المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8222 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
تـشكيـل اتـجاهات المـستـهلك والعوامـل المؤثـرة عليـها
2024-11-27
النـماذج النـظريـة لاتـجاهـات المـستـهلـك
2024-11-27
{اصبروا وصابروا ورابطوا }
2024-11-27
الله لا يضيع اجر عامل
2024-11-27
ذكر الله
2024-11-27
الاختبار في ذبل الأموال والأنفس
2024-11-27

Precautions in Using an Analytical Balance
16-4-2017
الرؤى الذاتية والنوازع الإنسانية
24-03-2015
المبيدات الحشرية Insecticides وتقسيماتها
10-12-2015
جهاد النفس
13-4-2020
استراتيجيات منهج المصلحة المشتركة
1/9/2022
الآباء والأمهات والدور التربوي (1)
19-11-2019


قاعدة « حرمة أخذ الأجرة على الواجبات » (*)  
  
1027   07:56 صباحاً   التاريخ: 16-9-2016
المؤلف : اية الله العظمى السيد محمد حسن البجنوردي
الكتاب أو المصدر : القواعد الفقهية
الجزء والصفحة : ج2 ص157 - 180.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / القواعد الفقهية / اخذ الاجرة على الواجبات /

ومن القواعد الفقهيّة المعروفة بين الفقهاء أنّه « يحرم أخذ الأجرة على كلّ ما هو واجب عليه».

فنقول : اختلف الفقهاء في أنّه هل يجوز أخذ الأجرة على الواجبات أم لا؟

فالمشهور ذهبوا إلى عدم الجواز مطلقا ، بل ادعى جماعة الإجماع عليه ، كما في الرياض (1) ، وجامع المقاصد (2) في بعض فروع المسألة ، وذهب بعضهم إلى الجواز مطلقا ، وبعضهم فصّل بين التعبّدي والتوصّلي ، فقال بالجواز في خصوص الثاني ، وفصّل آخرون بين التعييني والتخييري ، وجماعة أخرى بين الكفائي والعيني ، وبعضهم فصّل بين الكفائي والتوصّلي فقال بالجواز ومنع في سائر الأقسام ، إلى سائر التفاصيل التي يجدها المتتبّع في كلام القول لا يهمّنا ذكرها ، وإنّما المهمّ بيان ما هو الحقّ في المسألة ، ويعلم منه قهرا حال سائر الأقوال.

فنقول : إنّ الحقّ في المقام هو عدم جواز أخذ الأجرة بل مطلق العوض ـ بأيّ عنوان كان ، سواء أكان من باب الإجارة أو من باب سائر العقود المعاوضيّة ـ على مطلق ما هو واجب على الإنسان فعله ، سواء أكان واجبا عينيّا أو كفائيّا ، أو تعيينيّا أو تخييريّا ، نفسيّا أو غيريّا ، تعبّديّا أو توصّليّا ، إلاّ على احتمال في التخيير الشرعي.

نعم هناك شي‌ء يجب التنبيه عليه وهو أنّ هذا الذي نقول من عدم جواز أخذ مطلق العوض على الواجبات فيما إذا كان الشي‌ء واجبا بالمعنى الاسم المصدري ، وأمّا إذا كان واجبا بالمعنى المصدري فلا مانع من أخذ الأجرة عليه ، وسيأتي تفصيل هذا الكلام وتحقيقه عند التكلّم في الواجبات النظاميّة إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت ما ذكرنا فلا بدّ في تحقيق المقام من تمهيد مقدّمة ، وهي أنّه يشترط في صحّة عقد الإجارة ـ بل في سائر العقود المعاوضيّة التي تقع على الأعمال ـ أمور :

الأوّل : أن لا يكون سفهيّا ، أي يكون في العمل منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء تعود إلى المستأجر ، وإلاّ يكون أكل المال بإزائه أكل للمال بالباطل وهذا واضح جدا.

الثاني : أن يكون العمل ممكن الحصول للمستأجر لأنّ حقيقة الإجارة هي تمليك العمل للمستأجر بعوض مالي معلوم في إجارة الأعمال ، فإذا لم يكن هذا العمل قابلا لأن يملكه المستأجر فتكون هذه المعاوضة باطلة ، لأنّ حقيقة المعاوضة بين شيئين لا يتحقّق إلاّ بعد إمكان أن يدخل كلّ واحد من العوضين في ملك الآخر ، وهذا أمر زائد على الشرط الأوّل ، لأنّه من الممكن أن تعود منفعة العمل إلى شخص بدون دخول العمل في ملكه.

الثالث : أن يكون العمل مقدورا للعامل تكوينا وتشريعا ، وفعلا وتركا.

أمّا اشتراط القدرة التكوينيّة في العمل المستأجر عليه بالنسبة إلى العامل فمعلوم ، لأنّه لو كان عاجزا عن العمل ـ والمفروض أنّ الإجارة وقعت على عمله مباشرة ـ فلا يقدر على تسليم العمل الذي استؤجر عليه ، ومعلوم أنّ مثل هذه المعاملة لغو في نظر العقلاء ، ويكون من قبيل « وهب الأمير ما لا يملكه ».

وأمّا اشتراط القدرة التشريعيّة فلأنّ الشارع لو سلب القدرة في عالم التشريع عن مثل هذا العمل فيرى العامل في عالم اعتباره التشريعي عاجزا فيرى المعاملة باطلة.

فظهر أنّ صحّة المعاملة في باب إجارة الأعمال متوقّفة على أن يكون الأجير قادرا‌ على فعل العمل وتركه تكوينا وتشريعا.

إن قلت : عرفنا لزوم القدرة على الفعل ، ولكن لما ذا يلزم القدرة على الترك؟

قلنا : لأنّ معنى مقدوريّة فعل من الأفعال هو أن يكون الفعل والترك بإرادته وتحت اختياره ، وإلاّ لو كان الفعل ضروريّا ، كحركة الارتعاش في اليد مثلا ، لا يقال إنّ هذا الفعل مقدور له.

 

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إن الواجب بأقسامها فيما عدا الواجب التخييري الشرعي التوصلي ـ على احتمال سيأتي ـ لو كان الواجب هو العمل بالمعنى الاسم المصدري ـ أي يكون المطلوب منه العمل الصادر ، لا جهة إصدار العمل ، لأنّ في العمل جهتين :

إحداهما نفس الصادر ، والثانية جهة إصداره ، أي فاعليّة العامل لهذا العمل. وربما يكون هذا هو المراد من قولهم : جهة انتساب الفعل إلى فاعل مأخوذ في معنى المصدر ، بخلاف اسم المصدر ـ فلا يمكن أخذ الأجرة عليه ، لأنّ الفعل والعمل بواسطة الإيجاب خرج عن تحت قدرته واختياره تشريعا ، لأنّ الشارع في عالم تشريعه يرى العمل ضروري الوجود وأنّه ليس للمكلف تركه ، فكما أنّ في الحركة الارتعاشيّة في عالم التكوين ليس له تركه وخارج عن تحت قدرته تكوينا ، كذلك في جميع الواجبات في باب الأعمال إذا كانت واجبة بالمعنى الاسم المصدري تخرج عن تحت قدرة المكلف تشريعا ، فليس بقادر على العمل تشريعا.

وقد ذكرنا في المقدّمة إناطة صحّة الإجارة على أن يكون العمل مقدورا تكوينا وتشريعا ، ولذا قلنا بعدم صحّة الإجارة على الفعل المحرّم.

فالحاصل أنّ العمدة في عدم صحّة أخذ الأجرة على الواجبات بحيث يكون وافيا بجميع أقسام الواجب ـ من التعبّدي والتوصّلي ، والعيني والكفائي ، والتعييني والتخييري ، والنفسي والغيري ـ هو هذا الوجه ، وإلاّ سائر الوجوه التي ذكروها إمّا غير تامّ في حدّ نفسه ، أو أخصّ من المدعى.

ومن جملة الوجوه التي ذكروها في المقام هو الإجماع على عدم الصحّة.

ولكن أنت خبير أوّلا بأنّ الإجماع في أمثال هذه المسائل التي مدرك المجمعين ومستند المتّفقين معلوم ليس من الإجماع المصطلح عند المتأخرين الذي بنينا على حجيّته ، بل لا بدّ من الرجوع إلى مداركهم والنظر فيها ، وأنّها هل صحيحة هي أم لا؟

وثانيا : كيف يمكن تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة التي اختلاف الأقوال فيها بهذه الكثرة.

ومن جملتها منافاة أخذ الأجرة لقصد الإخلاص والقربة.

وأجاب عن هذا صاحب الجواهر قدس سرّه بأنّ الإجارة توجب تأكّد الإخلاص ، لأنّ الوجوب يتضاعف بسبب الإجارة (3).

وأورد عليه شيخنا الأعظم قدس سرّه في مكاسبه ، بأنّ العمل الذي ليس فيه أجر دنيوي ، وكون الداعي على إتيانه فقط هو امتثال أمر الله تعالى ، قطعا أخلص من العمل الذي فيه أجر دنيوي ، ويكون تمام الداعي أو بعضه على الإتيان ذلك الأجر ، بل إذا كان تمام الداعي ذلك الأجر الدنيوي فلا إخلاص فيه أصلا ، لا أنّ العمل المجرّد أخلص فقط (4).

فالإنصاف أنّ أخذ الأجرة في العباديات ينافي الإخلاص وقصد القربة ، وإنكاره مكابرة.

ولكن هذا الدليل كما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرّه أخصّ من المدّعى ، من جهة عدم شموله للتوصّليّات ، بل أعمّ من المدّعى من وجه ، لجريانه في المندوبات التعبّديّة التي هي مندوبة ومستحبّة على نفس الأجير .

إن قلت : إن كان أخذ الأجرة ينافي الإخلاص فما تقول في العبادات المستأجرة‌ التي كانت واجبة على المنوب عنه ، وذلك كإجارته للحج عن قبل الميّت أو للصلاة عن قبله ، فإنّ جواز الإجارة مع وقوع العمل والعبادة صحيحا إجماعي ، فلو كان أخذ الأجرة ينافي العباديّة ووقوع العمل متقرّبا لما وقع صحيحا.

قلت : أجيب عن هذا الإشكال بوجوه :

منها : أنّ أخذ الأجرة من قبيل الداعي على الداعي ، أي يصير داعيا على أن يأتي بالعمل بداعي أمره ، كما أنّ في باب الأمر بالمعروف رهبة وخوفا من الآمر بالمعروف لكن يكون خوفه داعيا على أن يأتي بالعمل بداعي أمره ، وإلاّ لا يكاد يتحقّق الأمر بالمعروف إذا كان عبادة ، لأنّه لو أنكرنا مسألة الداعي على الداعي فلا يقدر على إتيان المعروف بعد ما كان الداعي على الإتيان هو الخوف عن الآمر بالمعروف.

 

وهكذا مورد إتيان العمل العبادي رغبة في أمور دنيويّة مترتّبة على العبادة ، كسعة الرزق ، أو طول العمر ، أو الصحّة والعافية وأمثال ذلك ، فلو لم تكن هذه الأمور دواع على إتيان العمل بداعي أمره ، وكان لا يعقل لما كان العمل صحيحا والعبادة واقعة إذا أتى بأحد هذه الدواعي الدنيويّة ، مع أنّ صحّتها ووقوعها على الظاهر من المسلّمات ، بل ورد في بعض الروايات أنّه أفعل كذا إذا أردت قضاء حاجتك الفلانيّة مثلا.

وهذا الوجه لو تمَّ لا اختصاص له باب أخذ الأجرة في النيابيّات ، بل يجري أيضا في محلّ البحث ، أي في العبادات الواجبة على نفس الأجير.

ولكن أنت خبير بأنّ حديث الداعي على الداعي ليس إلاّ صرف عبارة. لسنا نقول إنّ الداعي على الداعي لا يمكن ، كيف وإن الداعي على الداعي في الدواعي الطوليّة أمر ضروري ، مثلا يحفر القناة لأجل الماء ، ويريد الماء لأجل الزرع ، ويزرع لأجل تحصيل الحنطة ، ويريد تحصيل الحنطة لأجل قوته وقوت عياله ، ففي الحقيقة العلّة المحرّكة لحفر القناة ليس إلاّ قوت نفسه وعياله بحيث لو كان قوته وقوت عياله حاصلا لم يقدم على الحفر أصلا.

 

وبعبارة أخرى : في باب الدواعي الطولية الداعي الحقيقي والعلّة الأصليّة للعمل هو الداعي الأوّل ، فإنّه هو المحرّك للفاعل على فعله بحيث لو لم يكن لم يقدم على الفعل أصلا. فإن اعترفت هاهنا أيضا بأنّه لو لم يكن أجرة في البين لما كان يقدم على هذا العمل فقد اعترفت بعدم تحقّق الإخلاص. ولعمري هذا واضح جليّ ، اللهمّ إلاّ أن يراد بقصد الإخلاص صرف الخطور بالبال ، وما أظنّ أن يلتزم به هذا القائل.

 

وأمّا حديث الأمر بالمعروف ، فنقول : في الفرض الذي فرضت ، إذا كان الداعي على العمل ليس إلاّ الخوف فهذا العمل لا يقع عبادة البتّة ، وإنّما الأمر إليه وجب في الواجبات واستحبّ في المستحبات ، إمّا لأجل أنّ نفس هذه الصورة محبوبة عند الله تعالى لحكم ومصالح ، وإمّا من جهة أنّه يتمرن ويتعود حتّى يسهل عليه العمل فيأتي بداعي أمره بعد هذا ، كما أنّه المعروف من بعض أكابر العلماء في البلاد ، حيث كان يجبرهم على صلاة الجماعة لأجل أن يتعوّدوا فيعملوا فيما بعد بداعي أمره.

 

وأمّا إتيان العبادة بداعي الأثر الدنيوي المترتّب عليه فقياسه على المقام فاسد ، لأنّ الآثار الدنيويّة المترتّبة على امتثال الأمر ، قصدها لا ينافي قصد الأمر وقصد القربة.

 

بيان ذلك : أنّ حقيقة قصد القربة وإتيان العمل بقصد الإخلاص معناه إتيانه لمحبوبيّته عند الله تعالى ، وذلك يحصل بأحد الأمور الثلاثة :

 

إمّا أن يكون محرّكه على الإتيان هو نفس أمره تعالى ولا شكّ أنّ هذا المعنى محبوب له تعالى ومثل هذا العمل تعبّد له.

 

وإمّا أن يكون الداعي له على إيجاد العمل ما هو واقع في سلسلة علل الأمر ، كالمصلحة الموجبة للأمر ، فلو أوجد العمل بداعي المصلحة التي هي موجبة للأمر لكان متقرّبا ، لأنّ مثل هذا المعنى محبوب له تعالى ، ولذلك أمر به.

 

وقد أجيب عمّا استشكل به البهائي قدس سرّه ـ في مبحث الضدّ من إنكاره الثمرة بأنّ العبادة باطلة على كلّ حال سواء قلنا بالاقتضاء أم لا ، لعدم الأمر واحتياج العبادة‌ إلى الأمر ، لأنّ التقرّب المعتبر في العبادة لا يحصل إلاّ بقصد الأمر بأنّ قصد المصلحة كاف في تحقّق العبادة.

 

وإمّا أن يكون الداعي ما هو واقع في سلسلة معاليل الأمر ، سواء أكان من الأمور الأخرويّة ، كتحصيل الدرجات المترتّبة على العبادة ، أو الفرار عن الدركات المترتّبة على عدمها ، أو كان من الأمور الدنيوية ، كسعة الرزق ، أو برئ مرض وأمثال ذلك.

 

وأمّا إن كان المحرّك لا يرجع إلى أحد هذه الثلاثة ـ بل كان أمرا دنيويّا أجنبيّا عن العبادة بالمرّة ـ فلا يمكن تحقّق الإخلاص والعبادة بمثل هذا الداعي ، فتصحيح أخذ الأجرة على الواجب العبادي على الأجير وعدم منافاته للإخلاص ـ بأنّه من قبيل الداعي على الداعي ـ ممّا لا يمكن المساعدة عليه. ويقول شيخنا الأستاذ قدس سرّه : عدّ هذا إشكالا أولى من عدّه جوابا عن الإشكال (5).

 

ومنها : أنّ فعل النائب والأجير فعل تسبيبي للمستأجر ، وبعبارة أخرى : العمل الصادر من الأجير له نسبتان : نسبة إلى الأجير باعتبار أنّه مباشر له ، ونسبة إلى المستأجر باعتبار أنّه مسبّب له ، فيصحّ إسناد العمل إلى كلّ واحد منهما وأن يقال لكلّ واحد منهما :

أنّه فاعل لهذا العمل ، فله فاعلان : فاعل تسبيبي ، وفاعل مباشري. وفي وقوع الفعل على صفة العبادية يحتاج إلى قصد القربة من الفاعل ، وهاهنا حيث لا يمكن قصد التقرب من الفاعل المباشر فيقصد الفاعل الآخر ، أي الفاعل المسبّب أعني المستأجر.

 

وهذا الجواب أيضا لو صحّ لا اختصاص له بباب النيابة ، بل يجري فيما إذا كان العمل المستأجر عليه هو الواجب على نفس الأجير.

 

وفيه : أنّ حديث وقوع العمل الصادر عن الأجير بصفة العبادية بواسطة صدور قصد القربة من المستأجر من أعجب الأعاجيب ، لأنّ العمل الذي يصدر من الفاعل‌ المباشر بداع شهواني مثلا ، كيف يعقل أن يصير عباديّا بواسطة قصد القربة من شخص آخر.

 

وأمّا حديث بناء المسجد الذي يصدر من البنّاء بداعي أخذ الأجرة وهو الفاعل المباشر ـ ومع ذلك يصير قربيّا بواسطة صدور قصد القربة من الفاعل التسبيبي ، أي الذي يعطي الأجرة ـ فهو أجنبي عن المقام ، لأنّ العبادة هناك عبارة عن نفس التسبيب وصرف الدراهم والدنانير لأجل بناء المسجد ، فلو فعل هذه الأشياء بداع شهواني كالشهرة والسمعة ، أو الرياء وأمثالها لا يقع عمله عبادة ، لا عمل الأجير البناء فإنّ عمله لا يقع عبادة إذا كان بداعي أخذ الأجرة ، سواء أكان معطي الأجرة قاصدا للقربة في بذله أم لا.

 

وبعبارة أخرى : لو كان عمل الأجير في نفس المثل فرضا من العباديّات وقد أتى به بقصد أخذ الأجرة لا يقع صحيحا ، سواء قصد باذل الأجرة القربة أم لا. وحيث أنّه لا دليل على لزوم أن يكون البنّاء الصادر من البناء الذي يبنى المسجد قربيّا وعباديّا بل يكفي قصد القربة من الواقف لأنّ فعله ـ أي الوقف ـ عبادي ، لا فعل البنّاء ، فلا مانع للبناء الأجير أن يأخذ الأجرة ، لأنّ فعله ليس بعبادة ، ولا فرق بين أن يشتغل في بناء خان ، أو دكان ، أو مسجد من جهة عدم كون عمله عبادة في الجميع.

 

ومنها : أنّ أخذ الأجرة في باب العبادات المستأجرة على إهداء الثواب إلى المنوب عنه.

 

وهذا أعجب من سابقة وإن كان صادرا عن بعض الأعاظم 5 لأنّ المفروض صحّة الإجارة على العبادة الواجبة على الغير بحيث يشتغل ذمّة الأجير بما كان مشغول ذمّة المنوب عنه بعد الإجارة. ومسألة إهداء الثواب أجنبيّة عن هذا الباب بالمرّة ، فهو في الحقيقة اعتراف بالإشكال ، وعدم إمكان دفعة.

 

والصواب في الجواب هو ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سرّه في الجواب عن هذا‌ الإشكال بإبداء الفرق بين المقامين ، أي باب أخذ الأجرة على الواجب على غير الأجير كما في باب النيابات ، وبين ما كان العمل المستأجر عليه واجبا على نفس الأجير (6).

 

بيان ذلك وتوضيحه : أنّ في باب الإجارة على ما هو الواجب على نفس الأجير ، كما إذا آجر نفسه على أن يصلّي صلاة الظهر لنفسه ، فمتعلّق الأمر الإجاري ليس إلاّ ذات العمل ، غاية الأمر مقيّدا بإتيانه بقصد القربة ، وكذلك متعلّق الأمر العبادي ليس إلاّ ذات العمل ، إمّا وحده إذا قلنا بأنّ قصد الأمر لا يمكن أن يؤخذ في متعلّق الأمر ، لا بأمر واحد ولا بأمرين بل يكون بحكم العقل ، وإمّا مقيّدا بقصد الأمر بناء على ما هو التحقيق عندنا من إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه بأمرين وجعلين ، يكون أحدهما متمّما للآخر.

 

وعلى كلّ فمتعلّق كلا الأمرين ـ أي العبادي والإجاري ـ واحد بالنسبة إلى ذات العمل ، أعني نفس المقيّد غاية الأمر بناء على ما هو التحقيق يكون المتعلّق واحدا في مجموع القيد والمقيّد ، وبناء على القول الآخر في خصوص نفس المقيد ، أي ذات العمل وكلا الأمرين متوجهان إلى الأجير. وهذا واضح.

 

وأمّا في باب النيابات : فهما مختلفان من كلتا الجهتين : أمّا من جهة التوجه والمخاطب ـ فالأمر العبادي متوجّه إلى المنوب عنه ، والأمر الإجاري مخاطبة الأجير ويكون متوجّها إليه. وأمّا من جهة المتعلّق فالأمر العبادي المتوجّه إلى المنوب عنه بالأعمّ من المباشرة والنيابة متعلّق بذات العمل ، إمّا وحده وإمّا مقيّدا بقصد الأمر على القولين. والأمر الإجاري متعلّق بجعل نفسه نائبا عن الميّت أو عن الحيّ الذي ناب عنه في إتيانه هذا العمل بقصد الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه لا المتوجّه إلى نفسه.

 

وهذا الفرق أوجب صحّة الإجارة في باب النيابيّات وعدم الصحّة فيما هو واجب‌ على نفس الأجير.

 

بيان ذلك : أنّ الأجير إذا أخذ الأجرة على إتيان ذات العمل بقصد الأمر المتوجّه إلى نفسه ـ كما هو المفروض في باب إجارة ما هو الواجب على نفس الأجير ـ فلا يمكن أن يكون صدور هذا العمل منه بداعي الأمر المتوجّه إليه ، لأنّ المفروض أنّ المحرّك له إلى العمل هو الأمر الإجاري التوصّلي.

 

وبعبارة أخرى : يكون صدور العمل لأجل الوفاء بالإجارة وإعطاء حقّ الغير.

 

إن قلت : من الممكن أنّه لا يعتني بأمر الإجاري ، بل ليس غرضه من إيجاد العمل إلاّ امتثال الأمر العبادي المتوجّه اليه ، بحيث لو لم يكن ذلك الأمر العبادي في البين لم يقدم على الإتيان أصلا ، بل كان يعصي الأمر الإجاري التوصّلي.

 

قلنا : نعم إنّ هذا أمر ممكن في بعض الأحيان ، ولكنّه لا بدّ في الأمر الإجاري أن يكون المكلّف بحيث لو أراد أن يوجد العمل المستأجر عليه بقصد الوفاء بذلك الأمر الإجاري لكان له ممكنا.

وبعبارة أخرى : لا بدّ أن يكون ممكنا للأجير إتيان العمل بقصد تفريغ ذمّته وإعطاء حقّ الغير ، ومعلوم أنّ مثل هذا المعنى لا يمكن بالنسبة إلى ما هو الواجب على نفس الأجير تعبديا لمنافاته للإخلاص.

 

وأمّا إذا أخذ الأجرة على جعل نفسه نائبا عن قبل الغير في إتيان عمل عبادي كان واجبا عليه ـ أي على ذلك الغير لا على نفسه ـ فلا ينافي ذلك الإخلاص ، لأنّ أخذ الأجرة على جعل نفسه نائبا ، لا على إتيان العمل بقصد أمره حتّى تقول إنّ المحرّك إلى العمل في الحقيقة هو أخذ الأجرة ، وجعل نفسه نائبا ليس أمرا عباديّا ، بل توصّلي يقع بقصدها بأي داع كان.

 

وبعبارة أخرى : هاهنا أمران عرضيان ليس أحدهما في طول الآخر حتّى يكون من قبيل الداعي على الداعي :

أحدهما : جعل نفسه نائبا الذي قد يفعله تبرّعا ، وهذا أمر توصّلي يقع بأيّ داع كان ، وهذا الأمر يقع متعلّقا للإجارة ولا يلزم منه محذور أصلا.

والثاني : إتيان العمل الذي كان واجبا على المنوب عنه ، وهذا أمر عبادي لكن لم تقع الإجارة عليه ، فما وقعت الإجارة عليه ليس بعبادي ، وما هو عبادي لم تقع الإجارة عليه.

 

إن قلت : إذا كانت الإجارة على صرف جعل نفسه نائبا فيستحقّ الأجرة بصرف هذا الجعل ولو لم يعمل ، وإن كان يشمل العمل أيضا فيعود المحذور.

قلنا : الإجارة على صرف جعل نفسه نائبا ، لكن في إتيان العمل الفلاني ، ومعلوم أنّ تحقّق عنوان النيابة في العمل الفلاني مثل كونه نائبا عن شخص في الحجّ مثلا لا يمكن وغير معقول بدون وجود العمل الفلاني ، فوجود العمل الذي جعل نفسه نائبا عنه في إتيان ذلك العمل عنه مقدّمة لتحقّق عنوان النيابة التي استؤجر عليها ، لا أنّه بنفسه متعلّق للإجارة أو قيد لمتعلّقها.

 

قال الشيخ : الذي ينساق إليه النظر أنّ مقتضى القاعدة جواز أخذ الأجرة على كلّ عمل كان له منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء ، وإن كان ذلك العمل واجبا على الأجير. ثمَّ قال ; : إنّ ذلك العمل بعد وقوعه متعلّقا للإجارة إمّا صالح لأن يمتثل به الواجب المذكور ، أو كان ممّا يسقط الواجب به أو عنده فقد حصل الأمران ، أي برأيه ذمّته عن الواجب واستحقاقه للأجرة ، وإلاّ يستحقّ الأجرة فقط ، ويبقى الواجب في ذمّته لو بقي له وقت يمكن إتيانه فيه ، أو كان ممّا له القضاء فيقضيه ، وإلاّ يكون متعاقبا على تركه وعصيانه عن عمد (7).

 

وبعبارة أخرى : صرف وجوب الشي‌ء ليس بمانع عن أخذ الأجرة عليه ، بل هاهنا تفصيل وهو أنّ الواجب على الأجير إمّا من قبيل الواجب العيني التعييني ، أم لا.

فالأوّل لا يصحّ أخذ الأجرة عليه ولو كان للعمل منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء.

 

وحاصل ما أفاد في وجه المنع أنّ مثل هذا العمل ليس بمحترم ، فأكل المال بإزائه أكل بالباطل ، لأنّه مقهور على إيجاده ، وليس له أن يتركه في عالم التشريع ، بل لو أراد أن يتركه يجبر على الإتيان من باب الأمر بالمعروف ، طاب نفسه على الإتيان أم لا ، وما هذا شأنه خارج عن تحت قدرته واختياره في عالم التشريع ، فلا يصحّ أخذ الأجرة عليه ، لما ذكرنا في المقدّمة من اشتراط صحّة الإجارة بأمور ثلاثة :

 

أحدها : أن يكون الأجير قادرا على إتيان العمل الذي يوجر نفسه عليه ، ولا فرق بين عدم القدرة التكوينيّة والتشريعيّة. ثمَّ يقول : لا فرق في هذا بين التعبّدي والتوصّلي ، غاية الأمر الواجب التعبّدي إذا كان عينيّا تعيينيّا يختصّ بوجه آخر.

 

مضافا إلى هذا الوجه وهو منافاة أخذ الأجرة مع الإخلاص وقصد القربة كما تقدّم.

 

ثمَّ يجيب عن النقض الوارد عليه بجواز أخذ الأجرة للوصي على عمله بعد أن أوقعه وعمل ـ مع أنّ العمل واجب عيني تعييني على الوصي بعد أن قبل الوصيّة ، أو وصل الخبر اليه بعد موت الموصي ـ بأنّه ليس من باب أخذ الأجرة وتحقّق المعاملة الخاصّة ، بل حكم شرعي أجاز الشارع أن يأخذ الوصي بدل عمله ، ولا ربط له بباب الإجارة أصلا.

 

هذا حاصل ما ذكره قدس سرّه في الواجب العيني التعييني ، وأمّا سائر شقوق الواجب وأقسامه فسننقل كلامه مع ما فيه إن شاء الله.

 

وأنت خبير بأنّ ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرّه في مكاسبه في هذا المقام ، الذي نقلناه بطور الخلاصة والمعنى إلى هاهنا ، فيه مواقع للنظر.

 

أمّا أوّلا : قوله : إنّ كلّ ما له منفعة محللة عقلائيّة يجوز أخذ الأجرة عليه نقول : صرف هذا المعنى لا يكفي في صحة الإجارة ، بل يحتاج إلى أمرين آخرين‌ :

أحدهما : أن يكون العمل تحت اختياره وقدرته ، بمعنى أن يكون الأجير قادرا على الفعل والترك تكوينا وتشريعا ، فلو كان عاجزا عن الفعل أو الترك تكوينا أو تشريعا ، كما أنّ المكلّف عاجز عن الفعل تشريعا في المحرّمات ، وعن الترك في الواجبات ، فلا يصحّ أخذ الأجرة على مثل هذا العمل لأنّه بواسطة الوجوب مقهور على الفعل وليس له أن يترك.

 

ثانيهما : أن يكون العمل قابلا للتمليك ، بحيث يمكن أن يصير ملكا للمستأجر ، لأنّ حقيقة الإجارة هو تمليك منفعة أو عمل بعوض مالي معلوم.

 

إذا تبيّن هذا فنقول : إنّ قوله قدس سرّه : إنّ كل ما له منفعة محلّلة عقلائية يجوز أخذ الأجرة عليه ـ ولو كان واجبا وصرف الوجوب ليس مانعا عن جواز أخذ الأجرة ـ ليس كما ينبغي ، لأنّ صرف الوجوب وطبيعته ، كان متخصّصا بأيّ خصوصيّة وتحقّق في ضمن أيّ قسم من أقسامها ، أي سواء كان عينيّا أم كفائيّا ، وسواء أكان تعيينيّا أم تخييريا ، وسواء أكان نفسيّا أم غيريّا.

 

وكلّ واحد من هذه الأقسام تعبديّا كان أم توصليا ، أصليّا كان في مقام الإثبات أم تبعيّا مانع عن صحّة الإجارة على نفس الواجب الذي هو محلّ الكلام ، وأمّا تعلّق الإجارة بأمر خارج عمّا هو متعلّق الوجوب فخارج عن محلّ الكلام.

 

والحاصل : أنّ ما تعلّق به الوجوب خرج عن تحت قدرة الأجير على فعله وتركه في عالم الاعتبار التشريعي ، ويراه الشارع في عالم اعتباره التشريعي واجب الوجود ولا يرضى بتركه ، ويرى المكلّف الأجير ملزما بفعله ، فنفس طبيعة الوجوب منافية لأخذ الأجرة ، غاية الأمر إذا كان تعبديّا تنضمّ إليه جهة أخرى أيضا ، وهي منافاته مع قصد القربة.

 

وأمّا ثانيا : ما يقول في استحقاق الأجير الأجرة على كلّ حال ، غاية الأمر إذا كان العمل الواجب ممّا يمتثل به الواجب أو يسقط الواجب به أو عنده ، فيبرأ ذمته عن‌ الواجب أيضا علاوة على استحقاق للأجرة ، وإلاّ يبقى الواجب في ذمّته لو بقي وقته ، وإلاّ عوقب على تركه ، فتصوير استحقاق الأجير للأجرة مع عدم سقوط الواجب في غاية الإشكال ، لأنّ الإجارة على الفرض وقعت على إتيان ما هو واجب على نفسه ، فلو أتى ما هو الواجب على نفسه سقط الوجوب واستحقّ الأجرة بناء على الجواز ، وإلاّ لم يستحقّ الأجرة أيضا. فالتفكيك بينهما لا نعقله ، بل لو كان توصليّا وقلنا ببطلان الإجارة كما هو التحقيق يسقط الواجب ولا يستحقّ الأجرة.

 

نعم إذا كان تعبديّا ، وقلنا بأن قصد القربة لا يتحقّق منه فلا يحصل كلا الأمرين ، أي لا يسقط الواجب ولا يستحقّ الأجرة ، مع أنّه هناك أيضا مقتضي بطلان الإجارة وإمكان تحقق قصد القربة سقوط الواجب بالامتثال وعدم استحقاقه للأجرة. وعلى كلّ تقدير استحقاقه للأجرة مع عدم سقوط الوجوب شي‌ء لا نعقله.

 

وأمّا ما ذكره من عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب العيني التعييني فحقّ لا محيص عنه ، وقد أجاد فيما أفاد في وجه ذلك ، فجزاه الله خير الجزاء.

 

وأمّا ما ذكره أخيرا من جواب النقض عليه بجواز أخذ الوصي أجرة عمله بأنّه حكم شرعي فعجيب ، لأنّ ما يأخذه بعنوان أجرة عمله لا بعنوان التعبّد وأنّه إلزام من قبل الشرع بإعطائه مجّانا ، فلو كان عمله غير محترم كما هو اعتراف شيخنا في هذا المقام فليس له أخذ شي‌ء بعنوان بدل عمله ، فإنّه أكل بالباطل كما هو مصرّح به في كلامه (8).

 

والثاني ، أي ما ليس من قبيل الواجب العيني التعييني ، فهو إمّا من قبيل التخييري ولو كان عينيّا ، أو من قبيل الكفائي ولو كان تعيينيّا.

 

أمّا التخييري فهو إمّا توصّلي أو تعبّدي ، فإن كان توصّليّا قال شيخنا الأعظم قدس سرّه :

لا أجد مانعا عن جواز أخذ الأجرة على أحد فرديه بالخصوص ، ثمَّ يمثّل لذلك بما إذا‌ تعيّن دفن ميّت على شخص وتردّد الأمر بين حفر أحد موضعين يكون أحدهما راجحا عند الولي لغرض من الأغراض فيستأجره على حفر ذلك الموضع الخاصّ ، لم يمنع من ذلك كون مطلق الحفر واجبا عليه مقدمة للدفن .

 

وأنت خبير بأنّه فرق واضح بين أن يستأجره لإيجاد الخصوصيّة فقط ـ التي هي خارجة عن متعلّق الوجوب ، ولا يتحقّق إلاّ فيما كان للخصوصيّة وجود مستقلّ ، ولو كان ملازما ومنضمّا إلى الطبيعة دائما بحيث لا تنفكّ عنها ـ وبين أن يستأجره لإيجاد الطبيعة المتخصصة كما هو المفروض في مثال الشيخ.

 

ولا شكّ في أنّ في القسم الثاني الذي هو ظاهر كلام شيخنا الأعظم قدس سرّه يتّحد متعلّق الوجوب والإجارة في نفس الطبيعة ، وهذا موجب لبطلان الإجارة بعين البرهان الذي تقدّم في الواجب التعييني ، بل هو عين التعييني ، لأنّه ليس هناك واجب تعييني لا يتطرّق فيه التخيير العقلي إلاّ فيما شذّ وندر ، أي فيما إذا تعلّق الوجوب بشخص فعل ممتنع الصدق على كثيرين ، كالصوم في شهر رمضان ، أو النذر المعيّن ، مع أنّه بالنسبة إلى صوم شهر رمضان أيضا يعقل التخيير بالنسبة إلى الأمكنة. نعم في نذر المعيّن لو عيّن جميع جهاته من الزمان والمكان وسائر الجهات يمكن فرض عدم مجي‌ء التخيير العقلي في البين أصلا.

 

نعم في القسم الأوّل لا مانع من أخذ الأجرة ، لكنّه خارج عن موضوع البحث ، لأنّ كلامنا في أخذ الأجرة على الواجبات وفي ذلك الفرض الواجب شي‌ء ومتعلّق الإجارة شي‌ء آخر.

 

وبعبارة أخرى : موضوع البحث هو أن يكون معروض الوجوب ومتعلّق الإجارة شيئا واحدا ، بحيث لو قلنا بالجواز يحصل للأجير أمران : أحدهما : سقوط الواجب عن ذمّته.

 

والثاني : استحقاقه للأجرة.

 

وقد تقدّم الإشكال على شيخنا قدس سرّه حيث أنّه قال بإمكان التفكيك بين الاستحقاق للأجرة وسقوط الواجب عن عهدة الأجير.

 

هذا كلّه فيما إذا كان توصّليّا ، وأما إذا كان تعبّديّا ـ وذلك كغسل الميّت إذا تعيّن على شخص وتردّد الأمر بين أن يكون بماء الفرات أو بماء آخر مثلا ـ قال شيخنا قدس سرّه في هذا المقام أيضا : إن قلنا بكفاية الإخلاص في القدر المشترك ولو كان إيجاد الخصوصيّة لداع آخر فيجوز أخذ الأجرة على الخصوصيّة ، وإلاّ فلا (9).

 

وأنت خبير بأنّه لا وجه لعدم كفاية الإخلاص في القدر المشترك ، أترى أنّ أحدا يمكن أن يستشكل فيما إذا اختار المصلّي مكانا خاصّا لصلاته من جهة برودة الهواء وحسنها ، أو لداع آخر عقلائي فليس في المسألة إشكال من هذه الناحية أصلا ، بل الإشكال من الجهة التي تقدّمت في التوصّلي ، لأنّ ذلك الإشكال مشترك بين التوصّلي والتعبدي.

 

والحاصل أنّ اتّحاد الطبيعة مع الخصوصيّة في الوجود الخارجي لا يمنع من أن يكون قصدها للإخلاص وقصد الخصوصيّة لغرض آخر.

 

هذا كلّه كان في التخيير العقلي ، وأمّا التخيير الشرعي كخصال الكفّارة فهل يجوز أخذ الأجرة على اختيار أحد الأفراد ، أم لا؟

وليس في كلام شيخنا قدس سرّه تعرّض لهذا القسم أصلا.

 

والتحقيق فيه : أنّه إن قلنا بأنّ في التخيير الشرعي أيضا متعلّق الوجوب هو الجامع ، لامتناع قيام غرض واحد بالمتعدّد بما هو متعدّد ـ كما قيل ـ فمرجع التخيير الشرعي حينئذ إلى العقلي ، بل هو هو ، ويكون تسميته بالتخيير الشرعي من جهة خفاء الجامع عن نظر العرف وتصريح الشارع بالمصاديق ، فحاله حال التخيير العقلي‌ ـ كما عرفت مفصّلا ـ بل هو هو.

 

ولكن هذا القول بمعزل عن التحقيق ، كما حقّق في محلّه في الأصول.

 

وإن قلنا بأنّ الواجب التخييري بالتخيير الشرعي عبارة عن تقييد إطلاق الواجب بعدم الاشتغال بعدله بمعنى أنّ كلّ واحد من الأفراد حقيقة متعلّق الوجوب ، غاية الأمر ليس وجوبه مطلقا بل مقيّد بصورة عدم الاشتغال بسائر الأفراد ، مثلا يجب إطعام ستّين مسكين أمّا لا مطلقا حتّى في صورة الاشتغال بأحد عدليه من صيام شهرين متتابعين أو تحرير رقبة ، بل مقيّد بصورة عدم الاشتغال بأحدهما ، فليس ملزما بإتيان أحد الأفراد بالخصوص ، ولا جامع في البين حتّى نقول ملزم بإتيان ذلك كما قلنا في التخيير العقلي ، فإذا لم يكن إلزام مطلق في البين فيبقى احترام عمله على حاله ، ولا يسقط بواسطة المقهوريّة.

 

وبعبارة أخرى : حيث أنّ الشارع لم يلزم المكلّف بخصوص أحد الأفراد بل جوّز الانتقال إلى بدله واختيار عدله ، فاختيار أيّ واحد من الأفراد والعدول يبقى على احترامه ، ويجوز أخذ الأجرة عليه.

 

وأمّا الواجب الكفائي إن كان تعبّديّا فالأمر فيه واضح أنّ أخذ الأجرة مناف للإخلاص ـ كما بيّنّا وعرفت ـ وإن كان توصّليّا قال الشيخ قدس سرّه : لا مانع من أخذ الأجرة ويقع العمل لباذل الأجرة لا للعامل (10).

 

ولكن أنت خبير بأنّ الكلام في أخذ الأجرة على ما هو الواجب على نفس الأجير ، يعني يأتي بما هو الواجب على نفسه ويأخذ الأجرة عليه ، فوقوع العمل لغيره ـ أي المستأجر ـ مع أنّه أتى بما هو واجب على نفسه خلف.

 

وبعبارة أخرى : لا يمكن أن يملك المستأجر العمل الذي واجب على الأجير ولو كان الوجوب كفائيّا بعين البرهان الذي تقدّم في الواجب العيني التعييني ، من أنّ‌ المكلّف ملزم بهذا الفعل ولا يجوز له تركه إلاّ في صورة اشتغال الغير ، وأمّا في صورة عدم اشتغال الغير ـ كما هو المفروض في المقام ـ فهو مقهور في الفعل وليس له الترك ، حتّى أنّه لو ترك يجبر من باب الأمر بالمعروف ، فلا يبقى لعمله احترام على مذاق شيخنا الأعظم قدس سرّه كما أفاده في مكاسبه ، أو ليس بقادر على الفعل والترك في عالم التشريع وهو الملاك في عدم صحّة الإجارة عندنا.

 

والحاصل : أنّ كلّما كان واجبا على المكلّف سواء أكان وجوبه عينيّا أو كفائيّا ، تعيينيّا أو تخييريّا ، نفسيّا أو غيريّا ، تعبديّا أو توصليّا لا يجوز أخذ الأجرة عليه إلاّ في بعض أقسام التخييري ، أي التخيير الشرعي ، كما تقدّم. وما قلنا من جواز أخذ الأجرة في التخيير الشرعي هو فيما إذا لم يكن تعبّديّا ، وأمّا التعبّدي فلا يجوز مطلقا.

 

إذا عرفت ما ذكرنا ـ من عدم صحّة أخذ الأجرة على جميع أقسام الواجبات ـ فيرد الاشكال المشهور ، وهو أنّه لا شكّ في جواز أخذ الأجرة على الصناعات التي تجب كفاية على جميع المسلمين ، لاختلال سوقهم ونظام معاشهم بدون ذلك ، فكيف التفصّي عن هذا الإشكال مع قولكم بعدم جواز أخذ الأجرة على جميع أقسام الواجب؟

 

وقد تفصّى عنه بوجوه :

 

منها : خروج هذه الواجبات عن تحت تلك القاعدة بالإجماع والسيرة.

 

وفيه : استبعاد أن يكون أخذ الأجرة حكما تعبديّا من طرف الشارع ، مخالفا لقواعد باب الإجارة بل المعاملات جميعا.

 

منها : أن نقول في أصل المسألة بالفرق بين التعبّدي والتوصّلي بأنّه يجوز أخذ الأجرة في التوصّلي دون التعبّدي ، كما هو مسلك جماعة. والواجبات النظامية كلّها ـ إلاّ ما شذّ وندر ـ توصّلي ، فلا مانع من أخذ الأجرة عليها أصلا ، ونلتزم فيما إذا كانت‌ تعبّديّة بالعدم على فرض وجود التعبّدي فيها.

 

وفيه : أنّ هذا الإشكال يجري ويرد على ما اخترناه من عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب مطلقا ، فلا بدّ من التماس جواب آخر بالنسبة إلى من يختار مثل ما اخترناه.

 

منها : اختصاص الجواز بصورة قيام من به الكفاية ، وفي تلك الصورة ليس بواجب.

 

والجواب عنه أنّه أوّلا : بقيام شخص آخر لا يسقط الوجوب ما لم يفعل ، فإذا فعل فلا يبقى موضوع حتّى يتكلّم في أنه يجوز أخذ الأجرة عليه أم لا ، ففي ظرف جواز أخذ الأجرة الذي هو ظرف عدم وجود الواجب من قبل ذلك الغير القائم به الوجوب باق ولم يسقط عن الأجير ، فيأتي الإشكال.

 

مضافا إلى أنّه من المسلمات جواز أخذ الأجرة على هذه الواجبات ولو لم يكن أحد قائما بها ، ولو تعين عليه بواسطة عدم وجود من به الكفاية.

 

منها : الفرق بين الواجبات التي مطلوبة لذاتها لوجود مصالح فيها فلا يجوز ، وذلك مثل دفن الميّت وغسله ، وكفنه حيث أنّ في نفس هذه الأفعال مصالح ملزمة أوجبت مطلوبيّتها من قاطبة المكلّفين كفاية ، وبين ما يكون مطلوبيّتها لأجل عدم تحقّق اختلال النظام وعدم قيام السوق للمسلمين.

 

والجواب : أنّ هذا الفرق دعوى بلا برهان ، بل ظاهر الدليل الذي يمنع عن جواز أخذ الأجرة على الواجبات عدم الفرق بين هذين القسمين من الواجب الكفائي. هذا مع أنّ نفس هذا التقسيم لا يخلو عن مناقشة.

 

ومنها : أنّ الوجوب في هذه الأمور مشروط بالعوض ، بمعنى أنّه يجب على الخيّاط مثلا الخياطة بشرط إعطاء العوض على عمله ، وهكذا بالنسبة إلى الصنائع الآخر ، ولا شكّ أنّ الواجب المشروط ليس بواجب عند عدم شرطه ، وعند تحقّق شرطه ـ أي : إعطاء العوض بإجارة أو جعالة أو غيرهما ـ فرض عدم جواز أخذ الأجرة خلف.

 

والجواب عنه : أنّه كيف يمكن أن يكون الوجوب مشروطا بما ينافيه ويضادّه؟

 

فلا بدّ من رفع المنافاة والمضادّة بينهما أوّلا ، ثمَّ القول باشتراط الوجوب بالعوض بإجارة أو غيرها.

 

والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال هو أنّ الوجوب تارة يتعلق بفعل المكلف بالمعنى المصدري ، وأخرى يتعلّق به بالمعنى الاسم المصدري.

 

بيان ذلك : أنّه لو تعلّق الوجوب بجهة إصدار فعل عن المكلّف لا بما هو الصادر ـ أي كان المطلوب منه والذي يلزم به هو أن يصدر عنه هذا الفعل وأن لا يمتنع عن الاشتغال به ، وإلاّ فنفس الفعل وذاته يقع للفاعل ولا يخرج بهذا الطلب عن حيطة سلطانه ـ فلا يمنع عن أخذ الأجرة عليه ، لأنّ المفروض أنّ المطلوب في هذا القسم هو اشتغال المكلّف بالفعل وعدم امتناعه عنه ، وهذا هو الذي ألزم به ، فما خرج عن تحت قدرته في عالم التشريع ليس إلاّ صرف الاشتغال وعدم الامتناع عن العمل ، وأمّا نفس العمل الصادر فليس بمطلوب ، فلم تخرج عن ملكه وحيطة سلطانه ، فيكون وجوب هذا القسم من الأعمال في باب الأعمال كوجوب بيع الحنطة مثلا وعدم جواز احتكاره في باب الأموال ، فكما أنّه هناك وجوب صدور البيع وعدم جواز الاحتكار لا يخرج الحنطة عن ملكه وحيطة سلطانه ، فكذلك هاهنا وجوب صدور العمل عنه لا يخرج ذات العمل عن ملكه وسلطانه ، فيجوز أخذ العوض على العمل الصادر ، لا على جهة الإصدار.

 

فما هو الواجب شي‌ء ـ أي جهة الإصدار والمعنى المصدري ـ وما هو يؤخذ العوض عليه شي‌ء آخر ، أي نفس الصادر والمعنى الاسم المصدري.

 

هذا كلّه فيما إذا تعلّق الوجوب بالمعنى المصدري ، كجميع الواجبات النظاميّة التي‌ بتركها عن الجميع وعدم اشتغال من به الكفاية بها يتحقّق اختلال النظام.

 

وأمّا لو تعلّق الوجوب بما هو الصادر ، أي تعلّق بما هو الفعل بالمعنى الاسم المصدري فيخرج ذات الفعل ونفس العمل الصادر عن تحت قدرته تشريعا ، ويكون ملزوما بإتيانه ، وليس له أن يتركه ولا يأتي به ، بل يجبر على الفعل إن أراد الترك من باب الأمر بالمعروف. وقد بيّنّا سابقا أنّ من شرائط صحّة الإجارة ـ بل كلّ معاوضة في باب الأعمال ـ أن يكون العمل تحت سلطانه وقدرته تكوينا وتشريعا ، فلو خرج عن ذلك لا يجوز أخذ الأجرة بل مطلق العوض بعنوان المعاملات المعاوضيّة.

 

فظهر ممّا ذكرنا وجه جواز أخذ الأجرة على الواجبات النظاميّة.

 

ولا يرد هذا الإشكال على القائل بعدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات مطلقا ، لما عرفت من أنّ جهة الوجوب في الواجبات النظاميّة غير جهة أخذ الأجرة ، ومسألة وجوب بذل المال للمضطرّ ووجوب الإرضاع أيضا من هذا القبيل ، أي الواجب في الموردين هو العمل بالمعنى المصدري ، فلا ينافي وجوبهما جواز أخذ عوض المال المبذول في الأوّل ، وجواز أخذ الأجرة في الثاني ، كما هو صريح قوله تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ولا يردان نقضا على ما قلنا أيضا.

 

والحاصل : أنّ أخذ الأجرة بل مطلق العوض بعنوان المعاوضة لا يجوز بالنسبة إلى العمل الذي يكون واجبا بالمعنى الاسم المصدري ، سواء أكان وجوبه تعبديّا أم توصّليّا ، عينيّا أم كفائيّا ، تعيينيّا أم تخييريّا ، نفسيّا أم غيريّا ، إلاّ فيما إذا كان الواجب واجبا تخييريّا شرعيّا ، على احتمال أبديناه سابقا.

 

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى أخذ العوض في باب الواجبات.

 

وأمّا المحرّمات : فقد سبق الكلام في عدم جواز أخذ الأجرة عليها ، لأنّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا ، فالعمل المحرّم غير مقدور شرعا ، فلا يجوز أخذ الأجرة بل كلّ‌ قسم من أقسام المعاوضة ، وأمّا المباح والمكروه فلا مانع من التكسّب بهما أصلا.

 

وأمّا المستحب : فالتحقيق فيه أنّه إن كان تعبديّا بالمعنى الأخصّ ـ يعني كان تحقّقه وامتثاله متوقّفا على إتيانه بقصد القربة ـ فلا يجوز أخذ العوض أيضا عليه ، لما ذكرنا في الواجب من منافاته مع الإخلاص المعتبر فيه فلا نعيد.

 

وأمّا إن لم يكن كذلك ، بل كان توصّليّا يمكن أن يؤتى به بدون قصد القربة فلا وجه لعدم جواز المعاوضة عليه ، وذلك كمسألة نيابة شخص عن غيره في عمل مستحبّ أو واجب على ذلك الغير فيما إذا كانت النيابة عن الغير في تلك الأعمال مستحبّة ولكن لا يكون تعبّديّا ، بل كان يمكن أن يجعل نفسه نائبا عن غيره في عمل بدون قصد القربة وإن كان يمكن أن يقصد القربة ويستحقّ الثواب ، لكن ذلك ليس بلازم ، بل ذلك بأيّ داع كان سواء أكان بداعي التقرب أو بداعي أخذ الأجرة ، فحينئذ لا وجه للقول بعدم جواز أخذ الأجرة عليه ، لأنّ المفروض أنّه ليس تعبّديّا حتّى يكون أخذ الأجرة منافيا للإخلاص ، ولا بواجب كي يكون مقهورا ومجبورا بالإتيان في عالم التشريع فيكون خارجا عن تحت قدرته تشريعا ، فلا يكون واجدا لأحد شروط صحّة الإجارة كما تقدّم الكلام فيه في الإجارة على الواجبات مفصّلا.

 

نعم ربما يتوهّم في باب النيابة في العبادات إذا استؤجر عليها إشكال آخر لا ربط له بمسألة أخذ الأجرة على المستحبّات التوصّليّة ، وهو أنّ النيابة في العمل العبادي إذ وقعت متعلّقة للإجارة ، فقهرا يكون نفس العمل العبادي أيضا داخلا في المستأجر عليه باعتبار كونه قيدا ومتعلّقا للنيابة الخاصّة ، فيكون أخذ الأجرة عليه منافيا للإخلاص.

 

ونحن دفعنا هذا الإشكال فيما تقدّم في الفرق بين أخذ الأجرة على ما هو واجب على نفس الأجير ، وبين ما هو كان واجبا على الغير وهو يأتي بالعمل بعنوان النيابة عنه ، بعدم الجواز في الأوّل ، والجواز في الثاني فلا نعيد.

 

والحمد لله أوّلا وآخرا ، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد

وأهل بيته الطاهرين المعصومين.

 

__________________

 

(*) « بلغة الفقيه » ج 2 ، ص 3 ـ 44 ، « رسالة في حرمة أخذ الأجرة على الواجبات » ( اصفهانى ) مع « الحاشية على المكاسب » ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص 119 ، « قواعد فقهي » ص 149 ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج 1 ، ص 505.

(1) « رياض المسائل » ج 1 ، ص 505.

(2) « جامع المقاصد » ج 4 ، ص 36.

(3) « جواهر الكلام » ج 22 ، ص 117.

(4) « المكاسب » ص 62.

(5) « منية الطالب » ج 1 ، ص 17.

(6) « المكاسب » ص 65.

(7) « المكاسب » ص 63.

(8) « المكاسب » ص 63.

(9) « المكاسب » ص 63.

(10) « المكاسب » ص 63.

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.