدوا غارات قبائلهم، وأيّامها جعله في مصاف الشعراء الذين اهتمّت بهم المعاجم اللغوية والتفاسير، فاعتمدت على أبياته في شرح كلمة أو تأييد شاهد لغوي أو تحديد مكان من الأمكنة.
وهناك ملاحظتان وجدناهما في شعر متمم: أُولاهما كثرة شعره الذي وصل إلينا على قافية العين، ولا ندري سرّ إعجاب متمم بهذه القافية. هل أنّ لها وقعاً
خاصّاً في معاني الرثاء دون القوافي الأُخرى أم إنّها الصدفة التي حفظت رثاء متمم الذي على قافية العين دون غيره؟ هذا الأمر لا يمكن الاجابة عنه ما دام الشعر الذي وصل إلينا لا يمثّل كلّ ما قاله متمم من شعر، بل يمثّل ما أمكننا جمعه ممّا بين أيدينا من مصادر. والملاحظة الثانية هي وجود الاقواء في شعره وذلك أن يختلف إعراب القوافي فتكون قافية مرفوعة وأُخرى مخفوضة أو منصوبة. هذه الظاهرة وجدت في شعر الأقدمين وعدّها النقّاد من عيوب الشعر إلّا أنّهم قد تسامحوا مع شعراء البادية ولم يجيزوا ذلك لشعراء المدن والمولدين، لأنّ البدوي لا يأبه فهو أعذر. وقد وجدت هذه الظاهرة في شعر النابغة. قيل انّه لمّا قدم الحجاز ونبّه عليها فطن إليها وقال (قدمت الحجاز وفي شعرى ضعة، ورحلت عنها وأنا أشعر الناس) ولكنّنا نلاحظ انّ هذه الظاهرة احتلّت مكاناً كبيراً في شعر متمم، وذلك أنّها لم تقتصر على بيت شعرى واحد أو بيتين.
وسوف نقف وقفة تحليلية طويلة، عند قصيدته العينية المشهورة لأنّها، يمكن أن تمثّل أشعاره التي قالها بعد الإسلام تمثيلاً صادقاً، ولأنّها تعدّ أيضاً امتداداً لشعره الذي قاله قبل الإسلام. وهي بعد هذا وذاك انموذج للشعر العربي الذي عاش بعيداً عن الجو الإسلامي وأفكاره غير متأثّر بأبعاد الدعوة الإسلامية، إلّا ما يتعلّق بمقتل أخيه مالك نفسه.
قصيدة وتحليل
قال في رثاء مالك:
لعمري وما دهري بتأبين هالك |
|
ولا جزعاً ممّا أصاب فأوجعا |
لقد كفّن المنهال تحت ردائه |
|
فتى غير مبطان العشيّات أروعا |
ولا برماً تهدي النساء لعرسه |
|
إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا |
لبيب أعان اللب منه سماحة |
|
خصيب إذا ما راكب الجدب أوضعا |
تراه كصدر السيف يهتزّ للندى |
|
إذا لم تجد عند امرئ السوء مطمعا |
ويوماً إذا ما كظّك الخصم إن يكن |
|
نصيرك منهم لا تكن أنت أضيعا |
وإن تلقه في الشرب لا تلق فاحشاً |
|
على الكأس ذا قاذروة متزبّعا |
وإن ضرس الغزو الرجال رأيته |
|
أخا الحرب صدقاً في اللقاء سميدعا |
وما كان وقّافاً إذا الخيل أحجمت |
|
ولا طائشاً عند اللقاء مدفّعا |
ولا بكها بزّه عن عدوّه |
|
إذا هو لاقى حاسراً أو مقنعا |
فعيني هلّا تبكيان لمالك |
|
إذا أذرت الريح الكنيف المرفعا |
وهبّت شمالاً من تجاه أظايف |
|
إذا صادفت كف المفيض تقفّعا |
وللشرب فأبكي مالكاً ولبهمة |
|
شديد نواحيه على من تشجّعا |
وضيف إذا أرغى طروقاً بعيره |
|
وعان ثوى في القد حتّى تكنّعا |
وأرملة تمشي بأشعث محثل |
|
كفرخ الحبارى رأسه قد تصوّعا |
إذا جرّد القوم القداح وأُوقدت |
|
لهم نار أيسار كفى من تضجّعا |
وان شهد الايسار لم يف مالك |
|
على الفرث يحمي اللحم أن يتوزّعا |
أبى الصبر آيات أراها وإنّني |
|
أرى كلّ حبل دون حبلك أقطعا |
وقد كان مجذاماً إلى الحرب ركضه |
|
سريعاً إلى الداعي إذا هو أفزعا |
وإنّي متى ما أدع باسمك لا تجب |
|
وكنت جديراً أن تجيب وتسمعا |
وكان جناحي إن نهضت أقلّني |
|
ويحوي الجناح الريش أن يتنزّعا |
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا |
|
أصاب المنايا رهط كسرى وتبّعا |
وكنّا كندماني جذيمة حقبة |
|
من الدهر حتّى قيل لن يتصدّعا |
فلمّا تفرّقنا كأنّي ومالكاً |
|
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا |
فإن تكن الأيّام فرّقن بيننا |
|
فقد بان محموداً أخي حين ودّعا |
فتى كان أحيا من فتاة حيية |
|
وأشجع من ليث إذا ما تمتّعا |
أقول وقد طار السنا في ربابه |
|
وجون يسحّ الماء حين تريّعا |
سقى الله أرضاً حلّها قبر مالك |
|
ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا |
وآثر سيل الواديين بديمة |
|
ترشّح وسمياً من النبت خروعا |
فمجتمع الأسدام من حول شارع |
|
فروّى جبال القريتين فضلفعا |
فوالله ما أسقي البلاد لحبّها |
|
ولكنّني أسقي الحبيب المودعا |
تحيّته منّي وإن كان نائياً |
|
وأمسى تراباً فوقه الأرض بلقعا |
تقول ابنة العمري مالك بعدما |
|
أراك حديثاً ناعم البال أفرعا |
فقلت لها: طول الأسى إذ سألتني |
|
ولوعة حزن تترك الوجه أسفعا |
وفقد بني أُمّ تداعو فلم أكن |
|
خلافهم أن أستكين وأضرعا |
ولكنّني أمضي على ذاك مقدماً |
|
إذا بعض من يلقى الحروب تكعكعا |
وغيّرني ما غال قيساً ومالكاً |
|
وعمراً وجزءاً بالمشقّر ألمعا |
وما غال ندماني يزيد وليتني |
|
تملّيته بالأهل والمال أجمعا |
وإنّي وان هازلتني قد أصابني |
|
من البثّ ما يبكي الحزين المفجّعا |
ولست إذا ما الدهر أحدث نكبة |
|
ورزءاً بزوّار القرائب أخضعا |
قعيدك ألا تسمعيني ملامة |
|
ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا |
فقصرك أنّي قد شهدت فلم أجد |
|
بكفّي عنهم للمنية مدفعا |
فلا فرحا إن كنت يوماً بغبطة |
|
ولا جزعاً ممّا أصاب فأوجعا |
فلو أنّ ما ألقى يصيب متالعاً |
|
أو الركن من سلمى إذا لتضعضعا |
وما وجد أظآر ثلاث روائم |
|
أصبن مجرّاً من حوار ومصرعا |
يذكرن ذا البثّ الحزين ببثّه |
|
إذا حنّت الأُولى سجعن لها معا |
إذا شارف منهنّ قامت فرجّعت |
|
حنيناً فأبكى شجوها البرك أجمعا |
بأوجد منّي يوم قام بمالك |
|
مناد بصير بالفراق فأسمعا |
فإن يك حزن أو تتابع عبرة |
|
أذابت عبيطاً من دم الجوف منقعا |
تجرّعتها في مالك واحتسيتها |
|
لأعظم منها ما احتسى وتجرّعا |
ألم تأت أخبار المحلّ سرائكم |
|
فيغضب منكم كلّ من كان موجعا |
بمشمته إذ صادف الحتف مالكاً |
|
ومشهده ما قد رأى ثمّ ضيّعا |
أآثرت هدماً بالياً وسويّة |
|
وجئت بها تعدو بريداً مقزّعا |
فلا تفرحنّ يوماً بنفسك إنّني |
|
أرى الموت وقّاعاً على من تشجّعا |
لعلّك يوماً أن تلمّ ملمة |
|
عليك من اللائي يدعنك أجدعا |
نعيت امرءاً لو كان لحمك عنده |
|
لآواه مجموعاً له أو ممزّعا |
فلا يهنئ الواشين مقتل مالك |
|
فقد آب شانيه إياباً فودّعا |
تحليل القصيدة:
إنّ هذه القصيدة أطول قصائد متمم، تقع في سبعة وخمسين بيتاً، وهي التي وصفت بأنّها أُمّ المراثي، وهي التي نتناولها بالشرح والتحليل والنقد محاولين استقصاء الصور التي أولع بذكرها متمم، أو أجاد في وصفها سواء كانت تلك الصور وليدة الحياة البدوية، أو هي أثر من آثار الحياة التي عاشها قبل الإسلام، وبقيت راسخة في ذهنه.
يبدأ متمم قصيدته برغبته في البكاء على أخيه طول حياته، فهو يذكر أنّ همّه وعادتته سيكونان في تعداد خصال أخيه الحميدة، ولكنّه ينفي ما يمكن أن يتبادر إلى الذهن من احتمال جزعه، فهو لا يجزع لما حدث لأخيه مع شدّة حزنه عليه، ويبدأ بعد مطلع القصيدة بتعداد فضائل أخيه فعلاً:
لعمري وما دهري بتأبين هالك |
|
ولا جزعاً ممّا أصاب فأوجعا |
لقد كفّن المنهال تحت ردائه |
|
فتى غير مبطان العشيّات أروعا |
ثمّ يستمرّ حتّى البيت العاشر.
والمتابع لهذه الفضائل يجدها فضائل عربية حقّاً، فهو كريم حسن الخلق، راجح العقل متّصف بالسماحة والنجدة والشجاعة وغير ذلك، إلّا أنّ هذه الصفات قد عرضت بثياب بدوية أصيلة تحسّ من خلالها أثر البداوة وحياتها، فحسن الخلق في معاملة الأهل صفة يمتدح عليها الرجال مدحاً وتأبيناً، إلّا أنّها وردت في بيت متمم الثالث مصوّرة لشظف العيش الذي يعاني منه البدوي فيبرز حسن خلقه أكثر من بروزه في الحياة المستقرّة:
ولا برما تهدي النساء لعرسه |
|
إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا |
فالبرد الشديد الذي يقسو على العربي في صحرائه صوره متمم من خلال وصفه للجلد اليابس الذي يزيد تقعقعه إذا هبّت الريح، كما أنّ الشطر الأوّل فيه مدح من خلال صورة بدوية سنقف عندها مع الصور الأُخرى. وحين يريد متمم وصف أخيه بالنجدة تتبادر إلى ذهنه صورة بدوية كانت معروفة قبل الإسلام، وهي سرعة نجدة أخيه لصاحبه إذا ما أصابه غم أو داهمه خصم لأنّه لا يضيع من يستنجد به. وتنساب الأوصاف الأُخرى راسمة صورة لفارس بدوي لا يحجم إذا اشتدّ القتال، ولا يهاب منازلاً مدججاً بالسلاح. بعد هذه الصفات يندفع متمم مرّة أُخرى للبكاء على أخيه، وكأنّ تعداد مآثره مسوّغ آخر لاستمراره على البكاء، فيخاطب عينيه يحثّهما على البكاء من خلال صور جميلة تتراءى أمامه يبرز فيها وجه أخيه الذي افتقده (الأبيات من 11 ــ 17).
فعيني هلّا تبكيان لمالك |
|
إذا أذرت الريح الكنيف المرفّعا |
فيعرض متمّم في هذه الأبيات صوراً بدوية جميلة إذا رآها افتقد أخاه فيها، وزاد إحساسه بالألم لفراقه، فمشهد الريح إذا اشتدّت وقلعت ما حرص العربي على ثباته
كالحظائر والبيوت تجسّم الفراغ الذي تركه مالك، لأنّ كرمه يعرف أكثر في هذه الأيّام، ولأنّ شدّة البرد والريح قد يتركها الكريم بخيلاً، لضيق ذات يده، بينما يبدو مالك في هذه الأيّام العصيبة أكثر كرماً وجوداً، وإذا رأى متمم مشهد أسير قد طال أسره حتّى يبس قيده على يديه افتقد مالكاً، إذ لو كان موجوداً لفكّ أسره وافتداه.
وإذا سمع متمم صوت رجل يرغي بعيره (يحمله على الرغاء) لتجيبه الابل أو لتنبح الكلاب القريبة منه، فيهتدي إلى وجود أُناس يطعمونه ويكرمونه، هذا الصوت بحدّ ذاته يذكّره بأخيه الذي يسرع إلى نجدة من يضلّ طريقه ويبحث عمّن يؤويه:
وضيف إذا رغى طروقاً بعيره |
|
وعان ثوى في القدّ حتّى تكنّعا |
وإذا رأى ذليلة تجرّ يتيمها الضعيف، فإنّه يدعو عينيه للبكاء أيضاً، لأنّه يحسّ أن لو كان مالك موجوداً لأنقذ الأرملة ويتيمها من الضياع والفقر. هذه الصور البدوية الجميلة التي أجاد متمم عرضها أضاف إليها صوراً كانت معروفة قبل الإسلام، وكأنّ صورة أخيه ما تزال ماثلة أمامه أيّام كانا معاً في قبيلتهما قبل أن يحرّم الإسلام كثيراً من معالم تلك الحياة. من ذلك وصفه لهمّة أخيه وكرمه، فهو يشترك مع القوم في ميسرهم ليطعم حصّته من الطعام (ولا برما تهدى النساء لعرسه)، وبذا فإنّ زوجه هي الأُخرى لا تحتاج إلى من يطعمها لأنّ زوجها يكفيها، ويكفي الآخرين المحتاجين.
وحين يعمّ الجدب البادية وينحر الموسرون والأشراف تبرز صورة مالك الذي يشترك مع القوم في ميسرهم، ويوزّع حصّته أو ما يفوز به قدحه من اللحم على المحتاجين:
إذا جرّد القوم القداح وأُوقدت |
|
لهم نار أيسار كفى من تضجّعا |
وإن شهد الايسار لم يلف مالك |
|
على الفرث يحمي اللحم أن يتوزّعا |
وقد ألحّت صور ما قبل الإسلام على مخيّلة متمم، فهو حين عدّد صفات أخيه العربية أوّل القصيدة أضاف إليها حسن خلقه في مجلس الشراب، ومنادمة أصدقائه فلا تعبث الخمر برأسه ولا يفحش ولا يسئ الأدب ... فإذا أضفنا إلى هذه الصورة صوراً أُخرى سترد في بيته التاسع عشر وجب علينا أن نقف محلّلين سبب إيراد متمم لها مع نصّ القدماء على كونه قد أسلم وحسن إسلامه، وصور الميسر والقداح والشرب والمنادمة وإجابة الداعي ونصرته قبل معرفة كونه ظالماً أو مظلوماً، مثل هذه صور قد اختفت من حياة العرب بسبب تحريم الإسلام لها، فلماذا أصرّ متمم على إبرازها في أشعاره؟ لا نجد تفسير لهذا إلّا بأنّ متمماً ما يزال شاعراً قد رسخت في ذهنه المعاني والصور التي مرّت به قبل إسلامه، وصورة أخيه ومآثره بالذات ما زالتا راسختين في مخيّلته من خلال بروزه في عشيرته قبل الإسلام فارساً شجاعاً كريماً سيّد قومه، فرسم متمم صور أخيه المتنوّعة من خلال ما عرف به قبل الإسلام، ولعلّ هذا هو سبب عدّه في الشعراء الذي قلّ تأثّرهم بالإسلام لا من حيث قلّة المفردات والصور الإسلامية الواردة في أشعاره، ولكن من خلال الحاح الصور القديمة على مخيّلته، وعدم قدرته على الخروج عليها أو الاتيان ببديل عنها.
على أنّ هناك ملاحظة فنّية أُخرى وهي أنّ متمماً لا يستمرّ في تعداد مآثر أخيه أو رسم صور جميلة له على نسق واحد، وإنّما نجح في إعادة ذهن السامع إلى سبب تعداده هذه الفضائل فهو لا يستمرّ فيها ولا يسترسل إلّا بعد أن يقطع تأبينه ببيت أو بيتين يظهر من خلالهما حزنه وآلامه، ليسوغ لنا إفاضته في ذكر مآثر أخيه فنراه بعد الأبيات العشرة الأُولى يبدأ مقطعاً جديداً في وصف مآثر أخيه بعد أن يفلح في إعادة ذهن القارئ إلى تذكّر المرثي (فعيني هلّا تبكيان لمالك) ويذكر الأبيات 17 ــ 22 إنّ الذي حال بينه وبين الصبر على فقد أخيه هو مثول المشاهد التي يفقتد فيها أخوه:
أبى الصبر آيات أراها وإنّني |
|
أرى كلّ حبل دون حبلك أقطعا |
وينتقل في البيت (32) إلى الفكرة نفسها بأُسلوب آخر من خلال محادثة امرأته التي تنكر عليه حزنه:
وهكذا ينهي متمم قصيدته بإظهار حزنه وصبره، وجلده مع عتابه لمن مرّ بجسد أخيه، ورآه ملقى ولم يغطّه، معلناً أنّ الموت لا شماتة فيه، وأنّ المصائب قد تصيب الناس لكنّ المهم أنّ أخاه غادر الدنيا بخصال حميدة، والملاحظ أخيراً انّ متمماً في هذه القصيدة والقصائد الأُخرى اكتفى بإظهار حزنه وألمه لفقد أخيه وتعداد مآثره وفضائله دون الدخول بتفصيلات عن مقتله، ودون الاشارة إلى سببه، وكأنّ معرفة السبب أو إعلانه لا يهمّانه في شيء قدر ما يهمّه كون مالك هو أخوه وحبيبه، وانّ فقده قد آلمه وأبكاه. لقد حفلت القصيدة بتنوّع صور متمم الشعرية بين تصوير حزنه لفقده أخيه، والتنقّل بين الصور التي تذكره بمآثره. وتبقى لغته مواكبة لهذه الصور، فتبدو أعرابية الحلّة في الصور البدوية، وتعود إلى اللغة السمحة السهلة التي يتحدّث فيها عن أحزانه وآلامه (الأبيات 20، 22، 21، 23، 25، 24، 26، 31، 32) وتتعدّد أساليب خطابه بين الذات والمخاطب والمخاطبة، والجماعة وحين يتحدّث عن فضائل أخيه يستخدم لغة الغائب، لا برما، فتى، لبيب، خصيب) ويتحوّل إلى خطاب المخاطب المفرد الذي يعدّد له فضائل أخيه: (تراه كظلّك، وأن تلفه) (الأبيات 5، 6، 7، 8).
يعود بعدها إلى اخفاء الخطاب والحديث مباشرة بلغة الغائب عن أخيه: وما كان وقافاً (الأبيات 9 فما بعدها).
ثمّ ينتقل في البيت 13 إلى المخاطبة المؤنتة (وللشرب فأبكي مالكاً)، ويعود إليها أيضاً في الأبيات 33، 34، 39، 41، 42.
وفي البيت 51 يتحوّل إلى خطاب الحاضرين (ألم يأت اخبار المحل ..).
وفجأة ينتقل إلى المخاطب المذكّر، وهو الشخص الذي يصفه بأنّه جاء معلناً موت أخيه مالك، وكأنّه يشمت به (أآثرت، وجئت، تعدو، فلا تفرحنّ، لعلّك، نعيت 53 إلى 57 لينتقل أخيراً إلى خطاب الجماعة الغائبين في البيت الأخير.
هذا التنوّع في الخطاب منح القصيدة حيوية تشدّ القارئ، وتجعله متابعاً لصور الشاعر، متعلّقاً بتنقّلاته السريعة وفي الوقت نفسه منح تنوّع الخطاب الإحساس بأنّ [153]
قضيّة مقتل مالك والحزن عليه ليست خاصّة بالشاعر، ولكن فقده أمر يشغل الآخرين ممّن يعرفون فروسيته ومكانته وكرمه، بدءاً من المرأة التي يفترض وجودها، فيخاطبها إلى خطاب الأفراد منفردين، أو مجتمعين، حاضرين، أو غائبين. وهو ما منح القصيدة خصوصية، وجمالية عبر الأجيال.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|