أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-7-2020
1634
التاريخ: 6-9-2016
1095
التاريخ: 6-9-2016
972
التاريخ: 5-9-2016
1105
|
الحديث عنه يقع في مراحل أربعة:
1 ـ تعريف القياس:
أمّا تعريفه، ففي اللغة كما في المقاييس: «القياس هو تقدير الشيء بشيء (قست الثوب بالذرع) والمقدار مقياس، تقول: قايست الأمرين مقايسة وقياساً»(1).
وفي الاصطلاح فقد عرّفوه بتعاريف مختلفة ننقل هنا بعضها، ففي الاُصول العامّة للفقه المقارن: «أنّه مساواة فرع لأصله في علّة حكمه الشرعي»(2) وفي الفصول: «إلحاق فرع بأصله في الحكم لقيام علّته به عند المجتهد»(3).
والظاهر أنّ ما ذكره في الفصول أدقّ وإن كان مآل كليهما إلى شيء واحد.
ثمّ إنّ للقياس معنيين آخرين أحدهما: في مصطلح المنطق، وهو أنّه قضايا مستلزمة لذاتها قضية اُخرى، والآخر: في مصطلح الفقه وهو التماس العلل الواقعيّة للأحكام الشرعيّة من طريق العقل، أي وجدان دليل عقلي للأحكام الشرعيّة كما يقال أنّ وجوب الخمر موافق للقياس لما يجده العقل فيه من الإسكار.
ثمّ إنّه يظهر من تعريف القياس أنّ له أركاناً أربعة: 1 ـ الأصل (الخمر مثلا)، 2 ـ الفرع (الفقّاع مثلا)، 3 ـ الحكم (الحرمة)، 4 ـ العلّة (الإسكار).
2 ـ أقسام القياس:
أمّا أقسام فأربعة: 1 ـ قياس المنصوص العلّة، 2 ـ قياس الأولويّة، 3 ـ تنقيح المناط، 4 ـ قياس المستنبط العلّة.
أمّا المنصوص العلّة فهو ما نصّ فيه بالعلّة كما إذا قيل: «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» ولا يخفى أنّ هذا القسم خارج عن التعريف لعدم تصوّر أصل وفرع فيه، بل كلّ من الخمر والنبيذ مثلا أصل، لأنّ الحكم تعلّق في الحقيقة بعنوان المسكر بدلالة مطابقية، ويستفاد الحكم في كلّ منهما من اللفظ ومن نصّ الشارع لا من العقل.
وأمّا قياس الأولويّة فهو أن يلحق شيء بحكم الأصل بالأولويّة القطعيّة، وهو أيضاً خارج عن محلّ البحث، وداخل في مباحث القطع، مضافاً إلى أنّه فيه أيضاً لا يتصوّر أصل ولا فرع لأنّ الدالّ في كلا الفردين هو اللفظ غاية الأمر أنّه في أحدهما بالأدلّة المطابقيّة وفي الآخر بالدلالة الالتزاميّة.
وأمّا تنقيح المناط، فمورده ما إذا إقترن بالموضوع أوصاف وخصوصيّات لا مدخل لها في الحكم عند العرف فهو يحذفها عن الاعتبار، ويوسّع الحكم إلى ما يكون فاقداً لها، كما إذا سئل عن رجل شكّ في المسجد بين الثلاث والأربع في صلاة الظهر فاُجيب بوجوب البناء على الأكثر، ويعلم من القرائن أنّه لا خصوصيّة للرجوليّة ووقوع الصّلاة في المسجد ولكون الصّلاة ظهراً، بل المناط والموضوع للحكم هو الشكّ بين الثلاث والأربع.
فتنقيح المناط هو الأخذ بأصل الحكم وما اُنيط به، وحذف خصوصيّاته التي لا دخل لها في الحكم، وهذا أيضاً خارج عن القياس المصطلح لعدم تصوّر الأصل والفرع فيه، كما لا يوجد فيه الركن الرابع من القياس وهو العلّة بل الكلام فيه في كشف تمام الموضوع عن لسان الدليل.
فيتعيّن القسم الرابع وهو قياس المستنبط العلّة وهو أن تثبت العلّة باستنباط ظنّي فيتصوّر فيه تمام أركان القياس، وينطبق عليه التعريف وهو محلّ النزاع في المقام.
3 ـ الأقوال والآراء فيه:
وهي كثيرة تعود جميعها إلى ثلاثة أقوال رئيسة:
1 ـ الاحالة العقليّة، وقد نسبها الغزالي في المستصفى إلى الشيعة وبعض المعتزلة(4) وإن لم يثبت هذا المعنى بالنسبة إلى الشيعة، كما نسبه بعض آخر إلى أحمد بن حنبل.
2 ـ الوجوب العقلي ونسبه الغزالي أيضاً إلى قوم من العامّة.
3 ـ الإمكان العقلي.
أمّا القول الأوّل والثاني فلا اعتبار لهما ولا طائل لنقل ما استدلّ به لإثباتهما كالاستدلال بما تمسّك به ابن قبّة لاستحالة الأحكام الظاهريّة (ومنها ما يثبت بالقياس) للقول الأوّل والاستدلال بمقدّمات الانسداد للقول الثاني لكونهما واضح البطلان، وقد مرّ الجواب عن هذين الوجهين في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ومباحث الانسداد.
أمّا القول بالإمكان فذهب إليه أهل الظاهر من العامّة وابن حزم في كتاب «إبطال القياس» وقاطبة الشيعة مع القول بعدم جوازه الشرعي، وذهب قوم إلى وجوبه الشرعي، وأكثر العامّة إلى جوازه الشرعي، نعم يمكن أن يقال أنّ الجواز الشرعي في باب الحجّية مساوق مع الوجوب ولا معنى لأنّ يكون شيء حجّة مع الجواز، وسيأتي البحث عنه في مباحث الحجّة إن شاء الله.
4 ـ أدلّة الأقوال:
أدلّة النافين:
وقبل الورود في البحث عنها ينبغي أن نذكر هنا علّة اهتمام العامّة بالقياس وبحثهم عنه في نطاق واسع.
فنقول: المنشأ الأساسي فيه أنّهم وجدوا أنفسهم في قبال موارد كثيرة ممّا لا نصّ فيه لاكتفائهم بخصوص ما روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله) فقط وعدم اعتنائهم بروايات أهل بيت العصمة (عليهم السلام) اعراضاً عن حديث الثقلين.
والأحاديث الصحيحة السند المرويّة عنه (صلى الله عليه وآله) قليلة في غاية القلّة، وقد نقل عن أبي حنيفة أنّ الرّوايات الموجودة عنده المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله) لم تبلغ إلى ثلاثين حديثاً، ومن الواضح عدم إمكان تدوين الفقه في مختلف أبوابه واُصوله وفروعه بهذا المقدار من الرّوايات، وإن انضمّ إليها آيات الكتاب الحكيم في هذا الباب.
نعم، ضمّ بعضهم أقوال الصحابة إلى الأحاديث النبويّة لكنّها مع عدم ثبوت حجّيتها حتّى عند كثير منهم وردت أكثرها في التاريخ والتفسير.
فمن أجل هذا الخلأ الكبير مع ملاحظة المسائل المستحدثة التي توجد في عمود الزمان وفي كلّ عصر وعصر بل كلّ يوم ويوم التمسوا منابع جديدة أوّلها القياس (وسيأتي وجه أولويته) وغيره من الاُمور التي نشير إليه في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.
وأمّا الإماميّة فحيث أنّهم تمسّكوا بأهل بيت الوحي وقالوا بحجّية سنّتهم بمقتضى حديث الثقلين وغيره التي جعلت العترة فيها مقارناً مع الكتاب غير منفك عنه بل ورد في روايات عديدة أنّ قولهم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنّهم (عليهم السلام)رواة الأحاديث(5) فلأجل هذه الوجوه لا يوجد لديهم خلأ في الفقه أصلا، وذلك لكثرة النصوص الواردة عنهم (عليهم السلام)ولإرجاعهم شيعتهم إلى الاُصول العمليّة في موارد فقدان النصّ.
إذا عرفت هذا فنقول: يدلّ على بطلان القياس أوّلا: ما مرّ من أدلّة عدم حجّية الظنّ ولا حاجة إلى تكرارها.
وثانياً: الرّوايات الكثيرة البالغة حدّ التواتر الواردة في الباب السادس من أبواب صفات القاضي وغيرها (مضافاً إلى ما سيأتي ممّا وردت من طرق العامّة) وهي أكثر من عشرين حديثاً (ح2، 4، 10، 11، 15، 18، 20، 22، 23، 24، 25، 26، 27، 28، 33، 36، 37، 39، 40، 43، 45).
وهذه الرّوايات تنقسم إلى طوائف مختلفة بمقتضى ألسنتها المتفاوتة، ففي طائفة منها: «أنّ أوّل من قاس إبليس» فيبيّن الإمام (عليه السلام) فيها علّة قياس إبليس، وقد ورد في مرفوعة عيسى بن عبدالله القرشي قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبدالله (عليه السلام) فقال له: ياأبا حنيفة بلغني أنّك تقيس؟ قال: نعم أنا أقيس، قال: لا تقس فإنّ أوّل من قاس إبليس حين قال: «خلقتني من نار وخلقته من طين»(6).
فقد اعترض إبليس على الله تعالى بأنّ ملاك وجوب السجدة على آدم موجود فيه بطريق أولى فقد توهّم باستنباطه الفاسد وقياسه الكاسد أنّ أصله وهو النار أشرف من أصل آدم وهو الطين بل الحمأ المسنون ولم يتوجّه إلى الروح الإلهي الذي نفخه الله في آدم.
وفي طائفة اُخرى منها: تذكر مصاديق من أحكام الله التي تنفي القياس وتبطله ومن جملتها ما رواه ابن شبرمة قال: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمّد (عليه السلام)فقال لأبي حنيفة: اتّق الله ولا تقس في الدين برأيك فإنّ أوّل من قاس إبليس (إلى أن قال): «ويحك أيّهما أعظم قتل النفس أو الزنا قال: قتل النفس قال: فإنّ الله عزّوجلّ قد قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلاّ أربعة، ثمّ أيّهما أعظم الصّلاة أم الصّوم؟ قال: الصّلاة، قال: فما بال الحائض تقضي الصّيام ولا تقضي الصّلاة؟ فكيف يقوم لك القياس؟ فاتّق الله ولا تقس»(7).
وفي طائفة ثالثة منها: «أنّ أمر الله لا يقاس» فمنها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «في كتاب آداب أمير المؤمنين (عليه السلام) لا تقيس الدين فإنّ أمر الله لا يقاس وسيأتي قوم يقيسون وهم أعداء الدين»(8).
إلى غيرها من الرّوايات التي قد يمكن جمع بعضها تحت عنوان واحد آخر غير ما ذكر(9).
إن قلت: أنّ العمل بهذه الرّوايات يستلزم حرمة العمل بالقياس بأقسامه الأربعة والتالي باطل إجماعاً.
قلنا: أوّلا: إنّ العمل في الأقسام الثلاثة الاُخر لا يكون حقيقة إلاّ عملا بنفس السنّة ومفاد النصّ واللفظ فهي لا تتجاوز عن حدّ التسمية بالقياس، وأمّا حقيقة فليس شيء منها من القياس.
وثانياً: يتعيّن بنفس الرّوايات معنى القياس الوارد فيها، لأنّ قياسات أبي حنيفة التي وردت في عدّة منها كانت قياسات ظنّية مبتنية على آرائه الشخصية، كما أنّ قياس إبليس أيضاً كان قياساً ظنّياً مبنيّاً على حدسه ورأيه وعدم اعتنائه إلى قوله تعالى في حقّ آدم:
{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] أضف إلى جميع ذلك ضرورة المذهب فإنّه لم ينقل جواز القياس من أحد من الإماميّة إلاّ من ابن الجنيد في أوائل إستبصاره وذلك لأجل ما بقى له من الرسوبات الذهنية من قبل الاستبصار.
ثمّ إنّه قد يستدلّ برواية أبان المعروفة لعدم حجّية القطع الحاصل من القياس أيضاً لأنّه كان قاطعاً كما يشهد عليه استعجابه وقوله في جواب الإمام (عليه السلام): «سبحان الله يقطع ثلاث ...»(10) إلى آخر قوله.
ولكن فيه أوّلا: أنّه لا دلالة فيها على كونه قاطعاً بالحكم، نعم يظهر منها أنّه كان مطمئناً به.
وثانياً: سلّمنا كونه قاطعاً لكن لا تدلّ الرّواية على المنع عن العمل بالقطع بل أن الإمام أزال قطعه ببيان الفرق بين ديّة المرأة بالنسبة إلى الثلث وما بعده.
وأمّا النقاش فيها من حيث السند فليس تامّاً لأنّها وردت من طريقين لو أمكن الإشكال في أحدهما لإبراهيم بن هاشم فلا يمكن الإشكال في الآخر لأنّ رجاله كلّهم ثقات، مضافاً إلى أنّ إبراهيم بن هاشم أيضاً من الثقات بلا إشكال.
وقال بعض الأعلام: «أنّ ظهورها في المنع عن الغور في المقدّمات العقليّة لاستنباط الأحكام الشرعيّة غير قابل للإنكار بل لا يبعد أن يقال: إنّه إذا حصل منها القطع وخالف الواقع ربّما يعاقب على ذلك في بعض الوجوه»(11).
وفيه: أنّا نمنع عن ذلك، لأنّ كلام الإمام (عليه السلام) يرجع إلى أمرين: أحدهما: أنّه حصل له القطع بلا وجه، ولو تأمّل في المسألة لما كاد أن يحصل له، ثانيهما: أنّ الإمام(عليه السلام) أزال قطعه حيث قال: «مهلا يا أبان: هذا حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله)أنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الديّة فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست محق الدين».
فإنّ هذه العبارة منصرفة إلى القياس الظنّي، ولو شمل القياس القطعي بإطلاقه يقيّد بما مرّ في مباحث القطع من أنّه حجّة ذاتاً لا يمكن الردع عنه.
ثمّ إنّ صاحب الفصول نقل عن العامّة في ردّ القياس روايتين: إحديهما: قوله(صلى الله عليه وآله): «تعمل هذه الاُمّة برهة بالكتاب وبرهة بالسنّة وبرهة بالقياس، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا»(12).
ثانيهما: قوله (صلى الله عليه وآله) «ستفرّق اُمّتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة قوم يقيسون الاُمور برأيهم فيحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام»(13).
كما في سنن الدارمي(14) المتوفّى سنة 255 هـ أيضاً رويت روايات عديدة في هذا المجال:
منها: ما روي عن عبدالله: «لا يأتي عليكم عام إلاّ وهو شرّ من الذي كان قبله أما أنّي لست أعني عاماً ولا أميراً أخيراً من أمير ولكن علماءكم وخياركم وفقهاءكم يذهبون ثمّ لا تجدون منهم خلفاً وتجيء قوم يقيسون الأمر برأيهم».
منها: ما روي عن ابن سيرين: «أوّل من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلاّ بالمقاييس».
ومنها: ما روي عن الحسن (البصري) «أنّه تلا هذه الآية خلقتني من نار وخلقته من طين قال قاس إبليس وهو أوّل من قاس».
ومنها: ما روي عن مسروق «أنّه قال أنّي أخاف وأخشى أن أقيس فتزلّ قدمي».
ومنها: ما روي عن الشعبي قال: «والله لئن أخذتم بالمقاييس لتحرّمنّ الحلال ولتحلّن الحرام».
ومنها: ما روي عن عامر: «أنّه كان يقول ما أبغض إليّ أرأيت أرأيت يسأل الرجل صاحب فيقول: أرأيت، وكان لا يقايس».
وهذه الرّوايات أيضاً دالّة على ما نحن بصدده من بطلان العمل بالقياس.
أدلّة القائلين بحجّية القياس:
وأمّا القائلون بجواز القياس فاستدلّوا بالأدلّة الأربعة والمهمّ منها الذي يليق ذكره إنّما هو السنّة وأمّا الآيات فضعفها في الدلالة على مدّعاهم لا يحتاج إلى البيان، بل يشكل فهم أصل ربطها بهذه المسألة فضلا عن صحّة الاستدلال بها، وهذا يدلّ على وقوعهم في ضيق شديد في مقام إقامة الدليل على ما دبّروها من قبل من صحّة القياس.
أمّا الآيات المستدلّ بها قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ...} [النساء: 59] ببيان أنّ القياس أيضاً نوع إرجاع للأمر إلى سنّة الرسول حيث إن القائس يرجع في استنباط حكم الفرع إلى الأصل الذي ثبت حكمه بالسنّة، أو يستنبطه من العلّة التي اكتشفها من السنّة.
ويرد عليه أوّلا: إنّ وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة لا يحتاج إلى الاستدلال بهذه الآية بل هو أمر واضح مستفاد من أدلّة حجّية الظهور.
وثانياً: إنّ الإشكال إنّما هو صغرى الردّ إلى الله وكشف العلّة، وإنّ القياس الظنّي واستنباط الحكم من العلّة الظنّية ليسا من الردّ إلى الله والرسول، لأنّ هذا هو موضع النزاع، وإلاّ لو كانت العلّة قطعية وتامّة فلا كلام في أنّ مقتضى حكمة الحكيم عدم التفريق بين الأصل والفرع وهو خارج عن محلّ الكلام.
ومنها: قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] «بتقريب أنّ الاعتبار في الآية مأخوذ من العبور والمجاوزة وأنّ القياس عبور من حكم الأصل ومجاوزة عنه إلى حكم الفرع فإذا كنا مأمورين بالاعتبار فقد أمرنا بالعمل بالقياس وهو معنى حجّيته.
وهذا الاستدلال ركيك جدّاً يظهر بأدنى تأمّل.
ومنها: قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] ببيان أنّ الله عزّوجلّ استدلّ بالقياس على ما أنكره منكرو البعث، فقاس عزّوجلّ إعادة المخلوقات بعد فنائها على إنشائها أوّل مرّة، وهذا الاستدلال بالقياس إقرار لحجّية القياس وصحّة الاستدلال به.
وفيه: أوّلا: أنّها لا تدلّ على حجّية القياس إلاّ بضرب من القياس، وهو قياس عمل الإنسان بعمل الله تعالى فيلزم الدور المحال.
وثانياً: أنّ مورد الآية خارج عن محلّ النزاع لأنّ حكم العقل بأنّ من قدر على بدأ خلق الشيء قادر على أن يعيده حكم قطعي لا ظنّي فإنّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.
ومنها: قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] بتقريب أنّ العدل هو التسوية والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم فيتناوله عموم الآية.
وهذا أيضاً واضح الفساد فإنّ العدل هو القيام بالقسط وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه كما يظهر من العرف واللغة ولا ربط له بالقياس الظنّي.
هذا كلّه في الآيات التي استدلّ بها لجواز القياس.
أمّا الرّوايات، فقد حكيت روايات من طرقهم في هذا المجال أهمّها:
مرسلة معاذ بن جبل أنّه قال لمّا بعثه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله قال: فإن لم تجد في كتاب الله. قال: فبسنّة رسول الله قال: فإن لم تجد في سنّة رسول الله ولا في كتاب الله. قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله)صدره وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول الله لما يرضاه رسول الله»(15).
قوله: «لا آلو» أصله «لا أَأْلو» بمعنى لا أترك.
وفيه: أنّه قابل للمناقشة سنداً ودلالة، أمّا السند فلأنّها مرسلة مضافاً إلى ضعفها من ناحية الحارث بن عمر.
وأمّا الدلالة فتقريب دلالتها: أنّ الظاهر كون الاجتهاد فيها بمعنى تقنين الفقيه وتشريعه من دون الإتّكاء على كتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) لأنّ المفروض أنّ الاجتهاد بالرأي فيها يكون بعد عدم ورود الكتاب والسنّة وهو شامل للقياس بإطلاقه.
لكن يرد عليه: أنّ شمول الاجتهاد لمطلق القياس أوّل الكلام.
وما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) «من أنّه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري: بم تقضيان؟ فقالا: إن لم نجد الحكم في الكتاب ولا السنّة قسنا الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحقّ عملنا به»(16).
ووجه دلالتها أنّهما صرّحا بالأخذ بالقياس عند فقدان النصّ، والنبي (صلى الله عليه وآله)أقرّهما عليه فكان حجّة.
وفيه: أنّه ضعيف سنداً أيضاً فلا يمكن الاعتماد عليه وإن تمّت دلالتها.
وحديث الجارية الخثعمية أنّها قالت: «يا رسول الله إنّ أبي أدركته فريضة الحجّ شيخاً زمناً لا يستطيع أن يحجّ إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحقّ بالقضاء».
وتقريب دلالته أنّه الحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه، وهو عين القياس(17).
وفيه أوّلا: أنّ الاستدلال لحجّية قياساتنا بقياس النبي(صلى الله عليه وآله) نوع من القياس، واعتباره أوّل الكلام.
ثانياً: أنّ ظاهر الحديث تمسّكه (صلى الله عليه وآله) بالقياس الأولويّة وهو خارج عن محلّ الكلام.
ثمّ أضف إلى ذلك كلّه أنّ هذه الرّوايات لو تمّت سنداً ودلالة لكنّها معارضة بما هو أقوى وأظهر، أي الرّوايات السابقة الدالّة على بطلان القياس التي نقلنا بعضها عن طرقهم.
هذا كلّه في الاستدلال بالسنّة على حجّية القياس.
أمّا الإجماع، فقد ادّعى اتّفاق الصحابة على حجّية القياس حيث إن طائفة منهم كانوا عاملين بالقياس وطائفة اُخرى سكتوا عنه فلم ينكروا عليهم.
وفيه أوّلا: أنّ الصغرى ليست بثابتة لأنّ الكثير من الصحابة لم يكونوا في المدينة في ذاك العصر بل كانوا في مختلف بلاد الإسلام.
وثانياً: لا دليل على كون جميع الصحابة داخلين في إحدى هاتين الطائفتين وليس لنا مدرك جمع فيه أقوال كلّ الصحابة.
ثالثاً: لعلّ منشأ السكوت هو الخوف عن السوط والسيف أو عدم العلم بذلك.
ورابعاً: أنّ هذا الإجماع على فرض ثبوته معلوم المدرك لا يكشف عن قول المعصوم.
أمّا الاستدلال بالعقل، فاللائق للطرح من الوجوه العقليّة التي ذكروها في هذا الباب وجهان:
الأوّل: أنّ الأحكام الشرعيّة مستندة إلى مصالح، وهي الغايات المقصودة من تشريع الأحكام، فإذا ساوت الواقعة المسكوت عنها الواقعة المنصوص عليها في علّة الحكم التي هي مظنّة للمصلحة قضت الحكمة والعدالة بتساويهما في الحكم تحقيقاً للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع.
وجوابه اتّضح ممّا ذكر، وهو أنّه إن كان استنباط العلّة استنباطاً ظنّياً فحجّيته أوّل الكلام، والأصل عدمها، وإن كان قطعيّاً فلا إشكال في حجّيته لأنّه حينئذ إمّا أن يكون من قبيل إلغاء الخصوصيّة وتنقيح المناط أو من قبيل المفهوم الموافق أو المستقلاّت العقليّة، ولكنّها بأسرها خارجة عن محلّ النزاع.
الثاني: ما يرجع في الحقيقة إلى مقدّمات الانسداد المذكورة سابقاً وقد عبّروا عنها ببيانات مختلفة.
منها: أنّ الحوادث والوقائع في العبادات والتصرّفات ممّا لا يقبل الحصر والعدّ، ونعلم قطعاً أنّه لم يرد في كلّ حادثة نص، ولا يتصوّر ذلك أيضاً، فإذا كانت النصوص متناهيّة، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، علم قطعاً أنّ الاجتهاد والقياس معتبر حتّى يكون لكلّ حادثة اجتهاد.
والجواب عنه ما مرّ سابقاً من أنّه لو فرضنا كون باب العلم منسدّاً إلاّ أنّ باب العلمي مفتوح عندنا لأجل الرّوايات الواردة من ناحية أهل بيت الوحي (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هذا أوّلا.
وثانياً: لو سلّمنا انسداد باب العلمي أيضاً لكن لا كلام في بطلان خصوص القياس للروايات الخاصّة الناهيّة عنه.
وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا اُمور:
الأوّل: أنّ القياس الظنّي لا دليل على حجّيته بل قام الدليل على عدم الحجيّة، وهو الذي وقع النزاع فيه بين العامّة والخاصّة بل بين العامّة أنفسهم.
الثاني: أنّ القياس القطعي حجّة سواءً سمّي قياساً أو لم يسمّ، وهو إمّا راجع إلى قياس الأولويّة، أو قياس المنصوص العلّة، أو تنقيح المناط، أو المستقلاّت العقليّة وشبهها.
الثالث: أنّ العلّة المنصوصة في الرّوايات الواردة في علل الشرائع قد يراد بها العلّة التامّة، وقد يراد بها العلّة الناقصة، وتسمّى حكمة، ويتوقّف تعيين أحدهما على ملاحظة لحن الرّوايات وتعبيراتها المختلفة والقرائن الموجودة الحاليّة والمقاليّة.
_______________
1. مقاييس اللغة: ج5، ص40، مادّة قوس.
2. الاُصول العامّة للفقه المقارن: ص305.
3. الفصول: ص380.
4. المستصفى: ج2، ص56، نقل عنه الاُصول العامّة: ص320.
5. ومن أراد الوقوف على هذه الأحاديث وطرق أحاديث الثقلين فليراجع مقدّمة كتاب جامع أحاديث الشيعة فإنّه من أحسن الكتب في هذا الباب.
6. جامع أحاديث الشيعة: ح 24.
7. المصدر السابق: ح25.
8. المصدر السابق: ح 36.
9. وقد وردت روايات كثيرة في هذا المجال في بحار الأنوار: ج2، باب البدع والرأي والمقاييس فراجع.
10. وسائل الشيعة: ج19، الباب44، من أبواب ديّات الأعضاء، ص268.
11. الاُصول العامّة: ص327، نقلا عن دراسات في الاُصول العمليّة: ص29.
12. راجع كنز العمّال: ج 1، ص 180 ح916، وهامش عوالي اللئالي نقلا عن جامع الصغير للسيوطي: ج 1، ص 132.
13. مستدرك الحاكم: ج 4، ص 420.
14. راجع سنن الدارمي: ج 1، باب تغيّر الزمان، ص 65.
15. الاُصول العامّة: ص338; ومسند أحمد: ج5، ص230.
16. الاُصول العامّة: ص338.
17. المصدر السابق: ص 338.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|