المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16691 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
رعمسيس.
2024-07-07
مانيتون وتواريخ الأسرة التاسعة عشرة.
2024-07-07
بداية الأسرة التاسعة عشرة.
2024-07-07
بلاد خيتا في «خطابات» تل العمارنة.
2024-07-07
الأصناف التي يجب فيها الخمس
2024-07-07
واجبات الطواف
2024-07-07

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير الاية (275-281) من سورة البقرة  
  
7227   04:15 مساءً   التاريخ: 11-5-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الباء / سورة البقرة /


قال تعالى : {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُوعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [البقرة : 275 - 281] .

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

 

لما حث الله تعالى على الإنفاق وبين ما يحصل للمنفق من الأجر العاجل والآجل عقبه بذكر الربا الذي ظنه الجاهل زيادة في المال وهو في الحقيقة محق في المال فقال {الذين يأكلون الربا} في الدنيا {لا يقومون} يوم القيامة {إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} معناه إلا مثل ما يقوم الذي يصرعه الشيطان من الجنون فيكون ذلك أمارة لأهل الموقف على أنهم أكلة الربا عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة ومجاهد وقيل إن هذا على وجه التشبيه لأن الشيطان لا يصرع الإنسان على الحقيقة ولكن من غلب عليه المرة السود أو ضعف عقله ربما يخيل الشيطان إليه أمورا هائلة ويوسوس إليه فيقع الصرع عند ذلك من فعل الله ونسب ذلك إلى الشيطان مجازا لما كان ذلك عند وسوسته عن أبي علي الجبائي .

 وقيل يجوز أن يكون الصرع من فعل الشيطان في بعض الناس دون بعض عن أبي الهذيل وابن الإخشيد قالا لأن الظاهر من القرآن يشهد به وليس في العقل ما يمنع منه ولا يمنع الله تعالى الشيطان عنه امتحانا لبعض الناس وعقوبة لبعضهم على ذنب ألم به ولم يتب منه كما يتسلط بعض الناس على بعض فيظلمه ويأخذ ماله ولا يمنعه الله تعالى منه ويكون هذا علامة لآكلي الربا يعرفون بها يوم القيامة كما أن على كل عاص من معصيته علامة تليق به فيعرف بها صاحبها وعلى كل مطيع من طاعته أمارة تليق به فيعرف بها صاحبها وذلك معنى قوله تعالى {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} .

 وقال النبي في شهداء أحد زملوهم ((بدمائهم وثيابهم)) وقال (عليه السلام)   : ((يبعث أمتي يوم القيامة من قبورهم غرا محجلين من آثار الوضوء)) وروي عنه (عليه السلام) أنه لما قال أسري بي إلى السماء رأيت رجالا بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت من هؤلاء يا جبرائيل قال هؤلاء أكلة الربا ورواه أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((لما أسري بي إلى السماء رأيت أقواما يريد أحدهم أن يقوم ولا يقدر عليه من عظم بطنه فقلت من هؤلاء يا جبرائيل قال هؤلاء {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} وإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا يقولون ربنا متى تقوم الساعة والوعيد)) .

 في الآية متوجه إلى كل من أربى وإن لم يأكله ولكنه تعالى نبه بذكر الأكل على سائر وجوه الانتفاع بمال الربا وإنما خص الأكل لأنه معظم المقاصد من المال ونظيره قوله {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وقوله {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} الآية والمراد بالأكل في الموضعين سائر وجوه الانتفاع دون حقيقة الأكل {ذلك} أي ذلك العقاب لهم {بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} معناه بسبب قولهم إنما البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه الربا قال ابن عباس كان الرجل منهم إذا حل دينه على غريمه فطالبه به قال المطلوب منه له زدني في الأجل وأزيدك في المال فيتراضيان عليه ويعملان به فإذا قيل لهم هذا ربا قالوا هما سواء يعنون بذلك أن الزيادة في الثمن حال البيع والزيادة فيه بسبب الأجل عند محل الدين سواء فذمهم الله به وألحق الوعيد بهم وخطأهم في ذلك بقوله {وأحل الله البيع وحرم الربا} أي أحل الله البيع الذي لا ربا فيه وحرم البيع الذي فيه الربا والفرق بينهما أن الزيادة في أحدهما لتأخير الدين وفي الآخر لأجل البيع وأيضا فإن البيع بدل البدل لأن الثمن فيه بدل المثمن والربا زيادة من غير بدل للتأخير في الأجل أو زيادة في الجنس .

 والمنصوص عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) تحريم التفاضل في ستة أشياء الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والملح وقيل الزبيب قال (عليه السلام) إلا مثلا بمثل يدا بيد من زاد واستزاد فقد أربى لا خلاف في حصول الربا في هذه الأشياء الستة وفي غيرها خلاف بين الفقهاء وهو مقيس عليها عندهم وعندنا أن الربا لا يكون إلا فيما يكال أو يوزن وأما علة تحريم الربا فقد قيل هي أن فيه تعطيل المعايش والإجلاب والمتاجر إذا وجد المربى من يعطيه دراهم وفضلا بدراهم وقال الصادق (عليه السلام) إنما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا أو رفدا .

 {فمن جاءه موعظة من ربه} معناه فمن جاءه زجر ونهي وتذكير من ربه {فانتهى} أي فانزجر وتذكر واعتبر {فله ما سلف} معناه فله ما أخذ وأكل من الربا قبل النهي لا يلزمه رده قال الباقر (عليه السلام) من أدرك الإسلام وتاب مما كان عمله في الجاهلية وضع الله عنه ما سلف وقال السدي معناه له ما أكل وليس عليه رد ما سلف فأما ما لم يقبض بعد فلا يجوز له أخذه وله رأس المال وقوله {جاءه موعظة} وقال في موضع آخر {قد جاءتكم موعظة} لأن تأنيثه غير حقيقي فإن الموعظة والوعظ بمعنى واحد .

 {وأمره إلى الله} معناه وأمره بعد مجيء الموعظة والتحريم والانتهاء إلى الله إن شاء عصمه عن أكله وثبته في انتهاءه عنه وإن شاء خذله وقيل معناه وأمره في حكم الآخرة إلى الله تعالى إن لم يتب وهو غير مستحل له إن شاء عذبه بعدله وإن شاء عفا عنه بفضله وقيل معناه أمره إلى الله فلا يؤاخذه بما سلف من الربا .

 {ومن عاد} إلى أكل الربا بعد التحريم وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من أن البيع مثل الربا {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} لأن ذلك القول لا يصدر إلا من كافر مستحل للربا فلهذا توعد بعذاب الأبد .

 ولا خلاف بين الفقهاء إن الربا محرم في النقد والنسيئة وقال بعض من تقدم لا ربا إلا في النسيئة وأما أهل الجاهلية فإنهم كانوا يربون بتأخير الدين عن محله إلى محل آخر بزيادة فيه ولا خلاف في تحريمه ومما جاء في الحديث في الربا ما روي عن علي (عليه السلام) أنه قال لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في الربا خمسة آكله وموكلة وشاهديه وكاتبه وعنه (عليه السلام) قال إذا أراد الله بقرية هلاكا ظهر فيهم الربا وعنه (عليه السلام) قال الربا سبعون بابا أهونها عند الله كالذي ينكح أمه وروي جميل بن دراج عن أبي عبد الله قال درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام .

 وقوله تعالى : {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَوا ويُرْبى الصدَقَاتِ واللَّهُ لا يُحِب كلَّ كَفَّار أَثِيم} :

ثم أكد سبحانه ما تقدم بقول {يمحق الله} أي ينقص الله {الربا} حالا بعد حال إلى أن يتلف المال كله وقال ابن عباس معناه يهلكه ويذهب ببركته وقيل للصادق (عليه السلام) وقد يرى الرجل يربي فيكثر ماله فقال يمحق الله دينه وإن كثر ماله وقال أبو القاسم البلخي يمحقه الله في الدنيا بسقوط عدالته والحكم بفسقه والتسمية بالفسق .

 {ويربي الصدقات} أي وينمي الصدقات ويزيدها بأن يثمر المال في نفسه في العاجل وبالأجر عليه والثواب في الأجل وذلك بحسب الانتفاع بها وحسن النية فيها وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ((أن الله تعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد)) .

 والنكتة في الآية أن المربي إنما يطلب بالربى زيادة المال ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال فبين الله سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء وإن الصدقة سبب النماء دون النقصان {والله لا يحب كل كفار أثيم} الكفار فعال من الكفر وهو المقيم عليه المستمسك به المعتاد له ومعناه والله يبغض كل كفار لنعمته باستجلال الربا منهمك في غوايته متماد في إثمه بأكله وإنما لم يقل كل كافر لأنه إذا استحل الربا صار كافرا لأنه إذا كثر أكله للربا مع الاستحلال فقد ضم كفرا إلى كفر وإذا استحل الربا ولم يعقد عقد الربا لم يلحقه من المندمة ما يلحق من جمع بين الأمرين فالجامع بين الأمرين يستدعي من غضب الله ما لا يستدعيه أحد الأمرين وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ((يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره)) .

وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 277] :

هذه الآية ظاهرة المعنى وقد مر تفسيرها فيما مضى وإنما جمع بين هذه الخصال لا لأن الثواب لا يستحق على كل واحدة منها إذ لوكان كذلك لكان فيه تصغير من كل واحدة منها ولكن جمع بينها للترغيب في الأعمال الصالحة والتفخيم لأمرها والتعظيم لشأنها أو لبيان أن الجمع بين هذه الخصال أعظم أجرا من الأفراد بواحدة منها ونظيره قوله سبحانه {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله} الآية .

 فجمع بين هذه الخصال في الوعيد ليبين أن الوعيد يستحق بكل واحدة منها وللتحذير عن كل خصلة منها لأن من المعلوم أن من دعا مع الله إلها آخر لا يحتاج إلى شرط عمل آخر في استحقاق الوعيد إذ لوكان الوعيد إنما يستحق بمجموع تلك الخصال لكان فيه تسهيل لكل واحد منها وقد ذكرنا أن أمثال هذه الآية تدل على أن الإيمان ليس من أفعال الجوارح ولا مشتملا عليها إذ لوكان كذلك لما صار لعطفها عليه معنى لأن الشيء لا يعطف على نفسه .

 فإن قالوا : إن ذلك يجري مجرى قوله {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله} {والذين كفروا وكذبوا ب آياتنا} فنقول إن الخلاف هاهنا كالخلاف هناك لأن التكذيب عندنا ليس بالكفر نفسه وإنما هو دلالة على الكفر وكذلك الصد عن سبيل الله واستدل بهذه الآية وأمثالها في بطلان التحابط لأنه تعالى ضمن الثواب بنفس هذه الخصال ولم يشترط أن لا يؤتى بما يحبطها .

 فإن قالوا لا بد من هذا الشرط كما أن الوعيد على الكفر لا بد أن يكون مشروطا بارتفاع التوبة فالجواب أن التوبة إنما صارت شرطا هناك لمكان إجماع المسلمين لا لأن التوبة مسقطة للعقاب وإنما وعد الله تعالى بإسقاط العقاب عندها تفضلا منه سبحانه ولا إجماع على ما ادعوه من الشرط في آيات الوعد فبان الفرق بين الأمرين .

وقوله تعالى : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْب مِّنَ اللَّهِ ورَسولِهِ وإِن تُبْتُمْ فَلَكمْ رُءُوس أَمْوَلِكمْ لا تَظلِمُونَ ولا تُظلَمُونَ} :

بين سبحانه حكم ما بقي من الربا فقال {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} في أمر الربا وفي جميع ما نهاكم عنه {وذروا ما بقي من الربا} أي واتركوا ما بقي من الربا فلا تأخذوه واقتصروا على رءوس أموالكم وقوله {إن كنتم مؤمنين} معناه من كان مؤمنا فهذا حكمه فأما من ليس بمؤمن فإنه يكون حربا وقيل معناه إن كنتم مؤمنين بتحريم الربا مصدقين به وبما فيه من المفسدة التي يعلمها الله {فإن لم تفعلوا} أي فإن لم تقبلوا أمر الله ولم تنقادوا له ولم تتركوا بقية الربا بعد نزول الآية بتركه {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} أي فأيقنوا واعلموا بقتال من الله ورسوله والمعنى أيقنوا أنكم تستحقون القتل في الدنيا والنار في الآخرة لمخالفة أمر الله ورسوله ومن قرأ فأذنوا فمعناه فاعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب ومعنى الحرب عداوة الله وعداوة رسوله وهذا إخبار بعظم المعصية وروي عن ابن عباس وقتادة والربيع أن من عامل بالربا استتابه الإمام فإن تاب وإلا قتله وقال الصادق آكل الربا يؤدب بعد البينة فإن عاد أدب وإن عاد قتل {وإن تبتم} من استحلال الربا وأقررتم بتحريمه {فلكم رءوس أموالكم} دون الزيادة {لا تظلمون} بأخذ الزيادة على رأس المال {ولا تظلمون} بالنقصان من رأس المال .

- {وإِن كانَ ذُو عُسرَة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسرَة وأَن تَصدَّقُوا خَيرٌ لَّكمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} :

ولما أمر سبحانه بأخذ رأس المال من الموسر بين بعده حال المعسر فقال {وإن كان ذو عسرة} معناه وإن وقع في غرمائكم ذو عسرة ويجوز أن يكون تقديره وإن كان غريما لكم ذو عسرة {فنظرة} أي فالذي تعاملونه به نظرة {إلى ميسرة} أي إلى وقت اليسار أي فالواجب نظرة صيغة الخبر والمراد به الأمر أي فانظروه إلى وقت يساره واختلف في حد الإعسار فروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته وقوت عياله على الاقتصاد وقال أبو علي الجبائي هو التعذر بالإعدام أو بكساد المتاع أو نحوه واختلف في وجوب إنظار المعسر على ثلاثة أقوال ( أحدها ) أنه واجب في كل دين عن ابن عباس والضحاك والحسن وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله ( وثانيها ) أنه واجب في دين الربا خاصة عن شريح وإبراهيم النخعي ( وثالثها ) أنه واجب في دين الربا بالآية وفي كل دين بالقياس عليه وقال الباقر (عليه السلام) {إلى ميسرة} معناه إلى أن يبلغ خبره الإمام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في المعروف .

 {وأن تصدقوا خير لكم} معناه وأن تتصدقوا على المعسر بما عليه من الدين خير لكم {إن كنتم تعلمون} الخير من الشر وتميزون ما لكم عما عليكم .

 ومما جاء في معنى الآية من الحديث قوله (عليه السلام) ((من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل)) . إلا ظله وروي بريدة عنه أنه قال من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة وفي هذه الآية دلالة على أن الإنسان إن علم أن غريمه معسر حرم عليه حبسه وملازمته ومطالبته بما له عليه وإنما يجب عليه إنظاره انتظارا لليسارة وإن الصدقة برأس المال على المعسر خير وأفضل من انتظار يسره وروي عن ابن عباس وابن عمر آخر ما نزلت من القرآن آي الربا .

- {واتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفى كلُّ نَفْس مَّا كسبَت وهُمْ لا يُظلَمُونَ (281)}

ثم حذر سبحانه المكلفين من بعد ما تقدم من ذكر آي الحدود والأحكام فقال {واتقوا يوما} معناه واحذروا يوما واخشوا يوما {ترجعون فيه إلى الله} تردون جميعا إلى جزاء الله ويقال إلى ملك الله لنفعكم وضركم دون غيره ممن ملكه إياه في دار الدنيا وهو المراد بكل ما في القرآن من هذا اللفظ لأن الله سبحانه لا يغيب عن أحد ولا يغيب أحد عن علمه وملكه وسلطانه ويدل عليه قوله وهو معكم أينما كنتم وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم وإنما خص يوم القيامة بهذه الصفة لأن الناس إذا حشروا انقطع أمرهم وبطل ملكهم ولا يبقى لواحد منهم أمر ولا نهي كما قال سبحانه لمن الملك اليوم لله الواحد القهار .

 {ثم توفى كل نفس ما كسبت} قيل فيه وجهان أحدهما توفي جزاء ما كسبت من الأعمال والثاني توفى ما كسبت من الثواب والعقاب لأن الكسب على وجهين كسب العبد لفعله وكسبه لما ليس من فعله كما يكسب المال {وهم لا يظلمون} معناه لا ينقصون ما يستحقونه من الثواب ولا يزاد عليهم ما يستحقونه من العقاب .

_____________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص205-215 .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

 

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ} .

ان الشيطان لا يمس أحدا ، ولا سلطان له على أحد في الخبل والصرع ، وانما القصد مجرد التشبيه والتقريب لأذهان العرب الذين يقولون عمن يصاب بالصرع : مسه الشيطان . . ومعنى الآية ان حال الذين يتعاملون بالربا ، تماما كحال المجنون والمصروع الذي يخبط في تصرفاته خبط عشواء ، وروي عن ابن عباس : ان المرابين يقومون من قبورهم غدا كالمصروعين ، ويكون ذلك أمارة لأهل الموقف على انهم اكلة الربا .

{ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا } . ذلك إشارة إلى استحلالهم للربا ، وقد فلسفوه بأن البيع والربا متماثلان من جميع الوجوه ، فكيف يكون البيع حلالا دون الربا ؟ ! . أليس للإنسان أن يبيع ما يساوي خمسة دراهم بستة ، وان يبيع ما يساوي درهما معجلا بدرهمين مؤجلين ؟ . . إذن ، ينبغي أن يسمح له بإعطاء عشرة دراهم بأحد عشر إلى شهر ، والفرق تحكم في نظر العقل .

ورد اللَّه سبحانه هذا الزعم بقوله : {وأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبا} . ووجه الرد ان مجرد تماثلهما في الظاهر لا يستدعي أن يكونا كذلك في الواقع ، فان البيع عملية تجارية نافعة ، والبائع يقوم بدور الوسيط بين المنتج والمستهلك ، فيكون ربحه عوضا عن أتعابه ، وليس أكلا للمال بالباطل ، أما الربا فهو استغلال محض ، وأخذ للزيادة من غير مقابل ، فيكون أكلا للمال بالباطل . . ومن أجل هذا أحل اللَّه البيع ، وحرم الربا . . فاختلافهما حكما عند اللَّه دليل على اختلافهما واقعا ، وكذلك العكس .

{ فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ } . أي من كان قد أخذ الربا قبل أن ينزل به التحريم ، ثم تركه بعد التحريم لا يكلَّف رده إلى من أخذه منه ، وكذلك من يسلم الآن ، فان كان قد أخذ الربا قبل إسلامه لا يجب عليه الرد بعد ان يسلم ، فهذه الآية ، تماما كقوله تعالى : {ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ} .

ومبدأ عدم المفعول الرجعي للقانون أخذ به التشريع الجديد في موارد كثيرة ، بخاصة في الأمور المالية ، وعللوه بأنه يحدث هزة اقتصادية يصعب تلافيها .

{وأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } . ذكروا في تفسير العبارة وجوها لم تركن النفس إليها . والذي فهمناه نحن ان من أخذ الربا جهلا بحكمه ، وتركه بعد أن علم نهي اللَّه عنه

طاعة له فان اللَّه سبحانه يشمله بعنايته ، ويغنيه بحلاله عن حرامه ، لأنه ترك الحرام توكلا على اللَّه ، ومن يتوكل على اللَّه فهو حسبه .

{ ومَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ } . معناه ان الذين لا يأتمرون بأمر اللَّه ، ولا ينتهون بنهيه ، يستمرون على أكل الربا عنادا واستخفافا فهم مخلدون في النار ، لأن مثل هذا العناد والإصرار لا يصدر إلا عن كافر جاحد .

( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ويُرْبِي الصَّدَقاتِ واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) . المحق هو النقصان ، والربا الزيادة ، والمعنى ان المرابي طلب المزيد في ماله ، ولكن الربا في الحقيقة نقصان للمال ، حيث يصبح رجسا محرما ، والحرام يخرج المال عن المالك ، ويجعل تصرف المرابي فيه كتصرف الغاصب في المال المغصوب ، هذا بالإضافة إلى الإثم والعذاب ، وبديهة ان كل ما كان سببا لغضب اللَّه وعذابه فهو رجس ونقصان ، وعمل من وحي الشيطان .

أما الصدقة فإنها تطهر المال وتزكيه ، وتثبته على ملك المتصدق والمزكي ، وتستدعي مرضاة اللَّه وثوابه ، وهذا هو عين الكمال والزيادة . . وبكلمة ان كثير المال الحرام قليل ، وقليل المال الحلال كثير . . ( والكفار الأثيم ) هو الذي يتمادى في أكل الربا ، لا يرتدع عنه ، وكذا من يتمادى في ترك الزكاة ، ولا يكترث بتهديد اللَّه ووعيده .

واستنادا إلى هذه الآية يصح القول : ان أكثر المنتمين إلى الإسلام في هذا العصر كفار آثمون ، لتماديهم في أكل الربا ، وترك الخمس والزكاة .

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وأَقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ } . هذه الآية ظاهرة المعنى لا تحتاج إلى تفسير ، ومع هذا فقد مر تفسيرها في الآية 25 و82 . . وانما أعاد اللَّه سبحانه هذا الوعد اطرادا في ذكر الوعد بعد الوعيد ، وبالعكس ، ولما بالغ هنا في وعيد المرابين اتبعه بوعد الصالحين . . وتجمل الإشارة إلى أن ظاهر الآية يدل على ان الايمان النظري مجردا عن العمل ليس بشيء .

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}  بألسنتهم {اتَّقُوا اللَّهً وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } حقا في قلوبكم . وقوله : ذروا ما بقي من الربا يشعر بأن التحريم ليس له مفعول رجعي ، كما أشرنا .

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ } . ولا موجب لإعلان الحرب من اللَّه ورسوله على من أصر على أكل الربا الا انه كافر ، أو بحكم الكافر ، حتى ولو أكله تهاونا لا جحودا . . ولكن الروايات عن المعصوم قسمت أكل الربا إلى نوعين : الأول من يأكله مستحلا له ، وهذا كافر من غير شك ، لأنه قد أنكر ما ثبت بضرورة الدين . قبل للإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) : ان فلانا يأكل الربا ويسميه اللبأ . قال : لئن أمكنني اللَّه منه لأضربن عنقه . النوع الثاني : ان يأكله تهاونا بحكم اللَّه ، مع الايمان بتحريمه ، وهذا يستتاب أولا وثانيا فان أصر يقتل . فعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : (آكل الربا يؤدب بعد البينة ، فان عاد أدب ، فان عاد قتل) . وقيل : يقتل في الرابعة .

{وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ } . أي لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال ، ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال .

{وإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ } . كل مدين سواء استدان بالربا ، أو بدونه لا تجوز مضايقته ، إذا كان معسرا ، كما لا يجوز للمدين الموسر أن يماطل بالوفاء ، قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) : (كما لا يحل لغريمك أن يمطلك ، وهو موسر كذلك لا يحل لك أن تعسره - أي تضايقه - إذا كان معسرا) .

وحدّ المعسر الذي لا تجوز مضايقته في الشريعة الاسلامية هو الذي لا يملك الا دار سكناه ، وما تدعو إليه الضرورة كثيابه وكتبه وأثاث بيته اللازمة لحياته ، وأدوات الصناعة التي يكتسب منها قوته ، ومؤنة يوم واحد له ولعياله ، كل هذه لا يجب بيعها لقضاء الدين . وذكرنا مستثنيات الدين مفصلا في الجزء الخامس من فقه الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) ، فصل المفلس .

{وأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . ليس من شك ان إبراء المعسر من الدين فضيلة ، بل ومن أعظم الطاعات ، لأن فيه تنفيسا لكربته ، وقضاء لحاجته ، وقد جاء في الحديث : (من انظر معسرا ، أو وضع عنه أظلَّه اللَّه تحت ظله يوم لا ظل الا ظله) .

واتفق الفقهاء كلمة واحدة على ان من استدان في غير معصية ، ثم عجز عن الوفاء تسدد ديونه من بيت المال ، قال الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) : (من طلب هذا الرزق من حله ، ليعود به على نفسه ، وعلى عياله كان كالمجاهد في سبيل اللَّه ، فان غلب عليه ، فليستدن على اللَّه ، وعلى رسوله ما يقوت به عياله) . ومعنى فليستدن على اللَّه ورسوله ان دينه يسدد من بيت المال الذي يجب صرفه في سبيل اللَّه .

وقد نص القرآن الكريم على ذلك في الآية 60 من سورة التوبة : {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والْمَساكِينِ والْعامِلِينَ عَلَيْها والْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفِي الرِّقابِ والْغارِمِينَ وفِي سَبِيلِ اللَّهِ وابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . والغارمون قوم وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة اللَّه .

وقوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ترغيب في العمل بالعلم ، أي ما دمتم تعلمون ان إبراء المعسر من الدين خير فعليكم أن تعملوا بعلمكم هذا ، وقيل :

ان المراد ب {تعلمون} هنا تعملون ، أي ان كنتم عاملين بالخير فتصدقوا بالدين على المعسر . . وليس هذا ببعيد . . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : العلم مقرون بالعمل ، فمن علم عمل ، والعلم يهتف بالعمل ، فان أجابه والا ارتحل عنه . . وكثير من علماء هذا العصر لا يسمون النظرية ، أية نظرية ، علما الا بعد أن يلمسوا صدقها بالتطبيق والتجربة .

{ واتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ } . بعد أن نهى سبحانه عن الربا ، وتشدد فيه وأمر بالصبر على المدين المعسر ، أو ابرائه من الدين في سبع آيات ، بعد هذا عقب سبحانه بهذه الآية التي خوف فيها العصاة من يوم الحساب والجزاء ، وهوله وعذابه .

وفي مجمع البيان ان هذه الآية آخر آية نزلت على رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) ، وانه عاش بعدها واحدا وعشرين يوما .

____________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص 435-439 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

الآيات مسوقة لتأكيد حرمة الربا والتشديد على المرابين وليست مسوقة للتشريع الابتدائي ، كيف ولسانها غير لسان التشريع : وإنما الذي يصلح لهذا الشأن قوله تعالى في سورة آل عمران : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران : 130] ، نعم تشتمل هذه الآيات على مثل قوله : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} ، وسياق الآية يدل على أن المسلمين ما كانوا ينتهون عن النهي السابق عن الربا ، بل كانوا يتداولونها بينهم بعض التداول فأمرهم الله بالكف عن ذلك ، وترك ما للغرماء في ذمة المدينين من الربا ، ومن هنا يظهر معنى قوله : {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله} الآية على ما سيجيء بيانه .

وقد تقدم على ما في سورة آل عمران من النهي قوله تعالى في سورة الروم وهي مكية : {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [الروم : 39] ، ومن هنا يظهر أن الربا كان أمرا مرغوبا عنه من أوائل عهد رسول الله قبل الهجرة حتى تم أمر النهي عنه في سورة آل عمران ، ثم اشتد أمره في سورة البقرة بهذه الآيات السبع التي يدل سياقها على تقدم نزول النهي عليها ، ومن هنا يظهر : أن هذه الآيات إنما نزلت بعد سورة آل عمران .

على أن حرمة الربا في مذهب اليهود على ما يذكره الله تعالى في قوله : {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } [النساء : 161] ، ويشعر به قوله : - حكاية عنهم - {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } [آل عمران : 75] ، مع تصديق القرآن لكتابهم وعدم نسخ ظاهر كانت تدل على حرمته في الإسلام .

والآيات أعني آيات الربا لا تخلو عن ارتباط بما قبلها من آيات الإنفاق في سبيل الله كما يشير إليه قوله تعالى في ضمنها : يمحق الله الربا ويربي الصدقات ، وقوله : وأن تصدقوا خير لكم ، وكذا ما وقع من ذكره في سورة الروم وفي سورة آل عمران مقارنا لذكر الإنفاق والصدقة والحث عليه والترغيب فيه .

على أن الاعتبار أيضا يساعد الارتباط بينهما بالتضاد والمقابلة ، فإن الربا أخذ بلا عوض كما أن الصدقة إعطاء بلا عوض ، والآثار السيئة المترتبة على الربا تقابل الآثار الحسنة المترتبة على الصدقة وتحاذيها على الكلية من غير تخلف واستثناء ، فكل مفسدة منه يحاذيها خلافها من المصلحة منها لنشر الرحمة والمحبة ، وإقامة أصلاب المساكين والمحتاجين ، ونماء المال ، وانتظام الأمر واستقرار النظام والأمن في الصدقة وخلاف ذلك في الربا .

وقد شدد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدد بمثله في شيء من فروع الدين إلا في تولي أعداء الدين ، فإن التشديد فيه يضاهي تشديد الربا ، وأما سائر الكبائر فإن القرآن وإن أعلن مخالفتها وشدد القول فيها فإن لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين ، حتى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم ، وما هو أعظم منها كقتل النفس التي حرم الله والفساد ، فجميع ذلك دون الربا وتولي أعداء الدين .

وليس ذلك إلا لأن تلك المعاصي لا تتعدى الفرد أو الأفراد في بسط آثارها المشئومة ، ولا تسري إلا إلى بعض جهات النفوس ، ولا تحكم إلا في الأعمال والأفعال بخلاف هاتين المعصيتين فإن لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين ويعفي أثره ، ويفسد به نظام حياة النوع ، ويضرب الستر على الفطرة الإنسانية ويسقط حكمها فيصير نسيا منسيا على ما سيتضح إن شاء الله العزيز بعض الاتضاح .

وقد صدق جريان التاريخ كتاب الله فيما كان يشدد في أمرهما حيث أهبطت المداهنة والتولي والتحاب والتمايل إلى أعداء الدين الأمم الإسلامية في مهبط من الهلكة صاروا فيها نهبا منهوبا لغيرهم : لا يملكون مالا ولا عرضا ولا نفسا ، ولا يستحقون موتا ولا حياة ، فلا يؤذن لهم فيموتوا ، ولا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة ، وهجرهم الدين ، وارتحلت عنهم عامة الفضائل .

وحيث ساق أكل الربا إلى ادخار الكنوز وتراكم الثروة والسؤدد فجر ذلك إلى الحروب العالمية العامة ، وانقسام الناس إلى قسمي المثري السعيد والمعدم الشقي ، وبان البين ، فكان بلوى يدكدك الجبال ، ويزلزل الأرض ، ويهدد الإنسانية بالانهدام ، والدنيا بالخراب ، ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى .

وسيظهر لك إن شاء الله تعالى أن ما ذكره الله تعالى من أمر الربا وتولي أعداء الدين من ملاحم القرآن الكريم .

قوله تعالى : {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} ، الخبط هو المشي على غير استواء(2) ، يقال خبط البعير إذا اختل جهة مشيه ، وللإنسان في حياته طريق مستقيم لا ينحرف عنه ، فإنه لا محالة ذو أفعال وحركات في طريق حياته بحسب المحيط الذي يعيش فيه ، وهذه الأفعال محفوظة النظام بأحكام اعتقادية عقلائية وضعها ونظمها الإنسان ثم طبق عليها أفعاله الانفرادية والاجتماعية ، فهو يقصد الأكل إذا جاع ، ويقصد الشرب إذا عطش ، والفراش إذا اشتهى النكاح ، والاستراحة إذا تعب ، والاستظلال إذا أراد السكن وهكذا ، وينبسط لأمور وينقبض عن أخرى في معاشرته ، ويريد كل مقدمة عند إرادة ذيها ، وإذا طلب مسببا مال إلى جهة سببه .

وهذه الأفعال على هذه الاعتقادات مرتبطة متحدة نحو اتحاد متلائمة غير متناقضة ومجموعها طريق حياته .

وإنما اهتدى الإنسان إلى هذا الطريق المستقيم بقوة مودوعة فيه هي القوة المميزة بين الخير والشر والنافع والضار والحسن والقبيح وقد مر بعض الكلام في ذلك .

وأما الإنسان الممسوس وهو الذي اختلت قوته المميزة فهولا يفرق بين الحسن والقبيح والنافع والضار والخير والشر ، فيجري حكم كل مورد فيما يقابله من الموارد ، لكن لا لأنه ناس لمعنى الحسن والقبح وغيرهما فإنه بالأخرة إنسان ذو إرادة ، ومن المحال أن يصدر عن الإنسان غير الأفعال الإنسانية بل لأنه يرى القبيح حسنا والحسن قبيحا والخير والنافع شرا وضارا وبالعكس فهو خابط في تطبيق الأحكام وتعيين الموارد .

وهو مع ذلك لا يجعل الفعل غير العادي عاديا دون العكس فإن لازم ذلك أن يكون عنده آراء وأفكار منتظمة ربما طبقها على غير موردها من غير عكس ، بل قد اختل عنده حكم العادة وغيره وصار ما يتخيله ويريده هو المتبع عنده ، فالعادي وغير العادي عنده على حد سواء كالناقة تخبط وتضرب على غير استواء ، فهو في خلاف العادة لا يرى العادة إلا مثل خلاف العادة من غير مزية لها عليه ، فلا ينجذب من خلاف العادة إلى العادة فافهم ذلك .

وهذا حال المرابي في أخذه الربا إعطاء الشيء وأخذ ما يماثله وزيادة بالأجل فإن الذي تدعو إليه الفطرة ويقوم عليه أساس حياة الإنسان الاجتماعية أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه ، وأما إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة وأساس المعيشة ، فإن ذلك ينجر من جانب المرابي إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمعه وتراكمه عند المرابي ، فإن هذا المال لا يزال ينمو ويزيد ، ولا ينمو إلا من مال الغير ، فهو بالانتفاص والانفصال من جانب ، والزيادة والانضمام إلى جانب آخر .

وينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايدا لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة وكلما زاد المصرف أي نمى الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص ويتداركه ، وفي ذلك انهدام حياة المدين .

فالربا يضاد التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنساني الذي هدته إليه الفطرة الإلهية .

وهذا هو الخبط الذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس ، فإن المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرق بين البيع والربا ، فإذا دعي إلى أن يترك الربا ويأخذ بالبيع أجاب إن البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية ، فلا موجب لترك الربا وأخذ البيع ، ولذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم : {إنما البيع مثل الربا} .

ومن هذا البيان يظهر : أولا : أن المراد بالقيام في قوله تعالى : {لا يقومون إلا كما يقوم} ، هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة فإنه معنى من معاني القيام يعرفه أهل اللسان في استعمالاتهم ، قال تعالى : {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد : 25] ، وقال تعالى : {أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ } [الروم : 25] ، وقال تعالى : {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} [النساء : 127] ، وأما كون المراد به المعنى المقابل للقعود فمما لا يناسب المورد ، ولا يستقيم عليه معنى الآية .

وثانيا : أن المراد بخبط الممسوس في قيامه ليس هو الحركات التي يظهر من الممسوس حال الصرع أو عقيب هذا الحال على ما يظهر من كلام المفسرين ، فإن ذلك لا يلائم الغرض المسوق لبيانه الكلام ، وهوما يعتقده المرابي من عدم الفرق بين البيع والربا ، وبناء عمله عليه ، ومحصله أفعال اختيارية صادرة عن اعتقاد خابط ، وكم من فرق بينهما وبين الحركات الصادرة عن المصروع حال الصرع ، فالمصير إلى ما ذكرناه من كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في أمر الحياة ! .

وثالثا : النكتة في قياس البيع بالربا دون العكس في قوله تعالى : {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} ، ولم يقل : إنما الربا مثل البيع كما هو السابق إلى الذهن وسيجيء توضيحه .

ورابعا : أن التشبيه أعني قوله : {الذي يتخبطه الشيطان من المس} لا يخلو عن إشعار بجواز تحقق ذلك في مورد الجنون في الجملة ، فإن الآية وإن لم تدل على أن كل جنون هومن مس الشيطان لكنها لا تخلو عن إشعار بأن من الجنون ما هو بمس الشيطان ، وكذلك الآية وإن لم تدل على أن هذا المس من فعل إبليس نفسه فإن الشيطان بمعنى الشرير ، يطلق على إبليس وعلى شرار الجن وشرار الإنس ، وإبليس من الجن ، فالمتيقن من إشعار الآية أن للجن شأنا في بعض الممسوسين إن لم يكن في كلهم .

وما ذكره بعض المفسرين أن هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين ، ولا ضير في ذلك لأنه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأ غير مطابق للواقع ، فحقيقة معنى الآية ، أن هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس ، وأما كون الجنون مستندا إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن لأن الله سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن .

ففيه : أنه تعالى أجل من أن يستند في كلامه إلى الباطل ولغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلا مع بيان بطلانه ورده على قائله ، وقد قال تعالى : في وصف كلامه {لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت : 41 ، 42] ، وقال تعالى : {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق : 13 ، 14] .

وأما إن استناد الجنون إلى تصرف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى ، ففيه أن الإشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعية ، فإنها أيضا مستندة بالأخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل .

على أنه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إياه إشكال .

لأن التكليف يرتفع حينئذ بارتفاع الموضوع ، وإنما الإشكال في أن ينحرف الإدراك العقلي عن مجرى الحق وسنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله ، كان يشاهد الإنسان العاقل الحسن قبيحا وبالعكس ، أو يرى الحق باطلا وبالعكس جزافا بتصرف من الشيطان ، فهذا هو الذي لا يجوز نسبته إليه تعالى ، وأما ذهاب القوة المميزة وفساد حكمها تبعا لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء أسند إلى الطبيعة أو إلى الشيطان .

على أن استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان ، كما أن أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين ، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب (عليه السلام) إذ قال : {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص : 41] ، وإذ قال : {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [الأنبياء : 83] ، والضر هو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن ، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان .

وهذا وما يشبهه ، من الآراء المادية التي دبت في أذهان عدة من أهل البحث من حيث لم يشعروا بها حيث إن أصحاب المادة لما سمعوا الإلهيين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه ، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أن ذلك إبطال للعلل الطبيعية وإقامة لما وراء الطبيعة مقامها ، ولم يفقهوا أن المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل ، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مرارا .

وخامسا : فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين : أن المراد بالتشبيه بيان حال آكلي الربا يوم القيامة وأنهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الذي يتخبطه الجنون .

ووجه الفساد أن ظاهر الآية على ما بينا لا يساعد هذا المعنى ، والرواية لا تجعل للآية ظهورا فيما ليست بظاهرة فيه ، وإنما تبين حال آكل الربا يوم القيامة .

قال في تفسير المنار : ، وأما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقد قال ابن عطية في تفسيره ، : المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة : قد جن .

أقول : وهذا هو المتبادر ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه وقالوا : إن المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث ، وإن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين ، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود بل روى الطبراني من حديث عوف بن مالك مرفوعا : إياك والذنوب التي لا تغفر : الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة ، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط .

ثم قال : والمتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطية لأنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال ، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث ، وهذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده ، وهي لم تنزل مع القرآن ، ولا جاء المرفوع منها مفسرا للآية ، ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قال به ابن عطية إلا من لم يظهر له صحته في الواقع .

ثم قال : وكان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسرونه بها ، وقلما يصح في التفسير شيء ، انتهى ما ذكره .

ولقد أصاب فيما ذكره من خطإهم لكنه أخطأ في تقرير معنى التشبيه الواقع في الآية حيث قال : أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه فإن أولئك الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى ضربت نفوسهم بجمعه ، وجعلوه مقصودا لذاته ، وتركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس ، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار ، يزيد فيهم النشاط والانهماك في أعمالهم ، حتى يكون خفة تعقبها حركات غير منتظمة .

وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس فإن التخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم وكخبط العشواء ، انتهى .

فإن ما ذكره من خروج حركاتهم عن الاعتدال والانتظام وإن كان في نفسه صحيحا لكن لا هو معلول أكل الربا محضا ، ولا هو المقصود من التشبيه الواقع في الآية : أما الأول فإنما ذلك لانقطاعهم عن معنى العبودية وإخلادهم إلى لذائذ المادة ، ذلك مبلغهم من العلم ، فسلبوا بذلك العفة الدينية والوقار النفساني ، وتأثرت نفوسهم عن كل لذة يسيرة مترائية من المادة ، وتعقب ذلك اضطراب حركاتهم ، وهذا مشاهد محسوس من كل من حاله الحال الذي ذكرنا وإن لم يمس الربا طول حياته .

وأما الثاني فلأن الاحتجاج الواقع في الآية على كونهم خابطين لا يلائم ما ذكره من وجه الشبه ، فإن الله سبحانه يحتج على كونهم خابطين في قيامهم بقوله : {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} ، ولوكان كما يقول كان الأنسب الاحتجاج على ذلك بما ذكره من اختلال حركاتهم وفساد النظم في أعمالهم .

فالمصير إلى ما قدمناه .

قوله تعالى : {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} ، قد تقدم الوجه في تشبيه البيع بالربا دون العكس بأن يقال : إنما الربا مثل البيع فإن من استقر به الخبط والاختلال كان واقفا في موقف خارج عن العادة المستقيمة ، والمعروف عند العقلاء والمنكر عندهم سيان عنده ، فإذا أمرته بترك ما يأتيه من المنكر والرجوع إلى المعروف أجابك – لو أجاب - إن الذي تأمرني به كالذي تنهاني عنه لا مزية له عليه ، ولو قال : إن الذي تنهاني عنه كالذي تأمرني به كان عاقلا غير مختل الإدراك فإن معنى هذا القول : أنه يسلم أن الذي يؤمر به أصل ذو مزية يجب اتباعه لكنه يدعي أن الذي ينهى عنه ذو مزية مثله ، ولم يكن معنى كلامه إبطال المزية وإهماله كما يراه الممسوس ، وهذا هو قول المرابي المستقر في نفسه الخبط : {إنما البيع مثل الربا} ، ولو أنه قال : إن الربا مثل البيع لكان رادا على الله جاحدا للشريعة لا خابطا كالممسوس .

والظاهر أن قوله تعالى : {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} حكاية لحالهم الناطق بذلك وإن لم يكونوا قالوا ذلك بألسنتهم ، وهذا السياق أعني حكاية الحال بالقول ، معروف عند الناس .

وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم : أن المراد بقولهم : {إنما البيع مثل الربا} نظمهما في سلك واحد ، وإنما قلبوا التشبيه وجعلوا الربا أصلا وشبهوا به البيع للمبالغة كما في قوله :

ومهمة مغبرة أرجاؤه . *** كأن لون أرضه سماؤه .

وكذا فساد ما ذكره آخرون : أنه يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناء على ما فهموه : أن البيع إنما حل لأجل الكسب والفائدة ، وذلك في الربا متحقق وفي غيره موهوم .

ووجه الفساد ظاهر مما تقدم .

قوله تعالى : {وأحل الله البيع وحرم الربا} ، جملة مستأنفة بناء على أن الجملة الفعلية المصدرة بالماضي لو كانت حالا لوجب تصديرها بقد .

يقال : جاءني زيد وقد ضرب عمرا ، ولا يلائم كونها حالا ما يفيده أول الكلام من المعنى ، فإن الحال قيد لزمان عامله وظرف لتحققه ، فلو كانت حالا لأفادت : أن تخبطهم لقولهم إنما البيع مثل الربا إنما هو في حال أحل الله البيع وحرم الربا عليهم ، مع أن الأمر على خلافه فهم خابطون بعد تشريع هذه الحلية والحرمة وقبل تشريعهما ، فالجملة ليست حالية وإنما هي مستأنفة .

وهذه المستأنفة غير متضمنة للتشريع الابتدائي على ما تقدم أن الآيات ظاهرة في سبق أصل تشريع الحرمة ، بل بانية على ما تدل عليها آية آل عمران : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران : 130] ، فالجملة أعني قوله : {وأحل الله} "إلخ" لا تدل على إنشاء الحكم ، بل على الإخبار عن حكم سابق وتوطئة لتفرع قوله بعدها : {فمن جاءه موعظة من ربه} إلخ ، هذا ما ينساق إليه ظاهر الآية الشريفة .

وقد قيل : إن قوله : وأحل الله البيع وحرم الربا مسوق لإبطال قولهم : {إنما البيع مثل الربا} ، والمعنى لوكان كما يقولون لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين مع أن الله أحل أحدهما وحرم الآخر .

وفيه أنه وإن كان استدلالا صحيحا في نفسه لكنه لا ينطبق على لفظ الآية فإنه معنى كون الجملة ، وأحل الله "إلخ" ، حالية وليست بحال .

وأضعف منه ما ذكره آخرون : أن معنى قوله : {وأحل الله} "إلخ" إنه ليست الزيادة في وجه البيع نظير الزيادة في وجه الربا ، لأني أحللت البيع وحرمت الربا ، والأمر أمري ، والخلق خلقي ، أقضي فيهم بما أشاء ، وأستعبدهم بما أريد ، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي .

وفيه : أنه أيضا مبني على أخذ الجملة حالية لا مستأنفة ، على أنه مبني على إنكار ارتباط الأحكام بالمصالح والمفاسد ارتباط السببية والمسببية ، وبعبارة أخرى على نفي العلية والمعلولية بين الأشياء وإسناد الجميع إلى الله سبحانه من غير واسطة ، والضرورة تبطله ، على أنه خلاف ما هو دأب القرآن من تعليل أحكامه وشرائعه بمصالح خاصة أو عامة ، على أن قوله في ضمن هذه الآيات : {وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} الآية ، وقوله : {لا تظلمون} الآية ، وقوله : الذين يأكلون الربا إلى قوله مثل الربا ، تدل على نوع تعليل لإحلال البيع بكونه جاريا على سنة الفطرة والخلقة ولتحريم الربا بكونه خارجا عن سنن الاستقامة في الحياة ، وكونه منافيا غير ملائم للإيمان بالله تعالى ، وكونه ظلما .

قوله تعالى : {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله} ، تفريع على قوله : {وأحل الله البيع} "إلخ" ، والكلام غير مقيد بالربا ، فهو حكم كلي وضع في مورد جزئي للدلالة على كونه مصداقا من مصاديقه يلحقه حكمه ، والمعنى : أن ما ذكرناه لكم في أمر الربا موعظة جاءتكم من ربكم ومن جاءه موعظة "إلخ" فإن انتهيتم فلكم ما سلف وأمركم إلى الله .

ومن هنا يظهر : أن المراد من مجيء الموعظة بلوغ الحكم الذي شرعه الله تعالى ، ومن الانتهاء التوبة وترك الفعل المنهي عنه انتهاء عن نهيه تعالى ، ومن كون ما سلف لهم عدم انعطاف الحكم وشموله لما قبل زمان بلوغه ، ومن قوله : {فله ما سلف وأمره إلى الله} ، إنه لا يتحتم عليهم العذاب الخالد الذي يدل عليه قوله : {ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ، فهم منتفعون فيما أسلفوا بالتخلص من هذه المهلكة ، ويبقى عليهم : أن أمرهم إلى الله فربما أطلقهم في بعض الأحكام ، وربما وضع عليهم ما يتدارك به ما فوتوه .

واعلم : أن أمر الآية عجيب ، فإن قوله : {فمن جاءه موعظة} إلى آخر الآية مع ما يشتمل عليه من التسهيل والتشديد حكم غير خاص بالربا ، بل عام يشمل جميع الكبائر الموبقة ، والقوم قد قصروا في البحث عن معناها حيث اقتصروا بالبحث عن مورد الربا خاصة من حيث العفو عما سلف منه ، ورجوع الأمر إلى الله فيمن انتهى ، وخلود العذاب لمن عاد إليه بعد مجيء الموعظة ، هذا كله مع ما تراه من العموم في الآية .

إذا علمت هذا ظهر لك : أن قوله : {فله ما سلف وأمره إلى الله} لا يفيد إلا معنى مبهما يتعين بتعين المعصية التي جاء فيها الموعظة ويختلف باختلافها ، فالمعنى : أن من انتهى عن موعظة جاءته فالذي تقدم منه من المعصية سواء كان في حقوق الله أوفي حقوق الناس فإنه لا يؤاخذ بعينها لكنه لا يوجب تخلصه من تبعاته أيضا كما تخلص من أصله من حيث صدوره ، بل أمره فيه إلى الله ، إن شاء وضع فيها تبعة كقضاء الصلاة الفائتة والصوم المنقوض وموارد الحدود والتعزيرات ورد المال المحفوظ المأخوذ غصبا أوربا وغير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة والانتهاء ، وإن شاء عفا عن الذنب ولم يضع عليه تبعة بعد التوبة كالمشرك إذا تاب عن شركه ومن عصى بنحو شرب الخمر واللهو فيما بينه وبين الله ونحو ذلك ، فإن قوله : {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى} ، مطلق يشمل الكافرين والمؤمنين في أول التشريع وغيرهم من التابعين وأهل الأعصار اللاحقة .

وأما قوله : {ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ، فوقوع العود في هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة يدل على أن المراد به العود الذي يجامع عدم الانتهاء ، ويلازم ذلك الإصرار على الذنب وعدم القبول للحكم وهذا هو الكفر أو الردة باطنا ولولم يتلفظ في لسانه بما يدل على ذلك ، فإن من عاد إلى ذنب ولم ينته عنه ولو بالندم فهو غير مسلم للحكم تحقيقا ولا يفلح أبدا .

فالترديد في الآية بحسب الحقيقة بين تسليم الحكم الذي لا يخلو عن البناء على عدم المخالفة وبين الإصرار الذي لا يخلو غالبا عن عدم التسليم المستوجب للخلود على ما عرفت .

ومن هنا يظهر الجواب عن استدلال المعتزلة بالآية على خلود مرتكب الكبيرة في العذاب .

فإن الآية وإن دلت على خلود مرتكب الكبيرة بل مطلق من اقترف المعصية في العذاب لكن دلالتها مقصورة على الارتكاب مع عدم تسليم الحكم ولا محذور فيه .

وقد ذكر في قوله تعالى : {فله ما سلف} ، وفي قوله : {وأمره إلى الله} ، وقوله : {ومن عاد} "إلخ" وجوه من المعاني والاحتمالات على أساس ما فهمه الجمهور من الآية على ما تقدم لكنا تركنا إيرادها لعدم الجدوى فيها بعد فساد المنشإ .

قوله تعالى : {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} "إلخ" ، المحق نقصان الشيء حالا بعد حال ، ووقوعه في طريق الفناء والزوال تدريجا ، والإرباء الإنماء ، والأثيم الحامل للإثم ، وقد مر معنى الإثم .

وقد قوبل في الآية بين إرباء الصدقات ومحق الربا ، وقد تقدم أن إرباء الصدقات وإنمائها لا يختص بالآخرة بل هي خاصة لها عامة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة فمحق الربا أيضا كذلك لا محالة .

فكما أن من خاصة الصدقات أنها تنمي المال إنماء يلزمها ذلك لزوما قهريا لا ينفك عنها من حيث إنها تنشر الرحمة وتورث المحبة وحسن التفاهم وتألف القلوب وتبسط الأمن والحفظ ، وتصرف القلوب عن أن تهم بالغضب والاختلاس والإفساد والسرقة ، وتدعو إلى الاتحاد والمساعدة والمعاونة ، وتنسد بذلك أغلب طرق الفساد والفناء الطارئة على المال ، ويعين جميع ذلك على نماء المال ودره أضعافا مضاعفة .

كذلك الربا من خاصته أنه يمحق المال ويفنيه تدريجا من حيث إنه ينشر القسوة والخسارة ، ويورث البغض والعداوة وسوء الظن ، ويفسد الأمن والحفظ ، ويهيج النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت من قول أو فعل مباشرة أو تسبيبا ، وتدعو إلى التفرق والاختلاف ، وتنفتح بذلك أغلب طرق الفساد وأبواب الزوال على المال وقلما يسلم المال عن آفة تصيبه ، أو بلية تعمه .

وكل ذلك لأن هذين الأمرين أعني الصدقة والربا مربوطان مماسان بحياة طبقة الفقراء والمعوزين وقد هاجت بسبب الحاجة الضرورية إحساساتهم الباطنية ، واستعدت للدفاع عن حقوق الحياة نفوسهم المنكوبة المستذلة ، وهموا بالمقابلة بالغا ما بلغت ، فإن أحسن إليهم بالصنيعة والمعروف بلا عوض - والحال هذه - وقعت إحساساتهم على المقابلة بالإحسان وحسن النية وأثرت الأثر الجميل ، وإن أسيء إليهم بإعمال القسوة والخشونة وإذهاب المال والعرض والنفس قابلوها بالانتقام والنكاية بأي وسيلة ، وقلما يسلم من تبعات هذه الهمم المهلكة أحد من المرابين على ما يذكره كل أحد مما شاهد من أخبار آكلي الربا من ذهاب أموالهم وخراب بيوتهم وخسران مساعيهم .

ويجب عليك : أن تعلم أولا : أن العلل والأسباب التي تبنى عليها الأمور والحوادث الاجتماعية أمور أغلبية الوجود والتأثير ، فإنا إنما نريد بأفعالنا غاياتها ونتائجها التي يغلب تحققها ، ونوجد عند إرادتها أسبابها التي لا تنفك عنها مسبباتها على الأغلب لا على الدوام ، ونلحق الشاذ النادر بالمعدوم ، وأما العلل التامة التي يستحيل انفكاك معلولاتها عنها في الوجود فهي مختصة بالتكوين يتناولها العلوم الحقيقية الباحثة عن الحقائق الخارجية .

والتدبر في آيات الأحكام التي ذكر فيها مصالح الأفعال والأعمال ومفاسدها مما يؤدي إلى السعادة والشقاوة يعطي أن القرآن في بناء آثار الأعمال على الأعمال وبناء الأعمال على عللها يسلك هذا المسلك ويضع الغالب موضع الدائم كما عليه بناء العقلاء .

وثانيا : أن المجتمع كالفرد والأمر الاجتماعي كالأمر الانفرادي متماثلان في الأحوال على ما يناسب كلا منهما بحسب الوجود ، فكما أن للفرد حياة وعمرا وموتا مؤجلا وأفعالا وآثارا فكذلك المجتمع في حياته وموته وعمره وأفعاله وآثاره .

وبذلك ينطق القرآن كقوله تعالى : {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [الحجر : 4 ، 5] .

وعلى هذا فلو تبدل وصف أمر من الأمور من الفردية إلى الاجتماعية تبدل نحو بقائه وزواله وأثره .

فالعفة والخلاعة الفردية حالكونهما فرديين لهما نوع من التأثير في الحياة فإن ركوب الفحشاء مثلا يوجب نفرة الناس عن الإنسان والاجتناب عن ازدواجه وعن مجالسته وزوال الوثوق بأمانته هذا إذا كان أمرا فرديا والمجتمع على خلافه ، وأما إذا صار اجتماعيا معروفا عند العامة ذهبت بذلك تلك المحاذير لأنها كانت تبعات الإنكار العمومي والاستهجان العام للفعل وقد أذهبه التداول والشياع لكن المفاسد الطبيعية كانقطاع النسل والأمراض التناسلية والمفاسد الآخر الاجتماعية التي لا ترضى به الفطرة كبطلان الأنساب واختلالها وفساد الانشعابات القومية والفوائد الاجتماعية المترتبة على ذلك مترتبة عليه لا محالة .

وكذا يختلف ظهور الآثار في الفرد فيما كان فرديا مع ظهورها في المجتمع إذا كان اجتماعيا من حيث السرعة والبطء .

إذا عرفت ذلك علمت : أن محقه تعالى للربا في مقابل إربائه للصدقات يختلف لا محالة بين ما كان الفعل فعلا انفراديا كالربا القائم بالشخص فإنه يهلك صاحبه غالبا ، وقل ما يسلم منه مراب لوجود أسباب وعوامل خاصة تدفع عن ساحة حياته الفناء والمذلة ، وبين ما كان فعلا اجتماعيا كالربا الدائر اليوم الذي يعرفه الملل والدول بالرسمية ، ووضعت عليها القوانين ، وأسست عليها البنوج فإنه يفقد بعض صفاته الفردية لرضى الجامعة بما شاع فيها وتعارف بينها وانصراف النفوس عن التفكر في معائبه لكن آثاره اللازمة كتجمع الثروة العمومية وتراكمها في جانب ، وحلول الفقر والحرمان العمومي في جانب آخر ، وظهور الانفصال والبينونة التامة بين القبيلين : الموسرين والمعسرين مما لا ينفك عن هذا الربا وسوف يؤثر أثره السيئ المشئوم ، وهذا النوع من الظهور والبروز وإن كنا نستبطئه بالنظر الفردي ، وربما لم نعتن به لإلحاقه من جهة طول الأمد بالعدم ، لكنه معجل بالنظر الاجتماعي ، فإن العمر الاجتماعي غير العمر الفردي ، واليوم الاجتماعي ربما عادل دهرا في نظر الفرد .

قال تعالى : {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران : 140] ، وهذا اليوم يراد به العصر الذي ظهر فيه ناس ، على ناس وطائفة ، على طائفة وحكومة على حكومة ، وأمة ، على أمة ، وظاهر أن سعادة الإنسان كما يجب أن يعتنى بشأنها من حيث الفرد يجب الاعتناء بأمرها من حيث النوع المجتمع .

والقرآن ليس يتكلم عن الفرد ولا في الفرد وإن لم يسكت عنه ، بل هو كتاب أنزله الله تعالى قيما على سعادة الإنسان : نوعه وفرده ، ومهيمنا على سعادة الدنيا : حاضرها وغابرها .

فقوله تعالى {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} يبين حال الربا والصدقة في أثرهما سواء كانا نوعيين أو فرديين ، والمحق من لوازم الربا لا ينفك عنه كما أن الإرباء من لوازم الصدقة لا ينفك عنها ، فالربا ممحوق وإن سمي ربا والصدقة ربا رابية وإن لم تسم ربا ، وإلى ذلك يشير تعالى : {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} بإعطاء وصف الربا للصدقات بأقسامها ، وتوصيف الربا بوصف يضاد اسمه بحسب المعنى وهو الانمحاق .

وبما مر من البيان يظهر ضعف ما ذكره بعضهم : أن محق الربا ليس بمعنى إبطال السعي وخسران العمل بذهاب المال الربوي ، فإن المشاهدة والعيان يكذبه ، وإنما المراد بالمحق إبطال السعي من حيث الغايات المقصودة بهذا النوع من المعاملة ، فإن المرابي يقصد بجمع المال من هذا السبيل لذة اليسر وطيب الحياة وهناء العيش ، لكن يشغله عن ذلك الوله بجمع المال ووضع درهم على درهم ، ومبارزة من يريد به أو بماله أوبأرباحه سوءا ، والهموم المتهاجمة على نفسه من عداوة الناس وبغض المعوزين له ، ووجه ضعفه ظاهر .

وكذا ما ذكره آخرون : أن المراد به محق الآخرة وثواب الأعمال التي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا ، أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات ، وجه الضعف : أنه لا شك أن ما ذكروه من المحق لكنه لا دليل على انحصاره في ذلك .

وكذا ضعف ما استدل به المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى : {ومن عاد} "إلخ" ، وقد مر ما يظهر به تقرير الاستدلال والدفع جميعا .

قوله تعالى : {والله لا يحب كل كفار أثيم} ، تعليل لمحق الربا بوجه كلي ، والمعنى أن آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطرية في الحياة الإنسانية ، وهي طرق المعاملات الفطرية ، وكفره بأحكام كثيرة في العبادات والمعاملات المشروعة ، فإنه بصرف مال الربا في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه يبطل كثيرا من عباداته بفقدان شرائط مأخوذة فيها ، وباستعماله فيما بيده من المال الربوي يبطل كثيرا من معاملاته ، ويضمن غيره ، ويغصب مال غيره في موارد كثيرة ، وباستعمال الطمع والحرص في أموال الناس والخشونة والقسوة في استيفاء ما يعده لنفسه حقا يفسد كثيرا من أصول الأخلاق والفضائل وفروعها ، وهو أثيم مستقر في نفسه الإثم فالله سبحانه لا يحبه لأن الله لا يحب كل كفار أثيم .

قوله تعالى : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} "إلخ" ، تعليل يبين به ثواب المتصدقين والمنتهين عما نهى الله عنه من أكل الربا بوجه عام ينطبق على المورد انطباقا .

قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} خطاب للمؤمنين وأمر لهم بتقوى الله وهو توطئة لما يتعقبه من الأمر بقوله {وذروا ما بقي من الربا} ، وهو يدل على أنه كان من المؤمنين في عهد نزول الآيات من يأخذ الربا ، وله بقايا منه في ذمة الناس من الربا فأمر بتركها ، وهدد في ذلك بما سيأتي من قوله : {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} الآية .

وهذا يؤيد ما سننقله من الرواية في سبب نزول الآية في البحث الروائي الآتي .

وفي تقييد الكلام بقوله : {إن كنتم مؤمنين} إشارة إلى أن تركه من لوازم الإيمان ، وتأكيد لما تقدم من قوله : {ومن عاد} "إلخ" ، وقوله : {والله لا يحب كل كفار} "إلخ" .

قوله تعالى : {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} ، الإذن كالعلم وزنا ومعنى ، وقرىء فآذنوا بالأمر من الإيذان ، والباء في قوله بحرب لتضمينه معنى اليقين ونحوه ، والمعنى : أيقنوا بحرب أو أعلموا أنفسكم باليقين بحرب من الله ورسوله ، وتنكير الحرب لإفادة التعظيم أو التنويع ، ونسبة الحرب إلى الله ورسوله لكونه مرتبطا بالحكم الذي لله سبحانه فيه سهم بالجعل والتشريع ولرسوله فيه سهم بالتبليغ ، ولوكان لله وحده لكان أمرا تكوينيا ، وأما رسوله فلا يستقل في أمر دون الله سبحانه قال تعالى : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران : 128] .

والحرب من الله ورسوله في حكم من الأحكام مع من لا يسلمه هو تحميل الحكم على من رده من المسلمين بالقتال كما يدل عليه قوله تعالى : {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [الحجرات : 9] ، على أن لله تعالى صنعا آخر في الدفاع عن حكمه وهو محاربته إياهم من طريق الفطرة وهو تهييج الفطرة العامة على خلافهم ، وهي التي تقطع أنفاسهم ، وتخرب ديارهم ، وتعفي آثارهم ، قال تعالى : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء : 16] .

قوله تعالى : {وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} ، كلمة وإن تبتم ، تؤيد ما مر أن الخطاب في الآية لبعض المؤمنين ممن كان يأخذ الربا وله بقايا على مدينيه ومعامليه ، وقوله : {فلكم رءوس أموالكم} أي أصول أموالكم الخالصة من الربا لا تظلمون بأخذ الربا ولا تظلمون بالتعدي إلى {رءوس أموالكم} ، وفي الآية دلالة على إمضاء أصل الملك أولا : وعلى كون أخذ الربا ظلما كما تقدم ثانيا : وعلى إمضاء أصناف المعاملات حيث عبر بقوله رءوس أموالكم والمال إنما يكون رأسا إذا صرف في وجوه المعاملات وأصناف الكسب ثالثا .

قوله تعالى : {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} ، لفظة كان تامة أي إذا وجد ذو عسرة ، والنظرة المهلة ، والميسرة اليسار ، والتمكن مقابل العسرة أي إذا وجد غريم من غرمائكم لا يتمكن من أداء دينه الحال فانظروه وأمهلوه حتى يكون متمكنا ذا يسار فيؤدي دينه .

والآية وإن كانت مطلقة غير مقيدة لكنها منطبقة على مورد الربا ، فإنهم كانوا إذا حل أجل الدين يطالبونه من المدين فيقول المدين لغريمه زد في أجلي كذا مدة أزيدك في الثمن بنسبة كذا ، والآية تنهى عن هذه الزيادة الربوية ويأمر بالإنظار .

قوله تعالى : {وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} ، أي وإن تضعوا الدين عن المعسر فتتصدقوا به عليه فهو خير لكم إن كنتم تعلمون فإنكم حينئذ قد بدلتم ما تقصدونه من الزيادة من طريق الربا الممحوق من الزيادة من طريق الصدقة الرابية حقا .

قوله تعالى : {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} "إلخ" ، فيه تذييل لآيات الربا بما تشتمل عليه من الحكم والجزاء بتذكير عام بيوم القيامة ببعض أوصافه الذي يناسب المقام ، ويهيىء ذكره النفوس لتقوى الله تعالى والورع عن محارمه في حقوق الناس التي تتكي عليه الحياة ، وهو أن أمامكم يوما ترجعون فيه إلى الله فتوفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون .

وأما معنى هذا الرجوع مع كوننا غير غائبين عن الله ، ومعنى هذه التوفية فسيجيء الكلام فيه في تفسير سورة الأنعام إن شاء الله تعالى .

وقد قيل : إن هذه الآية : {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} ، آخر آية نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيجيء ما يدل عليه من الروايات في البحث الروائي التالي .

___________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص346-361 .

2- قال ابن فارس : اصل الخبط وطٍ وضرب يقال خبط البعير الارض يعني ضربها ويقال خبط الورق من الشجر اذا ضربه ليسقط وقد يحمل على ذلك فيقال لداء يشبه الجنون الخباط . انتهى . ولم يقيده (على غير سواء) واما غيره من اللغويين فعرفوه بأنه ( الضرب على غير استواء ) فتأمل .

 

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

 

الربا في القرآن :

في الآيات التي مضت كان الكلام على الإنفاق وبذل المال لمساعدة المحتاجين وفي سبيل رفاه المجتمع . وفي هذه الآيات يدور الكلام على الربا الذي يقف في الجهة المضادّة للإنفاق ، والواقع هو أنّ هذه الآيات تكمل هدف الآيات السابقة ، لأنّ تعاطي الربا يزيد من الفواصل الطبقية ويركّز الثروة في أيدي فئة قليلة ، ويسبّب فقر الأكثرية ، والإنفاق سبب طهارة القلوب والنفوس واستقرار المجتمع ، والربا سبب البخل والحقد والكراهية والدنس .

هذه الآيات شديدة وصريحة في منع الربا ، ولكن يبدو منها أنّ موضوع الربا قد سبق التطرّق إليه . فإذا لاحظنا تاريخ نزول هذه الآيات تتّضح لنا صحّة ذلك ، فبحسب ترتيب نزول القرآن ، السورة التي ورد فيها ذكر الربا لأول مرّة هي سورة الروم ، وهي السورة الثلاثون التي نزلت في مكّة ، ولا نجد في غيرها من السور المكّية إشارة إلى الربا .

لكن الحديث عن الربا في السورة المكّية جاء على شكل نصيحة أخلاقية {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } [الروم : 39] .

أي أنّ قصيري النظر قد يرون أنّ الثروة تزداد بالربا ، ولكنّه لا يزداد عند الله .

ثمّ بعد الهجرة ، تناول القرآن الربا في ثلاث سور أُخرى من السور التي نزلت في المدينة وهي بالترتيب : سورة البقرة ، وسورة آل عمران ، وسورة النساء . وعلى الرغم من أنّ سورة البقرة قد نزلت قبل سورة آل عمران ، فلا يُستبعد أن تكون الآية 130 من سورة آل عمران ـ وهي التي تحرّم الربا تحريماً صريحاً ـ قد نزلت قبل سورة البقرة والآيات المذكورة أعلاه .

على كلّ حال ، هذه الآية وسائر الآيات التي تخصّ الربا نزلت في وقت كان فيه تعاطي الربا قد راج بشدّة في مكّة والمدينة والجزيرة العربية حتّى غدا عاملاً مهمّاً من عوامل الحياة الطبقية ، وسبباً من أهمّ أسباب ضعف الطبقة الكادحة وطغيان الأرستقراطية ، لذلك فإنّ الحرب التي أعلنها القرآن على الربا تعتبر من أهمّ الحروب الإجتماعية التي خاضها الإسلام .

يقول تعالى :

{الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاَّ كما يقوم الذي يتخبّطه (2) الشيطان من المس} .

فالآية تشبّه المرابي بالمصروع أو المجنون الذي لا يستطيع الإحتفاظ بتوازنه عند السير ، فيتخبّط في خطواته .

ولعلّ المقصود هو وصف طريقة «سير المرابين الاجتماعي» في الدنيا على اعتبار أنّهم أشبه بالمجانين في أعمالهم ، فهم يفتقرون إلى التفكير الاجتماعي السليم ، بل أنّهم لا يشخّصون حتّى منافعهم الخاصّة ، وأنّ مشاعر المواساة والعواطف الإنسانية وأمثالها لا مفهوم لها في عقولهم إذ أنّ عبادة المال تسيطر على عقولهم إلى درجة أنّها تعميهم عن إدراك ما ستؤدّي إليه أعمالهم الجشعة الاستغلالية من غرس روح الحقد في قلوب الطبقات المحرومة الكادحة وما سيعقب ذلك من ثورات وانفجارات اجتماعية تعرض أساس الملكية للخطر ، وفي مثل هذا المجتمع سينعدم الأمن والاستقرار ، وستصادر الراحة من جميع الناس بمن فيهم هذا المرابي ، ولذلك فإنّه يجني على نفسه أيضاً بعمله الجنوني هذا .

ولكن بما أنّ وضع الإنسان في العالم الآخر تجسيد لأعماله في هذا العالم فيحتمل أن تكون الآية إشارة إلى المعنيين . أي أنّ الذين يقومون في الدنيا قياماً غير معتقّل وغير متوازن يخالطه اكتناز جنوني للثروة سيحشرون يوم القيامة كالمجانين .

الطريف الروايات والأحاديث تشير إلى كلا المفهومين . ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال : «آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتّى يتخبّطه الشيطان» (3) .

وفي رواية أُخرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن تجسيد حال المرابين الذين لا يهمّهم غير مصالحهم الخاصّة ، وما ستجرّه عليهم أموالهم المحرّمة قال : «لمّا أُسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه ، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ! قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاَّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس» (4) .

الحديث الأوّل يبيّن اضطراب الإنسان في هذه الدنيا ، ويعكس الحديث الثاني حال المرابين في مشهد يوم القيامة ، وكلاهما يرتبطان بحقيقة واحدة ، فكما أنّ الإنسان المبطان الأكول يسمن بإفراط وبغير حساب ، كذلك المرابون الذين يسمنون بالمال الحرام لهم حياة اقتصادية مريضة تكون وبالاً عليهم .

سؤال : هل الجنون والصرع اللذين أشارت إليهما الآية المذكورة من عمل الشيطان ، مع أننا نعلم أنّ الصرع والجنون من الأمراض النفسية التي لها أسباب معروفة في الغالب ؟

الجواب : يرى بعضهم أنّ تعبير «مسّ الشيطان» كناية عن الأمراض النفسية والجنون ، وهو تعبير كان شائعاً عند العرب ، ولا يعني أنّ للشيطان تأثيراً فعلياً في روح الإنسان .

ولكن مع ذلك لا يُستبعد أن يكون لبعض الأعمال الشيطانية التي يرتكبها الإنسان دون ترو أثر يؤدّي إلى نوع من الجنون الشيطاني ، أي يكون للشيطان على إثر هذه الأعمال فاعلية في الشخص يسبّب اختلال تعادله النفسي . ثمّ إنّ الأعمال الشيطانية الخاطئة إذا تكرّرت وتراكمت يكون أثرها الطبيعي هو أن يفقد الإنسان قدرته على تمييز السقيم من السليم والصالح من الطالح والتفكير المنطقي من المعوج .

منطق المرابين :

{ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الربا} .

هذه الآية تبيّن منطق المرابين فهم يقولون : ما الفرق بين التجارة والربا ؟ ويقصدون أنّ كليهما يمثّلان معاملة تبادل بتراضي الطرفين واختيارهما .

يقول القرآن جواباً على ذلك : {وأحلّ الله البيع وحرّم الربا} ولم يزد في ذلك شرحاً وتفصيلاً ، ربما لوضوح الإختلاف :

فأوّلاً : في صفقة البيع والشراء يكون كلا الطرفين متساويين بإزاء الربح والخسارة ، فقد يربح كلاهما ، وقد يخسر كلاهما ، ومرّة يربح هذا ويخسر ذاك ، ومرّة يخسر هذا ويربح ذاك ، بينما في المعاملة الربوية لا يتحمّل المرابي أيّة خسارة ، فكلّ الخسائر المحتملة يتحمّل ثقلها الطرف الآخر ، ولذلك نرى المؤسّسات الربوية تتوسّع يوماً فيوماً ، ويكبر رأسمالها بقدر اضمحلال وتلاشي الطبقات الضعيفة .

وثانياً : في التجارة والبيع والشراء يسير الطرفان في «الإنتاج والإستهلاك» ، بينما المرابي لا يخطو أيّة خطوة إيجابية في هذا المجال .

وثالثاً : بشيوع الربا تجري رؤوس الأموال مجرى غير سليم وتتزعزع قواعد الإقتصاد الذي هو أساس المجتمع ، بينما التجارة السليمة تجري فيها رؤوس الأموال في تداول سليم .

ورابعاً : الربا يتسبّب في المخاصمات والمنازعات الطبقية ، بينما التجارة السليمة لا تجرّ المجتمع إلى المشاحنات والصراع الطبقي .

{فمن جاءه موعظة من ربّه فانتهى فَلَهُ ما سلف وأمره إلى الله} .

تقول الآية إنّ من بلغته نصيحة الله بتحريم الربا واتّعظ فله الأرباح التي أخذها من قبل «أي أنّ القانون ليس رجعياً» لأنّ القوانين الرجعية تولد الكثير من المشاكل والإضطرابات في حياة الناس ، ولذلك فإنّ القوانين تنفّذ عادةً من تاريخ سنّها .

وهذا لا يعني بالطبع أنّ للمرابين أن يتقاضوا أكثر من رؤوس أموالهم من المدينين بعد نزول الآية ، بل المقصود إباحة ما جنوه من أرباح قبل نزول الآية .

ثمّ يقول (وأمره إلى الله) أي أنّ النظر إلى أعمال هؤلاء يوم القيامة يعود إلى الله ، وإن كان ظاهر الآية يدلّ على أنّ مستقبل هؤلاء من حيث معاقبتهم أو العفو عنهم غير واضح ، ولكن بالتوجّه إلى الآية السابقة نفهم أنّ القصد هو العفو . ويظهر من هذا أنّ إثم الربا من الكبر بحيث إنّ حكم العفو عن الذين كانوا يتعاطونه قبل نزول الآية لا يذكر صراحة .

وردت احتمالات اُخرى في معنى هذه الجملة ، أعرضنا عن ذكرها كونها خلاف الظاهر(5) .

{ومن عاد فأُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} .

أي أنّ من يواصل تعاطي الربا على الرغم من كلّ تلك التحذيرات ، فعليه أن ينتظر عذاباً أليماً في النار دائماً .

إنّ العذاب الخالد لا يكون نصيب من آمن بالله . لكن الآية تعد المصرّين على الربا بالخلود في النار ، ذلك لأنّهم بإصرارهم هذا يحاربون قوانين الله ، ويلجّون في ارتكاب الإثم ، وهذا دليل على عدم صحّة إيمانهم ، وبالتالي فهم يستحقّون الخلود في النار .

كما يمكن القول إنّ خلود العذاب هنا كما في الآية 93 من سورة النساء ، يعني العذاب المديد الطويل الأمد لا الأبديّ الدائم .

ثمّ أن الآية التالية تبيّن الفرق بين الربا والصدقة وتقول :

{يمحق الله الربا ويربي الصدقات} .

ثُمّ يضيف : {والله لا يحبّ كلَّ كفّار أثيم} يعني الذين تركوا ما في الصدقات من منافع طيبة والتمسوا طريق الربا الذي يوصلهم إلى نار جهنم .

«المَحق» النقصان التدريجي . و«الربا» هو النمو التدريجي . فالمرابي بما لديه من رأسمال وثروة يستحوذ على أتعاب الطبقة الكادحة ، وقد يؤدّي عمله هذا إلى القضاء عليهم ، أو يبذر على الأقل بذور العداء والحقد في قلوبهم بحيث يصبحون بالتدريج متعطّشين إلى شرب دماء المرابين ويهدّدون أموالهم وأرواحهم . فالقرآن يقول إنّ الله يسوق رؤوس الأموال الربوية إلى الفناء .

إنّ هذا الفناء التدريجي الذي يحيق بالفرد المرابي يحيق بالمجتمع المرابي أيضاً (6) .

وبالمقابل ، فالأشخاص الذين يتقدّمون إلى المجتمع بقلوب مليئة بالعواطف الإنسانية وينفقون من رؤوس أموالهم وثرواتهم يقضون بها حاجات المحتاجين من الناس يحظون بمحبّة الناس وعواطفهم عموماً ، وأموال هؤلاء فضلاً عن عدم تعرّضها لأيّ خطر تنمو بالتعاون العامّ نموّاً طبيعياً . وهذا ما يعنيه القرآن بقوله :

{ويربي الصدقات} .

0وهذا الحكم يجري في الفرد كما يجري في المجتمع . فالمجتمع الذي يعني بالحاجات العامّة تتحرّك فيه الطاقات الفكرية والجسمية للطبقة الكادحة التي تؤلّف أكثرية المجتمع وتبدأ العمل ، وعلى أثر ذلك يظهر إلى حيّز الوجود ذلك النظام الإقتصادي القائم على التكافل وتبادل المنافع العامّة .

{والله لا يحبّ كلّ كفّار أثيم} .

«الكفّار» من الكفور ، بوزن فجور ، وهو المغرق في نكران الجميل والكفر بالنعمة ، و«الأثيم» هو الموغل في ارتكاب الآثام .

هذه الفقرة من الآية تشير إلى أنّ المرابين بتركهم الإنفاق والإقراض والبذل في سبيل رفع الحاجات العامّة يكفرون بما أغدق الله عليهم من النِعم ، بل أكثر من ذلك يسخّرون هذه النِعم على طريق الإثم والظلم والفساد ، ومن الطبيعي أنّ الله لا يحبّ أمثال هؤلاء .

{إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربّهم} .

مقابل المرابين الآثمين الكافرين بأنعم الله هناك أُناس من المؤمنين تركوا حبّ الذات ، وأحيوا عواطفهم الفطرية ، وارتبطوا بالله بإقامة الصلاة ، وأسرعوا لمعونة المحتاجين بدفع الزكاة ، وبذلك يحولون دون تراكم الثروة وظهور الإختلاف الطبقي المؤدّي إلى الكثير من الجرائم . هؤلاء ثوابهم محفوظ عند الله ويرون نتائج أعمالهم في الدنيا والآخرة .

ثمّ إنّ هؤلاء لا يعرفون القلق والحزن ، ولا يهدّدهم الخطر الذي يتوجّه إلى المرابين من قبل ضحاياهم في المجتمع .

وأخيراً فإنّهم يعيشون في اطمئنان تام {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} .

وقوله تعالى : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّم تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْب مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرةٌ إِلَى مَيْسَرَة وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون (280) وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْس مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} :

في الآية الأُولى يخاطب الله المؤمنين ويأمرهم بالتقوى ثمّ يأمرهم أن يتنازعوا عمّا بقي لهم في ذمّة الناس من فوائد ربوية .

يلاحظ أنّ الآية بدأت بذكر الإيمان بالله واختتمت بذكره ، ممّا يدلّ بوضوح على عدم انسجام الربا مع الإيمان بالله .

{فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} .

تتغيّر في هذه الآية لهجة السياق القرآني ، فبعد أن كانت الآيات السابقة تنصح وتعظ ، تهاجم هذه الآية المرابين بكلّ شدة ، وتنذرهم بلهجة صارمة أنّهم إذا واصلوا عملهم الربوي ولم يستسلموا لأوامر الله في الحقّ والعدل واستمرّوا في امتصاص دماء الكادحين المحرومين فلا يسع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاَّ أن يتوسّل بالقوّة لإيقافهم عند حدّهم وإخضاعهم للحق ، وهذا بمثابة إعلان الحرب عليهم . وهي الحرب التي تنطلق من قانون : {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات : 9] .

لذلك عندما سمع الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ مرابياً يتعاطى الربا بكلّ صراحة ويستهزيء بحرمته هدّده بالقتل .

ويستفاد من هذا الحديث أن حكم القتل إنّما هو لمنكر تحريم الربا . (فاذنوا)من مادة «اذن» وكلما كانت متعدية بالأمر بالمعنى هو السماح وإذا تعدت بالياء فتعني العلم فعلى هذا يكون قوله {فاذنوا بحرب من الله}(7) يعني أعلموا أن الله ورسوله سيحاربوكم وهذا في الحقيقة بمثابة إعلان الحرب على هذه الفئة ، فعلى هذا ليس من الصحيح ما ذهب إليه البعض في معنى هذه الآية بأنه «اسمحوا بإعلان الحرب من الله» .

عن أبي بكير قال : بلغ أبا عبدالله الصادق (عليه السلام) عن رجل أنّه كان يأكل الربا ويسمّيه اللبا .

فقال : لئن أمكنني الله منه لأَضربنّ عنقه (8) .

يتّضح من هذا أنّ هذا الحكم يخصّ الذين ينكرون تحريم الربا في الإسلام .

على كلّ حال يستفاد من هذه الآية أنّ للحكومة الإسلامية أن تتوسّل بالقوّة لمكافحة الربا .

{وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون} .

أمّا إذا تبتم ورجعتم عن غيّكم وتركتم تعاطي الربا فلكم أن تتسلّموا من الناس المدينين لكم رؤوس أموالكم فقط «بغير ربح» . وهذا قانون عادل تماماً ، لأنّه يحول دون أن تظلموا الناس ودون أن يصيبكم ظلم .

إنّ تعبير {لا تَظلِمون ولا تُظلَمون} وإن كان قد جاء بشأن المرابين ، ولكنّه في الحقيقة شعار إسلامي واسع وعميق ، يعني أنّ المسلمين بقدر ما يجب عليهم

تجنّب الظلم ، يجب عليهم كذلك أن لا يستسلموا للظلم . وفي الحقيقة لوقلّ الذين يتحمّلون الظلم لقلّ الظالمون أيضاً ، ولو أنّ المسلمين أعدّوا العدّة الكافية للدفاع عن حقوقهم لما تمكّن أحد أن يعتدي على تلك الحقوق ويظلمهم . فقبل أن نقول الظالم : لا تظلم ، علينا أن نقول المظلوم : لا تستسلم للظلم .

{وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}(9) .

استكمالاً لبيان حقّ الدائن في الحصول على رأسماله «بدون ربح» تبيّن الآية هنا حقّاً من حقوق المدين إذا كان عاجزاً عن الدفع ، ففضلاً عن عدم جواز الضغط عليه وفرض فائدة جديدة عليه كما كانت الحال في الجاهلية ، فهو حقيق بأن يمهل مزيداً من الوقت لتسديد أصل الدَين عند القدرة والإستطاعة .

إنّ القوانين الإسلامية التي جاءت لتوضيح مفهوم هذه الآية تمنع الدائن من استيلاء على دار المدين وأمتعته الضرورية اللازمة لقاء دَينه ، إنّما للدائن أن يأخذ الزائد على ذلك . وهذا قانون صريح وإنساني يحمي حقوق الطبقات الفقيرة في المجتمع .

{وأن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} وهذه في الواقع خطوة أبعد من المسائل الحقوقية . أي أنّها مسألة أخلاقية وإنسانية تكمل البحث الحقوقي المتقدّم . تقول الآية للدائنين أن الأفضل من كلّ ما سبق بشأن المدين العاجز عن الدفع هوان يخطو الدائن خطوة إنسانية كبيرة فيتنازل للمدين عمّا بقي له بذمتّه ، فهذا خير عمل إنساني يقوم به ، وكلّ من يدرك منافع هذا الأمر يؤمن بهذه الحقيقة .

من المألوف في القرآن أنّه بعد بيان تفاصيل الأحكام وجزئيّات الشريعة الإسلامية يطرح تذكيراً عامّاً شاملاً يؤكّد به ما سبق قوله ، لكي تنفذ الأحكام السابقة نفوذاً جيّداً في العقل والنفس .

لذلك فإنّه في هذه الآية يذكّر الناس بيوم القيامة ويوم الحساب والجزاء ، ويحذّرهم من اليوم الذي ينتظرهم حيث يوضع أمام كلّ امرىء جميع أعماله دون زيادة ولا نقصان ، وكلّ ما حفظ في ملفّ عالم الوجود يسلّم إليه دفعة واحدة ، عندئذ تهوله النتائج التي تنتظره . ولكن ذلك حصيلة ما زرعه بنفسه وما ظلمه فيه أحد ، إنّما هو نفسه ظلم نفسه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة : 281] .

جدير بالذكر أنّ هذه الآية من الأدلّة الأُخرى على تجسّد أعمال الإنسان في العالم الآخر .

ومما يلفت النظر أنّ تفسير «الدرّ المنثور» ينقل بطرق عديدة أنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (10) ، ولا يُستبعد هذا إذا أخذنا مضمونها بنظر الاعتبار .

وهذا لا يتناقض مع كون سورة البقرة ليست آخر سورة نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لأنّ بعض الآيات كما نعلم كانت توضع في سورة سابقة عليها أو لاحقة لها ، وذلك بأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه .

_________________________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص152-161 .

2 ـ «يتخبَّطُه» من مادة «الخبط» هو فقدان توازن الجسم عند المشي أو القيام .

3 ـ تفسير العياشي : ج 1 ص 152 ح 503 .

4 ـ تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 291 ح 1157 .

5 ـ تفسير القرطبي : ج 2 ص 169 ، هنا ذكر أربع تفاسير ، وفي مجمع البيان ذيل الآية مورد

البحث وذكرت احتمالات عديدة اُخرى أيضاً .

6- الجدير بالذكر اذا قامت مؤسسة اقتصادية او مذهبية بدارسة مسألة الربا والمرابين في

الماضي والحاضر مع التحقيق في ملفات المؤسسات القضائية ، فكانت حصيلة تحقيقاتهم ان

الربا كان ولا يزال علة لإبادة كثير من القيم والامم البائدة والسائدة .

7 و8 ـ وسائل الشيعة : ج 12 ص 439 باب ثبوت القتل والكفر باستحلال الربا ح 1 .

9 ـ يحتمل أن تكون (كان) في الجملة أعلاه تامّة حيث لا تحتاج إلى خبر أو ناقصة ويكون

التقدير «إن كان هناك ذو عسرة» .

10- تفسير الدر المنثور ، ج1 ، ص365و370 .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .