عصر ما قبل التاريخ:

تاريخ الشرق الادنى القديم هو في الواقع تاريخ عدد من الدول التي ظهرت في هذه المنطقة . ويجدر بنا أن نتعرف اولا على حدود بلاد الشرق القديم . يرى بعض العلماء ان المقصود بذلك هي بلاد الشرق الادنى فقط ، اي مصر والعراق وبلاد الشام وبلاد العرب . وزاد بعض العلماء عليها بلاد الاناضول وايران . ومعنى ذلك ان هذه المنطقة لا يمكن ان تقتصر فقط على المنطقة التي اطلق عليها المؤرخ برستد (1) باسم الهلال الخصيب ، وهي المنطقة التي تشبه الهلال ، ويرتكز طرفها الايسر في دلتا النيل ، وطرفها الايمن في دلتا نهري دجلة والفرات . فعلى ذلك يمكن القول بان بلاد الشرق الادنى القديم تشمل بلاد الهلال الخصيب وما يتصل بها من حضارات ، مثل الحضارة الحيثية في بلاد الاناضول ، وكذلك بلاد الجزيرة العربية . ومن الحقائق العلمية المسلم بها ، ان اقدم الحضارات الانسانية ظهرت ونمت في هذا الجزء من العالم ، مما يعطي تاريخ الشرق الادنى اهمية خاصة في تاريخ الانسانية . ولقد تمكن انسان تلك المنطقة من التوصل الى عدد كبير من الاسس والنظم والمبادئ والتقاليد التي اصبحت في مجموعها أساساً لفكرة التطور الانساني . ولم يقف فضل مدنيات الشرق القديم على تقدم أهلها في تلك الميادين فحسب، بل كانت هذه المنطقة أيضا مهدا للديانات السماوية الثلاث. ولذلك اتجهت أنظار العلماء الى المنطقة للبحث والتعرف على كافة الادلة الاثرية ، سواء المادية منها او المعنوية . ولم يكن العامل الديني او الدافع الديني فقط ، هو العامل الحاسم في اهمية منطقة الشرق الادنى القديم ، بل هناك اولوية هذه المنطقة في التوصل لمرحلة انتاج الطعام ، وكذلك استقرار الانسان الاول . فقد بنى انسان تلك المنطقة اول مدنية قبل غيرها .

ومما لا شك فيه ان الحضارة قد نشأت في وقت واحد ، في كثير من بقاع العالم . فلم تكن الحضارة مقتصرة على منطقة الشرق الادنى القديم وحدها ، ولكنها تطورت تطورا سريعا في تلك المنطقة ، مما اسهم بأكبر نصيب في تقديم البشرية . ومن منطقة الشرق الادنى القديم امتازت كل من مصر والعراق القديم على غيرهما من الاقطار الاخرى في تحقيق الكثير من التقدم . فقد عرف الانسان المصري القديم كذلك والانسان العراقي القديم الاستقرار وانتاج الطعام وانشاء المدن . ثم تلى ذلك التعرف على الكتابة .

مما سمح لكل من مصر والعراق القديم ، أن يصلا بجهودهما المستقلة الى درجة متقدمة من الحضارة . والتقييم الموضوعي المقارن للعناصر الاساسية لكلتا الحضارتين يبين كل منهما بمظاهر معينة . فالحياة في العراق القديم كانت تختلف اختلافا واضحا عنها في مصر . كذلك الظروف الطبيعية في العراق كانت ايضا مختلفة عنها في مصر . كل ذلك ادى الى قيام حضارة تعتمد على التجارة والصناعة في العراق ، اكثر من اعتمادها على الزراعة كما كان الحال في مصر . ولقد كان من بين العوامل التي ساعدت على ذلك ، تباين العوامل الجغرافية في بلاد العراق القديم ، مثل امتداد سهول هذه المنطقة امتداد واسعاً ، ووجود سلاسل الجبال الشاهقة الممتدة من الشمال الى الجنوب حول وديان هذه الانهار ، ولكونها محاطة بشعوب مختلفة . هذا بالاضافة الى كثرة الطوفانات والفيضانات في نهري دجلة والفرات . كل هذه العوامل جعلت بلاد العراق القديم لا تعرف الوحدة او التماسك السياسي في تاريخها الاول ، وجعلتها تمتاز نظام دويلات المدن التي تركزت فيها عناصر الحكم والدين ومظاهر الحضارة الاخرى .

ثم ادى ذلك الى الصراع بين تلك المدن حيث كان يحدث الاختلاط بين المدن المختلفة ، فيتم بذلك التبادل الحضاري بينهما . ولقد أدت تلك العوامل المختلفة الى ظهور الحضارة العراقية القديمة بصورة مميزة ، مما أتاح لها ان تشغل مكانها اللائق بها في ركب الحضارة الانسانية .

_______

(1) جيمس هنري برستد ، انتصار الحضارة – تاريخ الشرق القديم ، نقله الى العربية ، احمد فخري ، القاهرة 1969 ، ص 151 .